سفر الخروج

كان إبراهيم عبد الله يتحدث بثقة وقوة عن العلاقة الأزلية المقدسة بين الرجل والمرأة، قبل أن يطلب منك رسميًّا يد ابنتك مُنى لولده عبد الله إبراهيم، فأشعلت سيجارة، أطفأتها، تذكرت جعفرًا، جعفر مختار، قلت له: أم مُنى هي أم رياك، دينكاوية سوداء كقلب الأبنوس، طويلة كزرافة استوائية، وأنا والدها، والد رياك، وزوج مليكة شول مادنق، وأنت تعرف أنه لا أحد يعرف لي أبًا، فهل توافق على هذه الزيجة؟

فهز كتفه بشيء من الزهو وهو يقول: المرأة على دين خليلها و…

فقاطعته قائلًا: أتعرف ابني رياك؟

قال: نعم، فهو …

فقاطعته أيضًا: إنه يحب ابنتك ياسمين، ويريد الزواج منها.

وقبل أن يرد دخل جعفر، جعفر مختار، وكنتما بالصالون تجلسان على مقعد كبير واحد، قرب قرب، جلس بينكما، بعد أن كان جعفر يود أن يقول شيئًا، شيئًا خاصًّا جدًّا ومهمًّا، إلا أنه آثر الصمت، الصمت الموقوت. قال إبراهيم: إذًا تريدون استبدال ابنتكم مُنى ببنتي ياسمين؟

فقلت له ضاحكًا: بل العكس، نريد استبدال ابنك عبد الله بابننا رياك.

قال وهو ينظر بعيدًا: سأستشير أمها وأعمامها، وسأفكر، وخرج.

قال لك جعفر: أنا متعب، مرهق، نعس أريد أن أنام.

فما إن هيأت مُنى له مرقدًا حتى ذهب في نوم عميق، ثم علا شخيرهُ كالطاحونة، فسألتك ابنتك مُنى: أليس لجعفر …؟

فقاطعتها قائلًا بتأكد تام: بل له يا مُنى، له بالتأكيد.

حينها أيقنت ابنتك مُنى بأنك أيضًا جعفر، في مدائن أخرى، مدائن بعيدة عن أخيلتها وأحلامها، يسأل عنك الأطفال آباءهم، هل لمحمد الناصر؟ فيقاطعونهم قائلين: بل له، له بالتأكيد، حينها يوقن الأبناء بأن آباءهم، أيضًا محمد ناصر في مدائن أخرى، مدائن بعيدة عن أخيلتهم وأحلامهم، يسأل عنهم الأطفال آباءهم، هل ﻟ …؟ فيجيبونهم مؤكدين: له، له بالتأكيد، حدثتك ابنتك مُنى ذات مرة، لقد حلمت بجعفر مختار ذات نوم أو يقظة لست أدري، كان عاريًا، أو كنت عارية، وكان يقلب أوراقه جالسًا في السرير قُربي، ومثلما فعل جعفر من قبل أجبتها بكل صدق وحكمة، لكنها ما إن غادرت بخطوة واحدة غادرتها إجاباتك وبقيت في ذهنها فقط أسئلتها باردة، لزجة، تتكوم فوق بعضها، تحلم نيابة عن بعضها، تتثاءب ثم تغط في نوم بليد، قالت: ماذا لو مات جعفر؟

إنه دائمًا ما يموت، انظري إلى شجرة البان تلك، التي زرعتها أمك مليكة شول مادنق، وسط المنزل، أطول الأشجار ساقًا. أزكاها عطرًا.

فإذا قطعت تلك الشجرة وأنت نائمة أخذت أحطابها بعيدًا ونظفت مكانها من الأوراق، وعندما استيقظت ذهبت لحوض المياه الكائن تحتها لتغسلي وجهك، إذًا سيحدث، قالت لك: سأفتقدها.

قلت لها: إذًا تحسين بوجودها.

