الفصل الحادي عشر

(١) بَدْءُ الرِّحْلَةِ

بَدَأَتْ هذه الرِّحْلَةُ العسيرةُ المُضنِيَةُ في الساعةِ التاسعةِ من صباحِ اليومِ الخامسَ عشَرَ من فبراير/شباط عام ١٧١٥م. وكان الجوُّ صَحْوًا والريحُ طَيِّبَةً. ولكنني — على ذلك — لَجَأْتُ إلى مِجْدافَيَّ، حتى إذا خَشِيتُ الإعْياءَ والتَّعَبَ عَمَدْتُ إلى الشِّراعِ، وقد ساعدَني المَدُّ على تحقيقِ غايَتي.

ولَنْ أَنسَى وَداعَ السيدِ ورِفاقِه، وقد وقَفوا على شاطئِ البحرِ يَرْقُبُونَني حتى غِبْتُ عنْ أَنْظارِهم. ولا يزالُ صَوْتُ صاحِبي الجوادِ الأحمر يَرِنُّ في أُذُني، وهو يُحَمحِمُ صاهلًا: «احترِسْ أَيها «الْياهُو» الظريفُ. تَوَقَّ الأَخطارَ في ثباتٍ وَيقَظةٍ!»

وقد ردَّدَ هذه الجملةَ صاهلًا مَرَّاتٍ عِدَّة ً حتى غابَ عن نظرِي.

وسار الزورقُ في عُرْضِ البحر سَيْرًا حَثِيثًا. وكان كلُّ همِّي أن أَرْسُوَ على جزيرةٍ قَفْراءَ، أعيشُ فيها عَيْشَ الكَفافِ، في عُزْلةٍ عنِ الناسِ، ناجِيًا من شُرورِهم. وهي حياةٌ طالما تاقَتْ نَفْسِي إليها، وآثرتُها على أكبرِ مَنْصِبٍ في أعظمِ دَوْلَةٍ.

وإنما أُوثِرُ العُزلةَ لأنها تُمْكِنُنِي مِنْ إِنْعامِ الْفِكْرِ وإطالةِ الرَّوِيَّةِ، وتُبعِدُني عن نقائصِ الآدميِّينَ، وتُتِيحُ لي فُرصةَ التأملِ في فَضائلِ الجيادِ الناطقةِ، والتَّحَلِّي بأخْلاقِها العاليةِ.

(٢) في جَزِيرَةِ الْهَمَجِ

لقد عرَفَ القارئُ — مما أسلفتُه — أنَّ مَلَّاحِي سفينتي الذينَ ائتَمرُوا بي وثارُوا عليَّ، قدِ اعْتقَلوني في غُرْفَتِي، وأَوْصَدُوا بابَها دُوني، وكَتموا عنَّي خُطَّتَهم في السَّيْرِ أسابيعَ عِدَّةً، ثم أنزلوني أرضًا لا أَعلمُ لها اسمًا. وأَقْسَمَ الملَّاحون الذينَ صَحِبوني إِلى تلك الأرْضِ: إنهم لا يعرِفون في أيِّ ناحيةٍ منَ العالَمِ حَلَلْنا!

وما أَدرِي: أصَدقوا في قَسَمِهم أم كانوا منَ الكاذِبين؟

على أنني ذكرتُ أَنني سمعتُ — ذاتَ مرةٍ — جُمهورَ الملَّاحِينَ يتهامَسُون — بالْقربِ من غرفتي — بأنهم ذاهبون إِلى «مَدَغَشْقَرَ». فاسْتخلَصْتُ من هذا أننا على مَسافةِ عَشْرِ دَرَجاتٍ جَنْوبَ رَأْسِ الرَّجاءِ الصَّالحِ تقريبًا، أي في الدرجةِ الخامسةِ والأربَعين من خُطوط الْعَرضِ الجنوبيةِ.

فيَمَّمْتُ صَوْبَ الشرقِ؛ لَعَلِّي أرْسُو في الجنوبِ الشرقيِّ من «هولندا الجديدة»، حيثُ أَنْحَدِرُ منها غَرْبًا إلى إِحدَى الجزائرِ الصغيرةِ المُجاوِرةِ لَها.

وكانت الريحُ تَهُبُّ صَوْبَ الغربِ. فلما بلغَتِ الساعةُ السادسةَ مَساءً، كانتِ المسافةُ التي قطعتُها نحو ثمانيةَ عشرَ مِيلًا صَوْبَ الشرقِ، فرأَيتُ جزيرةً صَغِيرَةً على بُعْدِ مِيلٍ ونِصْفِ مِيلٍ تقريبًا، فبلغْتُها بعدَ زمنٍ قليلٍ.

