الفصل الثاني
(١) في ضِيافةِ الجواد
وما زِلْنا سائِرَيْنَ، حتى قَطَعْنا أمْيالًا ثلاثةً تقريبًا، ثم انْتَهَيْنا إلى منزلٍ كبيرٍ، ولكنه منخفضٌ شديدُ الاِنخِفاضِ؛ حِيطانُهُ من الخشب، وسَقْفُه من القَشِّ. وما وَصَلْتُ إلى المنزلِ حتى سُرِّىَ عني، وبدأتُ أشعُر بشيءٍ كثيرٍ منَ الرَّاحةِ، ثم اعْتزمتُ أن أُهْدِيَ إلى أهلِ المنزلِ لُعبًا صغيرةً — مما تعوّدَ السائحون أن يُقدِّموها إِلى الهَمَج من سُكّانِ البلادِ — لِأُدخلَ على نُفوسِ أهلِ البيتِ شيئًا من الفَرَحِ والاِبْتِهاجِ.
وقد أَدخلني ذلك الجوادُ حُجْرَةً كبيرةً، أَرْضُها من الترابِ الكَثِيفِ، وهي مُنَسَّقةٌ أَجملَ تنسِيقٍ، وفي أَحدِ أَركانِها مَعْلَفٌ طويلٌ. وكان ذلك الجوادُ على غايةٍ من الأدبِ والِاحتِشامِ. وما أدخلني حتى رأَيتُ فيها جيادًا ثلاثةً، وفَرَسَيْنِ أُنْثَيَيْنِ. ولم تكَنْ تلك الأفراسُ الخمسةُ تأكلُ شيئًا — حينئذٍ — وكان بعضُها جالسًا جلْسَةَ المُحْتَبِي؛ فزاد ذلك في دَهْشَتِي، وعجِبتُ من قُدْرَةِ هذه الجيادِ على التَّشَبُّهِ بِالرِّجالِ في كثيرٍ من حركاتِها.
ثم تعاظَمَتْنِيَ الحَيْرةُ حينَ رأَيتُ الجيادَ الخمسةَ ماثِلَةً لِخِدْمَةِ هذا السِّيدِ الجوادِ الذي صَحِبَني إلى بيتِه.
وكُنْتُ كُلَّما أَنْعَمْتُ النَّظَرَ فيها أَيقنتُ أَنها جِيادٌ حَقًّا، وليستْ سَحَرَةً — كما توهَّمتُ من قبلُ — وتمثَّلَ لخاطِري رُقِيُّ الشَّعْبِ في هذه البلادِ، وقلتُ لنفسي: «إنَّ شَعْبًا يستطيعُ أن يُهَذِّبَ حيوانَه مثلَ هذا التهذيبِ، ويَسْمُوَ بِخَيْلِهِ إلى هذا الأوْجِ، لا بُدَّ أنْ يكونَ أوْفَرَ شُعُوبِ العالَمِ ذكاءً، وأرْجَحَهم عقلًا!» ودخل السيدُ الجوادُ الأزرقُ المُرَقَّشُ في أَثَرِي؛ حتى لا يُصيبَنِي منَ الجيادِ الأخرى مَكْرُوهٌ ولا أذًى، ثم تحدَّثَ إِليها صاهِلًا مُحَمْحِمًا، في لَهْجَةِ السَّيِّدِ الآمِرِ المُطاعِ، فأجابَتْه الأفْراسُ الأُخْرَى — صاهِلَةً مُحَمْحِمَةً — تَرُدُّ عَلَى خطابِه إليها.
(٢) هَواجِسُ «جَلِفَر»
ثم اسْتأنفَ الْجَوادُ سيرَه — وأنا في أَثَرِه — حتى اجْتَزْنا حُجْرتَيْنِ أُخْريَيْن، وأشار إليّ هذا السيدُ أنْ أتريَّثَ في مكاني حتى يعودَ، وتركَني مُنفردًا، ثم دخل حُجْرَةً ثالثةً.