قال: فراغ وجودها.

قالت: إذًا تقصد يا أبي أنها دائمًا موجودة بهيئة ما.

قال: ربما أقوى وأشمخ.

ثم أخبرتها أن مليكة شول مادنق — أمها — كانت تعرف مقصدك عندما تتحدث عن شيء وأنت تريد غيره، وقد لا تدري الشيئين، ما تتحدث عنه وما تريده أيضًا، ضحكت، أضاءت أسنانك البيضاء ظلام فمك، أشعلت سيجارة، أطفأتها، تمشيت قليلًا، نظرت عبر النافذة، كان بالشارع شحاذ أعمى يستبصر الطريق، ينشد أبياتًا من الشعر، يستبكي بها قلوب الناس الطيبين، ظهره قوس من الطمي، برأسه عمامة ممزقة سوداء، وسطها تظهر طاقيته الخضراء، خضراء، بيده اليمنى مسبحة من اللالوب تهتز بإيقاع أبيات الشعر، ينتعل رمل الطريق، جميلة عيناه الجاحظتان، خرجت متعجلًا من المنزل ومشيت خلفه كالمنوم، كان مشيه بطيئًا: متفاعلن، متفا، علن، مت، فا، علن، متفاعلن، وكنت في بادئ الأمر تجري خلفه، فعلن، فعلن، فعلن، فعلن، إلى أن قربت به، فثقلت خطواتك: متفاعلن، متفاعلن، مت، فا، عل، ن، كان يمشي على أنغام بحر منشودته التي يستبكي بها الناس، ويستبكيك، فطفت خلفه كل شوارع المدينة، أزقتها، بيوت محسنيها، بنوكها ودواوينها الحكومية، وعندما اتجه خارج المدينة قاصدًا الصحراء سألت نفسك ثلاث أسئلة قبل أن تواصل مشيك نحوه، جلست تحت شجرة عجوز شامخة تبحث عن إجابة مناسبة ومرضية مقنعة لأسئلتك، أشعلت سيجارة، أطفأتها، تبولت تحت الشجرة، ضايقتك عفونة خُرائك، تفيأت شجرة أخرى غيرها، علك تُلهم إجابة ممكنة سريعة، إلى أن غابت الشمس. وما تبقى من ضوئها تلتهمه ببطء جيوش الظلمات التي هي امتداد لظلال منازل المدينة وأشجارها الخضراء، امتداد لظلك، وعندما أجبت على سؤالك الأول كانت النجوم قد ظهرت في قبة السماء تغازل الفراغ وترسل ضوءها للأكوان البعيدة، خطوت خلفه حتى لا يضيع أثره منك، فعلن، فعلن، فعلن، فعلن، ف، ع، لن، فعلن، سريعًا خطوت …

ولما لم يعد يفصلك عنه غير مترين جلست على صخرة ملساء، تبحث عن إجابة تنجيك من سؤالك الثاني لنفسك، تذكرت جعفرًا، جعفر مختار، أول مرة تشهد موقفًا جنسيًّا حقيقيًّا لجعفر، كان ذلك في نهاية الخريف الماضي، أكتوبر، الفاتح من أكتوبر، الأعشاب النائمة الخضراء تفترش الأرض الكسولة، وأطيار القطا، عام مضى، في ليلة ليست مثل هذه الليلة، تتجولون في مناطق مفتوحة، أي لا تحدها سوى بقايا سحب الخريف البيضاء المتباعدة، التي تخبئ القمر المكتمل للحظات قلائل، ثم تطلقه ينشد ضوءه للحظات أخريات، شمالًا الغابات، جنوبًا أيضًا الغابات، شرقًا المدينة ساهرة، غربًا الصحراء، وبينما كنتما تتحدثان عن منسوب مياه النيل وحرب المياه القادمة حتمًا، أو سعر الماء كما يحب أن يقول جعفر، سعر الماء القادم حتمًا، إذا بمخلوق غريب لم يره أي منكما في حياته من قبل، حتى جعفر نفسه دهش لرؤيته، كان مخلوقًا ضخمًا يمشي نحوكما، ضحك جعفر وهو يقول: الأشياء تأتي إلينا، هل نخاف نحن الأشياء؟

فقلت أنت معلقًا: أمر مضحك حقًّا، تخيل نفسك تؤكل، أو تمزقك الأشياء!