وكان المَرْسَى صخريًّا، فأرْسَيْتُ فيه زَوْرَقِي، وَتَسَلّقْتُ الصُّخُورَ، فرأَيتُ أرضًا فسيحة تمتدُّ منَ الجنوبِ إِلى الشَّمالِ، فعُدْتُ إلى زَوْرَقِي، وقَضَيْتُ لَيْلَتِي فيه.

فَلَمَّا أصْبَحْتُ باكِرًا واصَلْتُ تَجْدِيفِي حتى بلغتُ الطَّرَفَ الجنوبيَّ الشرقيَّ من «هولندا الجديدةَ»، في الساعةِ السابعةِ.

ولم أَجِدْ في ذلك المكانِ أحدًا من السُّكّانِ. وقد خَشِيتُ أن يُصِيبَني سُوءٌ إذا أوْغَلْتُ في الجزيرة، لأنّني أعْزَلُ. فلزِمْتُ شاطئَ البحرِ، وأكَلْتُ شيئًا من المَحارِ نَيِّئًا؛ لأنني خَشِيتُ أن أُوقِدَ النارَ فيفطنَ إلى مكاني أحدٌ من هَمَجِ الجزيرةِ.

وظَللْتُ قانِعًا بهذا الطعام أيامًا ثلاثة، مُحْتَفِظًا بزادي القليلِ ليَنْفَعَني في وقتِ الحاجةِ. ولم أجرُؤْ على البعْدِ عنِ الشاطئِ، حتى لا أُعَرِّضَ نفسي للأخطارِ. وقد وجدتُ — لحسنِ حظِّي — غَدِيرَ ماءٍ صالحٍ لِلشُّرْبِ، بالْقُرْبِ منِّي.

فلما جاء اليومُ الرابعُ، جازَفْتُ فبَعُدْتُ عنِ الشاطئِ قليلًا. ولم أكَدْ أفعلُ حتى رأيتُ جَمهرةً منَ الْهَمَجِ، يَتَرَجَّحُ عددُها بينَ العشرينَ والثلاثين، وهي جاثِمَةٌ على يَفاعٍ منَ الأرضِ لا يَبْعُدُ عَنِّي أكثرَ من خَمْسِمائةِ خُطوةٍ.

ورأَيتُ الْهَمَجَ، عُراةَ الأجْسامِ — رِجالًا ونِساءً وأطْفالًا — وقد جلسُوا حَوْلَ نارٍ دَلَّني عليها دُخَانُها.

ولَمَحَني أحدُهم فَنبَّهَ رِفاقَه إليَّ؛ فأسْرَعَ نَحْوِي خمسةٌ منهم. فَلَمْ أَجِدْ بُدًّا منَ الفِرارِ إلى الشاطئ، حتى بلغْتُ قارِبي، ولم أدَّخِرْ جُهدًا في التَّجْديفِ هَرَبًا من شَرِّهم.

ولما رأَى الْهَمَجُ أنَّ فريسَتَهم تكادُ تُفْلِتُ من أيْديِهم عَدَوْا خَلْفِي، حتى إذا يَئِسُوا منَ الَّلحاقِ بِي أطلقَ عليّ أحدُهم سهمًا، فأصابني في رُكْبَتي الْيُسْرَى، وجَرَحَنِي جُرْحًا بَلِيغًا لَنْ يُمْحَى أَثَرُهُ مِنْ جِسْمِي حَتَّى أَمُوتَ. وضاعَفْتُ قُوَّتي في التَّجْديفِ، حتى أصبحتُ أبعدَ من مَرْمَى سِهامِهم. وكان الجوُّ صَحْوًا، فعصَرْتُ الجُرحَ، وضَمَدْتُه جهدَ طاقَتِي، وأنا أَخْشَى أن يكونَ السهمُ مسمومًا، لكِنَّ اللهَ سَلَّمَ.

(٣) سَفينَةٌ أورُوبِّيَّةٌ

واشْتَدَّتْ حَيْرَتي وارْتباكي؛ فقد أصبح منَ المُحالِ عليَّ أنْ أُجازِفَ بالْعَوْدةِ إلى الْمكانِ الذى اعْتَدَى عليّ الْهَمَجُ فيه. ولَمَحْتُ شِراعَ سفينةٍ يَلُوحُ ويَسِتَخْفِي بين لحظةٍ وأُخرى، فلم أَشَأْ أن أَلْحَقَ بالسفينةِ، حَذَرًا من أن تَرْجِعَنِي إلى بلادي، وتَحرمَنِي لَذَّةَ الوَحْدَةِ والْعُزْلِة في جزيرةٍ مُقْفِرَةٍ. وقد كنتُ أُوثِرُ الْموتَ علَى أنْ أعودَ إلى مُخالَطَةِ «الْياهُو» مرةً أخْرى.

