الفصل الأول

في الأناجيل الأربعة ومؤلفيها ورسالتها

لم يترك يسوع أثرًا مكتوبًا، بل تعاليم شفوية وسيرة حياة، لقد تكلَّم وعاش وكانت الجماعات المسيحية الأولى تتناقل أقواله وسيرة حياته كما وصلت إليها عن طريق تلاميذ يسوع الذين رأوه وسمعوه، ومارسوا تبشيرهم وهم تحت تأثير شخصيته وطريقة عيشه وأعماله. وعندما مات معظم أفراد هذا الجيل حاملين معهم ذكرياتهم وانطباعاتهم المباشرة، وطفت على السطح الخلافات والتناقضات داخل الكنيسة الأولى، ظهرت الحاجة إلى تدوين سيرة يسوع وتعاليمه، بهدف تثبيت المعتقد المسيحي من جهة، وتوكيد وجهة نظر هذه الجماعة أو تلك من جهةٍ أخرى، ويبدو أن إنجيل مرقس كان أقدم الأناجيل، حيث يُجمع دارسو العهد الجديد على أنه قد دُوِّن نحو عام ٧٠م، تلاه إنجيلا متَّى ولوقا اللذان دُوِّنا خلال الفترة الواقعة بين عامي ٧٠ و٩٠م، ثم إنجيل يوحنا الذي دُوِّن في زمنٍ ما خلال الفترة الواقعة بين عام ٩٠ وعام ١١٠م.

إلى جانب هذه الأناجيل الأربعة، التي اعتُبرت وحدها قانونية فيما بعد، فقد تداول المسيحيون خلال القرون الأولى الميلادية عددًا كبيرًا من الأناجيل والرؤى والأعمال التي دعيت منحولة فيما بعد، ومُنع المسيحيون من قراءتها وتداولها، تتضمن الكتابات المنحولة روايات عن ميلاد يسوع وطفولته ويفاعته، مما يغطي الفترة التي تجاهلتها الأناجيل الأربعة من حياة يسوع، وروايات عن مريم العذراء وميلادها وحياتها، وأخرى عن تاريخ يوسف النجار، وغيرها من الموضوعات التي كان الخيال الشعبي والتقوى المسيحية البسيطة بحاجةٍ إليها، وعلى الرغم من بقاء هذه الكتابات المنحولة على هامش العهد الجديد، فإنها مارست تأثيرًا كبيرًا على الفن التشكيلي المسيحي، والموسيقى الكنسية، والمناسبات والأعياد الدينية، إن مغارة الميلاد التي ما زالت تُصوَّر حتى يومنا هذا على بطاقات أعياد الميلاد ورأس السنة، ليست إلا تقليدًا باقيًا من تقاليد الميلاد المنحولة.

إلى جانب هذه المؤلفات المنحولة ذات الطابع التقوي الشعبي، ظهر نوعٌ آخر من الأناجيل والمؤلفات الغنوصية أحدثت شرخًا حقيقيًّا في الكنيسة المبكرة، وإذا كانت الكنيسة القويمة١ قد تجاهلت النوع التقوي الشعبي من الأناجيل والمؤلفات المنحولة لأسبابٍ شتى أهمها امتلاؤها بالعجائب والغرائب والمعجزات، فإنها حرمت المؤلفات الغنوصية باعتبارها هرطقة وتجديفًا وخطرًا على الإيمان المسيحي.

في هذا الفصل سوف نركز على الأناجيل الأربعة القانونية؛ لأنها عماد المسيحية التي نعرفها اليوم، ونبحث في مؤلفيها وبنيتها ومضمونها، مع التركيز على وجهتي النظر التي تطرحها بخصوص حياة يسوع وشخصيته وتعاليمه، تتبدى وجهة النظر الأولى في الأناجيل الثلاثة المدعوة بالإزائية والمتشابهة، وهي متَّى ومرقس ولوقا، أما وجهة النظر الثانية فتتبدى في إنجيل يوحنا، الذي يعتبر نسيج وحده بين الأربعة.

(١) الأناجيل الإزائية

عزيت هذه الأناجيل إلى أسماء من العصر الرسولي، هم على التوالي: متَّى ومرقس ولوقا، ويبدو أن عناوين هذه الأناجيل، التي تقول: الإنجيل بحسب متَّى، أو بحسب مرقس، أو بحسب لوقا، قد وضعت بعد تأليفها بزمنٍ طويل، وذلك لإضفاء السلطة والمصداقية عليها، إن أقدم إشارة إلى متَّى ومرقس بوصفهما مؤلفين لإنجيليهما قد وردت لدى أوزيبوس القيساري Eusibius Of Caesarea، الذي عاش في القرن الرابع الميلادي ووضع في تاريخ الكنيسة كتابًا اعتمد في أخباره عن الإنجيليين على الأسقف بابياس Papias الذي عاش في القرن الثاني الميلادي. يقول بابياس بأن متَّى كان أول من جمع تعاليم يسوع في مؤلفٍ دعاه «بالأقوال» Logia، كتبه بالآرامية، ثم قام الآخرون بترجمته كلٌّ حسب مقدرته، ونحن لا نعرف بالفعل ما إذا كان هذا الكتاب هو نفسه إنجيل متَّى المعروف، والذي يحتوي على أكثر من مجرد أقوال وتعاليم يسوع، ولا ندري ما إذا كان متَّى «الأقوال» هذا هو نفسه متَّى العشار تلميذ يسوع. وفي الحقيقة فإن معظم الباحثين في العهد الجديد، منذ القرن التاسع عشر، يشكون بنسبة إنجيل متَّى إلى متَّى العشار تلميذ يسوع، ولكن هذا الخبر عن «الأقوال» أو «اللوجيا» يلفت نظرنا إلى حقيقة مهمة تتعلق بتأليف الأناجيل، وهي أن المؤلفين قد اعتمدوا مجموعةً أو أكثر لأقوال يسوع، ثم وضعوا لها مناسباتٍ معينة، وشبكوا هذه المناسبات إلى بعضها في سياق كرونولوجي لتعطي الانطباع بسيرة مطردة، وقد بقي لنا نموذج عن مثل هذه «الأقوال» التي لم تتحول إلى سيرة، وذلك في إنجيل توما، الذي يحتوي على ١١٤ قولًا ليسوع دون ذكر مناسباتها أو سياقها الكرونولوجي في حياة يسوع، الذي يبدو هنا خارج أي سياقٍ دنيويٍّ، ومعلمًا يهدي إلى العرفان في جمل قصيرة ومكثفة.

ثم يقدم لنا بابياس هذا مرقسًا باعتباره مرافقًا لبطرس في رحلاته التبشيرية، ويقول بأن مرقس قد سجل ما سمعه من بطرس عن حياة وأقوال يسوع، على الرغم من أنه لم يرَ يسوع ولم يسمع منه مباشرة. أما عن الإنجيل الثالث فإن أقدم إشارة تربطه بلوقا تأتي من أول كاتالوج للعهد الجديد في نهاية القرن الثاني الميلادي، ولوقا هذا، شأنه شأن مرقس، شخصيةٌ غامضةٌ وغير واضحة المعالم، ونحن لم نعرف عنهما إلا من إشارات متفرقة في سفر أعمال الرسل، وفي رسائل بولس.

وبشكلٍ عام، هنالك شبه إجماع بين دارسي العهد الجديد، على أنه على الرغم من الاسم الرسولي لكاتب الإنجيل الأول، فإن مؤلفي الأناجيل الثلاثة لم يروا يسوع ولم يسمعوا منه مباشرة، وإنما كتبوا أناجيلهم باللغة اليونانية بعد مضي جيلٍ أو جيلين على وفاة يسوع، اعتمادًا على ذكرياتٍ ومعلوماتٍ غير مباشرة، وربما توفرت لواحدٍ منهم أو أكثر مجموعة أقوال ليسوع دوَّنها مؤلفٌ مجهول الهوية. ويبدو من المعلومات التي يوردونها عن فلسطين عصر يسوع، عدم معرفتهم بجغرافية وطبوغرافية وبيئة فلسطين، من ذلك مثلًا ما ورد في إنجيل مرقس ٥١٧: ١ وإنجيل لوقا ٨: ٢٦، عن ممسوس في كورة (أو ناحية) الجدريين (نسبة إلى بلدة جدرة الجليلية) أخرج يسوع منه شياطين كثيرة كانت تعذبه، ولكن الشياطين استأذنت يسوع أن تدخل في قطيع من الخنازير كان يرعى في الجوار، فأذن لها، وعندما حلت الشياطين في الجزيرة اهتاجت واندفعت من على الجرف إلى بحر الجليل وغرقت، والمعروف أن بلدة جدرة كانت تقوم على مسافةٍ بعيدةٍ جدًّا عن بحر الجليل، بحيث إذا أرادت الخنازير أن تصل إليه كان عليها أن تطير لا أن تقفز.٢

دُعيت هذه الأناجيل الثلاثة بالإزائية؛ لأنها تعكس وجهة نظر واحدة في حياة يسوع ورسالته؛ ولأن القصة فيها تسير عبر مفاصل رئيسية متقابلة، بحيث نستطيع المقارنة بينها عن طريق وضعها إزاء بعضها بعضًا في أعمدة ثلاثة. لننظر مثلًا إلى حادثة شفاء يسوع لحماة بطرس في الأناجيل الثلاثة، ونرى كيف تتقابل الروايات عندما نضعها في ثلاثة أعمدة إزائية.

