هذا سفر التي هي: ابنته الجميلة

تذكرت قول جعفر لك: المجتمع الحر هو الذي يوحد رؤية الرب والشيطان!

عندما قلتِ ذلك لعبد الله إبراهيم، قال لك ضاحكًا: تعلمين يا مُنى بأني لا أفهم كلمات هذا الرجل القصير الوسيم، أنا فقط معجب بابتسامته النصف، وطريقة مشيه، وأحيانًا عندما أسمعه يغني مع والدك، أحس برعب، رعب حقيقي يغزو قلبي، ثم أضاف في تعجب سائلًا: أين بالله لقي والدك هذا الشخص؟

قلت له: بل أين وجد هذا الشخص أبي؟

هذا هو السؤال الحقيقي، الذي يبحث عن إجابة، إجابة حقيقية.

قال لك: لقد تحدثت مع والدي بشأن الزواج، ولو أنه اعترض في بادئ الأمر بسبب أمك مليكة مرة، ومرة أخرى بسبب نسب أبيك، إلا أن أمي استطاعت أن تقنعه بأنك جميلة ولا ذنب لك، وأقول لك حقيقة أن أمي معجبة بشعرك، ولونك، ودائمًا ما تقول لي: «لقد اخترت امرأة حرة، أحر من أمها، امرأة بنت عرب!»

ثم ألمح بأمور ما أصبحت تهمك، ليس لأنك كبرت، نضجت، وتجاوزت وهم المراهقة، لا.

لكن فهم أن يكون لك رجل خاص تجاوزته، ليس كحاجة امرأة، لا، لكن كحالة مفردة لها خصوصيتها، خصوصية هي في الأصل تأسيس لموتك، مثلك مثل مليكة، مثل ماجوك.

كانت لك التجارب الثرة مع الجنس الآخر، بكل مستويات الإعجاب، العلاقة، همسات الأصابع البريئة العطشى لاكتشاف ما بقبو الآخر، انتهاء بإشباع الفراش الكامل، ثم تكرار الممارسة، ثم تكرار التكرار، ضجرها، ثم ما عاد الجنس يمثل لديك هاجسًا، هكذا انفك جنونك من أسره، وكانت التجربة مرة باستثناء علاقتك مع رجل الشجرة، عبد الله إبراهيم عبد الله، وذلك لأسباب لا تدركين كنهها، كنت تخوضين معركة ذات فهم مقدس من جانبك، وفهم قسري لا يتعدى ممارسة الجنس من الجانب الآخر، ولا أظنك تنسين ليلة أن سمعت أحد أصدقائك يقول عنك: إنها إباحية!

ثم تحدث بأسلوب وقح عن وقت قضاه معك في منزل صديق لكما، تذكرت حينها قول والدك: أطفال الريح هؤلاء عبيد لا أكثر، ولا تكفي حريتك وحدها في العلاقة، وإلا كانت نوعًا من الدعارة وسوء السمعة، إذًا! كيف استطاع أبوك أن يوحد رؤية الرب والشيطان؟

كيف استطاع جعفر؟

كيف لم تستطع أمك؟

كيف لم تستطيعي أنت؟

وهل استطاع رياك؟

كيف استطاع جعفر أن يوحد رؤية الرب والشيطان؟

سألك عبد الله إبراهيم: ما هي رؤية الرب؟ وما هي رؤية الشيطان؟

بل ما هو جعفر، جعفر مختار.

حينما جلس قربك جعفر في تلك الليلة، ليلة الحلم الواقع تلك بالجبل كان بعريه شيء خاص، شيء أكثر حرية مما لقنك إياه بطرائقه السرية، شيء كهطول الأمطار في فبراير، أو أكثر إدهاشًا، شيء كلا شيء، غير شيئيته ذاتها، وكنت تظنينه سيقوم بعد لحيظة أو أخرى بملامسة جسدك العاري، أو يحاول أن يفكر في ملامسته، فلقد كنت مهيأة لحالة من الرفض كاملة، وكنت تعرفين أنه رجل حر كحلم نورس لفنجستون، أيضًا، كنت تدركين تمرحل حريتك، لكن الأمر دائمًا كما يقول والدك أكثر تعقيدًا مما نظن، وكما يقول جعفر أكثر بساطة مما نتوقع، الأمر دائمًا كرصد نمو زهرة، كرصد ذبولها، كزهرة، لا أحد بإمكانه التنبؤ بسلوك جعفر؛ لأنه لا أحد يعرف جعفرًا غير جعفر ذاته، ولا أحد لا يعرف جعفرًا غير الذين يعرفونه معرفة حقة، وأنت تدركين ذلك تمامًا؛ لذا كنت تنتظرين اللحظة التالية بتشوق تام، ما بعد؟ ما بعد؟ هكذا كان يردد عريك، وصمت الترقب: ما … ﺑﻌ … د؟

الجسد أم اللغة؟

فحاول جعفر ألا …

وحاولت أنت أن …

لا تدري مُنى متى أول مرة اختلفتما فيها بالرأي، مع عبد الله، ربما يوم أن اشتركتما في مسابقة في بحث تموله منظمة تطوعية بالمنطقة، كان البحث عن الحرب، قال عبد الله: إنها مؤامرة ضد الوطن؛ لأن وراء جيش الغابة إسرائيل وهيئة الكنائس الدولية وأظافر أمريكا، قلت أنت: إن وراء جيش الحكومة إيران والعراق والصين وأمريكا، فاختلفتما وقمت بتمزيق البحث، وقام هو بحرق مزق الأوراق، وتلك هي اللحظة التي أحس فيها بعاطفة جياشة تجاهك، وأحسست أنت بالحب نحوه، لحظة احتراق الأوراق البيضاء بنار الاختلاف، أحسست بسريان الحب في قلبك كدبيب نملة تحمل حبة ذرة بين فكيها تهبط قصبة، تصعد قصبة، تهبط قصبة، تصعد قصبة، في الطريق إلى البيت — حيث إنكما جيران — كنتما تتقاذفان بألفاظ ليست بذيئة، لكنها أيضًا ليست طيبة، وتضحكان.