فحوَّلْتُ زَوْرَقِي ناحِيةَ الشاطئ، ورَسَوْتُ في خليجٍ صغيرٍ، وعَزَمْتُ علَى أنْ أُسَلِّمَ نفسي لأَوَّلِ مُتَوَحِّشٍ يَلْقاني ليقتُلني؛ فإِنَّ الْموتَ أحَبُّ إلى نفسي من لِقاء تلك الدوابِّ الآدميةِ الْمتحضِّرةِ.

ولما دَنَوْتُ منَ الشاطئ تركتُ الزورقَ، واخْتَبأْتُ خَلْفَ صخرةٍ قريبةٍ منَ الْغديرِ. ولبِثتُ قليلًا؛ فرأيتُ السفينةَ تقتربُ منَ الْخليجِ، ثم تَرْسُو على مسافِة نصفِ ميلٍ منه، ثم تُرْسِلُ زَوْرَقَها — وفيه بِرْمِيلان — لِيَمْلأَهما الْمَلَّاحُونَ ماءً.

وَأدركتُ — حينئذٍ — أن هذا الْمكانَ معروفٌ مَطْرُوقٌ. فلما دَنا مَلَّاحُو السفينةِ مِنِّي لم أَجِدْ مُتَّسَعًا للفِرارِ، فلبثتُ في مكاني مختبئًا.

ورأى الْمَلَّاحُونَ قارِبي، فعَجِبوا من وُجُودِه في ذلك الْمكانِ، وفَتَّشُوهُ؛ فأدرَكوا أنَّ صاحبَه قريبٌ منه. وسار أَربعةٌ منهم مُسَلَّحِينَ يُفتِّشُون، حتى عثَروا عليَّ مختبئًا خلفَ الصخرةِ، ورأَوْني راقدًا ووَجْهِي إلى الأرض؛ فدَهِشوا مما رَأَوْا.

واشْتَدَّتْ دهشتُهم حينَ أبصروا ثيابي الْمصنوعةَ من جلدِ الأرانبِ، وحِذائِي الْخشبيَّ، وجَوْرَبِي الْغريبَ الْمنظَرِ. وَأَيقنوا أَنني لستُ من أَهلِ الْبلادِ؛ لأنَّ أَهْلَها جميعًا منَ الْهَمَجِ الْعُرَاةِ.

(٤) حِوارُ الْمَلّاحِين

وأَمرني أَحدُهم أَنْ أَقِفَ — وكان يُخاطِبُني بالُّلغَةِ الْبُرْتُغالِيَّةِ — وسأَلَنِي متعجِّبًا: «من أَنت؟»

فأجبتُه بالبرتُغاليِة، وكنتُ أُجيدُها: «إنَّني «ياهو» مِسكينٌ، نَفَتْنِي سادةُ الْجيادِ منْ بلادِها، وإِني أُقسِمُ عليك أن تتركَني وشَأْنِي!»

فَدَهِش الْمَلَّاحُونَ مما سمِعُوا، وعجِبُوا إذْ رأَوْني أُجيدُ لغتَهم، وأيقنُوا أنني أَوْرُوبِّيٌّ. ولكنهم لم يفهموا ما أعْنِيه بكلمةِ «ياهو» ولم يعرفوا شيئًا مما أعرفُهُ عنِ السادةِ الْجيادِ، فلم يتمالكُوا أنْ يَضْحَكُوا؛ لأن لهجَتِي التي حدثتُهم بها كانت لهجةً جَوادِيَّةً صاهِلَةً، لم تألْفها آذانُهم من قبلُ!

أما أنا فقد عَرَتْنِي هِزَّةٌ ورِعْدَةٌ شديدتان، حينَ رأيتُ هذه الدوابَّ الآدميةَ أمامي، والْتمستُ منهم ضارِعًا — أن يتركوني وشَأْني. وهَمَمْتُ أَنْ أذْهَبَ إلى زَوْرقي؛ فلم يسمحُوا لي بذلك، وأمسكُوا بتَلابِيبِي، وسألوني: «مِنْ أيِّ البلادِ أنت؟ ومن أين قَدِمْتَ الآن؟»

فقلتُ لهم: «نشأتُ في «إنجلترا»، وقد غادرتُها منذُ سنواتٍ خمسٍ، وما أنا إلَّا «ياهو» حقيرُ القدرِ، ضَئِيلُ الخطَرِ. وقدِ اعتزمتُ أن أقضِيَ ما بَقِيَ من حياتيَ الشَّقِيَّةِ التَّعِسَةِ في عُزلةٍ عن الناس.»