متَّى ٨ مرقس ١ لوقا ٤
(١٤) وجاء يسوع إلى بيت بطرس فرأى حماته ملقاة على الفراش محمومة. (٢٩) ولما خرجوا من المجمع جاءوا إلى بيت سمعان وأندرواس. (٣٨) ثم ترك المجمع ودخل بيت سمعان. وكانت حماة سمعان مصابة بحمى شديدة فسألوه أن يسعفها.
(٣٠) وكانت حماة سمعان في الفراش محمومة فأخبروه بأمرها.
(١٥) فلمس يدها ففارقتها الحمى فنهضت وأخذت تخدمهم. (٣١) فدنا منها فأخذ بيدها وأنهضها ففارقتها الحمى وأخذت تخدمهم. (٣٩) فانحنى عليها وزجر الحمى، ففارقتها فنهضت من وقتها وأخذت تخدمهم.
ولكن المقابلة بين الأناجيل الإزائية ليست دومًا على هذه الدرجة من الدقة، ذلك أن إنجيل مرقس هو الأقصر بينها والأشد اختصارًا، وهو يبدأ من ظهور يوحنا المعمدان وتعميده للناس في نهر الأردن، ومجيء يسوع للاعتماد على يديه، وهو يتجاهل تمامًا ميلاد يسوع وطفولته ونسبه، على عكس الإنجيلَين الآخرين اللذين يبتدئان بروايتين مطولتين ومختلفتين عن الميلاد، ثم ينفرد لوقا بإيراد قصة يسوع وهو فتًى في الثانية عشرة من عمره يناقش شيوخ الهيكل، وبينما يزيد طول إنجيل متَّى على ٦٠٪ من طول إنجيل مرقس، فإن إنجيل لوقا يزيد على إنجيل مرقس بمقدار ٧٠٪، هذا وتشكِّل المادة التي قدمها مرقس قاسمًا مشتركًا بين متَّى ولوقا، عالجاها على هذه الدرجة أو تلك من التطوير والإطالة، ولكن الإنجيلين يشتركان أحيانًا بإيراد أحداثٍ أو أقوالٍ لم ترد عند مرقس، وقد ينفرد أحدهما بمادةٍ غير موجودة في الآخر، وهذا ما دعا الباحثين في العهد الجديد إلى الاستنتاج بأن إنجيل مرقس هو تأليف أصلي مستقل اعتمده كل من متَّى ولوقا، فنظم مادته بشكلٍ خاصٍّ به، وأضاف إليها مادةً مستمدةً من مرجعٍ آخر مجهول ومشترك بينهما أيضًا دعوه ﺑ «كويلا» Quella، وهي كلمةٌ ألمانيةٌ تعني «المصدر».

وإليكم هذه المقارنة الثانية:

مرقس ٨ متَّى ١٦ لوقا ٩
(٢٧) ثم ذهب يسوع وتلاميذه إلى قرى قيصرية فيليبس، فسأل في الطريق تلاميذه: من أنا على حد قول الناس؟ (١٣) ولما وصل يسوع إلى نواحي قيصرية فيليبس، سأل تلاميذه: من هو ابن الإنسان على حد قول الناس؟ (١٨) واتفق أنه كان يصلي في عزلةٍ، والتلاميذ معه، فسألهم: من أنا على حد قول الجموع؟
(٢٨) فأجابوه: يوحنا المعمدان، والبعض يقول إيليا، وآخرون أحد الأنبياء. (١٤) فقالوا: بعضهم يقول هو يوحنا المعمدان، وبعضهم يقول هو إرميا أو أحد الأنبياء. (١٩) فأجابوه: يوحنا المعمدان، وبعضهم يقول إيليا، آخرون نبي من الأولين قام.
(٢٩) فسألهم: ومن أنا على حد قولكم أنتم؟ (١٥) فقال لهم: ومن أنا على حد قولكم أنتم؟ (٢٠) فقال لهم: ومن أنا على حد قولكم أنتم؟
(٣٠) فأجاب بطرس: أنت المسيح، فنهاهم أن يخبروا أحدًا بأمره. (١٦) فأجاب سمعان بطرس: أنت المسيح ابن الله الحي. (٢١) فأجاب بطرس مسيح الله، فنهاهم بشدةٍ أن يخبروا أحدًا بذلك.
(١٧) فأجابه يسوع: طوبى لك يا سمعان ابن يونا، فليس اللحم والدم كشفا لك هذا، بل أبي الذي في السموات، وأنا أقول لك: أنت صخر، وعلى هذا الصخر سأبني كنيستي فلن تقوى عليها أبواب الجحيم، وسأعطيك مفاتيح ملكوت السموات … ثم أوصى تلاميذه بألا يخبروا أحدًا بأنه المسيح.

نلاحظ من هذه المقارنة أن الإضافة التي انفرد بها متَّى تخدم أهدافه، فليس الإعلاء من شأن بطرس هنا إلا انتصارًا من قبل متَّى لكنيسة الختان التي كان بطرس داعيتها الرئيسي، على حساب كنيسة الأمم التي كان بولس داعيتها الرئيسي.

فإذا تابعنا المقارنة السابقة وجدنا لوقا الذي عوَّدنا على التفصيل والإفاضة، يهمل ما تلا ذلك من تفريع يسوع لبطرس.

مرقس ٨ متَّى ١٦ لوقا ٩
(٣٢) ثم بدأ يعلمهم أن ابن الإنسان يجب عليه أن يعاني آلامًا شديدة، وأن يرذله الشيوخ والأحبار والكتبة وأن يقتل، وأن يقوم في ثلاثة أيام. (٢١) وبدأ يسوع من ذلك اليوم يُظهر لتلاميذه أنه يجب عليه الذهاب إلى أورشليم ويلقى أشد الآلام من الشيوخ والأحبار والكتبة، ويُقتل ويقوم في اليوم الثالث. (٢٢) وقال: يجب على ابن الإنسان أن يعاني آلامًا شديدة، وأن يرذله الشيوخ والأحبار والكتبة وأن يُقتل ويقوم في اليوم الثالث.
(٣٢) وكان يقول هذا الكلام صراحةً فانفرد به بطرس وراح يعاتبه. (٢٢) فانفرد به بطرس وجعل يعاتبه فيقول: حاشاك يا رب من هذا المصير.
(٣٣) فالتفت فرأى تلاميذه، فزجر بطرس وقال: اذهب عني يا شيطان لأن أفكارك ليست أفكار الله بل أفكار البشر. (٢٣) فالتفت وقال لبطرس: سر خلفي يا شيطان، فأنت عقبة دوني؛ لأن أفكارك ليست أفكار الله بل أفكار البشر.

(٢) بين إنجيل مرقس والإنجيلَين الآخرين

لعل أكثر ما يلفت النظر في مسألة الفروق بين الأناجيل الإزائية، هو الإطار الزمني الذي تجري فيه أحداث الرواية، فإنجيل مرقس الأكثر اختزالًا بينها يفتتح روايته، كما ألمحنا سابقًا، بالظهور العلني ليوحنا المعمدان وتعميده بالماء لمغفرة الخطايا، وهو يتجاهل تمامًا عنصر الحبل العذري بيسوع وقصة ميلاده وطفولته، فيسوع يظهر فجأة عندما يأتي من الناصرة ليتعمد على يدي يوحنا. وفي النسخ القديمة لإنجيل مرقس يختتم المؤلف روايته عندما هربت النساء الثلاث اللواتي أتين إلى قبر يسوع مذعورات؛ لأنهن لم يجدن الجثمان، وقال لهن الملاك الواقف في الداخل إن يسوع قد قام من بين الأموات، وإنه سيسبق تلاميذه إلى الجليل، وهذا ما يرجح في رأي بعض الباحثين أن قصة الميلاد العذري، وكذلك ظهورات المسيح المتكررة لتلاميذه، وارتفاعه أخيرًا إلى السماء أمام أعينهم، ممَّا ورد في النسخ اللاحقة للإنجيل، هي عناصر مقحمة على النص الأصلي.