وأعددتُ الهدايا لأقدِّمَها إلى صاحبِ البيتِ وزوجتِه، وأخرجتُ من جُيوبي مُدْيَتيْن، وثلاثَ أساوِرَ مِنَ اللُّؤلُؤ الزَّائفِ، ومِرْآةً صغيرةً، وقِلادةً مِنَ الزُّجاجِ.
وسمِعتُ صوتَ الجوادِ — وهو يصهَلُ مرتين أو ثلاثًا — فأرهفْتُ أُذُنَيَّ: لَعَلِّي أسمعُ جوابَ إنسانٍ، آنَسُ بقُرْبِه بعد وحشةٍ، واعتقدتُ أنَّ صاحِبَ البيتِ سيحضُرُ بعد قليلٍ.
ولكنَّ ما توقعتُه لم يَحْدُثْ، فقد سمعتُ صهيلًا وحَمْحَمةً — داخِلَ البيتِ — جوابًا عن صهيلِ السيدِ الجوادِ وحَمْحَمَتِه، ولم تَتَبَدَّلْ تلك اللغةُ.
على أنَّ الصَّهِيلَ — في هذه المرةِ — ازدادَ وُضوحًا، وأصبحتْ نَبَراتُ الصَّوْتِ — في أُذُنِي — أكثرَ جَلاءً، وكان جَرْسُ الصَّاهِل — حينئذٍ — أَدَقَّ وأَبْينَ من جَرْسِ السيدِ الجوادِ الذي قدِم معي إلى البيتِ.
ودارَ بخَلَدي أن صاحبَ البيتِ عظيمٌ — بلا ريبٍ — من عُظَماءِ البلدِ، وأنَّ خَدَمَه يَحْجُزُونَنِي في هذه الْحُجْرَةِ حتى ألقاه.
ولكنَّ حَيْرتي كانتْ شديدةً، فقدْ كانَ من المُحالِ عليَّ أن أَفْهَمَ أنَّ عظيمًا من الناسِ يخْتارُ لِخِدْمَتِه جمهرةً من الجِيادِ.
وخشِيتُ أن تُسْلِمَني هذه الوساوسُ والأوْهامُ إلى الْهُتْرِ والْخَبالِ، فيتمَّ بذلك شَقائي، وظللْتُ أُجِيلُ البصرَ في أنْحاءِ الْحُجْرَةِ التي حَلَلْتُ فيها، وكانتْ شديدةَ الشّبَهِ بِالْحُجْرَةِ السَّابِقَةِ، وإنِ امْتازَتْ عنها بشيءِ منَ الأناقةِ.
ولم أدْرِ: أحالِمٌ أنا أم يَقْظانُ؟ فَفَركْتُ عينيَّ لأتثَّبتَ مما يكتنِفُني؛ فلم أَرَ غَيْرَ ما رأيتُ من قبلُ. ثم شدَدْتُ ذِراعي، ودَلَكْتُ جَنْبِي، لعلِّي أصْحُو من هذا الْحُلْمِ العَجِيبِ؛ فلم يتبدَّلْ شيءٌ من المناظِرِ الْمُحَيِّرَةِ. وثَمَّةَ أيقنتُ أنني حَلَلْتُ — بلا شَكٍّ — بِلادَ السَّحَرةِ والعَفاريت.
(٣) سادَةُ البيتِ
وإنِّي لغارِقٌ في هَواجِسي وخَواطِري، إذْ عادَ إليَّ الجوادُ الأزرقُ الْمُرَقَّشُ، فقطعَ عليّ سِلْسِلَةَ هذهِ الأفكارِ، ثم أشار إِليَّ أن أَدْخُلَ معه الْحُجْرَةَ الثالثةَ. وما دَخَلْتُها حَتَّى رأَيتُ فَرَسًا أُنْثَى جالسةً على حَصِيرٍ غايةٍ في النَّظافِة وحُسنِ التنسيقِ. وكانت هذه الفرسُ آيةً من آياتِ الْجَمالِ والْحُسْنِ، ومعها مُهْرٌ جميلٌ ومُهْرَةٌ رَشِيقَةٌ، وكانت ثلاثتُها جالسةً على سُوقِها الخلْفِيَّةِ، وقد ثَنَتْها تحتَ أعْجازِها.
