هذا سفر التي هي: مليكة شول

طالما لم تتزوج البنت، يا ابنتي مليكة، طالما لم تتزوج البنت فإنها ستظل قلقة إلى أن تصطاد المحب، لكنها ستظل قلقة إلى أن يخطبها، لكنها ستظل قلقة إلى أن يتزوجها، من ثم يبدأ هو مشوار القلق نيابة عنها، وهذه هي مشيئة دينق الرب الواحد الكبير، هكذا تكلمت جدتك نياندنق: إن القلق امرأة وخلق دنق الرجل حمارًا لحمل القلق عنها، لجامه الحب، عصاه الأطفال، كلما كثر الأطفال كلما كثرت العصا التي تنهال على ظهره ضربًا دافعة إياه على السير قدمًا، وعلى ظهره امرأة أو القلق! وكلاهما واحد.

هكذا كانت تعلمك جدتك العجوز نياندق وتقول لك: غدًا عندما يقع شاب في شباك جمالك ويعرف قيمتك، سيحمل عنك هذا القلق الذي يحرق قلبك الآن.

ولو أن القلق الذي كنت تعانين منه لم يكن أبدًا في شأن مستقبلك أو في شأن الرجل، كان قلقًا ينبع من غور قصي في ذاتك، فيك أصيل، وكأنه عضو خلقه الرب فيك، قلق لا فكاك منه، ومهما قوي ظهر الرجل حمار قلقك الذي ينتظر، فإنه لا يستطيع معه صبرًا أبدًا.

جدتك نياندنق ذات السنوات التسعين والسن الواحدة، مات في حضنها خمسة رجال، ولا تزال حية كساق المهوقني، قوية تزأر بصوتها الجهوري فتسمع القرية من الغابة إلى النهر، من التوج إلى شجرة النمور الثلاثة، ما بعد المستنقع الكبير أباب دير، قيل إنها كلما مات أحد أزواجها احتفظت بصوته، جدتك القاسية على نفسها، عاشقة الصبايا، زهور الموز، كما تسمي صبيات الدينكا الحسناوات، ذوات السوق الطويلة الملساء، سوق الزرافات، أعناقهن الجميلة المحلاة بالعاج والودع والخرز الملون، المجلوب من بلاد نيجيريا ويوغندا وأفريقيا الوسطى، المتوارث، البُنيات الراقصات الرقيقات، بأذرعهن المرسلة كأغصان أشجار المانجو، كانت تجالسهن، تحكي لهن عن الماضي الغابر الجميل، عندما كانت تتحدث الأشجار والحيوانات مع البشر، وكانت الشمس والقمر والسماء جميعًا تسكن الأرض، قبل أن يطردهم الرب أو ينفيهم بعيدًا في الفضاء. وكانت تسقيهم العادات والتقاليد والقيم النبيلة في كئوس من الأحاجي والقصص، وأيضًا الشعر المغنَّى. كانت نياندنق عرابهم، فما كنت أنت مليكة شول مادنق التي أنشأتك جدتك على إيقاع حكمة السلف، وعلم الأب الأكبر دينق، تحلمين في يوم ما بحياة مثل التي تعيشينها اليوم، حياة صاخبة بجنون زوجك محمد الناصر، حيث لا ثابت! وأنت التي كنت تهيئين لأن تصبحي زوجة دينكا مثالية، لدووت منغار، تقدسينه تحترمين زوجاته الأخريات، كاحترامك لأخواتك، تنجبين له كثيرًا من البنات، ذوات السيقان القوية الطويلة، بعض الأولاد، تحلبين أبقاره، تصنعين له السمن والمريسة، عرق الموز في الأعياد والمناسبات الكبيرة، عند القيلولة، تنتفين شعر عانته بالرماد، تقشرين له قصب العنكوليب، إذا آب للفراش تستجيبين لغزله، مثل دجاجة خجلة تنزلقين من بين كتفيه الكبيرتين القويتين، ثم تستسلمين له طاعة، كلك رغبة وكلك تمنع، في هدوء القرية ووداعتها، موسيقاها الاحتفالية، مهرجانات أباب دير المقدسة، بين أشجار الباباي والمهوقني والمانجو تخلفين له أجيال الدينكا القادمة، تغزلين جلابيب الفجر بأغنيات الخلود، خلود الوطن كله، لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي سفنك، عندما أتى خبر الحرب مع رياح الخريف.

قال الشيوخ من بين أسنانهم القديمة الهرمة وهم يبصقون التُّمباك على الأرض: دعوه، فقد لا تؤكده الأمطار.

فنمتم في فراغات الطمأنينة، تطردون الخوف مع ريحكم خارج الجسد، وعندما عاد خبر الحرب مرة أخرى محمولًا على قطرات المطر، باردًا ومدهشًا كالصقيع، قال الشيوخ وهم يضعون مرة أخرى عجين التمباك بين شفاههم الغليظة ولثتهم الحمراء: دعوه فقد لا تؤكده الأعشاب التي ستنبت عندما ترتوي الأرض.

لكن!

ما إن رفعت الشجيرات الصغيرة وعُشيبات الخريف رءوسها من صدر التراب، حتى فرقعت السماء بمدافع الهاون والراجمات، ولو أن الماجوك الكبير أكد.

لا يمكن أن ينزل الشيطان بقريتنا، فقد خصنا الرب دينق بالأمن والسلام، إلا أن الشيطان الآن يتبول على رءوسكم حممًا وشظايا من الحديد والنار لا عهد لكم بها فتدهشكم ولما تفيقون من دهشتكم بعد تشردكم ولما ترجعون من تشردكم بعد، تقتلكم، وحتى الماجوك الكبير الذي بإمكانه أن يتنبأ بكل حوادث التاريخ التي سوف تحدث منذ ميلاده إلى موته، الذي تنبأ بهجرة الأفيال إلى بلاد بعيدة، وموت أسود الأبقار، وأيضًا استطاع أن يعرف قبل وقت كاف من موت رث الشلك، بأن رجلًا عظيمًا سيسقط كما يأفل النجم، فاليوم يُفاجأ مفاجأة كاملة ببول الشيطان المتدفق من السماء حممًا وشظايا، على مراقد أطفاله، مربط الأبقار، بول من النار ولم يدر هل يحمي أطفاله، أم يحمي أبقاره، أم يحمي نساءه، أم يحمي بنيه، أم يحمي جيرانه، أم يحمي رعيته، أم يحمي نفسه، وكيف؟

بأي تميمة؟ بأي طوطم؟ بأي دعاء؟ أو بأي رقصة؟

فقد تميمم، تطوطم، تدعى، أيضًا رقص قبل أن تسقط على رأسه الأصلع القديم قذيفة هاون فتمزقه إربًا إربًا، مليكة شول ما كنت تصدقين أن رب العرب جيرانكم، سيسري بهم في لياليكم المقمرة، إلى أروقتكم الصغيرة البريئة فيحرقونها، وهم يصرخون بكلام لا تعرفونه: الله أكبر، الله أكبر.