بكى جعفر من الضحك، ولم يعد من نوبته إلا عندما قارب الشيء أن يلتصق بكما، وملأت أنفيكما رائحة له قوية وغريبة، لم تستطيعا في حينها وصفها بالطيبة أم بالنتنة، وعلى ضوء القمر تبينتما ملامحه، وهو يحملق بعينيه الكبيرتين في وجهيكما، فمه أقرب إلى فم القرد منه إلى الإنسان، وكان مسالمًا أكثر مما يوحي به شكله، وتوحي به ضخامته وأذرعه الطويلة القوية، المنتهية بأصابع ذات مخالب حادة وقوية، وعندما قاربكما جدًّا، مد قوائمه على الرمال، ورقد في سلام تام، قال لك جعفر: هل رأيت مثل هذا الشيء من قبل؟ قلت: لا.

لكنه يشبه أشياء كثيرة رأيتها.

قال جعفر: إذًا طالما كان محافظًا على هدوئه دعنا نتفحصه جيدًا ونتبين أسراره عن قرب.

فأخرج جعفر من جيبه أداة القياس وقاس طوله، أطرافه، ارتفاع أنفه، ذراعيه وزاوية إبطيه، فكانت كالآتي:
  • طوله ١٫٥٠ متر.

  • أذرعه ١٫٠٠ متر.

  • قوائمه الخلفية ١٫٢٠ متر.

  • نصف قطر عينيه ٠٫٦ سم.

  • المسافة ما بين عنقه وملتقى الفخذين ١٫٠٥ متر.

وفجأة قال جعفر وهو يحملق في وجهك: إنها أنثى! أتعلم، إنه يصعب التفرقة ما بين الإناث؟

فهيأ جعفر نفسه للأنثى، وجدت الإجابة الممكنة للسؤال الثاني، نهضت من مكانك وجريت نحو الرجل العجوز، كان قد قطع مسافة كبيرة متوغلًا في عمق المكان، حتى إذا لم يفصلك عنه سوى قدم واحد جلست على صخرة أخرى تفتش عن إجابة لسؤالك الأخير، لكن ما أسرع أن وجدت الإجابة فحزنت، حزنت جدًّا، حزنت … جدًّا، كدت أن تبكي بكاءً حقيقيًّا لا تشوبه شائبة، فأصبحت بغير ما تتوقع بين فكرتين:
  • (أ)

    أن تحمله على كتفك إلى حيث يشاء، إذا كان حقيقة يشاء مكانًا بعينه.

  • (ب)

    أن تهرب بأسرع ما يمكن إلى منزلك، وتتأكد من أن النائم في بيتك هو جعفر، جعفر مختار.

وبينما تستفتي نفسك بشأن الخيارين، توغل الليل في أزمنته الظلماء الساكنة، في بومة وطيور السقدة، في عواء ذئابه، ضحكات نسائه وبكاء أطفالهن مع الليل، توغل شيخك في مسافاته، ولم يعد يرى منه سوى نقطة ضوء بيضاء، تكبر كلما ابتعد، تكبر، تكبر إلى أن انفجر أخيرًا قمرًا فضيًّا، تلاشى بين أقمار الله ونام في حضن المجرات الباردة، بكيت في نفسك وأنت تتخيل في نفس اللحظة كيف أن الرجال يقتلون بعضهم البعض في غابات الجنوب فيجوع الأطفال، فيأكلون الأطفال، تذكرت ماجوك، كل ما تبقى من أسرة مليكة شول مادنق، فأخذت تبحث في الأفق على شيخك القمري، فأشعلت سيجارة، أطفأتها، تيممت برمل المسافة، كبَّرت، قرأت سورة الفاتحة، ثم مَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ، كنت بالصالون تقرأ أشعار جعفر الخمسة حينما دخل إليك رياك في صُحبة أخته مُنى، قصائده التي كتبها في ثلاثين عامًا، طلبت منهما أن يستمعا إليك تقرأ الأسفار الخمسة المشهورات لجعفر، جعفر مختار، قالت لك مُنى: لقد قرأنا من قبل قصيدته الأولى، قرأها لنا معلم الرياضيات عندما كنا في الصف الثالث الثانوي.