وما دَخَلْتُ هذه الْحُجْرَةَ، حتى وقَفتْ تلك الفرسُ، ومَشَت نَحْوِي حتّى دانَتْني، ثم أجالتْ بَصَرَها فِيَّ، وأنعَمتِ النظرَ في وَجهي ويَدَيَّ، ولم تَنْتَهِ من ذلك حتى نظرتْ إليَّ بِازْدِراءٍ واحتقارٍ.
والتفتتْ تلك الفرسُ إِلى الجوادِ، وظَلَّتْ تَصْهَلُ — وهي مُحْنَقَةٌ غَضْبَى — وكان زَوْجُها يجيبُها بلغتِه، ثم تَرُدُّ عليه، وهكذا دَوَالَيْكَ.
واسترعَى سَمْعِي أنهما كانا يُكثِرانِ من ترديدِ كلمةِ «ياهو»، وكنتُ — إلى هذه اللحظِة — أجهلُ معناها، وإِن كانتْ هي أولَ كلمةٍ دَرَّبْتُ نفسي على النُّطْقِ بها من هذه اللغةِ الصَّاهلةِ.
على أنني اسْتطعتُ أن أتعرّفَ معنَى هذه الكلمةِ الْمَشئُومةِ فيما بعدُ. ومَا عَرَفْتُ مَدْلُولَها حَتَّى تَمَلَّكَنِي الْغَمُّ، واسْتولَى عليَّ الحزنُ والأَلَمُ.
(٤) «الْياهُو»
وقد أشارَ إليَّ الجوادُ برأسِه أن أتْبَعَهُ؛ فسِرْتُ في إثْرِه حتى وَصَلْنا إِلى فِناءٍ يصلُحُ لتربيةِ الدَّواجِنِ من دَجاجٍ وَطيْرٍ. فلما اجْتَزْناهُ رأيتُ فِناءً آخرَ على مسافةٍ قريبةٍ منه. فَلمَّا دخلْناه اسْترعَى بصرِي ثلاثةُ مخلوقاتٍ مقلوبُو السَّحَنَاتِ، مُشَوَّهُو الوجوهِ، ذكَّرتنِي بتلك الْمَخلوقاتِ التَّاعِسَةِ التي اعْترضَتْنِي عندما حَللتُ الجزيرةَ.
ورأيتُ في أَعناقِها سلاسلَ وأغْلالًا، وكانت حينئذٍ مشغولةً بالْتهامِ بعضِ الْجَزَرِ، وتمزيقِ ما أَمامها من اللّحمِ. وقد علمتُ — حينئذٍ — أنَّ اللَّحْمَ الذي قدَّموه إليها هو لحمُ حِمارٍ، ولحمُ كلبٍ، ولحمُ بقرةٍ. وكان النَّهَمُ بادِيًا على أَسارِيرِها، وهي مُقْبِلَةٌ على تَمْزيقِه في شَرَهٍ عجيبٍ.
ثم أَمر السيدُ الجوادُ حصانًا صغيرًا أَشقَرَ أنْ يأتيَ بأحدِ هذه المخلوقاتِ التَّعِسَةِ، بعد أَن يَفُكَّهُ من قَيْدِه. فذهب الخادمُ إلى أكبرِ حيوانٍ منها وأَحضرَه، ثم وقف السيدُ الجوادُ ومُهْرُهُ الخادمُ يتأمَّلانِ في وجْهَيْنا، ويُطيلانِ الفحْصَ في دِقَّةٍ واهتمامٍ، ثم ردَّدا كلمةَ «ياهو» مَرَّاتٍ عِدَّةً.