عندما عرفت معناه بعد أعوام سألت نفسك في براءة سلحفاة، هل نحن كفار؟ مثلنا مثل الشياطين وأرواح الظلام، يرمي بنا في الحياة القادمة في النار! سألت أيضًا زوجك محمدًا الناصر: لماذا حرقت القرية وقتل الماجوك، لكنه كالعادة أجابك بقبلة عميقة، امتص فيها شفتيك، كأنه يود ابتلاعهما، لقد كنت تقدرين موقف أخيك ملوال، أخوك الأكبر عندما انضم لجيش الحكومة في ١٩٨٢ من أجل وحدة الوطن، من أجل أن تنام عصافير غابات المانجو في الجنوب، من أجل شتلات البرتقال في الغرب، من أجل أن يرعى بعيرًا بين أشجار الأراك في الشرق، من أجل أن تنضج ثمار الباباي، لكي يفطر بها الأطفال، الأطفال السمر وهم يقبلون الشمس غدًا، غدًا القريب من أجل تمرة في الشمال، تمرة يتقاسمها أطفال الخلاوي وهم يرتلون سلام الله، كان يرى — هذه وجهة نظره — أن لا سبيل إلى الوطن الآمن إلا من خلال الجيش المركزي، جيش الحكومة! وهذا نفس ما كان يراه أخوك الأصغر ماجوك، الذي انضم إلى جيش الغابة، من حقك أن تسألي محمدًا الناصر، أو جعفرًا سؤالك لنفسك: لماذا يحارب جيش الحكومة باسم الله والدين؟ هل أخي ملوال — وهو يؤمن بالماجوك وكجوره — الآن يحارب مع جيش الحكومة، هل هو يحارب باسم الدين أيضًا، بأي دين؟ أم هو يحارب باسم الماجوك، كيف؟ هب أن ملوال قتل في هذه الحرب، أيدخل الجنة، أم يدخل النار؟ هل يموت شهيدًا أم يموت كافرًا؟ إذًا ضد من يحارب ماجوك؟ إذًا ضد من يحارب ملوال؟ ضد من يقف الله؟ مع من يقف؟ وأنتما تعرفان أن أخي ماجوك الذي بجيش الغابة هو المسلم الوحيد بالأسرة كلها، لكنك يا مليكة يا امرأة الرصاص والبافرا لا تجدين من يستمع لصرخات سؤالك غير رأس واحدة، مدفونة بالرمال، رأس محمد الناصر أحمد، زوجك، أما جعفر مختار نفسه فإنه دائمًا ما يؤكد لك أن أطلقي علي الرصاص، ولا تسأليني سؤالًا لا إجابة له، تذكرت جعفرًا، جعفر مختار، قلت لنفسك: جعفر يعرف كل شيء، لكنه لا يفرط في سبيله لأحد، كان صوت محمد الناصر يأتيك من داخل مكتبته: الشاي، الشاي يا مليكة.

ثم فاجأك كعادته: أريدك الآن! في هذا الآن بالذات.

– هل جننت؟

– لماذا لا تذهبين معي للفراش؟

قرأت من ذاكرتك خطاب ملوال، وأنت بين ذراعيه توقفت كثيرًا عند عبارته: أنت تعرفين يا مليكة أنني ما أزال في دين دينق، ومعي في الجيش الأرب، وهم مسلمون والأغلبية، ومعنا مسيحيون وهم من قبائل النوبة والجنوب أيضًا، لكن ما يحدث في هذه الحرب حيرني يا مليكة أختي، أهي حرب للمسلمين ضد جيش الغابة؟ أهي للمسلمين ضد المسيحيين؟ أهي حرب للمسلمين والمسيحيين ضد المسلمين والمسيحيين؟ أهي حرب ضد الغابة، ضد الصحراء؟ أهي حرب سياسية؟ أهي حرب؟

حقيقة أنا محتار يا أختي مليكة، إن هذه الحرب غير مفهومة إطلاقًا، أنا خائف، خوف لا أفهمه أيضًا، فاجأته وهو في ذروة نشوته: ما هو رأيك في الحرب؟

فضمك بشدة إلى صدره، أصدر مواء باهتًا، عرق قليلًا، قبلك، كان القذف عنيفًا وقويًّا، قعقعة الرشاشات لا تزال تضج في رأسك، تراخت ذراعاه، ثم نام.

عندما رأيته أول مرة قرب زجاجة العرق، في تلك الأمسية، ما كنت تصدقين حتى ولو همست في أذنك عرافة قائلة: ذلك الرجل ذو البشرة الصفراء النحيف، بشعره الكث، المبعثر، نظراته القلقة، سيجارته المطفأة دائمًا، سيكون زوجك، وستنجبين له بعد سنة من الزواج رياك، ثم بعد عامين آخرين ابنة خلاسية جموحة أجمل من جداتها كلهن، شماليات كن أو جنوبيات، فاجأك قائلًا: هل تتزوجيني يا مليكة؟

قلت بعفوية: لا، لا …

قال لك وقد فاجأه عنف رفضك: لماذا؟ هل أنا قبيح إلى هذه الدرجة؟

قلت كالمنومة لكن بصدق كبير: لا، لا.

أنت عرب ونحن دينكا.

نحن دينق وأنت محمد.

نحن جنوب وأنت شمال.