إذًا لقد اكتشفتما فجأة مخابئ منسية في ذات كل منكما، مخابئ للفرحة والتآلف، لم تعلما بوجودها هنالك منذ زمن، منذ أن كنتما طفلًا وطفلة تلعبان في الطريق بالحصى وعلب الصلصة الفارغة، تلعبان عريسًا وعروسًا وأطباء وممرضين، بوليس وحرامية، أنتما الآن شخصان مختلفان وغريبان عن بعضكما البعض، هكذا كان إحساسك في لحظة أن اكتشفت أنك تحبينه، أيضًا كان إحساسه، وكنت تحملقين في وجهه كأنك ترينه للمرة الأولى، تحاولين التعرف عليه من جديد، وما كان الأمر يبدو غريبًا، إذ فاجأته قائلة: ما هو اسمك يا هذا؟ من أين أنت؟

إذًا، لحظة احتراق الأوراق البيضاء بنار الاختلاف هي لحظة الميلاد الثانية، إذًا، كيف أصبح هو رجل الشجرة غير العنصري، ووالده هو إبراهيم ضابط الجيش ذلك العنصري؟!

وهو الولد اليومي الانطباعي الذي ليس له علم إلا ما علمه أبوه، بل كيف صار رجل الشجرة؟

في لحظة كان جعفر فيها بعيدًا على شاطئ النهر، يصادق الرعاة نهارًا، ويغازل الجنات بالليل، وكان والدك يمشط الطرقات بحثًا عن الذي ينتظره، وأمك مليكة شول مادنق خلف سور من الحجارة والرمل تنعم بدفء الأرض، وحتى رياك — سادن الأخلاق والمثل — كان في غفلة تامة، عندما قادتك قدماك ورجل الشجرة ذات مساء إلى الحدائق المجاورة، حدائق البرتقال، وأنت الآن لا تحبين أن يذكر كيف سلمته نفسك؛ لأن تفاصيل ذلك لا تخصك وحدك، ولا تحبين أن يذكر كيف كان منفعلًا وخائفًا وهو يفك أزرار بلوزتك الكبيرة، وأيضًا كيف كانت أنامله غارقة في عرق بارد، ونظراته خجولة رغم الشبق المتوحش الذي أعطى عينيه حمرة الأفوربيا، وهو يرفع عن فخذيك جيبة الجينز ليكومها على صدرك، ويحملق برعب جنسي في عريك مندهشًا، كيف لا تقاومين؟ كيف لا ترفض أفخاذك الشحمة ثائرة متمنعة، وتمسك أناملك بالجيبة محاولة إبقاءها حرسًا على السيد الجسد، حرسًا مسالمًا من القطن!

كيف لا تقولين له: ابتعد عني، دعني هذا عيب … هذا حرام … كيف تدعين جسدك يتوهج في عينيه تحت ضوء القمر هكذا، سهلًا ورائعًا وطاغيًا، أيضًا لا تحبين أن يذكر أنه أخذ يرضع ثدييك كما الطفل الجائع ثم … ثم عضك، عضك بكل قسوة، إلى أن دوت منك صرخة مزقت حجب الليلة المقمرة الساكنة بين أفرع شجيرات البرتقال ونواره الأبيض الذي تطن حوله النحلات، في ذلك الوقت، في ذلك الوقت بالذات — آن تألمك — شعر برغبة الفعل، بلذة معالجة المرفوض المؤلم الممتنع، إلا أنك رفسته بقدميك بعيدًا قائلة في ألم: حرام عليك … أنت قاس!

واشتعلت غضبًا، واشتعل هو بدافع الفعل، في الحق افتقدت أنت الرغبة تمامًا في الاستسلام الحلو المغبط، الذي حتمًا كان سيقودك إلى الاستشعار بلذة المفاعلة والاستمتاع بالفعل لحظة بلحظة، إلى حين بلوغ النشوة لاكتمالها المقدس التام في ذاته، لحظة استسلام الروح لسلطان الجسد، تذكرت جعفرًا، جعفر مختار، قلت لعبد الله، رجل الشجرة: سنعود للبيت، قال وتخنقه العبرة: يستحيل، يستحيل!

اعتذر، أكد، أصر، قال، تمسكت، تباكى، تلامس، تذكر، تقاوم، ثم استسلم لإرادتك بالعودة للبيت، إذًا كان هذا هو اللقاء الأول لك مع عبد الله إبراهيم، وفشله هو الذي أبقى علاقتكما إلى اليوم، وفشله هو الذي قاده لطلب يدك من والدك، وفشله هو الذي مكنه من إقناع والده، فإما أنت أو لا امرأة أخرى، إذًا، كان فشل الفعل هو السبب للفعل المرتقب، في المستقبل، إذًا، فشل الفعل هو نجاح الفعل، وأنت لا تدركين ذلك أبدًا — ولن تدركيه — ولا حتى رجل الشجرة يدركه، لكن جعفرًا أحس به، وقاله لوالدك، وذلك حين إصرار رجل الشجرة بالزواج منك، قال جعفر لأبيك: إنه فشل في حبها.

وما كان يعلم رجل الشجرة أن هذا الجسد المحروم منه هو مستباح لرجل شجرة آخر بكل طواعية واستسلام ورغبة، بذات سهولة غابة البرتقال التي لم تتبعه، وعندما كادت … افتقدها.