فدهِش البُرتغالِيُّونَ مما سمِعوا، وعجِبوا من جَرْسِي الصَّاهلِ ولهجَتِي الغريبةِ، وإن كانوا قد فهِموا ألْفاظِي كلَّها.

ولم تكُنْ دهشتي من لَهَجاتِهم بأقَلَّ من دهشتِهم من لهْجَتِي؛ فقد حَسِبْتُنِي أَمامَ عجيبةٍ خارِقَةٍ من غَرائبِ الطبيعةِ الشاذّةِ، وخُيِّلَ إليَّ — وأنا أُنْصِتُ لحِوارِهم — أنني أَسمَعُ بقرةً أَو كلبًا يتكلّمان في بلادِنا، أَو «ياهو» يتكلمُ في جَزِيرَةِ الجيادِ الناطقةِ.

ولا أَكْتُمُ أَنَّهم تَلَطَّفوا بي، ولم يتركوا جُهدًا في مُلايَنَتي والتَّرْفِيهِ عن نفسي، وأكَّدُوا لي أَن رُبَّانَهم — وهو مِثالُ الوَداعةِ ودَماثةِ الْخُلُقِ — سَيَحْتَفِي بمقدَمِي، ويُكرِمُ وِفادَتِي، ويُقِلُّني في سفينتِه من غيرِ أَجرٍ، حتى أَصِلَ إلى «لِشْبُونَةَ»؛ حيثُ يسهُلُ عليّ السفرُ منها إِلى «إنجلترا».

ثم أَوفدوا اثنيْنِ منهما لمقابلةٍ الرُّبان والإِفْضاءِ إليه بما عَرَفاهِ من أَمْرِي، وطلبوا إليَّ — بعد أَن شَدُّوا وَثاقِي — أَن أُقسِمَ بِشَرَفِي أَنْ أَكُفَّ عن مُحاولةِ الهرَبِ. فلم أَرَ وسيلةً تُمْكِنُني من مُخالفتِهم، فأجبتُهم — مُرْغَمًا — إلى ما اقْتَرحُوه.

وكانوا مَشغُوفِينَ بتعرُّفِ قِصَّتِي، وما وَقَعَ لي منَ الأحداثِ والخُطوبِ؛ فَقَصَصْتُ عليهم طَرَفًا يسيرًا مما حدث لِي، لَعلِّي أُرْضِي فُضُولَهم. فتعاظمتْهمُ الدهشةُ، وحَسِبوا أَنَّ الْكوارِثَ التي حَلَّتْ بي قَدْ أَضاعَتْ عَقْلِي وصَيَّرَتْنِي أَهْذِي دُونَ أَن أَعرِفَ ما أَقولُ.

وبعدَ ساعتينِ عاد الزَّوْرَقُ والْمَلَّاحانِ، وأَبلغا رَفِيقَيْهما أَن الرُّبّانَ قد أَمر باسْتِدْعائِي إليه. فَجَثَوْتُ على رُكْبَتي ضارِعًا إليهم أَنْ يتركونِي حُرًّا؛ فلم يقبلُوا رَجائِي، وحملُوني — عَنْوَةً — إلى الزَّوْرَقِ، ومَضَوْا بي، حتى بلَغْنا غُرْفَةَ الرُّبانِ.

(٥) حَفاوَةُ الرُّبَّانِ

وكان الربانُ — على الحقيقة — غايةً في الوَداعَةِ والتلطُّفِ والأدبِ؛ فاحتفى بمقدمي، وهَشَّ لِي وبَشَّ، وسألني مُتَوَدِّدًا عن حقيقةِ أمري، وعمَّا تشتهِيه نفسِي من طَعامٍ وشَرابٍ، وأَكَّدَ لي أَنه لَنْ يُعامِلَني إلَّا مُعاملةَ الأخِ أَخاهُ، والنِّدِّ نِدَّهُ، فدَهِشتُ من هذه الأخلاقِ الفاضلةِ، وعجِبتُ كيف تتحلَّى بمثْلِها دابةٌ آدميّةٌ مِثْلُه.