أما متَّى فإنه يزيد على مرقس مقدمة تتعلق بنسب يسوع من ناحية يوسف النجار، فيعرض سلسلةً تبتدئ بإبراهيم وتنتهي بيوسف زوج مريم، مرورًا بالملك داود، ثم ينتقل بعد ذلك إلى قصة الميلاد، وفي النهاية يقدِّم لنا خاتمةً تتجاوز خاتمة مرقس لتقص باختصارٍ عن ظهورات يسوع بعد القيامة، وأما لوقا فإنه يمد القصة في كلا الاتجاهين، فقبل أن يتحدث عن الميلاد وعن نسب يسوع، يورد لنا قصة ميلاد يوحنا المعمدان التي تتساوق أحداثها مع قصة ميلاد يسوع، ثم يزيد على قصة الميلاد حادثة زيارة الأبوين للهيكل، وبقاء يسوع الفتى هناك يجادل الشيوخ الذين أدهشتهم حكمته. وفي نهاية إنجيله يقدم لنا لوقا خاتمةً طويلة عن قيامة المسيح وظهوراته، تحتوي على العديد من العناصر التي لم ترد عند متَّى.

(٣) الميلاد بحسب متَّى

الإصحاح الأول

(١) نسب يسوع المسيح ابن داود ابن إبراهيم.

(٢) فإبراهيم وَلَدَ إسحاق، وإسحاق وَلَدَ يعقوب، ويعقوب وَلَدَ يهوذا وإخوته. (٣) ويهوذا وَلَدَ فارص وزارح من تامار، وفارص وَلَدَ حصرون، وحصرون وَلَدَ آرام. (٤) وآرام وَلَدَ عميناداب، وعميناداب وَلَدَ نحشون، ونحشون وَلَدَ سلمون. (٥) وسلمون وَلَدَ بوعز من راحاب، وبوعز وَلَدَ عوبيد من راعوث، وعوبيد وَلَدَ يسي. (٦) ويسي وَلَدَ الملك داود، وداود وَلَدَ سليمان من امرأة أوريا. (٧) وسليمان وَلَدَ رحبعام، ورحبعام ولد أبيا، وأبيا ولد آسا. (٨) وآسا وَلَدَ يهوشافاط، ويهوشافاط وَلَدَ يورام، ويورام وَلَدَ عُوزيا، وعُوزيا وَلَدَ يوتام. (٩) ويوتام وَلَدَ آحاز، وآحاز وَلَدَ حزقيا (١٠) وحزقيا وَلَدَ منسي، ومنسي وَلَدَ آمون، وآمون وَلَدَ يوشيا. (١١) ويوشيا وَلَدَ يكينا وأخوته في أثناء الجلاء إلى بابل. (١٢) ويكينا وَلَدَ شألتئيل، وشألتئيل وَلَدَ زرُبابل. (١٣) وزرُبابل وَلَدَ أبيهود، وأبيهود وَلَدَ أليقايم، وأليقايم وَلَدَ عازور. (١٤) وعازور وَلَدَ صادوق، وصادوق وَلَدَ آخيم، وآخيم وَلَدَ أبيهود. (١٥) وأبيهود وَلَدَ عازر، وعازر وَلَدَ متان، ومتان وَلَدَ يعقوب. (١٦) ويعقوب وَلَدَ يوسف زوج مريم والدة يسوع الذي يقال له المسيح. (١٧) فجملة الأجيال من إبراهيم إلى داود أربعة عشر جيلًا، ومن داود إلى الجلاء إلى بابل أربعة عشرة جيلًا، ومن الجلاء إلى بابل إلى المسيح أربعة عشر جيلًا.

(١٨) أما ميلاد يسوع المسيح، فهذا خبره: لما كانت مريم أمه مخطوبة ليوسف، وُجدت حاملًا من الروح المقدس قبل أن يتساكنا. (١٩) وكان يوسف زوجها بارًّا فلم يرد أن يشهر أمرها، فعزم على تركها سرًّا. (٢٠) وفيما هو متفكرٌ في ذلك تراءى له ملاك الرب في الحلم وقال له: يا يوسف ابن داود، لا تخف أن تجيء بامرأتك مريم إلى بيتك؛ لأن الذي تحمله هو من الروح القدس. (٢١) وستلد ابنًّا فسمه يسوع؛ لأنه هو الذي يخلص شعبه من خطاياهم. (٢٢) وإنما حدث هذا كله ليتم ما أوحى الرب إلى النبي القائل. (٢٣) هو ذا العذراء تحبل وتلد ابنًا يدعى عمانوئيل، أي الله معنا. (٢٤) فلما قام يوسف من النوم، فعل ما أمره به ملاك الرب فجاء بامرأته إلى بيته. (٢٥) على أنه لم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر فسماه يسوع.٣

الإصحاح الثاني

(١) ولما ولد يسوع في بيت لحم اليهودية على عهد الملك هيرود، قدِم أورشليم مجوس من المشرق. (٢) وقالوا: أين هو المولود ملك اليهود؟ فقد رأينا نجمه طالعًا في المشرق فجئنا لنسجد له. (٣) فلما بلغ الخبر هيرود اضطرب واضطربت أورشليم كلها معه. (٤) فجمع الأحبار وكتبة الشعب، واستخبرهم أين يولد المسيح. (٥) فقالوا له: في بيت لحم اليهودية، فقد أُوحي إلى النبي فكتب: (٦) «وأنت يا بيت لحم أرض يهوذا، لست الصغيرة في ولايات يهوذا، فمنك يخرج والٍ يرعى شعبي إسرائيل.» (٧) فدعا هيرود المجوس سرًّا وتحقق منهم في أي وقت ظهر النجم. (٨) ثم بعثهم إلى بيت لحم وقال: اذهبوا وافحصوا بالتدقيق عن الطفل، فإذا وجدتموه فأخبروني لأذهب أنا أيضًا وأسجد له. (٩) فلما سمعوا كلام الملك انصرفوا، وإذا النجم الذي رأوه طالعًا يتقدمهم حتى بلغ المكان الذي فيه الطفل فوقف فوقه. (١٠) فلما أبصروا النجم فرحوا فرحًا عظيمًا جدًّا. (١١) ودخلوا البيت فرأوا فيه الطفل وأمه مريم فجثوا له ساجدين، ثم فتحوا حقائبهم وأهدوا إليه ذهبًا وبخورًا ومُرًّا. (١٢) ثم أُوحي إليهم في الحلم ألا يرجعوا إلى هيرود، فانصرفوا سالكين طريقًا آخر إلى بلادهم.

(١٣) وكان بعد انصرافهم أن تراءى ملاك الرب ليوسف في الحلم، وقال له: قم فاهرب بالطفل وأمه إلى مصر وأقم فيها حتى أُعلمك؛ لأن هيرود سيبحث عن الطفل ليهلكه. (١٤) فقام وسار بالطفل وأمه ليلًا ولجأ إلى مصر. (١٥) فأقام فيها إلى أن تُوفِّي هيرود، لكي يتم ما أُوحي إلى النبي فقال: «من مصر دعوت ابني.»

(١٦) أما هيرود فلما رأى أن المجوس سخروا منه، استشاط غضبًا وأرسل فقتل كل طفل في بيت لحم وسائر أراضيها، من ابن سنتين فما دون ذلك، بحسب الوقت الذي تحققه من المجوس. (١٧) فتم ما أُوحي إلى النبي إرميا فقال (١٨): «صراخ سُمع في الرامة، بكاء ونحيب، راحيل تبكي بنيها، وتأبى أن تتعزى لأنهم زالوا من الوجود.»