قال لك رياك: لقد استمعت من قبل إلى قصيدته الأخيرة، قرأها عليَّ إمام …

سأقرأ الآن عليكما القصائد الخمس في مرة واحدة.

وكنت تعلم جيدًا أن قراءة القصائد الخمس دفعة واحدة بغير تتابع عملية مرهقة للعقل، ولو، إلا أنك لم تقرأها قصيدة قصيدة، لكنك قرأت الأشعار الخمسة في قصيدة واحدة، وهي في الحقيقة أقصر من قصيدتين بقليل، ونتيجة لهذا التكثيف أصيب أبناؤك بالأحاسيس التالية: رياك كان يغمره إحساس واحد، إحساس طاغ بأنه مقذوف به بعيدًا في عمق سحيق لا غور له.

مُنى يمكن تشخيص حالتها وهي تستمع للأشعار الخمسة في قصيدة واحدة أقل بقليل من قصيدتين، يمكن أن توصف بحالة بحار يركب البحر لأول مرة، إحساس بالمغامرة، بالخوف، بالثورة، بدوار البحر، حتى إذا قرأت آخر كلمة من القصيدة هي عبارة عن قوسين فارغين ( ) عادا لوعيهما، ثم أخذا يتقيئان كما لو بلعا أسطولًا من الذبابات المتقيحات، لا تلومهما، أيضًا لا تلوم جعفرًا، أو نفسك لأنك كثفت القصائد الخمس في قصيدة واحدة قصيرة، وقرأتها بطريقة جعفرية لا تخلو من الخبث والمؤامرة، ولؤم القطط، ولأن جعفرًا يستطيع أن يمتلك اللحظة امتلاكًا كاملًا مجردًا إياها بذكاء واقتدار من فعالية المحيط وتأثيراته المتباينة، خاصة عندما يكتب حرفًا من قصائده الخمس، وبيتًا كاملًا فيما يقل من عام، فإنه ينعى نفسه محررًا إياها من قوة الجسد والمادة إلى أن تصبح: لا طعم، لا رائحة، لا أحد، لا ارتباطات إنسانية، أو حيوانية، أو شيئية أخرى، إذًا قصيدة جعفر تنفي روحه، روحه ذاتها وكمالها، وكنت تعرف عن جعفر أنه ينكر قصائده بمجرد الانتهاء من كتابتها، ينكرها ثلاث مرات متتابعة، فهل كان جعفر شاعرًا، أم كان حالة قصيدية من هلام الكلام واللغة؟ فما كان لصبية مثل مُنى، أو صبي كرياك أن يحددا لجعفر إطارًا يعرفانه به، أو يستمعان إليه، أو يريانه، أو قل يغطسانه، وأنت لا تريد أن تقول لهما الحقيقة المطلقة في شأنه، لكنك تحاول أن تحررهما تدريجيًّا إلى أن تكتمل حريتهما، ويستطيعان حينها أن يقولا للشخص، حينها: جعفر هو! دون أن يشعرا بغثيان أو دوار بحر، ولا حتى صداع خفيف، مثل الذي يصيب رياك كلما التقى جعفرًا، أو ناقشه، فالمسألة مسألة حرية، أو كما كان يؤكد جعفر مختار، إعادة صياغة وتأكد، للموجود المعطى، أي تثمين للمجان وتبخيس النفيس.