وليس في مَقْدُورِي أنْ أَصِفَ ما اسْتولَى عليّ من الهلَعِ والدَّهْشَةِ والْحَيْرةِ، حين تبيّنَ لي أن «الياهو» — في مظهَرِه وشكلِه الخارِجيِّ — أقربُ المخْلوقاتِ شَبَهًا بالإِنسانِ، وإن لم يَكُنْه، عَلَى التَّحْقِيقِ.
وما أراه يختلفُ — عن بَنِي الإنسانِ — اخْتلافًا جَوْهَرِيًّا، فلستُ أُنكِرُ أنه عريضُ الوجهِ، مُسَطَّحُهُ، وأنه أفْطَسُ الأنفِ، غليظُ الشَّفَتيْنِ، واسعُ الفمِ. ولكنَّ هذه السِّماتِ — وإن فرّقَتْه عَنَّا — لا تفصِلُه عن الْجِنْسِ الآدميِّ كُلِّهِ؛ فإِن أَكثرَ الهمجِ وسَوادَ المتوحِّشيِنَ يُشْبِهُون هذا المخلوقَ، أَو يُدَانُونه في الشَّبَهِ.
والأُمَّهاتُ — في تلك الشعوبِ — يُرْقِدْن أَبناءَهُنَّ ووجوهُهم إلى الأرضِ، ويحمِلْنهم على ظُهورِهنَّ؛ فتَضغَطُ أَكتافُ الأمَّهاتِ على أُنُوفِ الأبناءِ فَتُفَلْطِحُها. ومتَى كبرَ أَطفالُهن، أَصْبَحُوا فُطْسَ الأُنُوفِ.
ولهذا «الياهو» يَدانِ تُشْبهانِ أَيْدينَا، وإِن كانتِ الأَظافِرُ طويلةً جدًّا. أَمَّا بَشَرَتُه فهي سمراءُ صُلبَةٌ، مُغَطَّاةٌ بالشعرِ، وساقاهُ تُشبِهان سُوقَنا، وأَظافرُ قَدَمَيْه طويلة كأظافرِ يَدَيْهِ.
ولا تخْتلفُ بقيَّةُ أَعضاء جسمِه عن أَعضائِنا في شيء، ما خلا اللونَ والشعرَ.
وإِنما أَدْهَشَ الجواديْنِ وحَيَّرَ عَقْلَهُما ما رَأَيا من الفَرْقِ العظيمِ بيني وبينَ «الياهُو» الممقوتِ. وكان مصدرُ هذا الخلافِ يرجِعُ إلى ثيابيَ التي تستُرُ جسمي، ويَحْسَبُها الجيادُ فارِقًا جَوْهَرِيًّا بيني وبين هذا الحيوانِ. وللجيادِ العذرُ؛ فلم يَكُنْ لها سابِقُ عَهْدٍ بِمِثْلِ هذهِ الثِّيابِ؛ فلا عَجَبَ إذا دَخَلَ في رُوعِها أَنَّها جُزْءٌ من جِسْمِي.
(٥) طَعامُ «الياهو»
ثم قَدَّم إليَّ ذلك الجوادُ الصغيرُ شيئًا من الجزَرِ، وكان يُمسِكُ به بينَ حافرِه وسُنْبُكِه. وما تَعَرَّفْتُهُ حتى رَجَعْتُه إليه، في أدبٍ واحْترامٍ عظيميْن. فذهب إلى مكانِ «الياهو»، وعاد بقطعة من لحمِ حمارٍ، فلما شمَمْتُ رائحتَها تَقَزَّزْتُ، واشتدَّ نُفُورِي واشْمِئْزازِي منها؛ فألْقَى بها الجوادُ إلى «الياهو»، فالْتَهَمَها في شَرَهٍ ونَهَمٍ.