ولكِنَّنِي لَزِمْتُ العُبُوسَ وآثَرْتُ الصَّمْتَ، وكاد يُغمَى عليّ حين شَمِمْتُ رِيحَه ورِيحَ مَنْ حَوْلَه من رِجالِه. وطلبتُ أَن آكلَ منَ الزادِ الذي أَعددتُه في زَوْرَقي، ولكنَّ الربانَ أَمر رجالَه أن يُعِدُّوا لي دَجاجَةً وشَيْئًا منَ الشّرابِ الفاخرِ. ثم أَعَدُّوا لي سريرًا نظيفًا في غُرْفَةٍ مُنْعَزِلَةٍ؛ فلم أَنْزِعْ ما عليَّ منَ الثّيابِ، وانْطَرَحْتُ على السَّريرِ زُهاءَ نِصْفِ ساعةٍ. ثم استيقظتُ، فخرجتُ من غرفتي ثائِرًا، وهَمَمْتُ أَنْ أَقْذِفَ بنفسي إلى البحرِ وأَعودَ سابحًا من حيثُ أَتَيْتُ، لِأَخْلُصَ من مُعاشرةِ هذه الدوابِّ الآدميّةِ البَشِعَةِ.

ولكن أَحَدَ الْمَلَّاحِينَ حانَتْ منه التِفاتةٌ فأدرك ما هَمَمْتُ به، وحالَ دُونَ تحقيقِ ما أَردتُ. ولما علِم الربَّانُ بما حدثَ أَمرَ أَعوانَه بشَدِّ وَثاقِي، حتى لا أُحاوِلَ مثلَ ذلك مرةً أُخرَى.

ولما انتهَوْا من طعامِهم جاءنيَ الرُّبّانُ لِيَتَعرفَ أَسبابَ سُخْطِي وأَلَمِي، وتلطّف معي في القولِ، وحادَثَنِي في أُسلوبٍ مُؤَثِّر ولهجةٍ تَفِيضُ حنَانًا ورِقَّةً، وطلب إِليَّ أًن أُفْضِيَ إليه بدِخْلَتِي. فأنِسْتُ إليه شَيْئًا، وبَدَأْتُ أَرَى فيه دابَّةً على شيءٍ من التَّعَقُّلِ؛ فَرَوَيْتُ لَهُ — في إيجازٍ — قِصَّتِي مع الْمَلَّاحِينَ الذين ائْتَمرُوا بي، وما أَعْقَبَها منْ مُفاجآتٍ؛ فَخُيِّل إِليه أنه يسمعُ رُؤًى وأَحلامًا.

وقد آلمَني ما بدا عَلَى سِيماه من أَماراتِ الاِرْتِيابِ والشَّكِّ في صِدْقِ ما أقولُ. وكنتُ قد نَسِيتُ في أثْناءِ إقامَتِي في تلك البلادِ أَن الإِنسَ يَكْذِبونَ، وأَنهم — وحدَهم — قدِ انفردوا من بينِ دَوابِّ الأرضِ كُلِّها بالشَّكِّ فيما يسمعون، والكَذِبِ فيما يُحَدِّثون.

•••

فسألتُ مدهوشًا: «هل تَعَوَّدْتُم في بلادِكم أَنْ تذكروا شيئًا لا حقيقةَ له؟ أَلم يُقْلِعْ أَبناءُ آدمَ عن عادةِ الكَذِبِ إِلى اليومِ؟ لقد عِشتُ بين ظَهْرانَيِ الجيادِ زمنًا طويلًا، لَمْ أَسمعْ كِذْبَةً واحدةً؛ من سادَتِهم وخَدَمِهم على السَّواءِ. ولَوْ عِشْتُ معهم أَلفَ سنةٍ لما سمعتُ من أَصْغَرِ خَدَمِهم خَبَرًا واحِدًا غَيْرَ صَحِيحٍ. فما بالُكم — يا معشرَ «الْياهُو» — تَرْتابُون فيما تَسْمَعُون؟ على أَنني أَتركُ لك الْحُرِّيَّةَ في تَصديقِ ما أَقولُ، أَوِ الشَّكِّ فيه!» ولم أَشَأْ أَن أَتلكّأَ في إِجابتِه عن أَسئلتِه: لأنني رأَيتُ من سَجاحَةِ أَخلاقِه ما دفعني إِلى الإِغْضاءِ عما أَلِفَتْه طبيعةُ «الْياهُو» التي لا مَعْدَى له عَنها، فأجبتُ عن أَسئلتِه كلِّها في بَساطة وصَراحةٍ. وكان عاقِلًا ذَكِيًّا بعيدَ النظرِ؛ فلم يلبَثْ أن أخذَ بكلامي، واعْتَقَدَ الصِّدْقَ فيما قلتُ. ثم التَفتَ إِليَّ قائلًا: «مادُمْتَ مُتَمَسِّكًا بالْفضيلةِ إلى هذا الْحَدِّ، فإني أرجو أنْ تَعِدَني — وتُقْسِمَ بشَرَفِك أن تُحقِّقَ وعْدَك — أن تَبْقَى معنا طولَ الرِّحلةِ، وإلَّا اعْتَقَلْتُك في غُرفتِك حتى تَصِلَ إلى لِشْبُونَةَ.»