أخوك رياك المتصوف يعشق ياسمين إبراهيم أخت رجل الشجرة الصغرى، وهي تعشقه، لكن والدها يقول: إن رياك عبد أسود كالفحم، ولا يمكن أن يزوجه ياسمين إبراهيم ابنته، فإذا تجاوزنا ذلك كله، أنت معجبة بوالدك محمد الناصر، بوعي أو دون وعي، متبنية لأفكاره ومواقفه كلها، دون ما استثناء، معجبة بمقدرته في أن يكون حرًّا، وأن يضع أحلام الحرية من كوابيس الآخرين، ما كنت تفهمين أن حريته تقف عند حدود الممارسة الشخصية كنتيجة للفهم الواعي للعلاقات: العلم والتجربة، لا.

لكنه كان أيضًا يسهب في القول عن حرية أن تحفر بئرًا، وقيد أن تدفنها، حرية أن تمشي ورجل طوال الطريق من الشلالات إلى الميناء النهري الصغير، تمران بالهضاب الصغيرة المسكونة بالأفاعي والسلاحف القديمة الباردة، أن تقبليه وأنتما تنزلان إلى النهر مرة أخرى إذا أمكن ذلك، أن تلاعبا قردًا أو سلحفاة صغيرة لونها لون الحجر، زوجًا من الإوز البري، أن تتسلق الرمال البلورية البيضاء. أن تتذكرا جعفرًا، جعفر مختار بحرية، أن تخرجا في مظاهرة تطالبان بقفل الطريق التي تشق الغابة، فتلوثها وتقتل الغزلان والسناجب، لكن شريطة أن تشاركا في صنع الطريق البديل، إذًا كان والدك حرًّا حرية مشروطة بحدود الحرية ذاتها، كان حرًّا كفراشة ترمي بنفسها في اللهب محاولة الالتحام بسر الضوء، أو التلاشي في الذات المشعة، معجبة به وأنت تتبعين تعاليمه وتحسين إحباطاته، وعندما يحس أنك فهمت حريته فهمًا خاطئًا كان يهتف صارخًا: ما تفعلينه دعارة وليس حرية شخصية.

ثم يسألك بوضوح: هل الآخر حر؟

وما كنت تمتلكين إجابة لسؤاله، كان والدك حرًّا في قيد ما يوحي به عقله إليه، وتؤكده نفسه أو جعفر، سيان الأمر، كان وجعفر بالصالون حينما أطل والدك عبر النافذة ليرى المارة يذهبون في كل الاتجاهات، جماعات وفرادى، قال لجعفر سائلًا: أين يذهب هؤلاء الناس في كل الاتجاهات يمشون؟ أين يذهبون كل يوم، كل ساعة، الآن، في هذا الآن بالذات؟

قال له جعفر: دعنا نتبعهم وحتمًا سنكتشف مذهبهم.

ارتديا جلبابين نظيفين، وضع كل منهما على رأسه عمامة، وحملا عصيهما بعد أن انتعلا مراكيبهما، خرجا، توقفا للحظات في منتصف الشارع العام، إلى أن مر رجل شاب يحمل حقيبة يد، يبدو أنه قد جاء من سفر شاسع لتوه، قال جعفر: أنا سأتبع هذا.

وبقي والدك، وما هي إلا لحظات قصيرات حتى قدمت امرأتان، إحداهن سيدة متزوجة، وعرف والدك ذلك برؤيته لحناء قدمها، أما الأخرى فكانت فتاة بعد المراهقة تقريبًا بعام أو أقل، تسيران في الاتجاه المضاد لمسار رجل جعفر ذي حقيبة اليد، فقال والدك في نفسه: أنا سأتبعها لأعرف أين يذهب المارة، وحينها سألتقي بجعفر، وإن ذهب هو للاتجاه المضاد سنلتقي عند مذهب المارة.

ومضى خلفهما بزمن ومسافة قصيرين.

قال لك والدك: كنت أتجاهل تصرفك ليس لأجلك، لكن من أجل نفسي وحريتي أنا الذاتية، من أجل معرفتي ووعيي، من أجل عشرات السنين التي قضيتها أعلم نفسي الأسماء، فما كنت آخذًا ما أعطيتك إياه من حرية بيدي اليمنى، ما كنت آخذه باليد اليسرى، لكن قال لك: يا بنتي مُنى، الحرية من غير وعي ومعرفة عبودية، هي العبودية بعينها.

ناقشك جعفر في أمور شتى، منها الدين، اكتشفت فجأة أنك لم تفكري في أمره بجدية، ولو أنك بين الحين والآخر تجدين نفسك تفكرين في الحريات السياسية والمدنية والشخصية وحظر التجوال.

قال لك جعفر: الدين سبيل خيرة.

وابتسم نصف ابتسامة قبل أن يلحق بوالدك في الصالون، كان عبد الله دائمًا ما يلاحقك بمسألة الزواج، يعجبه فيك جمالك فقط، الذي لم يعطه الفرصة للتفكير في محاسن فيك أخرى، وكان أبوه يحذره في بادئ الأمر منك قائلًا: احذر خضراء الدمن!

وكان يعرف أن معنى خضراء الدمن هي الحسناء في منبت السوء، تمامًا كما يرى والده فيك، لكن فشل فشلًا ذريعًا في أن يوجه عاطفته نحو فتاة أخرى أجمل منك؛ لأنه وكما اقتنع والده أخيرًا، لا توجد فتاة أجمل منك، أو بالأحرى لم تقع عيناه على أجمل، أخواته ولا صبيات أعمامه ولا غادات المدينة كلها، كنت الجميلة بدون منازع، وأنت تعرفين ذلك؛ لذا ما كنت تتعجلين للزواج؛ لأنه حتمًا سيأتي من يتزوجك يومًا ما، أو كما يقول والدك: في آن ما.