(١٩) وما أن تُوفِّي هيرود حتى تراءى ملاك الرب في حلمٍ ليوسف في مصر. (٢٠) وقال له: اذهب بالطفل وأمه وارجع إلى أرض إسرائيل، قد مات من كان يريد إهلاك الطفل. (٢١) فقام فذهب بالطفل وأمه ورجع إلى أرض إسرائيل. (٢٢) فسمع أن أرخلاوس قد خلف أباه هيرود على اليهودية فخاف أن يذهب إليها. (٢٣) فأوحى إليه في الحلم، فلجأ إلى الجليل وجاء إلى مدينة يقال لها الناصرة فسكن فيها ليتم ما أُوحي إلى الأنبياء فقالوا: «وإنه ناصريًّا يدعى.»

(إلى هنا وتتوقف سيرة يسوع عند متَّى حتى ظهور يوحنا المعمدان وقدوم يسوع للاعتماد على يدَيه، حيث يقول متَّى في الإصحاح ٣):

(١٣) ثم ظهر يسوع فجأة من الجليل إلى الأردن قاصدًا يوحنا ليعتمد على يده. (١٤) فجعل يوحنا يمانعه فيقول: أنا أحتاج إلى الاعتماد على يدك، فكيف تجيء أنت إليَّ؟ (١٥) فأجابه يسوع: دعني الآن وما أفعل فهكذا يحسن بنا أن نتم بكل بر. فكف عن ممانعته. (١٦) واعتمد يسوع وخرج لوقته من الماء فإذا السموات قد انفتحت فرأى روح الله يهبط كأنه حمامة وينزل عليه. (١٧) وإذا صوت من السماء يقول: «هذا هو ابني الحبيب الذي عنه رضيت.»

•••

يطرح مطلع إنجيل متَّى المتعلق بنسب المسيح أولى المداخلات اليهودية في الإنجيل، فسلسلة النسب عبر خط الذكور تتألف عنده من أربعة عشر جيلًا مقسمةً على ثلاث مجموعات: الأولى من إبراهيم إلى داود، والثانية من داود إلى يكنيا (ويدعى كيناهو، ويهوياكين، وهو واحدٌ من أواخر ملوك يهوذا)، والثالثة من يكنيا إلى يسوع عبر يوسف، فيسوع هو ابن داود، وهو المسيح اليهودي المنتظر. ولكن سلسلة نسب يسوع هذه تتهاوى كبيتٍ من ورق، عندما ينهيها متَّى بخاتمةٍ تنسفها من حيث الأصل فبدلًا من أن يتابع سلسلته على طريقة «أ» أنجب «ب»، و«ب» أنجب «ج»، و«ج» أنجب «د»، وصولًا إلى نهايتها المنطقية التي يجب أن تكون: «ويعقوب أنجب يوسف، ويوسف أنجب يسوع»، وهذا ما يتناقض مع فكرة الحمل العذري من الروح القدس، فقد أنهاها متَّى على الشكل التالي: «ويعقوب أنجب يوسف زوج مريم والدة المسيح»، وهذه الخاتمة على غموضها تشير إلى أن يسوع ليس الابن الجسدي ليوسف، وفي هذه الحالة يبقى السؤال الذي لم يجب عليه متَّى مطروحًا، وهو: «كيف يكون يسوع ابنًا لداود عبر هذه السلسلة الطويلة، على الرغم من أنه ليس الابن الجسدي ليوسف؟ هذا على فرض صحة نسب يوسف لداود، وهي مسألة سوف نثيرها فيما بعد.

أمَّا قصة الميلاد نفسها فتحتوي على أخطرِ المُداخَلات اليهودية في الإنجيل، وهي المُداخَلة التي رسَّخت الأصلَ اليهودي ليسوع، فأسرةُ يسوع ليسَت أسرةً جليلية مُتهوِّدة، بل هي أسرةٌ يهودية من مدينة بيت لحم الواقعة في مُقاطَعة اليهودية، ويسوع وُلد في بيتٍ عادي من بيوتِ بيت لحم؛ حيث قصَده المجوسُ هناك وسجدوا له وقدَّموا الهدايا، ولكي يعطي قصته هذه مصداقية، نراه يقتبس من العهد القديم نبوءة حول المسيح المنتظر، ولكنه يعدِّلها بطريقةٍ تخدم أهدافه عندما يقول بأن ميلاد يسوع في بيت لحم يهوذا قد حقق النبوءة القديمة القائلة: «وأنت يا بيت لحم أرض يهوذا، لست الصغيرة في ولايات يهوذا، فمنكِ يخرج والٍ يرعى شعبي إسرائيل.» وفي الحقيقة فإن النبوءة الوحيدة التي يمكن أن تتطابق مع ما اقتبسه متَّى، هي الواردة في سفر ميخا ٥: ٢ والتي تقول: «أما أنت يا بيت لحم أفراتة، وأنت صغيرة أن تكوني بين ألوف يهوذا، فمنك يخرج لي الذي يكون متسلطًا على إسرائيل ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل.» وبما أن «أفراتة» التي يذكرها هذا النص تقع في منطقة الجليل، على ما نفهم من عدة مواضع في سفر التكوين، وفيها تقع مدينة بيت لحم الجليلية التي كان مؤلف متَّى يعرفها جيدًا، فقد عمد إلى التلاعب بنص العهد القديم وحوَّل بيت لحم أفراتة الصغيرة على أن تكون بين ألوف يهوذا، إلى بيت لحم أرض يهوذا التي ليست أصغر ولايات يهوذا، ومنها يخرج والٍ يرعى شعب إسرائيل وهذه نقطة سوف نعود إليها بالتفصيل لاحقًا.

ولكي يبرر متَّى وجود أسرة يسوع في الجليل ونشأته وتبشيره هناك، فإنه يبتكر قصة هرب العائلة المقدسة إلى مصر؛ خوفًا من هيرود الذي كان يبحث عن الطفل ليقتله، وعندما تُوفِّي هيرود، ويسوع ما زال طفلًا صغيرًا، عاد يوسف ليسكن مع عائلته في موطنه الأصلي بيت لحم، ولكنه عرف لدى وصوله إلى أرخيلاوس، قد خلف أباه هيرود على حكم اليهودية، فخاف ونزح بعائلته إلى الجليل حيث سكن في مدينة الناصرة، وهنا يبتكر متَّى نبوءة لم ترد في أيِّ موضعٍ من أسفار العهد القديم عندما قال: «فسكن فيها ليتم ما أوحي إلى الأنبياء فقالوا: إنه ناصريًّا يُدعى.»

ومن ناحيةٍ أخرى فقد كان لمتَّى من وراء قصة قيام هيرود بقتل كل المواليد في بيت لحم، على أمل أن يكون يسوع بينهم، هدفٌ لاهوتيٌّ بعيد المرامي، فيسوع هو موسى الجديد، معلم إسرائيل القديم في حلةٍ جديدةٍ، فكما أمر فرعون في سفر الخروج بقتل كل المواليد العبرانيين الذكور إبان الوقت الذي ولد فيه موسى، كذلك يأمر الفرعون الجديد، وهو الملك هيرود الشرير، بقتل كل مواليد بيت لحم، ولكن يسوع ينجو مثلما نجا موسى عندما أودعته أمه في سلةٍ ورمته إلى نهر النيل (سفر الخروج ١ و٢).