ضحك، ما زلت تتذكرين تلك الضحكة التي زعزعت إيمانك بكل ما تعلمته من جدتك ذات السن الواحدة والأعوام التسعين، نياندنق، ضحكته التي تخافين منها وتعشقينها، في ذات اللحظة، تهربين منه خلف بيوت الخيش والطين اللبن وأكواخ الصفيح، وتسلمينه مفاتيح لذتك، في ذات الوقت الذي ما كنت تدرين فيه هل الذي أمامك الشيطان أم هو الملاك؟ أم مجرد ضحكة، ضحكة دمرت كل الثابت والمعروف المعطى البديهي والمؤمن به؟ ضحكة شردت بلادة طمأنينتك وغربتك للأبد، أولًا كان الاختلاف: أين وكيف يتم عقد القران؟ في الكنيسة أم في الجامع، أم عند الكجوري الذي هو راعي القبيلة بالمدينة؟ وكان رأيك واضحًا: أنا لا أذهب إلى الكنيسة ولا إلى المأذون، أنا ديني هو دينق.

لكنه كان ذكيًّا وخبيثًا في ذات اللحظة، عندما أقنعك بأنه سيتزوجك مرتين: عند كبار قبيلتكم وشيوخكم والكجوريين، ولو أنه أضاف: لكنني لا أستطيع أن آتيك ولو ببقرة واحدة، فأنا فقير، لا أملك ديكًا، ثم قال إنه سيتزوجك مرة أخرى عند المأذون زواجًا إسلاميًّا بشريعة محمد، فقبلت، قبل أقاربك الفكرة مؤكدين أنهم لا يتنازلون عن الأبقار، يعتبرونها دَينًا في عنق محمد الناصر وفي عنق أبنائه من بعده إلى حين يتم دفعها.

فقال مبتسمًا: لا بأس أن يدفع الأحفاد نصيبهم من مهر جدتهم مليكة، هذا غاية العدل، في الحق يا مليكة شول مادنق، كنت ستوافقين على الزواج من محمد الناصر بدون قيد أو شرط لأنه لا وقت لديك للعقيدة، العادات والطقوس، فقد كنت فقيرة مشردة، لاجئة، تعلمت في هذا الواقع أن بلدًا غير بلدك، امش فيه عريان.

لا تنكرين أيضًا، حبك الجنوني له، حتى إنه عندما قال لك: أنا لا أعرف لي أبًا، وأمي امرأة غنية ومجنونة تكرهني، ربما أنا أحبها ولا ألومها على شيء، لا أعرف عن حياتها شيئًا غير الهوامش، لم تتمكني من فهم قوله، أو ما كنت في حاجة لفهم ما يقول، طالما لا يُوجد شيء يمنعه من الزواج بك، عندما قال لك: أنا متزوج من امرأة سمينة بيضاء البشرة، أمها أخت أمي.

قلتِ له: الدينكا أيضًا مزواجون، سأحترمها كأخت لي كبيرة، كما علمتني نياندنق سأطيع أوامرها، وسأخدمها، إلا أنه عندما فاجأك ذات يوم قائلًا: لقد طلقت اليوم نعمة زوجتي.

لا تنكرين فرحتك الكبيرة حينها، التي لا تحدها حدود الأخلاق أو التربية والتقاليد، فرحتك التي تهدمت تحت مناكبها كلمات نياندنق، وآلاف الحكم التي تمجد امرأة الزوج الكبيرة، قلت في نفسك: الآن، الآن أمتلك رجلًا كاملًا، رجلًا لي وحدي، ثم قلت وبعينيك غنج حلو: هل ستتزوج امرأة أخرى؟

قال مسالمًا كحمل يشتم عشبة برية غريبة: أنت المرأة التي كنت أبحث عنها في النساء، حتى في نعمة نفسها.

ثم حدثك عن جعفر، جعفر مختار، عن مدن كثيرة زارها، وجعفر في الشرق والغرب والشمال، أيضًا في الجنة، قال لك: لا يعرف أحد عمر جعفر بالضبط، لكنه يقول إن عمره يتجدد بشكل مستمر إذا التقى امرأة جميلة أحس في قرارة نفسه أنه كان يبحث عنها، وعمره يتساقط بشكل مستمر إذا اكتشف أن المرأة الجميلة التي التقى بها قبل قليل كانت المرأة الزيف، المرأة التي كان يهرب منها، فقلت له بكبرياء وغرور: إذًا عمرك سيتجدد الآن؟

قال مندهشًا: أحقًّا ما تقولين؟

حدثك عن بلد لا نساء فيها، عن بلد كلها رجال، عن رجال ينجبون الأطفال، نساء لا يلدن، وقال لك: هذه بلاد لا يحلم بها جعفر مختار، فتأكد لك أنه قد نعس، وحكى لك عن أشياء مما اعتبرتها فيما بعد كراماته، وما يدل على أنه رجل صالح، قام، تبول، اكتفى بشبح ابتسامة وهو يقول لك: ماذا يعجبك في؟ قلت له: الإنسان، قال لك: أتدري ماذا يعجبني فيك؟ قلت وأنت تضحكين من أعماقك: أعرف.

لكنك فيما بعد وددت لو أنك قلت له: لا أدري.

حدثني بما يعجبك في، ربما كان ما يعجبه فيك أمرًا مخالفًا لما في رأسك، هل كنت تعرفين أن هنالك شيئًا بعينه يجذبه إليك؟ كانت جدتك نياندنق تقول لك دائمًا: رجل الدينكا يحب المرأة ذات الساقين الطويلتين والأذرع الفروع اللينة، والعنق الطويل لأنها ستنجب له أولادًا أقوياء، لهم قامات مديدة كأشجار المهوقني، أقوياء يصرعون أقوى الثيران، بقبضات أيديهم.

أشعل سيجارة، أطفأها، صلى المغرب، ذهبتما لسينما القصر حيث شاهدتما فيلم الشبح الأمريكي، قال لك: جعفر رجل جميل، إنسان سيحبك كثيرًا؛ لأنه بلا شك يعرف عنك الكثير.

لكني لم أره من قبل ولم يرني.

هذا ما يؤكد أنه يعرفك، فكلما كان عنك بعيدًا هو قريب منك، بصورة لا تتصورينها، أنا أعرفه جيدًا؛ لذا أجهله جدًّا؛ لأنه صديقي فهو أغرب الناس عندي!