لكن أيضًا ملاحقته لك كانت تملؤك بالشعور بالرضا، وتشبع فيك غرور الأنثى، غرور أنك مرغوبة، أنك محور تفكير ومحور اهتمام، وأنك جميلة، وأنك مغرية وجذابة، وأنك ساحرة، وأنك إنسان لا يتكرر، وأنك … وأنك، تملؤك زهوًا وجمالًا، كنت تحبينه، لكن من موقف القوي، وكان يعشقك لكن من موقف الضعيف، وهو يعي ذلك جيدًا ويقدره، عكس موقف أخيك رياك الذي كان هو الجانب الضعيف في العلاقة، وياسمين هي الجانب القوي، وما ذنبه؟ إلا لأنه كان أسود كقلب الأبنوس، في لون أمه مليكة شول، وكما يقولون: الولد خال، فهو نسخة من خاله ملوال، في الطول والشفاه الغليظة والأذرع الطويلة القوية، والصوت الجهوري، حتى في تعصبه الديني وفي مشيته، إذًا، لقد كان وسيمًا بمقاييس الغابة، لكن من يقنع والد ياسمين بذلك؟ من يستطيع أن يؤكد له بأن هذا الولد الذي تراه قبيحًا هو أيضًا وسيم! الذي تراه عبدًا هو أيضًا حر! الذي قد لا تراه أبدًا هو أيضًا موجود، تضامنًا مع أخيك رياك قلت بينك ونفسك: إذا لم تتزوج ياسمين رياك لن أتزوج عبد الله إبراهيم.

ثم اتفقت مع ياسمين على هذه الرؤية التي أكدت لك: رغم أن أمي وأبي يرفضان هذه الزيجة إلا أنها ستتم، إنهما لا يزالان يحتفظان بعقلية الماضي، عقلية جدهما بائع الرقيق بأعالي النيل، ثم أخبرتك عن نسب والدها ووالدتها الذي ينتهي بالباشا الشهير بتجارة الرقيق في أزمنة الاستعمار التركي للبلاد الكبيرة، فتذكرتما جعفرًا، جعفر مختار، وقلت لها: لن يستطيع أحد أن يسلبنا انتماءنا للبلاد الكبيرة، ثم أضافت: لكن ما يحيرني حقًّا هو: كيف توافق أمك ويوافقك أبوك على زواجي من عبد الله، ويرفضان زواج رياك منك؟ فالدينكاوية مليكة شول مادنق، أمنا أنا وهو، ومحمد الناصر الذي لا أب له، هو أبي وأبوه!

فقالت لك ببراءة وصدق: أنت تعرفين أن الأمر في هذه الناحية يختلف كثيرًا، فعندما قصصت لوالدك ذلك ضحك كثيرًا، أشعل سيجارة، أطفأها، قال لجعفر، جعفر مختار: دعنا نذهب للنهر، للراعي، لطفله، للأغنام وأشجار المسكيت.

كان الراعي العجوز عجوزًا، وطفله النزق نزقًا، وأغنامه الفرحة تثغو وتَعِرُّ، وكلبه يجري وراء الأرانب والفئران الكبيرة ينبح مبتهجًا بشمس الصباح، ثم يقترب من سيده الراعي محييًا إياه، مبصبصًا بذيله، وكأنه يشكره على هذا الصباح الجديد، هذا اليوم الذي وهبه إياه، وبينما كانا يقتربان من طفل الراعي الذي كان يجري نحو النهر وخلفه حملان، إذ ناداهما الراعي العجوز قائلًا: اشربا معي القهوة.

فجلسا قربه تحت شجرة لالوب، سأله جعفر: أين بيتك؟ لأنا نراك ليل نهار قرب النهر، أو تحت هذه الشجرة، شجرة اللالوب.

قال مبتسمًا وهو يعالج البن على المقلاة: بيتي هذه الشجرة، وهذه المخلاة.

سأله والدك مندهشًا: أين ملابسك وحقائبك وأشياؤك؟

فأشار للمزمار والمخلاة ومواعين القهوة، قال: هذا كل ما أمتلك من معدات وأشياء، أما ملابسي فعلى جسدي، وتلك هي عصاي أتوكأ عليها، وأهش بها على غنمي!

فسأله جعفر مبتسمًا: ومن هذا الطفل؟

قال: إنه ابن بنتي عائشة، وهي تعيش بالمدينة، لكنه أحب الإقامة معي، إنه مثل الأرنب البري، يعشق المحريب والمسكيت، ومثل الورل يرضع الأغنام والنعاج، وكالبلطي يحب الماء.

بعد أن شربوا القهوة جميعًا، أخذ الراعي مزماره واصطحبهما للنهر، وهنالك ساعداه على غسل فراء نعاجه وخرافه، ولعب الأربعة لعبة التمساح والفريسة، وكانوا يقومون برمي طفل الراعي بعيدًا في الماء، أو يغطسان به لقاع النهر، أو يورطانه في دوامه ويتركانه لكي يتصرف، فدائمًا ما كان يعود ظافرًا للشط، وهو يضحك في فوضوية، قال جعفر للراعي: علمنا العزف على الناي.

قال بشكل نهائي: لا أستطيع.

قال والدك: إذًا كيف تعزف أنت؟

قال مبتسمًا: هكذا ومنذ صغري وجدت نفسي أمسك بالمزمار، أنفخ فيه فيخرج ما تسمعونه من ألحان، أتعجبكم ألحاني؟

ثم أضاف: خذوه وانفخوا في، جربوا، ربما عزفتم لحنًا ما.

فأخذه جعفر ونفخ فيه لكنه لم يصدر سوى صوت واحد عاطل ومزعج، وكذلك فعل أبوك، نفخ.

قال له جعفر: إذًا عقابًا لك لأنك لا تعرف كيف تعلمنا العزف، سنحكي لك عن الحرب، سنحدثك عن الجنوب، عن الموت، وسنقول لك كيف يموت الأطفال والغزلان والذئاب في الغابة والمدينة والقرية بالألغام، بالجوع، بالقذائف، بجرائم الحرب.