ثم أشار الْجوادُ الْخادِمُ إِلى كَوْمَةٍ من العلَفِ، وكِيسٍ مملوءٍ بالشُّوفانِ، فهزَزْتُ رأسي إيذانًا بالرفْضِ؛ فأدرك أنني لن أقبلَ شيئًا من هذه الأطعمةِ المختلِفةِ كلِّها.
واشْتَدَّ بِيَ الْجُوعُ، وخَشِيتُ أن أَهْلِكَ في هذه الجزيرةِ، بعدَ أن عَجَزتُ عن الاِهتداءِ إلى طعامٍ صالِح لِغذائي، أو إِنسانٍ يَشْرَكُني في الحديثِ، ويهدِينِي إلى غِذاءٍ أُقِيمُ به أَوَدِي.
أما أُولئك «الياهو» الحُقَراءُ، فإني لا أُطيقُ رؤيتَهم. ولستُ أُنكِرُ أنني صاحبتُ كثيرًا من أشباهِهم من بني الإِنسانِ في بلادِي من قبلُ، ولكنني شَعَرْتُ بنفُورٍ شديدٍ، وكراهِيَةٍ نادرةٍ لهم في هذه البلادِ الموحِشَةِ، وأصبحتُ كُلَّما أطَلْتُ التأملَ فيهم، اشتد مَقْتِي لهم وبُغْضِي إيّاهم.
ورأى السيدُ الجوادُ في سِيمايَ دلائلَ الضَّجَرِ والْألمِ؛ فأمر خادمَه أن يَرجِعَ «الياهو» إلى مكانِه، ثم رفع إِحدى قدميه الأماميّتيْنِ في سُهُولةٍ عجيبةٍ أدهشَتني، وأشار بها إِلى فِيهِ، كأنما أراد أن يسألَني عمَّا آكلُه؛ فلم أعرِفْ كيف أُجِيبُه، وما أَظنُّه قادرًا على تهيئةِ الطَّعامِ الذي تشتهِيه نفسِي إِذا طلبتُه منه.
ومرَّتْ — في هذه الأثناءِ — بقرةٌ — فأشرتُ إليها بإِصبَعي. فلما وَقفوها أَشرتُ إلى ضَرْعِها؛ فأدرك السيدُ الجوادُ أنني أُريدُ أن يَحْلُبُوا لي شيئًا من لبنِها؛ فأشار إليّ أن أَتْبَعَه إلى منزلِه، ثم أَمر خادمَه أَن يفتحَ لي حُجْرَةً أُخْرى؛ فرأَيتُ فيها كثيرًا من الآنِيَةِ مملوءةً لَبَنًا، وقد صُفّتْ بعضُها إلى بعضٍ، وهي غايةٌ في النظافةِ وحُسْنِ التنسيقِ.
ثم أَعطانَي الخادمُ طَبَقًا مملوءًا بالْحَلِيب؛ فَشَرِبتُه سائِغًا هنيئًا، وشَعرتُ — حينئذٍ — بالحياةِ تدِبُّ في عُرُوقِي بعد أَن جَهَدَنِي الْجُوعُ.
(٦) في حُجْرَةِ المائدةِ
ولما حانَ وقتُ الظُّهرِ، رأَيتُ مَرْكَبَةً يجرُّها أَربعةٌ من «الياهو» إلى المنزِلِ، وقدِ اعْتَلاها جَوادٌ حسنُ المنظرِ، يَلُوحُ لي أَنه جليلُ القَدْرِ، عظيمُ الخَطَرِ. ثم نزل ذلك الجوادُ من الْمَرْكَبَةِ على قائِمَتَيْهِ الخلفيّتيْنِ؛ لأن رِجْلَه الأماميةَ اليسرَى كانت مجروحةً، فلم يستطعِ السيرَ عليها.