عندما بدأت تفهمينه صمت قليلًا، ثم توضأ فصلى صلاة العشاء، كالعادة تناول النشا الذي أعددته له من الذرة والعسل، ثم أخذ يصلي مرة أخرى، بعد أن فرغ من صلاته الأخيرة بدأ برنامج تعليمك أصول الدين الإسلامي، كعادته كان حرًّا وهو يقول لك: ليس واجبًا عليك أن تدخلي الإسلام، أنا أعلمك من أجل ألا تجهلي شيئًا مهمًّا في حياتنا اليومية في هذا البلد، أما معرفتي أنا بكجوركم لا يلزمني الإيمان بها واعتناقها، كنت تجلسين أمامه كتلميذة نجيبة تحب معلمها وترهبه في الوقت نفسه، عندما سألته عن دين الأولاد؟ قال: دعيهم يكبرون أولًا، يثقفون أنفسهم، ثم يختارون دينهم أو ديانتهم، نحن أنجبنا أجسادهم، والله هو الروح، وهو الجسد أيضًا وله شأنهما، فلن نقيد أحدًا بخياراتنا، دينهم لهم هم، ملكهم وهم ملك الله، ثم أضاف: إن احترامنا لأنفسنا يحتم علينا احترامهم، ثم قال لك ذات يوم: هل تتحرجين إذا حدثتنا مُنى عن فتاها رجل الشجرة؟

ونادى ابنته مُنى، جلست قربه بأدب محاولة جذب فستانها القصير لأسفل بعض الشيء، وكان بوجهها قناع أبيض من كريم لا تعرفانه، له رائحة قريبة جدًّا من رائحة الكبريت، وكانت نفاذة وكريهة فسألها: ماذا بوجهك، هل هو كبريت؟

قالت في دلال: إنه خلطة من كريمات كثيرة، من بينها الكبريت وبعض مراهم العيون والفيتامين.

– إذًا ما فائدتهما؟

قالت بصراحتها المعهودة: كل البنات يفعلن ذلك، إنه يجعل الوجه أبيض وناعمًا وشجعني على ذلك رجل الشجرة، رجل الشجرة نفسه، نعم يا أبي؛ لأنه أكد لي أن جمالي سيتضاعف إذا فعلت ذلك، وأنه سيحبني أكثر.

– وهل ستواصلين في ذلك؟

قالت وفي فمها ابتسامة صغيرة: لست أدري، دعني أرى النتائج ولو أن رائحته التي تشبه الفُساء تشعرني بالغثيان.

فقلت لها أنت: ماذا لو كانت بشرتك سوداء تمامًا كبشرتي هذه، هل كنت ستغسلين وجهك بحامض الكبريتيك؟

وحاولت أن تنصحيها بعدم فعل هذا، إلا أنه قال لك: دعيها، ولو أن لونها أصلًا في تناسق تام مع ملامحها، وأنها جميلة من غير كريمات، إلا أنه شأنها، والوجه وجهها، دعيها لتتعلم من التجربة، ليس من حقنا حرمان أحد فرصة أن يجرب، أن يكتشف الأشياء بنفسه، وليس أيضًا من حقنا أن نسألها: ماذا عن يديها ورجليها؟ ماذا عن بقية جسدها أو من اشترى لها الكريمات؟

ضحكت ابنتك الجميلة وهي تقول: أنا أشكرك يا أبي، ولو أنك تحاول أن تسألني، إلا أنك سألتني الآن، وأنت تعرف معظم الإجابات، فقط أريد أن أقول لك: إن رجل الشجرة الذي اشترى لي هذه الكريمات، ولو أنني أعرف أنك لا تمانع في شرائها لي، إلا أن رجل الشجرة طلب مني ألا آخذ منك ثمنها، وأنه أبسط ما يقدمه لي من هدية هذا الكريم العفن، وإكرامًا له أنا أستخدمه الآن.

حينما ثرتِ أنت واتهمت محمدًا الناصر وجعفرًا بأنهما أفسدا مُنى، أفسداها تمامًا، وقلت له بشكل قاطع: ليس للأطفال حرية، فهم لا يعون شيئًا ولا تجارب لهم، ولا يفهمون ولا يعرفون ما يضرهم ويصلحهم، وأننا مسئولون عنهم، لكن رد عليك بكل ثقة: لذا دعينا نعطيهم الفرصة للمعرفة، والتجربة هي سبيل المعرفة، ليس الكلام وليس الضرب، كما أن مُنى لم تعد طفلة، ولا حتى رياك طفلًا، تذكرت جعفرًا، جعفر مختار، وكنت بحجرة النوم عندما كان هو وزوجك يلعبان الشطرنج بالصالون، بين الحين والآخر تسمعين غناءهما، كان غناء حلوًا، ولم تسمعي به من قبل، قلت لنفسك: ربما ألَّفه جعفر ولحنه محمد الناصر، لكن في الحقيقة لم يؤلفه ولم يلحنه الاثنان، لكن رجلًا راعيًا بقرب النهر، هو الذي قام بتأليفه وتلحينه أيضًا، وسرقه منه جعفر وأتى به إلى محمد الناصر، ولو أن محمدًا الناصر رفض غناء اللحن في بادئ الأمر، مدعيًا بعدم شرعيته لأنه مسروق، إلا أن جعفرًا أقنعه بأن الراعي نفسه قام بسرقته من أغنامه، قام جعفر بتحليل نغمات اللحن ورجعها إلى أصولها التي لم تكن سوى ثغاء ونباح ونهيق حماره العجوز الأزرق، مضافًا إليه حفيف الريح وزقزقة ود أبرق، واقتنع محمد الناصر وغنى اللحن، ثم أخذا في الرقص، وأيضًا ما كان محمد الناصر يريد أن يؤدي رقصًا مسروقًا، لكن جعفرًا حلل له الرقصة، أعاد حركاتها إلى أصولها الأولى، ولم تكن سوى بصبصة ذيل كلب الراعي، ونوس غصن كان يظلله دائمًا، ورفسات حماره بالجوز في الهواء، عندما يشبع من ثمار شجرة المسكيت، واقتنع محمد الناصر ورقص، ثم أخذا في إنشاد الكلمات شعرًا، وأيضًا ما كان محمد الناصر يريد أن ينشد شعرًا مسروقًا، لكن جعفرًا أقنعه بالإنشاد، بعد أن قام بتحليل الكلمات وبنية النص، وردهما إلى أصولهما من الطير والقرآن والماء، تذكرت جعفرًا مرة أخرى، كان الوقت منتصف الليل عندما استيقظت على إحساس بأن ماء رجل قد قذف فيك، وكان محمد الناصر نائمًا يشخر بانتظام، فتأكد لك أن ذلك من فعائل جعفر، وقلت لنفسك لا بد أنه الآن يستمني في بيته؛ لأنك تدركين أن جعفرًا إذا استمنى على صورة سيدة ما، فإن ماءه سيدركها أينما كانت، فأيقظت محمدًا الناصر، وأريته ماء جعفر الذي ما زال يسيل منك، فضحك وهو يقول: خائن، سأنتقم منه غدًا.