وسواء في قصة الميلاد الافتتاحية أم في بقية إنجيل متَّى، يحاول المؤلف على الدوام إثبات المطابقة بين يسوع وبين مسيح العهد القديم، من خلال إيراد الأقوال النبوية التوراتية، وتوجيهها لتنطبق على سيرة يسوع، فهو يولد من عذراء تحقيقًا لنبوءة إشعياء ٧: ١٤: «هو ذا العذراء تحبل وتلد ابنًا يدعى عمانوئيل …» ويكون مولده في بيت لحم تحقيقًا لنبوءة ميخا ٥: ٢: «وأنت يا بيت لحم أرض يهوذا … إلخ.» وهيرود يقتل مواليد بيت لحم تحقيقًا لنبوءة إرميا ٣١: ١٥: «صراخ سُمع في الرامة، بكاء ونحيب، راحيل تبكي على بنيها …» والعائلة المقدسة تلجأ إلى مصر تحقيقًا لنبوءة هوشع ١١: ١: «من مصر دعوت ابني.» وهو يسكن في كفر ناحوم، بعد الناصرة، تحقيقًا لنبوءة إشعيا ٩: ٢: «أرض زبولون وأرض نفتالي، طريق البحر، عبر الأردن جليل الأمم، الشعب القاعد في الظلمة أبصر نورًا باهرًا.» ويوحنا المعمدان يبدأ مهمته التبشيرية قبل يسوع، تحقيقًا لنبوءة ملاخي ٣: ١: «ها أنا ذا أرسل رسولي قدامك ليعد الطريق أمامك.» ويسوع يكلم مستمعيه بالأمثال تحقيقًا لنبوءة وردت في المزمور ٧٧: ٢: «أنطق بالأمثال وأعلن ما كان خفيًّا.» وهو يطرد الأرواح الشريرة من الممسوسين ويشفي المرضى، تحقيقًا لنبوءة إشعيا ٥٣: ٤: «أخذ أمراضنا وحمل أسقامنا.» وروح الرب يحلُّ عليه ليبشر الأمم، تحقيقًا لنبوءة إشعيا ٤٢: ١-٢: «هو ذا فتاي٤ الذي اخترته حبيبي الذي رضيت عنه، سأفيض روحي عليه فيبشر الأمم بالحق.» وتتتابع هذه النبوءات عبر حياة يسوع التبشيرية وصولًا إلى مشهد الصلب، عندما سقوه خلًّا فيه مرارة ليشربها، ثم اقترعوا على ثيابه، حيث تم هذا تحقيقًا لما ورد في المزمور ٦٩: ٢١: «ويجعلون في طعامي علقمًا، وفي عطشي يسقونني الخل.» ولما ورد في المزمور ٢٢: ١٨: «ثقبوا يدي ورجلي، أُحصي كل عظامي، وهم ينظرون ويتفرسون، يقسمون ثيابي بينهم، وعلى لباسي يقترعون.»

(٤) الميلاد بحسب لوقا

الإصحاح الأول

(٥) كان في عهد هيرود ملك اليهودية كاهن اسمه زكريا من فرقة أبيَّا، له امرأة من بنات هارون اسمها أليصابات. (٦) وكانا كلاهما بارين عند الله سالكين في جميع وصايا الرب وأحكامه، ولا غبار عليهما. (٧) ولم يكن لهما ولدٌ لأن أليصابات كانت عاقرًا، وقد طعنا كلاهما في السن. (٨) وبينما هو يكهن لدى الله في نوبة فرقته. (٩) أُلقيت القرعة جريًا على سنة الكهنوت، فأصابته ليدخل هيكل الرب ويحرق البخور. (١٠) وكانت جماعة الشعب كلها تصلي في خارج المذبح عند إحراق البخور. (١١) فتراءى ملاك الرب قائمًا عن يمين مذبح البخور. (١٢) فاضطرب زكريا حين رآه، واستولى عليه الخوف. (١٣) فقال له الملاك: يا زكريا لا تخف، إن دعاءك قد سُمع، وستلد امرأتك ابنًا فسمه يوحنا. (١٤) وستلقى فرحًا وابتهاجًا، ويفرح بمولده أناسٌ كثيرون. (١٥) لأنه سيكون عظيمًا لدى الرب ولن يشرب الخمر ولا مسكرًا، ويمتلئ من الروح القدس وهو في بطن أمه. (١٦) ويهدي كثيرًا من بني إسرائيل إلى الله ربهم. (١٧) ويتقدمه روح إيليا وقوته، ليعطف بقلوب الآباء على الأبناء، ويرجع العصاة إلى حكمة الأبرار، فيعد للرب شعبًا صالحًا. (١٨) فقال زكريا للملاك: بمَ أعرف هذا، وأنا شيخٌ كبير وامرأتي طاعنة في السن؟ (١٩) فأجابه الملاك: أنا جبرائيل القائم في حضرة إله، أُرسلت إليك لأبلغك هذه البشرى. (٢٠) وستصاب بالخرس فلا تستطيع الكلام إلى يوم يحدث ذلك لأنك لم تؤمن بكلامي، وكلامي سيتم في أوانه. (٢١) وكان الشعب ينتظر زكريا متعجبًا من إبطائه في الهيكل. (٢٢) فلما خرج لم يستطع أن يكلمهم فعرفوا أنه رأى رؤيا في الهيكل، وكان يخاطبهم بالإشارة وبقي أخرس. (٢٣) فلما انتهت أيام خدمته انصرف إلى بيته. (٢٤) وبعد تلك الأيام حبلت امرأته أليصابات، فكتمت أمرها خمسة أشهر وكانت تقول: (٢٥) هذا ما آتاني الرب من فضله يوم عطف عليَّ، فأزال عني العار من بين الناس.

(٢٦) وفي الشهر السادس أرسل الله الملاك جبرائيل إلى مدينةٍ في الجليل تدعى الناصرة. (٢٧) إلى عذراء مخطوبة لرجل من بيت داود اسمه يوسف، واسم العذراء مريم. (٢٨) فدخل إليها فقال: السلام عليك أيتها الممتلئة نعمة، الرب معك. (٢٩) فاضطربت لهذا الكلام وقالت في نفسها ما معنى هذا. (٣٠) فقال لها الملاك: يا مريم لا تخافي قد نلت حظوةً عند الله. (٣١) فستحملين وتلدين ابنًا تسمينه يسوع. (٣٢) فيكون عظيمًا وابن العلي يدعى، ويوليه الله ربنا عرش داود أبيه. (٣٣) ويملك على بيت يعقوب أبد الدهر، ولن يكون لملكه انقضاء. (٣٤) فقالت مريم للملاك: أنى يكون هذا وأنا لست أعرف رجلًا؟ (٣٥) فأجابها الملاك إن الروح القدس يحل عليك، وقدرة العلي تظللك؛ لذلك يكون المولود قدوسًا وابن الله يدعى. (٣٦) وإن قريبتك أليصابات قد حبلت هي أيضًا بابنٍ في شيخوختها، وهذا هو الشهر السادس لتلك التي كانت تدعى عاقرًا. (٣٧) فما من شيءٍ يعجز الله. (٣٨) فقالت مريم: أنا أمة الرب فليكن لي كما قلت. وانصرف الملاك من عندها.

(٣٩) وفي تلك الأيام مضت مريم تجدُّ السير إلى الجبل إلى مدينة يهوذا [أورشليم]. (٤٠) ودخلت بيت زكريا فسلمت على أليصابات. (٤١) فلما سمعت أليصابات سلام مريم ارتكض الجنين في بطنها، وامتلأت أليصابات من الروح القدس. (٤٢) فهتفت بأعلى صوتها: مباركةٌ أنت بين النساء ومباركةٌ ثمرة بطنك. (٤٣) أنى لي أن تأتيني أم ربي؟ (٤٤) فما أن وقع صوت سلامك في مسمعي حتى اهتز الجنين طربًا في بطني. (٤٥) فطوبى لك يا من آمنت بأن ما بلغها من عند الرب سيتم. (٤٦) فقالت مريم: تعظم الرب نفسي. (٤٧) وتبتهج روحي بالله مخلصي. (٤٨) لأنه عطف على أمته الحقيرة، سوف تهنئني جميع الأجيال. (٤٩) لأن القدير آتاني فضلًا عظيمًا قدوس اسمه. (٥٠) ورحمته للذين يتقونه من جيلٍ إلى جيل. (٥١) كشف عن شدة ساعده فشتت ذوي القلوب المستكبرة. (٥٢) أنزل الأعزاء عن العروش ورفع الأذلاء. (٥٣) أشبع الجياع من الخيرات وصرف الأغنياء فارغين. (٥٤) نصر عبده إسرائيل. (٥٥) فتذكر ما وعد به آباءنا من رحمةٍ لإبراهيم وذريته إلى الأبد.