جاءك مرة أخرى عبد الله ووالده إبراهيم أيضًا، ومن وجهيهما عرفت أنهما فرغا لتوهما من مشاجرة أو مشاحنة ساخنة، فتحدثت مع الولد متجاهلًا الوالد، ليس لأن الأب أضاع فرصة أن يكون إنسانًا فعليًّا، وقضى العمر في تفاهات الأكل والشرب والنكاح. لا، لكن لأنه بكل خبث وبلادة ضيع الفرصة على أبنائه؛ لذا لم تحترمه وأنت تعرف أنه لا يحترمك؛ لأنك ابن حرام — على حسب تعبيره — ولولا شغف ابنه بابنتك، وإلحاح الابن بالزواج، لما وطئت قدمه عتبة بيتك، قال لك بعد صمت طويل: ماذا بشأن البنت؟

أيضًا قلت موجهًا حديثك لعبد الله وأنت تضيء ظلمات، في الحق هي في ذهنك أنت، عصية.

حدثته عن أنثروبولوجيا الذكاء، تكلمت عن الذكاء الاجتماعي للدنكا، وقدراتهم الخطيرة على العمل الجماعي النملي، والحس النملي أيضًا تجاه الآخر — حيًّا أو ميتًا — رقي التعامل الإنساني، علاقات الحب، الزواج، الميلاد، الممات، طبيعة الجنوب وحلم الجنوبي وظمئه، الأخطار، الأنهر، آبار البترول غير المعروفة لغير حركة الأرض السرية، عن السماء والأشجار، أباب دير، الأفيال، المستنقعات، وغنيت لهم أغنية الصيد الوفير، قلت لهم: قلبُ المرأة الجنوبية يسع مئات من الأفيال الأفريقية، وكل هذا القلب مليء بالحب لرجل واحد، ووطن واحد، حدثتهم عن نعومة فخذيها السوداوين، وامتلائهما بالأطفال والأناشيد واللذة، عن زغب عنقها ومقدرتها غير المتناهية على خلق نشوة جنسية خاصة بها هي وحدها، وقلت لهم كيف كانت تقبلك في ذات الآن الذي تفكر فيه، في طول الطفل الذي ستلده، سعة عينيه، ذكائه، ومقدرته على الجري ألفي متر دون أن تزداد دقات قلبه دقة واحدة، وعن رأيه في الحرب بالجنوب، هل سيقف مع جيوش الحكومة كأخيه رياك، أم يقف مع جيش الغابة كخاله ماجوك، أم أنه يكون رأيًا ضد الحرب بشكل حاسم ونهائي مثلي أنا أبيه، ومثل جعفر، جعفر مختار، قلت لهم: تستطيع مليكة شول مادنق أن تنجب عشرة أطفال دفعة واحدة، وتدير دولة، وبإمكانها أيضًا أن تتذكر لعبتها المحبوبة بين أنقاض قريتها المحترقة، حدثتهم كيف في إمكان مليكة شول مادنق أن تنيم طفلها الرضيع وهي تغني له أغاني الحرب، وتحكي له عن مذبحة أطفال قريتها وشيوخها، وعن رحيل الأفيال والزرافات والنمور بعيدًا إلى بلاد أخرى آمنة، وعن جفاف أباب دير، قلت أيضًا: من غير مليكة يمكنها أن تنجب مثل طفلتك الجميلة مُنى؟ أو شخصًا متناقضًا كرياك؟

قلت: ماتت مليكة وفي ردفيها أجمل الأطفال، وفي خاطرها مشوار، في عينيها وطن، وفي قلبها رصاصة، قلت: كانت ترى أن الله يقف مع الجانبين في ذات المعركة، وذات الموقف، قلت: في مليكة رقة الغزلان وذكاء النمور، خصوبة أباب دير وشراسة اللبوءة.