وكان هذا السيدُ الجوادُ قادِمًا إِلى البيتِ ضيفًا كريمًا على صاحبِه؛ فلَقِيَه رَبُّ البيتِ في أَدبٍ واحْترامٍ، وجلسا يَأْكُلان في أَفخمِ حُجْرَةٍ. وكانتِ المائدةُ حافلةً بالشُّوفانِ أُغْلِيَ في اللبن، وقد شرِبه الجوادُ الهرِمُ ساخِنًا، أَما بقيةُ الجِيادِ الأُخرَى، فقد آثرتْ أَن تشربَه باردًا.
وكانتِ الموائدُ مَصْفُوفَةً في وسَطِ الحُجْرَةِ على شكلِ دائرةٍ، وهي مقسَّمةٌ أَقسامًا عدَّةً، وجلستِ الجيادُ أَمامَها عَلَى كوماتٍ من القَشِّ. وكان في وسَطِ الْحُجْرَةِ مَعْلَفٌ كبيرٌ مقسَّمٌ أَقسامًا كثيرةً، بحيثُ يأكلُ كلُّ فرسٍ منها نصيبَه منَ العلَفِ والشُّوفانِ واللبنِ على انْفرادٍ. وكانوا يأكلون ويشرَبون في أَدبٍ واحْتِشامٍ عجيبَيْنِ.
وكانت المُهُورُ الصغيرةُ غايةً في الدَّماثَةِ، وحُسْنِ الذَّوقِ، وقد بدا إجلالُها وتَوْقِيرُها لشُيوخِ الجِيادِ واضِحَيْنِ لِلْعِيانِ. وكان أَصحابُ البيتِ غايةً في اللُّطْفِ والسَّماحةِ مع ضُيُوفِهمُ الْأعِزَّاءِ.
وقدِ اسْتدعانِي الجوادُ الأزرقُ المرقَّشُ، وأَمرني بالجلوسِ إلى جانبِه. وسمعتُه يُلْقِي إلى جارِه مُحاضرةً طويلةً، أغلبُ الظَّنِّ أنها كانت عَنِّي. فإِني رأيتُ ذلك الجارَ ينظرُ إليّ مرةً بعدَ أُخرى، وسمعتُهما يردِّدان كلمةَ «ياهو» في حوارِهما الطويلِ.
ثم عَنَّ لي أَنْ أَلْبَسَ قُفازِي، ولم أَكَدْ أفعلُ حتى دَهِش السيدُ الجوادُ الأزرقُ المرقَّشُ، وحار فيما رآه، وعجِب كيف تَغيَّر شكلُ يدي، واسْتحال إلى ما يراه. فأشار إليَّ إشاراتٍ تدُلُّ على دهْشتِه وعَجَبِه، ولَمَس يدَيّ برجلِه مرتيْنِ أو ثلاثًا، ثم أَشار إليّ أن أُعيدَهما إلى شكلِهما الْأَولِ. فلم أَترددْ في تلبيةِ رغبتِه. وخَلَعْتُ القُفّازَ — من فَوْرِي — ووضعتُه في جيبِي كما كان. فلما رأَوْا ما صنعتُ تعاظَمَتْهُمُ الحيرةُ. واسْتَوْلَتْ عليهمُ الدهشةُ.
وقدِ اشْتدَّ عَجَبُ الحاضرينَ، حينَ طلب إليّ رَبُّ البيتِ أن أَنْطِقَ بالكلماتِ الصاهِلَةِ التي تعلّمتُها منه، وكان قد علَّمني — في أَثناءِ العَشاءِ — أَسماءَ الشُّوفانِ واللبنِ والنارِ والماءِ، وما إِلى ذلك منَ الضَّرُوريّاتِ. وكان ينطقُ الكلمةَ فَأُردِّدُها أَمامَ الحاضرينَ في سُهولةٍ نادِرِةٍ. وقد أَعانني على ذلك ما أَكْسَبَتْنِيه مَرانتي على تعلُّمِ اللُّغاتِ المختلِفةِ — في أثناءِ تَجوالِي وأَسفاري المختلِفَةِ — فلم أَجدْ عَناءً في فَهمِ هذه الكلماتِ وتردِيدِها في زمنٍ وَجِيزٍ.