(٥٦) ومكثت مريم عندها نحو ثلاثة أشهر ثم عادت إلى بيتها. (٥٧) وأما أليصابات فلما حان موعد ولادتها وضعت ابنًا. (٥٨) فسمع جيرانها وأقاربها بأن الرب رحمها رحمةً عظيمة ففرحوا معها. (٥٩) وجاءوا في اليوم الثامن ليختنوا الطفل وسموه باسم أبيه زكريا. (٦٠) فاعترضت أمه وقالت: لا بل يسمى يوحنا. (٦١) قالوا: ليس في قرابتك من تسمَّى بهذا الاسم. (٦٢) وسألوا أباه بالإشارة ماذا يريد أن يُسمي. (٦٣) فطلب لوحًا وكتب: اسمه يوحنا، فتعجبوا كلهم. (٦٤) فانفتح فمه من ساعته وانطلق لسانه فتكلم وبارك الله. (٦٥) فاستولى الخوف على جيرانهم أجمعين وتحدث الناس بجميع هذه الأشياء في جبال اليهودية كلها. (٦٦) وكان كل من سمع بذلك يحفظه في قلبه قائلًا: ما عسى أن يكون هذا الطفل؟ فإن يد الرب كانت معه. (٦٧) وامتلأ أبوه زكريا من الروح القدس فأنبأ قال:

(٦٨) تبارك الله إله إسرائيل لأنه تفقد شعبه وافتداه. (٦٩) فأقام لنا قرن خلاص في بيت عبده داود. (٧٠) كما وعد بلسان أنبيائه الأطهار في العهد القديم. (٧١) إنقاذًا لنا من أعدائنا وأيدي جميع مبغضينا. (٧٢) ورحمة لآبائنا وذكرًا لعهده المقدس. (٧٣) والقسم الذي أقسمه لأبينا إبراهيم بأن ينعم علينا. (٧٤) فننجو من أيدي أعدائنا. (٧٥) ونعبد بالتقوى والبر غير خائفين طوال أيام حياتنا. (٧٦) وأنت أيها الطفل ستدعى نبي العلي لأنك تتقدم الرب لتعد طرقه. (٧٧) وتعلم شعبه أن الخلاص هو في غفران خطاياهم. (٧٨) تلك رحمةٌ من لطف إلهنا يتفقدنا لها الشارق من العلى. (٧٩) ليضيء للقاعدين في الظلمة وظلال الموت ويسدد خطانا لسبيل السلام.

(٨٠) وكان الطفل ينمو وتزكو روحه وأقام في البراري إلى أن ظهر لإسرائيل.

الإصحاح الثاني

(١) وفي ذلك الزمان، أمر القيص أغسطس بإحصاء جميع أهل المعمورة. (٢) وجرى هذا الإحصاء الأول؛ إذ كان كيرينيوس حاكمًا في سورية. (٣) فذهب جميع الناس ليكتتب كل واحد في مدينته. (٤) وصعد يوسف أيضًا من الجليل من مدينة الناصرة إلى اليهودية إلى مدينة داود التي تدعى بيت لحم، فقد كان من بيت داود وذريته. (٥) ليكتتب ومريم خطيبته وكانت حاملًا. (٦) وبينما هما فيها حان وقت ولادتها. (٧) فولدت ابنها البكر وقمطته وأضجعته في مذودٍ لأنه لم يكن لهما موضع في الفندق.

(٨) وكان في تلك الناحية رعاة يبيتون في البرية يتناوبون السهر في الليل على رعيتهم. (٩) ففاجأهم ملاك الرب وأشرق مجد الرب حولهم فخافوا خوفًا شديدًا. (١٠) فقال لهم الملاك: لا تخافوا إني أبشركم بفرحٍ عظيم يعم الشعب بأجمعه. (١١) ولد لكم اليوم مخلصٌ في مدينة داود وهو المسيح الرب. (١٢) وإليكم هذه العلامة: ستجدون طفلًا مقمطًا مضجعًا في مذود. (١٣) وانضم إلى الملاك بغتة جمهورٌ من جند السماء يسبحون الله فيقولون: (١٤) المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة.

(١٥) فلما انصرف الملائكة عنهم إلى السماء قال الرعاة بعضهم لبعض: هلم بنا إلى بيت لحم فنرى هذا الحدث الذي أنبأنا به الرب. (١٦) وجاءوا مسرعين فوجدوا مريم ويوسف والطفل مضطجعًا في المذود. (١٧) فجعلوا بعدما رأوا الطفل يخبرون بما قيل لهم فيه. (١٨) فصار كل من سمع الرعاة يعجب مما حدَّثوه به. (١٩) وكانت مريم تحفظ جميع هذه الأمور وتتأملها في قلبها. (٢٠) ورجع الرعاة وهم يمجدون الله، ويسبحونه على كل ما سمعوا ورأوا كما أُنبئوا.

(٢١) ولما بلغ يومه الثامن وهو اليوم الذي يجب أن يُختن فيه، سُمي يسوع، كما سماه الملاك قبل أن يُحبل به. (٢٢) ولما حان يوم طهورهما بحسب شريعة موسى صعدا به إلى أورشليم ليقرباه إلى الرب. (٢٣) كما تقضي شريعة الرب من أن كل بكر ذكر ينذر للرب. (٢٤) وليقربا ما تفرضه شريعة الرب: زوجي يمام أو فرخي حمام. (٢٥) وكان في أورشليم رجلٌ بار تقي اسمه سمعان، ينتظر الفرج لإسرائيل، والروح القدس نازلٌ عليه. (٢٦) وكان الروح القدس قد أوحى إليه أنه لا يذوق الموت قبل أن يرى مسيح الرب. (٢٧) فأتى إلى الهيكل بوحيٍ من الروح ولما دخل بالطفل أبواه ليؤديا عنه ما تفرضه الشريعة. (٢٨) حمله على ذراعيه وبارك الله ثم قال: (٢٩) رب أطلق الآن عبدك بسلام وفاقًا لقولك. (٣٠) فقد رأت عيناي ما أعددته من خلاصٍ. (٣١) للشعوب كلها. (٣٢) نورًا لهداية الأمم ومجدًا لشعبك إسرائيل. (٣٣) وكان أبوه وأمه يعجبان مما يقال فيه. (٣٤) وباركهما سمعان ثم قال لأمه مريم: إنه جُعل لسقوط كثير من الناس وقيام كثير منهم في إسرائيل وآية ينكرونها. (٣٥) وأنت سينفذ سيف في نفسك لتنكشف الأفكار عن قلوب كثيرة.

(٣٦) وكان هناك نبيَّة هي حنة ابنة فانوئيل من سبط أشير، طاعنة في السن، عاشت مع زوجها سبع سنوات بعد بكارتها. (٣٧) ثم بقيت أرملة فبلغت الرابعة والثمانين من عمرها لا تفارق الهيكل متعبدة بالصوم والصلاة ليل نهار. (٣٨) فحضرت في تلك الساعة وأخذت تحمد الله وتحدث بأمر الطفل كل من كان ينتظر فداء أورشليم.

(٣٩) ولما أتما جميع ما تفرضه شريعة الرب، رجعوا إلى الجليل إلى مدينتهم الناصرة. (٤٠) وكان الطفل ينمو ويترعرع ويمتلئ حكمةً وكانت نعمة الله عليه.

(٤١) وكان أبواه يذهبان إلى أورشليم كل سنة في عيد الفصح. (٤٢) فلما بلغ اثنتي عشرة سنة صعدوا إليها جريًا على السنة في العيد. (٤٣) فلما انقضت أيام العيد ورجعا بقي الصبي يسوع في أورشليم من غير أن يعلم أبواه. (٤٤) وكانا يظنان أنه في القفلة فسارا مسيرة يوم ثم أخذا يبحثان عنه عند الأقارب والمعارف. (٤٥) فلما لم يجداه رجعا إلى أورشليم يبحثان عنه. (٤٦) فوجداه بعد ثلاثة أيام في الهيكل جالسًا في حلقة العلماء يستمع إليهم ويسألهم. (٤٧) وكان جميع سامعيه في حيرة من ذكائه وجواباته. (٤٨) فلما أبصراه دهشا فقالت له أمه: يا بني لمَ صنعت بنا ذلك؟ فأنا وأبوك نبحث عنك متلهفين. (٤٩) فقال لهما: ولمَ بحثتما عني؟ ألم تعلما أنه يجب عليَّ أن أكون عند أبي؟ (٥٠) فلم يفهما الكلمة التي قالها. (٥١) ثم نزل معهما وعاد إلى الناصرة وكان طائعًا لهما. (٥٢) وكانت أمه تحفظ كل شيء في قلبها، وكان يسوع يتسامى في الحكمة والقامة والحظوة عند الله والناس.