ثم نام ليعود إلى شخيره بعد لحظات وجيزة، كنت تعرفين أي نوع من الانتقام سيطبقه محمد الناصر على جعفر، لا شيء، فقط سيجبر محمد الناصر جعفرًا على غناء أغنية هابطة ورقص إيقاعها المستهلك، ثم يذهبان إلى شاطئ النهر ليلتقيا بالراعي العجوز وأغنامه وولد ابنته المشاغب الكسول، أو يلعبان الشطرنج وهما يغنيان لحنًا مسروقًا آخر، لقد كان جهدك عظيمًا يا مليكة شول في أن تجعلي من ابنتك مُنى سيدة مجتمع فاضلة، مربية تربية قبلية محافظة، كنت تودين أن تخلقي منها سيدة دينكاوية في ملامح شمالية، إلا أنها كانت دائمًا منجرفة خلف والدها محمد الناصر، بجنون فعلي، إنها تحبه وترى فيه مثلها الأعلى، ولا ترى فيك غير سيدة قديمة من بقايا عصور ما قبل التاريخ، ولو أنها تحبك أيضًا لكن أبدًا لم يقنعها أسلوبك في الحياة، ذلك الأسلوب المحافظ. قلت لمحمد الناصر: ما هو رأيك في الحرب؟

دفن وجهه بين نهديك يشمم عبقك الأنثوي القوي وهو يقول لك بصوت طائش ويتحسس بأنامله الخرزات المنظومة حول خصرك: إن الله مع الجانبين، إنه على كل شيء قدير.

لكنك أيضًا لم ترحمي ضعفه، فقصصت عليه قصة الجدي وأسد الأبقار الجائع، التي حكتها لك جدتك نياندنق، كان أسد الأبقار العجوز يعاني من جوع مستطير لازمه ثلاثة أيام بلياليها الباردة الطويلة، فكان تعبًا ومرهقًا ليس لديه أي مقدرة لمطاردة فرائسه، بل هو نفسه قد يصبح فريسة لحيوان جبان، مثل الضبع، إذا علم بأن لا قدرة للأسد العجوز، فدعا الأسد العجوز ربه أن يرزقه مأكلًا، أثناء ما هو يجرجر أقدامه بين شجيرات الغابة، إذا به يرى جديًا جريحًا تحت شجرة، فعندما نظر الأسد إلى الجدي، حاول الجدي أن يهرب، لكنه لم يستطع لأن قائمتيه الخلفيتين مكسورتان، فدعا ربه دعاء سريعًا بأن ينقذه من الأسد العجوز الجائع، ثم سألت جدتك: تخيلي ماذا ستكون نهاية القصة؟ ولا تتسرعي في الحكم، متبعة العاطفة.

قلت: لا أعرف كيف تكون النهاية.

قالت لك وهي تبتسم ما أمكن: هذا ليس بامتحان للرب، لكن إما أن يكفر به الأسد إذا تمكن الجدي من الهرب، رغم جرحه وقائمتيه المكسورتين، وإما أن يكفر الجدي إذا تمكن الأسد العجوز من التهامه رغم دعواته الصادقة النابعة من رعب حقيقي ومؤكد، إذًا بقدر كفر الأول يكون إيمان الآخر، قال لك محمد الناصر: أرجوك لا تسأليني مرة أخرى، وإلا سأعتبر سؤالك لي عن الحرب ليس سوى دعوى صريحة لمطارحتك الفراش، وهذا يتنافى مع تقليديتك ومحاولتك أن تظلي امرأة خجولة، هل اتفقنا على ذلك؟ فقلت له بإصرار: لا.

قال: فلنعتبر ذلك إعلانًا للحرب من جانب واحد، وإعلانًا للحب من جانب آخر، فأعدك بأنني لن أكسر بندقيتك، وأرجوك ألا تقتلي حمائمي. لم تهمتي كثيرًا بقوله، أو لم يحرك فيك قوله ساكنًا، واعتبرت أن ذلك ليس إلا أسلوبًا جديدًا للهرب ودفن الرأس في الرمال. طلقة جيم ثلاثة طائشة جرحت ماجوك في رأسه وكادت أن ترسله إلى سلفه، في حياتهم الأخرى تحت الأرض، إلا أن أرواحهم المباركة دفعت به مرة أخرى نحو الحياة الدنيا فعاش، لكنه ظل طريح الفراش لشهرين بمستشفى الميدان المتنقل تحت قعقعة الرشاشات، قذائف الهاون، ورعب الصمت الموقوت.

وعندما أرسل إليك طالبًا أن تزوريه بالميدان؛ لأنه يريد رؤيتك أنت بالذات قبل أن يموت لم تذهبي، فكنت خائفة من أن تتهمي بالتخابر مع جيش الغابة، وأيضًا تخافين الموت، وأشياء أخرى مخبأة فيك مدفونة في عمق سحيق، وما أكثر ما هو مدفون في صدرك الناهد يا مليكة شول مادنق، حسناء الدينكا!