(٧) طعامُ «جلفر»
ولما انْتَهَوْا من طعامِ العَشاءِ انْتَحَى بي ربُّ البيتِ جانبًا، وأَعْرَبَ لي عن ألمِه وحُزْنِهِ بإِشاراتٍ شتَّى، وألفاظٍ مُوجَزةٍ مُقْتَضَبَةٍ، وذكر لي ما يُساوِرُ نفسَه منَ الْحُزْنِ والْقَلَقِ عليَّ، لأنني لم أشرَكْهُم في طعامِهم.
ثم ردَّدتُ أَمامَه لَفْظَ «الشُّوفانِ» — وكنتُ قد تعلَّمتُهُ في لغتِهِم — ونطقْتُهُ مرَتيْن أو ثلاثًا؛ فأدرك أنني أُوثرُ هذا الطعامَ على غيرهِ من أَلوانِ الأطعمةِ عندَهم.
وقدِ اقْتنعتُ — بعدَ طولِ التأمُّلِ والرَّوِيَّةِ — أن الشُّوفانَ أقربُ الأغذيِة إليَّ — إذا مُزج باللبنِ — ليَحْفَظَ كِيانِي حتّى لا يتهدَّمَ. ولم يكُنْ لي بُدٌّ من ذلك بعدَ أن رأيتُ الْأَغذيةَ كلَّها لا تلائمُني. وقد عَوَّلْتُ على أن أُعَوِّدَ نفسي هذا الطعامَ الكَرِيهَ، حتى تُتاحَ لي فرصةٌ للفِرارِ من هذه البلادِ إلى مكانٍ آخرَ فيه ما تشتهِيهِ نفْسِي من الطعامِ.
فأمر السيدُ الجوادُ فرسًا بيضاءَ — من خَدَمِه — أن تُحضِرَ لي شيئًا من الشوفانِ. ولم تَمْضِ لحظةٌ قصيرةٌ حتى عادتْ تحمِلُ صَحْفةً كبيرةً منَ الخشبِ، مملوءةً بالشوفانِ.
فوضعتُ الشوفانَ في الفُرْنِ، وصَبَرْتُ عليه حتى أنضجَتْه النارُ. ثم فَرَكْتُه بيدَيَّ — بعد أن بردَ — حتى فَصَلتُ قِشْرَه عنه، ثم طَحَنْتُ حَبَّهُ بين حَجَريْنِ، وصببتُ عليه الماءَ، وصنعتُ من عجينتِه فَطِيرةً، ثم خبزتُها في الفرنِ، حتى إِذا نضِجتْ غَمَستُها في اللبنِ، وأكلتُ منها ما يكفِينِي. وبذلك ذَهَبَ عني ألمُ الْجوعِ.
ولم أَستمْرِئْ هذا الطعامَ — أولَ أمْرِي — وإن كان كثيرٌ من المتحضِّرِينَ يألَفُونه في بلادِنا، ولكنني تعوّدتُ أن أَسْتسِيغَه وآلَفَهُ بعد زمن قصيرٍ.
وللضرورةِ أحكامٌ قاهرةٌ لا سبيلَ إلى مُغالبَتِها، تُرْغِمُ الإِنسانَ على أن يَرى حسنًا ما لَيْسَ بالحَسَنِ، ويستمرئَ منَ الطعامِ ما لم يكُنْ لِيَسْتَسِيغَه من قبلُ.
ورأيتُ أنَّ جَوَّ الجزيرةِ يلائِمُني أشدَّ المُلاءَمَةِ، وكنتُ — في بعضِ الأحايينِ — أصطادُ أرنبًا أو طائرًا، بعدَ أن أصنعَ لي حِبالةً (شَبكةً) من شَعْرِ «الياهُو».