فعاهدتُه على إجابتهِ إِلى ما طلبَ، بعد أن أَفضيتُ إِليه بمَقْتِي للدَّوابِّ الآدميّةِ كلِّها، ونُفُورِي من لِقائِها والْعَيْشِ بين ظَهْرانَيْها.

(٦) نِهايَةُ الرِّحْلَةِ

ومرّتْ أَيامُ الرحلةِ كلُّها من غيرِ أن يُصِيبَنا مَكْرُوهٌ أَوْ يقَعَ لنا حادِثٌ يستحِقُّ الذِّكْرَ. وكان الرُّبانُ يُلِحُّ عليَّ — في كثيرٍ منَ الأحيانِ — أَن أَتحدّثَ إِليه، فَلا أُخَيِّبُ رَجاءَه لدَماثَةِ خُلُقِه. وقد بذلتُ جُهْدِي في إخْفاءِ كراهِيَتِي لهذا الْجِنْسِ الآدميِّ الْممقوتِ، ولكنّ بَوادِرَ هذا النُّفُورِ كانت تظهرُ على الرَّغْمِ مني أَحيانًا، فَيُغْضِي عنها الرُّبّانُ مُتظاهرًا بأنه لم يفطنْ إِلى شيءٍ مما رَأى.

وقد أَلَحَّ عليّ فِي أَن أَخلعَ ثيابي — التي صنعتُها من جلدِ الأرانبِ — ليُلبسَني غيرَها؛ فشكرتُ له ذلك، واسْتَبْشَعتُ أَن أَضعَ على جسمي ثِيابًا ارْتَدَتْها دابةٌ آدَمِيَّةٌ قَبْلي!

وسألتُه أَن يُقْرِضَنِي قميصَيْنِ أُجِيدَ غسلُهما، لأُداوِلَ بينهما في ارْتِدائهما.

وفي اليوم الخامسَ عَشرَ من نوفمبر وصلْنا إلى «لِشْبُونَةَ.»

وقد أَرغَمَنِي الربانُ على ارتداءِ مِعطفهِ، قبلَ أَن أَهبِطَ إلى المدينةِ؛ حتى لا يَسْخَرَ مني غَوْغاءُ الناسِ وأَوْشابُهم في الطريقِ.

(٧) في بَيْتِ الرُّبّانِ

ثم ذهب بيَ الرُّبانُ — واسْمُه الدُّوقُ «بِتْرُو» — إلى بيتِه، فألْحَفْتُ عليه أَن يُنزلَنِي حُجْرَةً مُنْعَزِلَةً بالطَّابَقِ الأعلَى، وأقسمتُ عليه أن يكتُمَ أمرِي عن جميع الناسِ؛ حتى لا تتهافتَ عليَّ جَماهيرُهم، فتُزعجَني وتُقِضَّ مَضْجَعِي وتُكَدِّرَ صَفْوِي، فضلًا عَمَّا تَجُرُّه علَّي من تَحْقِيقِ رجالِ التّفْتِيشِ وأَسْئِلَتِهمُ التي لا تنتهي بغيرِ القتلِ والإِحراقِ.

وأَلَحَّ عليّ الدُّوقُ في أن أرتديَ ثوبًا جديدًا فلم أقبلْ، وأبَيْتُ أن أسمحَ للخَيّاطِ بتفصيلِ الثوبِ على قَدِّي؛ حتى لا تَمَسَّ جسمي يَدُهُ. وكان الدوقُ «بِتْرو» في مِثْلِ قامَتيِ تقريبًا، فأعطاني ثوبًا جديدًا — فَصَّلَه الْخياطُ عَلَى قَدِّهِ — لألْبَسَه.

وكان الدوقُ عَزَبًا، وليس في بَيْتِه إلَّا ثلاثةٌ منَ الْخَدَمِ.