وقالا له كل شيء عن الحرب، قال وقد ظهر على وجهه القديم الحزن والإرهاق: أين هو الجنوب؟ أهو بعيد من هنا؟

قال له والدك شارحًا: إنه وراء، وراء، وراء الغابات الوراء النهر.

قال الرجل مندهشًا: إذًا أهو مسيرة عام كامل بالحمار؟ أم عامين؟

قال: كيف ذهبتم إلى هناك وعرفتم هذا؟ لا بد أن ذلك كلفكم الكثير؟

قال: كيف إذًا جاء الجنوبيون إلى هنا؟ منذ عشرات ومئات السنين؟

قال الراعي العجوز: سكنت في شبابي بالمشاريع الزراعية في قطية واحدة مع شخص من الجنوب، كان طيبًا ويغني دائمًا بالرطانة غناءً رقيقًا وحلوًا، ولو أنني لا أعرفه، وكان أيضًا يتكلم بالرطانة؛ لذا لم أستطع أن أعرف منه كم يبعد الجنوب من هنا، ولماذا جاء؟ وكيف؟

صمت للحظات، ثم سأل والدك وجعفر فجأة: لكن من الذي يقتلهم؟

حدثهم: في موسم الأمطار يصنع قطية صغيرة من نبات المحريب وعيدان المسكيت وبعض الأعشاب والطين، فهي تقيه العاصفة والمطر، وأيضًا هوام الخريف، أما في الشتاء فيتغطى بشملة من صوف الأغنام ووبر حماره، تقيه البرد، ويفترش دائمًا برشه القديم المصنوع من السعف سريرًا ولحافًا له ولطفله.

قال الراعي: كان ولده يسبح بعيدًا نحو الشط الآخر وخلفه يسبح كلبه، ابنتي اسمها عائشة، عائشة سعيد، هل تعرفانها؟

قال جعفر ووالدك في لحظة واحدة: نعم، كل المدينة تعرفها، إنها المغنية الماشطة وراسمة الحناء التي تعلم العروس الرقص، وهي أيضًا الخاطبة، وهي التي تقوم بتنظيف بشرة العروس من الشعيرات الزائدة بالحلوى، وهي التي تدلكهن، وهي بائعة الدلكة وصانعتها، وهي الوداعية، وهي الراملة، وهي العرافة قارئة الكف، وهي صاحبة الزار، وهي الطهارة، هي الداية، ابنتك عائشة هي كل الحياة السرية للنساء.

تخطبهن، تزوجهن، تنظفهن، تقدمهن لأزواجهن في ليلة الدخلة بعد أن تعلمهن كيف يمانعن، ثم يستسلمن، كيف يغتسلن، يحلبن، يلدن.

وعندما يمتن أيضًا، عائشة محمد سعيد هي التي تغسلهن وتقدمهن للملائكة طاهرات.

قال محمد الناصر — أبوك — مؤكدًا: في الحقيقة لا يمكن أن ينجب عائشة غيرك.

ابتسم الراعي العجوز وهو يضع مزماره المخلد بين شفتيه القديمتين ويعزف لحنًا عجوزًا دافئًا، قال بعد أن أنهى آخر أنغامه: تعلمت هذا اللحن من ريح الخريف حين هطول الخرسان المرعد وتصايح الأغنام في خوف.

قال جعفر: لقد لاحظت ذلك، لكن للكلب أيضًا دورًا لم تذكره.

قال ضاحكًا: بالتأكيد أنينه كان واضحًا في اللحن، فهو أيضًا يخاف البرق.

فسرق أبوك هذا اللحن أيضًا، وغناه جعفر فيما بعد، ثم اتخذا ركنًا قصيًّا تحدثا فيه عن حال الأسرة، فقال محمد الناصر أبوك: مُنى ابنتي تشعر بغربة قاتلة، إنها تحس بأنها دائمًا وحيدة، فقدان أمها شيء لا يطاق، وهي التي تحتاج إليها دائمًا.

ثم قال: رياك أيضًا هو الآخر يشكو من كونه يعامل في كثير من الأحايين كمواطن من الدرجة الخامسة في وطنه، وهو غالبًا ما يصنف مواطني البلاد الكبيرة كالآتي: شماليون، نساء شماليات، غرابة، نساء غرابيات، جنوبيون، نساء جنوبيات.

فقال جعفر ضاحكًا: يحتاج ابنك رياك لأمور أخرى لكي يدرك وعيه، فلقد علَّمته أكثر من حين أن إحساسه بالمواطنة ليس هبة يعطيها إليه الآخرون، ليس منًّا، لكنه إحساس ينبع من ذاته الواعية بحقيقة الصراع، ماذا يعني شمالي؟ وماذا يعني جنوبي؟ كلهم، كلهم غزلان وفئران هذه البلاد الكبيرة. حاول أن يقول له: الجميع أطيار لها ريش مختلف ألوانه، ولها هيكل واحد، وقلب واحد.

قال أبوك: ابني رياك يحتاج كما قلت لأمور أخرى، أمور جيدة، يجب عليه أن يتجاوز محنة ياسمين إبراهيم، محنة رفض والديها، محنة إرثهم من السياط وزرائب الآدميين، عادا للراعي، سألاه: هل أنت سعيد حقًّا بخلائك هذا؟ قال: فقط لو تزوجت ابنتي عائشة.

فنظرا معًا في آن واحد للطفل الصغير الذي يلعب في الشاطئ الآخر مع أطيار الرهو والسلاحف القديمة الباردة الذي غطس في جوف النهر!