•••

هذه هي قصة الميلاد المطولة عند لوقا، والتي لم يفتتحها على طريقة متَّى بسلسلة نسب يسوع، الأمر الذي يدل على أنه لم يولِها الأهمية التي أولاها متَّى، ولكن لوقا لم يتجاهل تمامًا نسب يسوع بل أورده لاحقًا، وبعد أن جعل يسوع يعتمد على يد يوحنا المعمدان، عندما هبط عليه الروح القدس فهو يقول:

(٢٢) ونزل الروح القدس عليه في صورة جسمٍ كأنه حمامة، وأتى صوتٌ من السماء يقول: «أنت ابني الحبيب الذي عنه رضيت.» (٢٣) وكان يسوع في بدء رسالته في نحو الثلاثين من عمره، وكان الناس يحسبونه ابن يوسف ابن عالي. (٢٤) ابن متثات بن لاوي بن ملكي بن ينَّا بن يوسف (٢٥) بن متاثيا بن عاموص بن ناحوم بن حسلي بن نجاي (٢٦) بن مآث بن متاثيا بن شمعي بن يوسف بن يهوذا (٢٧) بن يوحنا بن ريسا بن زرُبابل بن شألتئيل بن نيري (٢٨) بن ملكي بن أدي بن قطم بن ألمودام بن عير (٢٩) بن يوسي بن أليعازر بن يوريم بن متثات بن لاوي (٣٠) بن شمعون بن يهوذا بن يوسف بن يونان بن أليقايم بن مليا بن مينان بن متاثا بن ناثان بن داود (٣٢) بن يسي بن عوبيد بن بوعز بن سلمون بن نحشون (٣٣) بن عميناداب بن آرام بن حصرون بن فارص بن يهوذا (٣٤) بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم بن تارح بن ناحور (٣٥) بن سروح بن رعو بن فالج بن عابر بن شالح (٣٦) بن قينان بن أرفكشاد بن سام بن نوح بن لامك (٣٧) بن متوشالح بن أخنوخ بن يارد بن مهلئيل بن قينان (٣٨) بن أنوش بن شيت بن آدم ابن الله.

على الرغم من أن سلسلة نسب يسوع عند لوقا تربط يسوع بداود كما هو الحال عند متَّى، إلا أنها تضيف عنصرًا لاهوتيًّا مهمًّا، فهي إذ تبدأ بالاتجاه المعاكس لاتجاه سلسلة متَّى، أي من يسوع ويوسف لا من إبراهيم وإسحاق، فإنها تتجاوز إبراهيم إلى بدء الخليقة إلى آدم ابن الله، وبذلك يتقاطع لوقا هنا مع تعاليم بولس بخصوص شمولية رسالة يسوع باعتباره آدم الثاني، فآدم الأول قد وهب الإنسانية الموت، أما آدم الثاني فقد وهبها الحياة.

ومع ذلك فإن الجملة الاستهلالية التي ابتدأ بها لوقا سلسلة النسب عندما قال: «وكان الناس يحسبونه ابن يوسف ابن عالي» تجعل السلسلة تتهاوى أيضًا كبيتٍ من ورق مثلما تهاوت سلسلة متَّى في خاتمتها عندما قال: «ويعقوب ولد يوسف زوج مريم والدة المسيح»، ولم يقل: «ويعقوب وَلَدَ يوسف، ويوسف وَلَدَ يسوع»، فيسوع ليس الابن الجسدي ليوسف، وسلسلة النسب هذه لا معنى لها في الواقع، يضاف إلى ذلك أن السلسلتين غير متفقتين في حلقاتهما، ويبدو التناقض بينهما جليًّا ابتداءً من الجد المباشر ليسوع، الذي يورد اسمه لوقا على أنه عالي، بينما يورد اسمه متَّى على أنه يعقوب، ويبدو لنا الاختلال واضحًا إذا وضعنا السلسلتين في مقابل بعضهما لغرض المقارنة، بعد أن نقلب سلسلة متَّى لجعلها متوازية مع سلسلة لوقا.

سلسلة متَّى سلسلة لوقا
يوسف بن يعقوب يوسف بن عالي
ومتان وَلَدَ يعقوب بن مثتات بن لاوي
وعازر وَلَدَ متان بن ملكي بن ينا
وأليهود وَلَدَ عازر بن يوسف بن متَّاثيا
وأخيم ولد أليهود بن عاموص بن ناحوم
وصادوق ولد أخيم بن حسلي بن نجاي
وعازور ولد صادوق بن مآث بن متَّاثيا
وألياقيم ولد عازور بن شمعي بن يوسف
وأبيهود ولد ألياقيم بن يهوذا بن يوحنا
وزربابل ولد أبيهود بن ريسا بن زرُبابل
وشألتئيل ولد زرُبابل بن شألتئيل بن نيري
ويكينا ولد شألتئيل بن ملكي بن أدي
ويوشيا ولد يكينا بن قصم بن المود
ومنسي ولد آمون بن عير بن يوسي
وحزقيا ولد منسي بن اليعازر بن يوريم
وآحاز ولد حزقيا بن متثات بن لاوي
ويوتام ولد آحاز بن شمعون بن يهوذا
وعوزيا ولد يوتام بن يوسف بن يونان
ويورام ولد عوزيا بن ألياقيم بن مليا
ويوشافاط ولد يورام بن مينان بن متاثا
وآسا ولد يوشافاط بن ناثان بن داود
وآبيا ولد آسا بن يسي بن عوبيد
ورحبعام ولد آبيا بن بوعز بن سلمون
وسليمان ولد رحبعام بن نحشون بن عميناداب
وداود ولد سليمان بن آرام بن حصرون
ويسِّي ولد داود بن فارص بن يهوذا
وعوبيد ولد يسِّي بن يعقوب بن إسحاق
وبوعز ولد عوبيد بن إبراهيم بن تارح
وسلمون ولد بوعز بن ناحور بن سروج
ونحشون ولد سلمون بن رعو بن فالج
وعميناداب ولد نحشون بن عابر بن شالح
وآرام ولد عميناداب بن قينان بن أرفكشاد
وحصرون ولد آرام بن سام بن نوح
وفارص ولد حصرون بن لامك بن متوشالح
ويهوذا ولد فارص بن أخنوخ بن يارد
ويعقوب ولد يهوذا بن مهلئيل بن قينان
وإسحاق ولد يعقوب بن أنوش بن شيت
وإبراهيم ولد إسحاق بن آدم ابن الله

إن المقارنة البسيطة بين هاتين السلسلتين تُظهر مدى اختلافهما وتباينهما حتى لكأنهما وضعتا لشخصيتين منفصلتين لا لشخصيةٍ واحدة ثابت نسبها. ولو كانت إحدى السلسلتين تختلف عن الأخرى ببضعة أسماء، لقلنا إن إحداهما على خطأ والأخرى على صواب، أما وأنهما تختلفان في كل حلقاتهما تقريبًا فلا يمكننا إلا القول بأنهما على خطأ كليهما، وأن محاولة ربط نسب يسوع بالملك داود ليس إلا مداخلة يهودية من شأنها الإقلال من أهمية الحبل البتولي من ناحية، والتوكيد على أن مسيح الإنجيل هو الذي حقق مسيح التوراة على مسرح التاريخ من ناحية ثانية.

أما قصة الميلاد نفسها فتختلف عناصرها في لوقا اختلافًا بيِّنًا عنها في متَّى، فقد لعب يوسف الدور الرئيسي في قصة ميلاد متَّى التي تقدمه كرجل حكيم عاقل، تصرف بهدوء عندما عرف أن خطيبته مريم حامل، فلم يشأ أن يشهر أمرها بين الناس وعزم على تركها سرًّا، ولكن ملاك الرب ظهر له في الحلم، وقال له أن يحتفظ بامرأته؛ لأن الذي تحمله هو من روح القدس، وأن عليه أن يسمي مولودها يسوع، وبعد ولادة الطفل يهرب بعائلته إلى مصر؛ خوفًا من الملك هيرود الذي كان يطلب إهلاك يسوع. ثم يعود بعد وفاة هيرود ليجد أن ابنه أرخيلاوس قد خلفه على حكم اليهودية، فيرحل إلى الجليل حيث يستقر في مدينة الناصرة. أما عند لوقا فإن الدور الرئيسي تلعبه مريم، فالملاك يظهر لمريم في اليقظة لا في المنام، ويدخل عليها ملقيًا السلام كأي زائر عادي، وعندما تضطرب من دخوله المفاجئ ومن تحيته يطمئنها ويبشِّرها بأنها ستحمل من الروح القدس، وأن عليها أن تسمي ابنها يسوع، كما ينقل إليها خبر حمل قريبتها العاقر أليصابات زوجة الكاهن زكريا بمولود ذكر، ولا نعرف بعد ذلك كيف عرف يوسف بخبر الحمل ولا عن ردة فعله تجاه ذلك، ثم نجدهما معًا في أورشليم قادمين من ناصرة الجليل للاكتتاب في بيت لحم حيث وضعت مريم مولودها.