وَقَدْ أجابني إلى طِلْبَتي، فلم يَأْذَنْ لأحدٍ منهم بالوقوفِ على الْمائدةِ، في أثناءِ الطعامِ. فَشَعَرْتُ له بشيءٍ منَ التقديرِ، لِما رأيتُه من حسنِ أدبهِ وتَلَطُّفِه. وكان له عقلٌ نادرٌ إذا قِيسَ إلى عُقُولِ أقرْانِه من الدوابِّ الآدميةِ. فَأَطَعْتُه، وأَذْعَنْتُ لإِرادتِه حين زَيَّنَ لي أن أُطِلَّ من نافذةِ الْحُجْرَةِ الْمُشْرِفةِ على فِناءِ دارِه. وما زال بي حتى أنزَلنِي حُجْرَةً أخرى تُشرفُ على الطريق العامِّ. وكان يُزَيِّنُ لِنَفسي أنْ أُطِلَّ منَ النافذةِ، لَعَلِّي آلَفُ رُؤْيَةَ الناسِ؛ فلا أكادُ أفعلُ حتى أتراجعَ فزِعًا من بَشاعَةٍ ما أرَى مِنْ سَحَناتِ «الْياهُو». ثم استدرجَني إلى الْجُلُوسِ أمامَ البيتِ، بعدَ ثمانيةِ أيامٍ.

ولما جاء اليومُ العاشِرُ، قال لي مُتلطفًا: «لا مَناصَ لك منَ الْعودةِ إلى بيتِك، لتعيشَ بين أوْلادِك وأهْلِك. وقد علِمتُ أن سفينةً تتأهَّبُ اليومَ للسفرِ إلى «إنجلترا»، فَأَعْدَدْتُ لك مُعَدَّاتِ السفرِ. ولا يَدُورَنَّ بخَلَدِكَ أنك قادرٌ على تحقيقِ أَرَبِكَ في العُزْلةِ؛ فإِنك لن تظفرَ — مهما تَبْذُلْ من جُهْدٍ — بجزيرةٍ قَفْراءَ كما تَحْلُمُ. وربما ظفِرتَ بالُعزْلةِ في بيتِك، حَيْثُ تَجِدُ منَ الرَّاحةِ ما لا تَجدُ في مكانٍ آخرَ.»

فلم أجِدْ بُدًّا منَ التَّسلِيمِ له بصِحَّةِ ما رآه.

(٨) في أرْضِ الوطَنِ

وهكذا غادرتُ «لِشْبُونَةَ» في اليومِ الرابعِ والعِشْرِينَ من نوفمبر، ورَكِبْتُ سفينةً تِجاريةً. وقد وَدَّعني «الدُّوقُ» وعانَقَنِي، فتحمَّلتُ هذا التَّلَطُّفَ على مَضَضٍ، دُونَ أَنْ أُبدِيَ أمامَه أقلَّ اشمئزازٍ أو نُفُورٍ!

وَتفضَّل عليَّ فأَقْرَضَني عِشْرِين جُنيهًا، فشكرتُ له صَنِيعَهُ هذا. ثم أَقَلعَتِ السفينةُ، وانْتَبَذْتُ ناحِيَةً قَصِيًّة فيها، وتظاهرتُ بالمرضِ حتى لا يدخُلَ حُجْرَتِي أَحدٌ من «الْياهُو».

وفي اليوم الْخامسِ من ديسمبر/كانون الأول عام ١٧١٥م أَلْقَتِ السفينةُ مَراسِيهَا في «دون»، وقد وَصَلَتْ إلى الْميناءِ في الساعةِ التاسعةِ من صباحِ ذلِكَ اليوم.

فواصلتُ السيرَ إلى بلَدِي «ردِيف»، حتى بُلِّغْتُهُ في الساعةِ الثالثةِ بعدَ الظُّهْرِ.

(٩) اجتماعُ الشَّمْلِ

وَما وَصَلْت إلى بَيْتي حتى لَقِيَتْني زَوْجتي وأَفرادُ أُسرتي، فَرِحِين مُسْتَبْشِرِين. وكانوا على يَأْسٍ من لِقائي، بَعْدَ أَنْ سَلَكُوني في عِدَادِ الهَلْكَى ولم تَعُدْ تَخطُرُ لهم عَوْدتي على بالٍ.