كنت فرحة جدًّا بفكرة الرحلة، الرحلة الطويلة في نواحي البلاد الكبيرة، وكان والدك قد اقترحها كبرنامج للمعرفة والترفيه في إجازة نصف العام، وكان المقترح واحدًا من ثلاثة أمكنة: الجبل في أقصى غرب البلاد الكبيرة، أو البحر في أقصى شرق البلاد الكبيرة، أو النيل في أقصى شمال البلاد الكبيرة، فاخترت الجبل؛ لأنك تتشوقين دائمًا لزيارة غرب البلاد، بتعدد ثقافاته واختلاف مدنه وطبيعته، خاصة الجبل، فكل ما سمعته كان يحفزك للذهاب، النوافير الطبيعية والمياه الحارة، البحيرات العالية في القمة، الأنهر الصغيرة دائمة الجريان، غابات برتقال اليوسفي والمانجو، والباباي والموز والأناناس والعنب، الأطيار الجميلة المهاجرة والعصافير والزرازير، الحيوانات المتوحشة والجو المعتدل.

فقلت لوالدك: الجبل، فقط الجبل، أما رياك فقد تحفظ في بادئ الأمر قائلًا: إن هنالك أشياء أهم من الترفيه يجب عليه أن يقوم بأدائها، إلا أن جعفرًا حثه على الذهاب؛ لأن للسفر فوائد، فهو عبادة طالما كانت من ورائه أشياء خيرة تُرجى، وأكد له: الدرس الذي يمكنك أخذه من السفر لا تجده في آلاف الكتب، ثم ألمح إليه بأن السفر سيساعده في تخطي محنة ياسمين.

تبادلت قيادة العربة مع والدك، أما رياك فقد انتبذ ركنًا بالعربة وغط في نوم عميق، ثلاثة أيام وأنتم تخلفون وراءكم المدن الناعسة القديمة، تغرقونها بالأتربة والذهاب، وأنتم تمضون غربًا، غربًا.

وبعد تعب وإرهاق استنفد كل طاقاتكم وجدتم أنفسكم أمام مدينة جبلية ساحرة ذات شلالات معلقة في قمة الجبل، غارقة في ضباب كثيف فتبدو مياهها كما لو كانت منزلة من صدر السماء، أو مجلوبة من أثداء السحابات الرمادية السابحة في سماوات الله تُظل غابات المانجو والبرتقال، وهي تغازل فتيات الريف الجميلات وهن يجنين اليوسفي، أو يردن الماء، أو يلعبن الحجلة، فكنت في دهشة، تسألين والدك سؤالًا تعرفين إجابته تمامًا: هل هذه أيضًا بلادنا؟

فطرتم تحت شجرة المانجو، شربتم قهوة عند كهف قديم.

قالت لكم صبية: نزل هنا أبو زيد الهلالي، بينما أخذت تحكي لكم عن صراع دار في هذه الأمكنة بين أبي زيد الهلالي وأخيه أحمد المعقور، تهادى إلى مسامعكم صوت مزمار يأتي من موقع ما من الجبل.

قال والدك لكما: فلنذهب إلى عمكما جعفر، جعفر مختار، نسمع منه بعض ما استطاع أن يسرقه من الراعي العجوز من الألحان، كاد أن يغمى عليك أنت ورياك، صرختما في وقت واحد: جعفر، ما الذي جاء به إلى هنا؟ ألم نتركه خلفنا في المدينة الكبيرة؟ قال أبوك محمد الناصر ضاحكًا: طرق كثيرة تؤدي إلى هذا المكان، بل كل الطرق.

أشعل سيجارة، أطفأها، قال إنه فنان يتعلم الأشياء بسهولة ويسر، إذا صعبت عليه سرقها، حدثكم جعفر برحلته إلى هنا، وإنه كان في انتظاركم لساعات كثيرة، وإنه تحايل على الانتظار بالناي، فعزف لكم لحنًا جميلًا، قال تعلمه من ود أبرق حط بنافذته ذات صباح، وطائر كلج كلج اعتاد أن يرك في الظهيرة على غصن شجيرة قشطه بفناء داره.

قال: إن صوت الطائرين ولَّدا فيَّ إحساسًا أبويًّا، إحساسًا عظيمًا بالقلب، أمطرتما جعفرًا بالأسئلة، الأسئلة الملحة التي كانت تدور بذهنيكما، أنت وأخيك رياك، أسئلة معقدة متداخلة، وأخرى سهلة بسيطة ساذجة، وقد أجابكم عنها بنصف ابتسامة وسعة أفق وصدر، حتى الأسئلة الخاصة جدًّا التي لا تخص أحدًا غيرك، كسؤالك له عن كيفية أداء العادة السرية والتبول في آن واحد، وهو يهتف على أكتاف المتظاهرين الممجدين للحرب والانتصارات، وسأله رياك عن آلام الرأس التي تصيبه كلما تحدث معه في شأن خاص، فأجابه وفي فمه ابتسامة كاملة، وحدثه عن رجل سيأتي في آخر أزمنة وبداية أزمنة أخرى، رجل تقي وشاعر، يعرف لغات كل الأشياء، يعرف أسماءها، ويعرف أيضًا كيف تموت، سألته عن أمه، عن زوجته وأبيه، سألته عن أخته، عن أحلامه وبنيه، سألته عن نفسه، عن بيته، وعن أبيك، أبيك أنت محمد الناصر، فأجابك: غنى، ثم نام.

