مقدمة

سؤال: كم عدد السرياليين الذين تقتضي الضرورةُ تغييرَهم مصباحًا كهربائيًّا؟
الجواب: سمكة.

كل إنسان على دراية بمعلومة ما عن الدادائية والسريالية. وُلِدت الدادائية عام ١٩١٦، وبحلول أوائل العشرينيات أضحت ظاهرةً فنية دولية سَعَتْ إلى قلب الأفكار البرجوازية التقليدية في الفن. في الغالب، كانت تلك الحركة مناوِئةً بشَكْل جريء للفن، والأهم من ذلك كله أن المشاركين فيها — أمثال: مارسيل دوشامب، وفرانسيس بيكابيا، وتريستان تزارا، وهانز آرب، وكورت شفيترز، وراءول هاوسمَن — وضعوا حبَّهم للمُفارقة والوقاحة في مقابل جنون العالَم الذي جُنَّ جنونه، وذلك بينما كانت الحرب العالمية الأولى تستعر في أوروبا.

نشأتِ السريالية، الوريث الفني للدادائية، رسميًّا عام ١٩٢٤، وأمست فعليًّا ظاهرةً عالمية بحلول الفترة التي تداعَتْ فيها في أربعينيات القرن العشرين. الْتَزم الفنانون السرياليون — أمثال: ماكس إرنست، وسلفادور دالي، وخوان ميرو، وأندريه ماسون — بوجهة النظر القائلة بأن الطبيعة البشرية غير عقلانية في جوهرها، ودخلوا في علاقةِ حبٍّ للتحليل النفساني، شَابَها الاضطرابُ كثيرًا، بغيةَ الكشف عن أسرار العقل البشري.

بالنسبة إلى كثيرين، لم تكن الدادائية والسريالية حركتين قائمتين بذاتيهما في تاريخ الفن خلال القرن العشرين بقدْر ما كانت كلٌّ منهما «فنًّا حديثًا» متجسدًا. فالدادائية تُرى بوصفها متمرِّدةً وميَّالة للمواجهة والصدام؛ أما السريالية فاعتُبِرت بالمِثْل مناوِئةً للبرجوازية في جوهرها، لكنها كانت أكثر انغماسًا فيما هو غريب وعجيب. ولكنْ، لماذا الدادائية والسريالية؟ ما السر وراء ارتباط كلٍّ منهما بالأخرى؟ إنهما حركتان منفصلتان، ومع ذلك دائمًا ما يَخلِط الناس بينهما. وَجَد مؤرخو الفن أنه من الملائم تبنِّي التعميم القائل بأن الدادائية «مهَّدت الطريق» أمام السريالية، ولو أن هذا المفهوم لم يكن ينطبق إلَّا على مكان واحد حقًّا من الأماكن التي شاعت فيها الدادائية، أَلَا وهو باريس. لا شك أن هذا الكتاب سيتناول هذه المسألة مجددًا، لكنه سيعرض هاتين الحركتين على اعتبار أنهما مختلفتان بشكل متمايِز بحيث يمكن وضع الواحدة منهما في مواجهة الأخرى؛ على سبيل المثال: عادةً ما استمتعَتِ الدادائيةُ بفوضى الحياة العصرية وتشظِّيها، بينما أخذت السريالية على عاتقها مهمةً أكثرَ إصلاحًا؛ حيث حاولَتْ خلْقَ منهجيةٍ جديدة، وجعلت الإنسانَ العصري يتواصل مجددًا مع قوى اللاوعي. ومثل هذه الاختلافات تتصل بتمايُزات مهمة سَعَيْتُ إلى إيضاحها قَدْر الإمكان.

تَشِيع الدادائية والسريالية الآن أكثر من أي حركة أخرى من الحركات الفنية المنتمية إلى القرن الماضي في ثقافتنا إجمالًا، والسرياليةُ تحديدًا دخلت إلى لغتنا اليومية؛ فنحن نتكلم عن «الدعابة السريالية» أو «الحبكة السريالية» لفيلمٍ ما؛ وتعني هذه الاستمراريةُ تحديدًا أنه من الصعب وضْعُهما على مسافة واحدة منَّا في «التاريخ». لقد أصبحت الروايات النقدية والتاريخية للحركتين أكثر تعقيدًا بلا شك؛ فالدادائية، التي ربما يُنظَر إليها على اعتبار أنها مناهضة للفكر الأكاديمي، تُدرَّس الآن بالجامعات على نطاق واسع. وبالمِثْل، أمست الدراسات المعنِيَّة بالفنانين المشاهير السيئي السمعة، مثل دالي ورينيه ماجريت، موجودةً في كل مكان؛ لكنْ كثيرًا ما تكون وفرةُ المعلومات مثيرةً للحيرة، فنفقد المسافة الحَرِجة الفاصلة.