كان دائمًا ما يحكي لك عن جعفر، وفي الحق أنت لا تعرفين جعفرًا جيدًا، وما هو جعفر بالنسبة لمحمد الناصر، هل هو صديقه أم هو أخوه، أم هو أبوه، أم ابنه؟ من ابن من؟ من منهما أكبر عمرًا؟ لأن لا أحد بإمكانه تقدير عمر جعفر، مجرد تقدير، غير أن جميع الناس يتفقون على أنه ليس طفلًا، وليس مراهقًا، كما أنه ليس عجوزًا هرمًا، قد بلغ من الكبر عتيًّا، لكنك كنت متأكدة بما لا يدع مجالًا للشك، أن محمدًا الناصر زوجك، هو تلميذ وفيٌّ لجعفر، ولو أنه قال لك ذات مرة: أنا تلميذه وأيضًا أستاذه!

الساعة تشير إلى الواحدة صباحًا، ولا أثر لرياك، فما كانت من عاداته أن يتأخر لهذه الساعة من الليل، فكنت قلقة بشأنه، ولو أن محمدًا الناصر كان يقول لك: البلد آمن، ولا يوجد آكلو لحوم البشر بالمدينة، وحتى إذا وجدوا فإن ابنك رياك ليس من النوع الذي يؤكل هكذا بسهولة، كقطعة موز مقشرة، فقد يكون في صالة للهو، أو مع أصحابه يغازلون النساء.

فقلت له نافية: أنت لا تعرف رياك جيدًا، فإنه في الآونة الأخيرة أصبح أكثر أبناء الحي استقامة، يكفي أنه يؤدي صلواته كلها في الجامع.

قال لك ضاحكًا: الآن يبدو أنك أصبحت مسلمة، أليس كذلك؟

فقلت له: ألم تعلماني أنت وجعفر أن أقيس كل فرد بسبيله التي ارتضاها، وأخلاقه التي أسسها لنفسه؟

إنه يشبه خاله ماجوك في تدينه، وأيضًا في ملامحه، كما هي في صورته التي أرسلها لك مؤخرًا من يوغندا، حقيقة إنه دائمًا ما يذكرني بخاله، أخي ماجوك.

قال لك مداعبًا: أخاف أن يهرب للغابة هو الآخر.

– لا أظن.

أما رياك فيميل إلى أفكار تنادي بها الحكومة، لقد حدثني بذلك هو نفسه، فإنه لا يرى في خاله ماجوك سوى رجل خان وطنه.

– أحقًّا ما تقولين؟

ولم يقل شيئًا آخر في شأن رياك، وفضل أن يقول لك إنه — أي محمد الناصر — حاول أن يتعلم تدخين السجائر، لكن لسوء حظه — أو لحسن حظه — فشل في أن يجذب نفسًا واحدًا إلى داخل رئتيه، ولو أن جيبه لم يفرغ من علبة السجائر المملوءة، وإن كانت سيجاراتها جميعًا مشعلة ومطفأة، أشعل سيجارة، أطفأها، تذكر جعفرًا، جعفر مختار، قال وكأنه تذكر شيئًا مهمًّا: أذكر أنني وجعفرًا كنا نسير بشوارع المدينة، عندما لفت انتباهنا — كما لفت انتباه الجميع — رجل وسيم جدًّا، يصطحب امرأة في غاية القبح والدمامة، يمسكها من يدها ضاغطًا على أناملها الغليظة، بحنان فائق واضعًا على شفتيه ابتسامة ساحرة، فقال لي جعفر: انظر هذا أكثر رجل أناني في العالم.

قلت مندهشًا: إلا أنه أكثر الناس تضحية، ألم تلحظ تلك المرأة القبيحة التي رغم وسامته يصطحبها غامرًا إياها بحنانه وإنسانيته وابتسامته، قال جعفر وفي فمه نصف ابتسامة: إنه ليس وسيمًا، هذا هو السبب الذي جعله يمسك بهذه المرأة الدميمة، إنه يريد أن يبدو وسيمًا لا أكثر، خذ عنه هذه المرأة وانظر إليه فإنك لن تجده أكثر وسامة من قرد الطلح!

– لكن لم نجرؤ على أخذها منه، له جسم رياضي قوي، كان في ريعان شبابه، مما جعلنا نخمن أنه يجيد الكاراتيه وفنونًا قتالية أخرى.

قلت له: هل تقصد أن ابننا رياك تبنى آراء الحكومة للتحسين من صورته هو؟

فقال لك ناكرًا: هذا حدث لنا بالفعل بالأمس القريب أنا وجعفر حقيقة، حاصرته بالسؤال: إذًا ما هي المناسبة التي دفعتك لقول هذا؟

قال مبتسمًا: فقط كنت أود أن أحجيك، أحجيك لا أكثر، ألا تحبين الأحجيات؟

حياتكم الخاصة لغز محير لدى جميع سكان الحي، بل المدينة جميعًا، حتى جيرانكم الأقربين لا يعلمون علم اليقين في مسألة ما تخصكم، حتى إبراهيم عبد الله ضابط الجيش جاركم الذي ما داخلتكم أسرة من المدينة كما داخلتكم أسرته، خاصة ابنه عبد الله، الذي اكتشفت مؤخرًا أنه رجل الشجرة الحقيقي، حتى هو لا يعرف عن أسرتكم شيئًا مؤكدًا، ولا عن مُنى التي يحبها، غير القشور: أسماءكم، أبوابكم ونوافذكم، ألوانكم، ملامح وجوهكم، ملابسكم، لكن اللباب فهو مجهول وعصي الاستدراك، أنتم ثرثرة النساء في الأفراح والمستشفيات والمواصلات العامة: ما دينهم؟ مُنى مسيحية، مُنى لا دينية، مليكة شول مادنق تعبد الكجور، محمد الناصر مسلم لكنه زنديق، إذا كان هنالك خليفة مسلم لشنقه كما شنق الحلاج والأستاذ محمود محمد طه، أما رياك، كانوا يقولون عنه يهودي، وذلك قبل انقلابه الأخير، الذي أسماه أهل الحي بعده ﺑ: الإمام رياك رياك، نفس الأشخاص الذين حاولوا من قبل تزوير أب لزوجك محمد الناصر، حاولوا تزوير أب لابنك رياك؛ لأنهم يرون أن محمدًا الناصر الزنديق لا يصلح كأب لرياك التقي، فأسموه رياك رياك، ثم حاولوا تغيير اسم رياك إلى اسم عربي، لكن رياك أقنعهم أن اسمه هو اسم عربي، وهو مشتق من كلمة ريا التي تعني رائحة، والكاف ضمير، إذًا ترجمة اسمه هي عبيرك أو عطرك، فأخذوا ينادونه: رياك رياك، بدلًا من رياك محمد الناصر، حتى تستريح ضمائرهم ويخرجون من مأزق أخلاقي آخر دفعهم رياك إليه بسلوكه الديني القويم، وفهمه السياسي الذي يتماشى والخط الحكومي العام، قال البعض عنك: مليكة شول جاسوسة، وليس كما يعرف أن محمدًا الناصر التقطك من حانة بالعشش، كنت حينها تقدمين كئوس المريسة للندماء.