وعندما ذهبت أنت ورياك إلى حجرتكما حاولتما استعادة إجاباته الواضحة الجريئة الخطيرة، فما وجدتما في ذهنيكما غير الفراغ، الفراغ، تنام في برودته أسئلتكما دائخة مستسلمة حزينة وباردة، ولا شيء إطلاقًا من إجاباته، وكأنه ما فتح فمه الصغير وتكلم، هذا هو جعفر، لا تعرفان عنه شيئًا، ويعرفكما، فدخلكما الرعب وأنتما تسألان بعضكما البعض مندهشين: ما اسم أمه؟ ما اسم أبيه، أخته، زوجته، بيته؟ ما اسم جدته؟ بل ماذا كان يقول لنا عن آلام الرأس، عن الاستمناء، وكنت تدركين بشكل أو بآخر إدراكًا تامًّا في ذاته متناهيًا أنه في يوم ما كان كل الناس يعرفون جعفرًا، يعرفون كل شيء عنه، كل تفاصيل حياته وأسراره، ولم يكن مجهولًا أبدًا لديهم، لكن الآن، وكما يقول والدك في هذا الآن بالذات، ما عاد أحد يعرف عن حياته شيئًا، غير اسمه جعفر، جعفر مختار، وما عدا أباك محمدًا الناصر، فهو الشخص الوحيد الذي يدرك جعفرًا؛ لأن والدك كما يقول جعفر ذاته عرف …

والمعرفة، كما يقول والدك: رؤية.

والرؤية كما يقول جعفر: إدراك.

والإدراك كما يقول والدك: يقين، لا شك فيه.

في صباح جميل بالجبل الجميل، وبينما كنتم أنت ورياك وجعفر ومحمد الناصر والدك، تتناولون طعام الإفطار، كان جعفر يتحدث عن علم البحار والبارانويا وتاريخ قبائل الفور والنوبة والإيكو والماساي عن حضارات سادت حول هذا الجبل، سادت ثم بادت، عن عدد الذكور في أيام حكم علي دينار، عن أمراض النبات وعلم الجينات، عن نوعية الصخور وعمرها، وما تحتويه من معادن وجدواها الاقتصادية وإمكانية تعدينها ذاتيًّا، ثم قال بكل ثقة: هذا الجبل سيصبح عاصمة للبلاد الكبيرة في يوم ما.

قال والدك: بإمكاننا أيضًا في المستقبل صناعة العرق من البرتقال وتصديره إلى أوروبا.

ثم سألك فجأة جعفر سؤالًا مباغتًا: هل ستتزوجين عبد الله إبراهيم؟ ثم سألك أيضًا: هل استطاعت امرأة اليوم أن تتجاوز الرجل، أقصد هل عرفت أنها امرأة؟

ثم أضاف والدك شارحًا قصد جعفر: هل يمكنها القبول بحريتها، الحرية المطلقة؟

قلت مبتسمة: الرجل مرحلة ممتعة، وليس على المرأة عبورها أو تجاوزها، لكن عليها الغرق في هذه المرحلة، في الرجل.

اقترح رياك الذهاب إلى البحيرة، اقترحت أنت الذهاب أولًا إلى سوق المدينة؛ لأنك نسيت أن تحضري معك شيشتك التي ستدخنينها، وأدوات التجميل، منذ عامين أو أكثر، أي قبيل وفاة أمك بسنة وشهرين، لكن والدك أكد لك أن هذه المدينة ليست سوى قرية كبيرة، ولا تستخدم فتياتها أي نوع من أدوات التجميل، لكنك أصررت على الذهاب والبحث عن صيدلية، وفعلًا ذهبت، وكانت بالمدينة صيدلية واحدة فقط، وتمامًا كما قال والدك لم تجدِ بها غير زيت الزيتون وزيت الحبة السوداء وكريم للشعر قديم، ونصحك الصيدلاني بالذهاب إلى المدينة الكبيرة، وهي تبعد زهاء الساعتين، قال لك والدك: ماذا إذا لم تستخدمي هذا الخليط العفن في خلال هذا الأسبوع؟

قلت له: ألا ترى كيف تأثرت بشرة وجهي خلال هذه الأيام الثلاثة، إنها ستسود، وربما ستظهر عليها بعض البثور القبيحة.

قال لك والدك: إذًا، لقد رهنت نفسك للمرض.

قلت: ماذا أفعل وكل البنات يتجملن؟

عندما عرضت المشكلة لجعفر قام بإحضار بعض اللبن الرائب والليمون وعصارة نبتة الصبار، وخلط الجميع بنسب محددة، وقال لك: استخدمي هذا، إنه كريم الطبيعة.

كانت البحيرة رائعة، فهي محاطة من إحدى جوانبها بالجبل وصخوره العشب النامي بينها، وبالجانب الآخر غابات البرتقال واليوسفي، وعندما أردت السباحة قال لك رياك: من الأحسن أن تذهبي بعيدًا خلف تلك الأشجار، مشيرًا لشجيرات عرديب تبعد عنكم كثيرًا، أو …

فقلت له مقاطعة: لماذا؟ أريد أن أستحم معكم وأسبح هنا، فإذا لم تشأ أنت اذهب خلف شجيرات العرديب.

وعندما سمع والدك الحوار تدخل قائلًا: إذًا تعال معي، اسبح أنت وجعفر هنا وأنا وهي سنسبح خلف العرديب.

قال جعفر ضاحكًا وهو داخل ماء البحيرة: إذًا، طالما كنت يا رياك تخشى من عيني فأنا الذي يذهب خلف العرديب وابقوا أنتم.

قال رياك: حتى أنا وأبي لا يجب أن تستحم مُنى عارية، أو حتى بأي شكل آخر أمامنا، هذا عيب وسلوك غير مسئول.

قال والدك ثائرًا: أليس هذا جعفرًا؟ فلتسبح قربنا كما شاءت، فلتسبح معنا، اذهب أنت خلف العرديب أو خلف ما تشاء.

لكن جعفرًا همس في أذن والدك فغطسا لزمن داخل البحيرة، ثم خرجا من الماء، ارتديا ملابسهما وغادرا، وهما يتحدثان دون انقطاع، وبقيت أنت ورياك، وبدون استشارة أحدهم خلعت ملابسك وبقيت بملابس السباحة، ثم قفزت في البحيرة، فوقف رياك مندهشًا للحظات، ثم قفز هو الآخر في الماء، وأخذتما تلعبان لعبة التمساح والفريسة، قال لك رياك: كنت فقط أريد أن أدخل أبي وجعفر في موقف أخلاقي.