ثم قلتَ قبل أن تشعل سيجارة، وتطفئها: بمليكة شول مادنق امرأتان، مريم العذراء ومريم المجدلية، ولا تنكر أنك تميزتَ من الغيظ عندما قال لك إبراهيم: نحن نريد مُنى، وليس مليكة شول، من هي مليكة شول؟

أهي زوجتك الجنوبية، أم اسم ابنتك برطانة زوجتك؟

تذكرت جعفرًا، جعفر مختار، عندما كانت مُنى صغيرة، كان جعفر يأخذها من كتفيها الصغيرين ويقذف بها بعيدًا في الهواء، يتلقاها، ثم مرة أخرى يقذف بها مرة أخرى، وكانت تضحك من قلبها وقد أعجبتها اللعبة، وكان يقول لك: أبناء الريح هؤلاء في غاية الجمال، إنهم أجمل منا جميعًا، لكن من يأتي بعدهم هم أيضًا أجمل منهم! وعيبهم الوحيد هو أنهم لا يعيشون حياتهم بجدية، إنهم يخافون الحُرية، حُريتهم الذاتية، قلت لإبراهيم مستنكرًا: ما هو عملك؟

وكنت تعرف أنه يعمل بالجيش برتبة عميد، وتعرف بالتفصيل متى تجند ونمرته العسكرية، مرتبه، علاواته، وكل صغيرة وكبيرة عن أسرته. سألته أيضًا: هل كنت عربيدًا سكيرًا وداعرًا عندما كنت في جوبا؟

سألته: كم جرائم الحرب التي ارتكبتها؟

كم طفلًا ذبحت؟

فغضب غضبًا شديدًا وهتف في وجه ابنه: أترى، أي امرأة تريد أن تربطنا بها، أي أهل؟

وهمَّ بالخروج وكنت باردًا كالثلج، ودخل جعفر فجأة، حيَّاه وفي فمه ابتسامة، ثم خاطبه قائلًا: لا تغضب يا سيادة الجنرال، لا تغضب، اجلس.

فجلس وجلس ابنه أيضًا، قال له جعفر: هل ابنتك ياسمين بخير؟

قال بهدوء: بخير، إذًا لا بأس أن تصبح زوجة لرياك في الخميس القادم.

قال بهدوء وأدب: كما تشاء.

قال جعفر: وغدًا أيضًا سنرسل لكم مُنى زوجًا لابنك عبد الله؟

قال بهدوء وبراءة: كما تشاء.

ثم سأله جعفر عن أحواله وأحوال أسرته وأحزان زوجته، وما إذا كانت لا تزال تحس بآلام في المهبل إذا غاب عنها يومين.

ثم سأله إن كان قد غير رأيه في الحرب القائل بأن مشكلة الجنوب والشمال لا تُحل إلا بإبادة كل الجنوبيين وغاباتهم، وحيواناتهم، وتجفيف المستنقعات، حتى تتفرغ الحكومة للتنمية واستخراج البترول.

ثم قال لهما جعفر، جعفر مختار: تغديا معنا، لقد أحضرت بعض أسماك البلطي قبل لُحيظات من النهر، ثم قال جعفر لإبراهيم: حدثنا عن الحرب، عن خطط الحكومة المستقبلية وتوقعاتك لمجريات الحرب في الخريف القادم، وهل هنالك حقًّا خريف قادم؟

قال إبراهيم، الجندي القديم، قال وقد اعتدل في جلسته وبدا وجهه غريبًا وشديد السواد: سأحدثكم، سأحدثكم عن كل هذا، بحديثي عن رجل واحد، رجل قابلته اسمه جعفر، جعفر مختار.

ثم حاول أن يتذكر ملامحه أو أي شيء عنه، لكنه لم يستطع.

خشم القربة
١ / ٢ / ١٩٩٧م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