– لا.

– لكنك كنت جاسوسة تعملين لحساب جيش الغابة، تسكنين بقشلاق الجيش، تنامين في استراحة ضباط الجيش، وسكنات رجال الاستخبارات الحربية، يضاجعون جسدك، وأنت تناكحين أفكارهم، وذاكرتهم وأدراجهم، ومع مائهم يدفعون إليك بالخطط العسكرية، وترحلين لتفعلي العكس، في معسكرات جيش الغابة، فعلت ذلك عند حصار مدن توريت، والناصر، وجوبا، فكنت سببًا في إبادة كتائب بأكملها من جيش الحكومة.

فعلت ذلك في حامية فارينق، وكنت سببًا في سقوطها في أيدي جيش الغابة، ومرة أخرى في نملي.

– كذب كذب!

– وأنت يا مليكة شول مادنق، أيتها الدينكاوية الفارعة الطول كزرافة، ممتلئة الردفين بأطفال خلاسيين، أيتها الزنجية الحسناء، ليس بقلبك الذي يسع عشرة من الأفيال الأفريقية غير دينق، ثمار البافرا، والباباي، أباب دير، و…

محمد الناصر.

بقلبك الوطن، هذه البلاد الكبيرة، المخيفة.

بعد تلك اللحظة الحاسمة، لحظة سماعك انفجار القذائف في ساحات البيوت، في التوج واللواك، في الأكواخ الصغيرة المبنية من أحطاب التك والخيزران، في أوعية السمن وخمارات العجين، بيت الماجوك الكبير، في رأسه الأصلع القديم المشحون بالقيم والمثل والحكم، المشحون بجمال الإنسانية، في صحاف اللبن، في قرع المريسة والكنومورو، في صدور الأطفال الصغيرة البريئة، في قلوبهم، في تلك اللحظة هربت، هربت ومن تبقى من المجزرة إلى أمكم الغابة، لكن ما كان بوسع أمكم التي استبيحت هي الأخرى في تلك الليلة، ما كان بوسعها أن تحميكم، فقد زيفت مخابئها، خيرانها وأعشابها المتشابكة، إلى كمائن لاصطيادكم، وفعلًا وأنتم تهربون نحو خور الخرتيت الآمن، إذ تدخلونه فقد دخلتم مصيدة جيش الحكومة، فنقلتم في شاحنات كبيرة نحو مدن قيل لكم: إنها آمنة، بالشمال حيث رأيت لأول مرة مساحة لا يحدها البصر من الأرض الرملية الصفراء، لا نبات فيها غير عيدان شوكية لها أشكال مخيفة، وعرفت أنها تسمى الصحراء، وشاهدت غابات من البرتقال والموز والمانجو محاطة بأسوار من السلك الشائك، سألت؟ قيل لك: إنها جناين.

وعندما سألت: لماذا محاطة بهذه الأسلاك، ألا توجد بها أفيال وزرافات قد تؤذيها هذه الأسلاك الشوكية؟ فقيل لك: هنا لا حيوانات، حتى القرود لا توجد، وإذا وجدت فإنها تباع للزينة والتسلية، نعم يا مليكة شول، هذه البلاد التي استقبلتك باغتصابك وأنت لم تبلغي الحلم بعد، هذه البلاد الغريبة، هي أيضًا امتداد لوطنك، امتداد لما بعد الغابات والأفيال والزرافات، امتداد لما بعد الدينكا والشلك والنوير واللكويا، امتداد لما بعد جون وتابان وأكول وتريزا وشول وأشول ودينق، امتداد لما بعد التوج واللواك وأباب دير، ليست هذه هي المرة الأولى التي ترين فيها العرب، ولو أنها المرة الأولى التي هم فيها بهذه الأعداد الكبيرة، والسحنات المختلفة المتباينة الغريبة، فقد رأيت في السابق المندوكرو، وهم يعملون بالتجارة، وكان يعمل في خدمتهم أخوك ماجوك، وهم الذين أدخلوه في دينهم الإسلام، وكانوا يسكنون بالمدينة الكبيرة، وهم طيبون ومسالمون ويحبون الناس ولا يؤذون نملة، يصلون ويشربون عرق الموز وعرق الطعمية، يأكلونه باشتهاء، ويُدخلون في دينهم من أراد، ولقد حدثك ماجوك عن دينهم فقال: دينهم فيه محبة ولا فرق بين مندوكرو وأي مواطن آخر، لكنهم يقولون: إن شرب المريسة والعرق حرام، ويصومون أيامًا كثيرة في السنة، وهذه أصعب الأشياء في دينهم، وليس هنالك ما يفوقها صعوبة غير الطهارة، ولو أنهم كانوا يتزوجون منكم ويزوجونكم بناتهم، إلا أن الأمر في هذه المدن الجديدة مختلف، فهنا أنت مواطنة من الدرجة السادسة ولا يمكن أن يتزوجك مواطن محترم له مكانة ما، ويستحيل أن يرضى أحد سكان هذه المدن إعطاء ابنته كزوجة لأحد أبنائكم مهما علا شأنه عندكم، ولو كان ابن ملك الدينكا، أو حتى ولو كان الماجوك نفسه، أو كان ثريًّا يمتلك مراحات من الأبقار لا تُعد، ولو استحم ببول عشر من الثيران وخضب رأسه به، هنا لا يساوي شيئًا.

قلت: ولو اتبع دينهم ولبس جلابيبهم وقرأ مدارسهم وعرف معرفتهم، وتطهر كما فعل أخي ماجوك؟

قيل لك: حتى ولو قشر جلده.

وعرفت أيضًا أن بعض المتطرفين منهم يسمونكم علانية: عبيدًا.