ثم قال: فلنذهب.

قلت وأنت ترتدين ملابسك: إلى أين؟

– نحو غروب الشمس، أن نكتشف العالم من حولنا، ربما وجدنا مخدع الشمس، ثم سألك وهو يشير بعيدًا نحو غابات المانجو والبرتقال: أتدرين ماذا يوجد بعد غابات المانجو والبرتقال تلك؟

قلت: توجد غابات المانجو والبرتقال!

– وخلف غابات المانجو والبرتقال، الخلف غابات المانجو والبرتقال؟

قلت بحماس: غابات المانجو والبرتقال!

قال وما زال يشير نحو البعيد: وخلف غابات المانجو والبرتقال، الخلف غابات المانجو والبرتقال، البعد غابات المانجو والبرتقال؟

قلت وكنت متأكدة مما تقولين: يوجد جعفر مختار، يغرس شتلة مانجو، أو يجني ثمرة برتقال، أو يعاشق فتاة قروية، أو يسرق الألحان من حفيف أشجار المانجو والبرتقال، أو ينتظر محمدًا الناصر، لا فرق.

نعسة وتعبانة؛ لذا عندما استلقيت على السرير، غرقت في نوم عميق، ولا تدرين إلى هذا الآن، أكنت في حلم أم في صحيان، لا تدرين عندما جلس قربك جعفر، جعفر مختار.

كان رياك يغط في نوم عميق، والحجرة مضاءة بحلمية، وتهب نسمات رقيقة عبر النافذة المطلة على الفناء الواسع المزروع بشجيرات اليوسفي واللارنج، بيديه أوراق كثيرة مكتوب عليها بلغة تشبه أشجار اللعوت، كما بدت لك عيناه الصغيرتان تشعان بأشياء غريبة ومعان غير مدركة، لم يتحدث، لكنه بطريقة أو بأخرى كان يلقنك علمًا عظيمًا ولو أنه غير مفهوم لديك، على فمه الصغير ابتسامة، بل نصف ابتسامة دائمة، كان قصيرًا نحيفًا أصفر البشرة، وسيما له أسنان بيضاء دقيقة ووجه قليل، ملامحه ذكية، به براءة أطفال، وجدية العلماء، به طهارة الأنبياء وخبث الصعاليك، تمدد على السرير قربك، قلب أوراقه، قلت له: ماذا لو أن روح أمي ملكية شول مادنق الآن هنا، بهذه الحجرة؟ اكتشفت فجأة أنك عارية كالريح، لا يغلف جسدك غير الهواء، لكنه على ما يبدو لم يهتم بذلك، وكنت تعلمين علم اليقين بأنه إذا استمنى جعفر ذاتيًّا على خيال امرأة ما — أي امرأة — واستطاع أن يستحضر في مخيلته نهديها وساقيها وشفتيها وصوتها أيضًا، فإنها ستحس به أينما كانت، تحس بشيئه ولو كانت في حضرة شيء زوجها، وتظل تقاوم الفكاك منه في حالة كابوسية تامة، وتحاول الصراخ لكنها لا تستطيع إلا بعد أن يدرك جعفر، جعفر مختار، ذروة نشوته، وتتدافع أشياؤه كالنوافير فيها؛ إذًا ليس جعفر في حاجة لعريك.

أخذ يقلب أوراقه، يتفحصها بعمق وهو يلقنك معرفته، اكتشف أيضًا عريك فجأة، ارتبك قليلًا، أخفى نصف ابتسامته في النصف الآخر، قلت له: لا يمكنني أن أفهمك.

أضاف نصف ابتسامة للنصف الآخر وهو يتفحص آخر ورقة بيده، نهض وعلى فمه ابتسامة كاملة مؤكدة، أخذ يتفرس الأوراق على جسدك العاري، مكفرًا إياه من أنامل القدم إلى شعر رأسك، هل كنت عارية حقًّا؟ لا تدرين، حدث نفسه قليلًا، وخرج.

سافرتم جميعًا إلى منطقة جبلية، ثم عدتم لترحلوا مرة أخرى، راجعين إلى المدينة الكبرى، عاصمة البلاد الكبيرة، حيث الضجر والنميمة، حيث السؤال، حيث …

ياسمين إبراهيم، جارتك الصديقة، كانت في نفس عمرك، أو تكبرك ببعض الأشهر، إلا أنها كانت تحمل إليك مشاكلها الأسرية الصغيرة التافهة، وبتجاربك — تجاربك أكبر منك ومن طفولتك ومعرفتك، التي أنضجتك مبكرًا — كنت تقدمين إليها ما تحتاجه من حزن، حزن أصيل يدفع عجلة الوجود أمامها، عجلة الوجود الصدئة، ويفتح لها نافذة على إمكان الفرح، مسرة تكيفها لتتجاوز بحار آلامها، قلت لها: لا عليك، فالعنصرية القبلية تحتاج لزمن صعب آت، زمن من الانصهار واللهب، فدعينا نفكر في مشكلة الآن، فليست المسألة مسألة لون؛ لأنهم لا يتزاوجون والحلب والأعراب والفقراء أيضًا، قلت لها: لست أدري، لكنك كنت تعلمين جيدًا أن جعفرًا بإمكانه التحدث في مائة محاضرة بمائة لغة مختلفة وأسلوب، عن مسألة العنصرية القبلية وربطها بذكاء بكثير من الأغاني الشائعة في تاريخ الغناء الإنساني، ويستطيع أيضًا أن يضحك ملء فمه عليكم جميعًا، يتبول في وجوهكم ويمضي في المسافة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