وقد ملأَتْهُمُ الغِبْطَةُ والسُّرورُ. أما أنا فَتَمَلَّكَنِي الحُزْنُ والكراهِيَةُ والغَمُّ، برَغْم تقديري لتلك الرابطةِ الوثيقةِ التي تجمعُني بهم؛ فقد تَأَصَّلَ في نفسي مَقْتُ «الْياهُو»، على اختلافِ مَراتبِه وأجْناسِه: من نِساءٍ ورجالٍ، وشُيوخٍ وأطفالٍ، وأقارِبَ وأباعِدَ. وأصبحتُ — بعدَ أنْ ألِفْتُ مُعاشَرَةَ الجيادِ الناطقةِ — لا أُطِيقُ رؤية الدوابِّ الآدميةِ، ولا أرتاحُ إِلى لِقاءِ أحدٍ مِنْ هذا الْجِنْسِ. وكانتْ نفسِي مملوءةً إجلالًا وإكبارًا لتلك الجيادِ النبيلةِ، التي جَمَعتْ أشْرَفَ الصِّفاتِ وأكرَمَ الأخلاقِ.

وكنتُ كلما فكرتُ في أنني قد تَزَوَّجْتُ دابَّةً آدَمِيَّةً وأصبحتُ والِدًا لِدَوابَّ آدميّةٍ أُخرى، شَعَرْتُ بخَجَلٍ عظيم، وتمثَّلَ ليَ العارُ والشقاءُ!

ولم أَدخلِ المنزلَ حتى ضَمَّتْني زَوْجَتِي إلَيْها وطَوَّقَتْنِي بِذِراعَيْها وقَبَّلَتْني وهي فرحانةٌ بِعَوْدتي إليها؛ فلم أُطِقْ صبرًا على ذلك.

وكنتُ قد تعوّدتُ ألَّا أَمَسَّ أحدًا منَ «الْياهُو» منذُ سنواتٍ، فخانَتْنِي قُوايَ وانتابَنِي الضَّعفُ؛ فأُغْمِيَ عليّ وهَوَيْتُ إلى الأرضِ، وَبقِيتُ في غَشْيَتِي زُهاءَ ساعةٍ، ثم عُدْتُ إلى صَوابي.

(١٠) في صُحْبَةِ جَوَادَين

وَانْقَضَى عَلَى عَوْدَتِي سَنَواتٌ خَمْسٌ قَبْلَ أن أَقْوَى عَلى حَمْلِ القَلَمِ لكتابَةِ هذهِ الرِّحْلةِ التِي أَقُصَّ أخْبارَها عَلَى القارِئ.

وَلَمْ أَكُنْ أُطِيقُ رُؤيةَ زَوْجتي وولديَّ خِلالَ العامِ الأوَّلِ. وكانت رائِحتُهم تملأُ نَفسي نُفُورًا وتَقَزُّزًا. وكنتُ أشعُرُ بألمٍ شديدٍ كلما رأيتُهم يَجلِسون معي ولم أَكُنْ أُبِيحُ لِواحِدٍ منهم أنْ يَمَسَّ خُبْزِي أو يَشْربَ من قَدَحِي، أو يَلْمسَ يَدِي.

وقد انْتَهَزْتُ أولَ فُرصةٍ سَنَحَتْ لي، فاشتريتُ مُهْرَيْن، وأعْدَدْتُ لهما الإصْطبلَ حَيثُ أنْزَلْتُهُما أحسنَ حُجْرَةٍ. وكنتُ آنَسُ بقُرْبِهما وأَرتاحُ إلى مُحاوَرَتِهِما. ويُنْعِشُني طِيبُ رائحةِ الإِصْطَبْلِ، كما أَهَشُّ لِلسَّائِس وأَطْرَبُ لرائحتِه الذَّكِيَّةِ التي اكتَسَبها من جَوِّ الإِصطبلِ المُعَطَّرِ وعِشْرَةِ الجوادَيْنِ الْكَرِيمَيْنِ. وَقَدِ اتّخذتُه لِي جَلِيسًا ومُؤْنِسًا.

وكنتُ أُحَمْحِمُ صاهلًا معَ الجوادَيْن، وتدورُ بيننا مُحاوَراتٌ صاهِلةٌ، قُرابَةَ ساعاتٍ أربعٍ على الأقَلِّ في كلِّ يومٍ. وكانا يُجِيدان فَهْمَ ما أقولُ.

ولم أكُنْ أدّخِرُ وُسْعًا في العِنايةِ بأمرِهما، وتَلْبِيَةِ رَغَباتِهما.

وقد عاشا معي في صَفَاءٍ ودَعَةٍ وانْشِراحٍ، ولم يَمَسَّ جَسَدَيْهِما سَرْجٌ ولا لِجامٌ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