حقيقة أحسست حينها بالمرارة، مرارة الاغتصاب.

فقلت إذًا: كيف يصبح هذا المكان الغريب امتدادًا لبلدي؟

مليكة شول مادنق، لقد رأيت بأم عينيك أتم — ابن زعيم قبيلتكم مشار — رأيته يعمل خادمًا في المنازل، يغسل الملابس لرجال مثله ويكويها، بل يكنس الأرض وغرف النوم لنسائهم، يقشر البصل، يغسل ملابسهم الداخلية، ثم ينام في المخزن مع الكلب والفئران.

أتم، الذي ما حلب في بلادكم بقرة لأطفاله، ما قشر قصبة عنكوليب لنفسه!

رأيت ثم رأيت.

ثم وجدت فجأة منفذًا للفرح في هذا العالم الجديد، عالم العرب، فأنت الآن تجيدين لغتهم، كتابة وقراءة، تحفظين سورًا بكاملها من كتابهم القرآن الكريم.

أنت التي حينما سمعت لأول مرة بعضهم يتحدث لبعضهم قلت لنفسك: إنهم لا يعرفون الكلام.

وبدأت في الحق تؤسسين لموتك، موت طويل وعميق، موت كله سلام، تزوجت محمدًا الناصر، أنجبت رياك، ثم مُنى، فتمازجت في دمك ريح الجنوب والشمال، لكن هذا لم يغير شيئًا في نظرة المدينة إليك، ويكفي موقف جارك ضابط الجيش إبراهيم عبد الله في مسألة زواج رياك من ابنته ياسمين، وموقف نفس الرجل من مسألة زواج ابنه عبد الله من ابنتك الجميلة مُنى، لكن جعفرًا أكد لك قائلًا: الإحساس والشعور بالمواطنة حق لا يعطيك إليه الآخرون، إنه مثل الحرية والعبودية، أنت التي تحققين شرط مواطنتك وحرية ذاتك، وأنت التي تفرضين هذه الشروط على الآخر، الحرية والمواطنة تنبع من الذات، من غور عميق في النفس، أبدًا لا يستطيع أحد أن يوحد وجهات نظر الآخرين تجاهه، لكنه بلا شك يستطيع أن يوطن نفسه، فارضًا حريته على الآخرين مع اختلاف وجهات نظرهم، فأنت في نظرهم خادم، وهم في نظرك ليس أكثر من جلابة.

وأنتم جميعًا في نظر محمد الناصر: مصارعون خارج الحلبة، وأبطال خارج النص.

أنتم في نظر محمد الناصر: شماليون وجنوبيون، تحتاجون لجحيم يصهر عظامكم في عظامكم، ولحمكم في لحمكم، ثم يستحيل هذا الجحيم غولًا رحيمًا عطوفًا كالأم، ليبذركم مرة أخرى في طول البلاد الكبيرة وعرضها، يبذركم كأشجار الباباي، ذكر وأنثى.

مليكة شول مادنق!

تجدين نفسك بين الحين والآخر كغزالة بين رصاصتين: رصاصة أمامك في الغابة، رصاصة خلفك في جيش الحكومة، أيتها انطلقت أصابت قلبك الكبير.

تخفين هذه الأحزان عن زوجك محمد الناصر، وتظهرين له في وجهك مسرة، هي في الأصل صرخة لجراح في غور روحك عصية.

هي في الأصل حريق لغابات المهوقني، القرود الجميلة، الخراتيت الكسولة والبافرا.

هي في الأصل صدى ضد طلقة اخترقت جمجمة أبيك شول وأنهت تسعين عامًا من حياة جدتك ذات السن الواحدة.

هي في الأصل دخان حريق قريتكم الوادعة في حضن الغابات.

هي في الأصل موت لأباب دير، للتوج، للثيران الخاصة، للونسة، لحفلات البلوغ، لرقصة الثور، لغناء شاب يريد الزواج، لمجالس شيوخ القبائل وحواراتهم الذكية.

هي في الأصل: موت لفتاة تزين نحرها بالخرز البهيج لتستقطب فتاها للفراش، موت للفراش المهيأ.

هي في الأصل موت لأطفال يلعبون تحت ضوء القمر في الغابة المجاورة، وعندما جاعوا اقتنصوا الأرانب البرية، أو لحسوا عسل القنطور، هي موت لعسل القنطور الأسود، موت للقنطور، ابتسامة.

هي في الأصل لحظة تؤرخ لترح قادم، فرح عميق.

هي في الأصل وعد الله بالسلام الدائم في قلبك، هي موت للسلام الدائم في قلبك أيتها المرأة السوداء الجميلة، قلب الآبنوس ذات العنق العاجي المزين بالصدف والخرز الملون، ذات الأرداف الخصبة، المليئة بالأطفال الخلاسيين واللذة الموقوتة، يا امرأة الرصاصتين، لك الله.

لك فيل من القبلات.

ولك أيضًا محمد الناصر الذي عندما قالوا له: إن زوجتك جاسوسة قال وهو يشعل سيجارة، فأطفأها، ويتذكر بين الحين والآخر جعفرًا، جعفر مختار: إنها قضيتها، ولها أن تحارب بما شاءت، ومن حقها أن تتحمل نتيجة التزامها هي إذ ترى نفسها بطلة، ترونها خائنة!

فليس من حقكم أن تحكموا على الآخرين انطلاقًا من ثوابت أخلاقكم الخاصة وفهمكم السياسي، طالما كانت ليست أخلاقها وليس فهمها.

وكنت في ذلك الحين تضعين الكسرة لأبنائك وتثابرين على الاطلاع والكتابة.

كنت في الحق مشغولة بالغناء والرصاص، عن الغناء والرصاص، كنت مشغولة بصبحك الآتي عن ليلك الحاضر، وعن ليلك الحاضر بصبحك الآتي، وأنت محتارة في أمرك، هل عندما تفكرين في ماجوك تخونين ملوال؟ وهل عندما تفكرين في الاثنين معًا تخونين الحكومة؟ وعندما لا تفكرين في أحد هل تخونين الله؟

تذكرت جعفرًا، جعفر مختار، أحسست بحاجة للصلاة — أية صلاة كانت — صنعت لنفسك كوبًا من القهوة المرة، تركته مليئًا ونمت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