واهْتَدَيتُ إلى حَشائِشَ أُخرى؛ فصنعتُ منها بعضَ الكَوامِخِ. وكنتُ أَتَغَذَّى — أحيانًا — بقطعةٍ منَ الزُّبْدِ الذي أصنعُه بنفْسِي، ولم يكن يُعْوِزُني — حينَئذٍ — إلَّا المِلحُ، ولكنَّ الحاجةَ أرغمَتْنِي على أَن أَستسيغَ الطعامَ بدونِه.
وقدِ اسْتَخْلَصتُ من ذلك نتيجةً صحيحةً، هي أن التجاءَنا إلى المِلْحِ هو نتيجةُ إفْراطِنا في الشَّرَهِ والنّهَمِ. وقد رأَيتُ أَن الإِنسانَ هو الحيوانُ الوحيدُ الذي يَشِذُّ عن بقيِة أَجناسِ الحيوانِ، إذْ يخلِطُ المِلحَ بطعامِه. وقد بذلتُ جُهدًا كبيرًا — بعد أَن تركتُ الجزيرةَ — حتى ارْتَضَيْتُ الرُّجُوعَ إلى استعمالِ الملحِ واسْتِساغَتِه.
(٨) فِرَاشُ «جلفر»
حَسْبِي أَن أَجتزئَ بهذا القَدْرِ منَ الحديثِ عن غِذائي؛ فقد طالما أَخذتُ على غيري من السَّائِحينَ عنايَتَهم بالكلامِ عن أَلوانِ الْأَغذيةِ والْأَطعِمةِ، وطالما نَدَّدْتُ بهم لأنهم يملئُون كُتبَهم بتلك الأحاديثِ التافهةِ عنِ الطعامِ، ويُعْنَوْنَ بها عنايةً نادرةً، ويعظِّمون من خطرِها ما حَقُر؛ ليعرِفَ القارئُ هل تمتَّعُوا بالطعامِ واسْتَمْرَءُوه، أم نَقَصَ حظُّهم منه فلم يَهْنَئُوه؟
على أنني اضْطُرِرْتُ في هذا المَقامِ إلى الإفضاءِ بهذا التفصيلِ المُوجَزِ، لأنني لم أَجِدْ بُدًّا من إثباتِه في كتابي؛ حتى لا يتهمَني أحَدٌ من القُرَّاءِ بالمُغالاةِ والخِداعِ فيما أَقُصُّه عليه من أَنباءِ الجزيرةِ. فليس من السَّهلِ عليهم أَن يَتصوَّرُوا هذا النظامَ الغذائيَّ الذي اتَّخَذتُهُ في أَثناء مُقامِي بين الجيادِ الناطقةِ ثلاثَ سنواتٍ كاملةً.
بقيَ عليّ أَن أُحدِّثَ القارئَ عن أُسلوبِ نَوْمِي في تلك البلادِ، وهو حديثٌ مُوجَزٌ قصيرٌ. فقد خصَّنِي السيدُ الجوادُ بحجْرةٍ على بُعْدِ خُطُواتٍ سِتٍّ من بَيْتِهِ، وهي مُنْعَزِلةٌ عن بيتِ «الياهُو». وقد فرشتُها بِكوماتٍ عدةٍ منَ القشِّ؛ لتكونَ لي فِراشًا في أَثناءِ النومِ.
وكنتُ أَرتدِي ثيابي في الْيَقَظَةِ والنَّوْمِ، وأَقضِي الليلَ هادئًا مستريحًا، ولم يَمْضِ عليّ زمنٌ يسيرٌ، حتى انْتَظَمَتْ أَحوالي، واسْتقامَتْ أُمُوري في هذه الجزيرةِ، كما يرى القارئ في الفصولِ القادمةِ من الكتابِ.