ولمَّا كُنْتُ على دراية بهذه المشكلة، فقد أقمتُ بِنْية هذا الكتاب استنادًا إلى قضايا موضوعية أساسية. يرسم الفصل الأول التطوُّرَ التاريخي للدادائية والسريالية، ويتعامل مع الفرضيات المتعلقة بالتعامل معهما معًا. أما الفصل الثاني فيبحث بتفصيلٍ الطريقةَ التي نشرت بها الحركتان أفكارَهما، لا سيما فيما يتعلق بالأحداث العامة والمنشورات؛ وخلال هذه العملية، يتضح أن الحركتين أقامتَا حوارًا بين الفن والحياة. يمحِّص الفصل الثالث عن كثبٍ مسائلَ جماليةً، مع التركيز على الشِّعْر وتجميعات الصور (الكولاج) ومونتاج الصور الفوتوغرافية، والرسم، والتصوير، وصنع الأشياء، والأفلام. إن القضايا المتعلقة بمعاداة الفن السائد ووضْعِ كلِّ حركةٍ منهما في سياق النقاشات الجمالية الحداثية مهمةٌ جدًّا هنا. ويسلِّط الفصلان الأخيران الضوءَ على الأبحاث الأخيرة التي أَجريتُها أنا وغيري بما يتَّسِق مع المنظورات التاريخية الحالية الخاصة بالحركتين، وسوف أفحص التوجُّهات الدادائية والسريالية نحو مجموعة من الموضوعات الرئيسية، بدايةً من اللاعقلانية وحتى الغريزة الجنسية، وسينصبُّ تركيزي على جوانبهما السياسية. ويُختتَم الكتابُ ببعض التأمُّلات الخاصة بالحياة الآخِرة للحركتين، لا سيما في سياق علاقتهما بالفن الحديث.

كان اهتمامي الرئيس ينصبُّ على طرح الأسئلة الخاصة بالدادائية والسريالية المتوافقة مع انشغالاتنا الثقافية المعاصرة؛ على سبيل المثال: تُعتبَر الهوية — سواء أكانت العِرْقية أم الجنسية — مسألةً ذات أهمية محورية لكثيرٍ منَّا، وكان الفنانون السرياليون، أمثال المصور الفرنسي كلود كاهون والرسَّام الكوبي ويفريدو لام، رائدين في تعاطيها، لكن من أَجْل تقدير قوة اهتمامهم، من الضروري إعادةُ خلْقِ السياقات التي استجاب هؤلاء الفنانون لها. وبالمثل، بالنظر إلى الشهرة الحالية للسريالية في الثقافة عمومًا (على سبيل المثال: الانتشار الشاسع لأعمال دالي على الملصقات)، من الآمِن الافتراضُ أن الجوانب الأكثر «ظلمةً» اللاواعية لحيواتنا النفسية التي احتفت بها الدادائية والسريالية؛ تُعتبَر حاليًّا على نطاق واسع أشياءَ «إيجابيةً». ولكن، في الثقافات التي كانت الفاشية فيها قوية في فترة من الفترات، يشكِّك كثيرون في فضائل الاستسلام للاعقلانية، بينما ذهب النقاد الحداثيون إلى أنه مهما اعتَبَر أتباعُ الدادائية والسريالية أنفسَهم مُعادِين للبرجوازية، فقد ساعدوا ببساطةٍ في بَسْط نطاق الخبرة، التي استطاعت الثقافةُ البرجوازية استيعابَها، على منظومة القِيَم الخاصة بهما. في «ثقافتنا ما بعد الحداثية»، نسارع جميعًا بإضفاء طابع جمالي على دوافعنا ونوازعنا الأكثر إظلامًا، ويمحص هذا الكتاب الجذورَ التاريخية لمثل هذه التوجُّهات، ويوضح السببَ في أنها كانت «راديكالية» في فترة من الفترات، كما يوضح السياقات التي كانت فيها كذلك. وخلال هذه العملية، ستُثار أسئلة عن دوافعنا الشخصية لا محالة.

إن هذا الضرب من الاستقصاء الذي لا يُضفِي المثاليةَ على الدادائية والسريالية بضرورة الحال، لكنه يسعى إلى بيان علةِ كونهما إلى الآن قوتَيْن فاعلتَيْن في ثقافتنا؛ يبدو مُلِحًّا تحديدًا بالنظر إلى مدى التأثُّر البالغ للفن المعاصر بهاتين الحركتين. ومن الممكن بيان ذلك بالنظر إلى أي عمل من أعمال سارة لوكاس، واحدة من أبرز الفنانين البريطانيين في تسعينيات القرن العشرين.

تكشف أعمال لوكاس استمرارَ الرغبةِ في الإذهال، التي كانت في فترة من الفترات سمةً مميزة للدادائية. في الوقت نفسه، تستخدِم لوكاس بدائلَ أو إزاحات للصور الجسمانية التي كانت من قبلُ عُملةً للسريالية. تعول أعمالها ضمنًا على إنجازات أتباع الدادائية والسريالية أمثال مارسيل دوشامب ومان راي ورينيه ماجريت. ولكنْ، أتؤكِّد أعمالُ لوكاس ببساطة على أن الصدمة المميزة للدادائية أمسَتْ راسخةً؟ أم إن أعمالها تُبنَى على هذا التقليد بطريقة مهمة من المنظور الثقافي؟

يبدو لي أن هذا هو نوع الأسئلة الذي يمكن أن يُثِيره الانخراط المعاصر في تداعيات الدادائية والسريالية. وفي نهاية هذا الكتاب، من المفترض أن نكون قادرين على الإجابة عنها. وعلى الرغم من ذلك، فالمهمة المحورية للفصول التالية هي بيان الخطوط التاريخية والموضوعية الأساسية للدادائية والسريالية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