بعد ذلك نجد مريم تعيش حياتها الخاصة بحرية، ودون أي إشارة إلى أسرتها، فبعد سماعها خبر حمل قريبتها أليصابات تترك مدينتها في الجليل وتتوجَّه لزيارة أليصابات في مقاطعة اليهودية، قاطعة مسافاتٍ طويلة ووعرة وشاقة، حيث مكثت عندها ثلاثة أشهر إلى أن وضعت مولودها ثم قفلت راجعة.

يجعل لوقا من ناصرة الجليل موطنًا أصليًّا ليوسف ومريم، ولكنه يضطرهما إلى القدوم إلى بيت لحم اليهودية من أجل الاكتتاب فيها، فقد أمر القيصر أغسطس بإحصاء جميع أهل الإمبراطورية، وجرى هذا الإحصاء عندما كان كيرينيوس واليًا على سورية، فذهب جميع الناس ليكتتب كل واحدٍ في مدينته، وصعد يوسف أيضًا من مدينته الناصرة إلى اليهودية إلى مدينة داود التي تدعى بيت لحم، فقد كان من بيت داود وذريته ليكتتب ومريم خطيبته وكانت حاملًا، وبينما هما فيها حان وقت ولادتها فولدت ابنها البكر فقمطته وأضجعته في مذود؛ لأنه لم يكن لهما موضع في الفندق بسبب كثرة القادمين إلى المدينة للاكتتاب. وفي الحقيقة، فإن الإحصاء الروماني للسكان قد جرى في عهد كيرينيوس فعلًا، ولكن في عام ٦ للميلاد على ما نعرف من السجلات الرومانية، فإذا كان يسوع وفق لوقا قد ولد في هذا العام، فإن تاريخ ميلاده يأتي متأخرًا بأكثر من عشر عنه وفق متَّى، الذي جعله في عام ٦ قبل الميلاد، أي قبل عامين من وفاة هيرود؛ ولهذا لا نجد في قصة لوقا مكانًا لمذبحة أطفال بيت لحم، ولا لهرب العائلة المقدسة إلى مصر ثم عودتها منها بعد وفاة هيرود.

يتحول مجوس متَّى الذين رأوا نجم يسوع طالعًا في المشرق، ثم تقدمهم ليرشدهم إلى البيت الذي ولد فيه يسوع، إلى رعاةٍ عند لوقا كانوا يبيتون في البرية، عندما ظهر لهم ملاك الرب وبشرهم بولادة مخلص في مدينة داود، وقال لهم إنهم سيجدونه مقمطًا مضطجعًا في مذود، وانضم إلى الملاك بغتة جمهور من جند السماء يسبحون الله، فبحث الرعاة عن المولود حتى وجدوه كما وصف الملاك، وراحوا يخبرون بما قيل لهم فيه. وفي غياب عنصر الخوف من هيرود تتتابع القصة بشكل روتيني، فقد انتظر الوالدان ثمانية أيام وهي الفترة اللازمة لطهور الوالدة بعد الوضع، فختنا الطفل حسب شريعة موسى وقدَّما قربانًا في الهيكل، حيث سمعا عن مستقبله من خلال خطبةٍ ألقاها رجل شيخ، كان يلزم الهيكل في انتظار ظهور المسيح، ومن خلال عدة أقوالٍ لنبية اسمها حنة كانت تلزم الهيكل أيضًا، ثم رجعوا إلى الجليل، بعد ذلك ينفرد لوقا بذكر قصة يسوع في الهيكل يجادل الشيوع، وهو حدث في الثانية عشرة من عمره، مفصحًا عن حكمة مبكرة لا تتوفر عادة لشخصٍ عادي في مثل هذه السن.

وبالرغم من أن لوقا لا يحاول التوفيق على طريقة متَّى بين نبوءات العهد القديم وأحداث سيرة يسوع، فإن نصه يمتلئ بمقتبسات من العهد القديم ظهرت في نشيد زكريا، عندما فُكت عقدة لسانه بعد ولادة الطفل، وفي نشيد مريم عندما ارتكض الجنين في بطن نسيبتها أليصابات، لما فتحت الباب لمريم وتلقت سلامها، فعرفت أمرها وعظمت ما تحمله في بطنها، وفي خطبة الرجل التقي سمعان في الهيكل، وهذه نماذج منتقاة من فقرات هذه النصوص:

تعظِّم الربَّ نفسي وتبتهج روحي بالله مخلصي (مريم).
قدوس اسمه، ورحمته للذين يتقونه جيلًا فجيل (مريم).
إني أبتهج بالرب وأفرح بإله خلاصي (حبقوق ٣: ١٨).
قدوس ومهوب اسمه (المزمور ١١١: ٩).
أما رحمة الرب فإلى الدهر والأبد على خائفيه (المزمور ١٠٣: ١٧).
أشبع الجياع من الخيرات وصرف الأغنياء فارغين (مريم). لأنه أشبع نفسًا مشتهية وملأ نفسًا جائعة خبزًا (المزمور ١٠٧: ٩).
تبارك الله رب إسرائيل لأنه افتقد شبعه وافتداه (زكريا).
مبارك الرب إله إسرائيل (المزمور ٤١: ١٣).
أرسل فداءً لشعبه (المزمور ١١١: ٩).
ليضيء للقاعدين في الظلمة وظلال الموت (زكريا). الشعب السالك في الظلمة أبصر نورًا عظيمًا الجالسون في ظلال الموت أشرق عليهم نور (أشعيا ٩: ٣).
فقد رأت عيناي ما أعددته من خلاصٍ للشعوب كلها (سمعان). قد شمر الرب عن ذراع قدسه أمام عيون كل الأمم، فترى كل أطراف الأرض خلاص إلهنا (أشعيا ٥٢: ١٠).

(٥) البعث والقيامة

كما اختلفت الأناجيل الإزائية في بداياتها، كذلك تختلف في نهاياتها التي تروي عن قيامة يسوع من بين الأموات، فمؤلف إنجيل مرقس في نصه الأصلي،٥ يقدِّم لنا خاتمةً موجزة جدًّا عن القيامة، تنتهي بشكلٍ مفاجئ مع هروب النسوة الثلاث مذعورات من القبر الفارغ، بعد أن أخبرهن شاب يجلس هناك مرتديًا ثوبًا أبيض بأن يسوع قد قام من بين الأموات، ومع ذلك فباستطاعتنا مقارنة بقية خاتمة مرقس، المضافة فيما بعد، مع خاتمة متَّى لنظهر الاختلافات فيما بينها:
مرقس متَّى
الخاتمة الأصلية:

ولما انقضى السبت اشترت مريم المجدلية ومريم أم يعقوب وسالومة طِيبًا ليأتين فيطيبنه، وفي غداة يوم الأحد جئن إلى القبر وقد طلعت الشمس، وكان يقول بعضهم لبعض: من تراه يدحرج لنا الحجر عن باب القبر؟ فنظرن فرأين أن الحجر قد دُحرج، وكان كبيرًا جدًّا، فدخلن القبر فأبصرن شابًّا جالسًا عن اليمين، عليه حلة بيضاء فارتعبن، فقال لهن:

لا ترتعبن، أنتن نتطلبن يسوع الناصري الذي صُلب، إنه قام وليس هنا، وهذا هو المكان الذي وضع فيه، فاذهبن وقلن للتلاميذ ولبطرس أن يتقدمكم إلى الجليل، فترونه هناك كما أنبأكم، فخرجن هاربات من القبر، لما أخذهن من الرعدة والدهشة، ولم يخبرن أحدًا بشيء؛ لأنهن كن خائفات.

ولما انقضى السبت وبزغ فجر الأحد جاءت مريم المجدلية، ومريم الأخرى تتفقدان القبر فإذا زلزالٌ شديدٌ قد حدث، ذلك بأن ملاك الرب نزل من السماء وجاء إلى الحجر فدحرجه وقعد عليه، وكان منظره كالبرق وثوبه أبيض كالثلج، فقال الملاك للمرأتين:

لا تخافا أنتما، أنا أعلم أنكما تطلبان يسوع المصلوب، إنه ليس هنا، فقد قام من بين الأموات كما أنبأ، تعاليا فانظرا الموضع الذي فيه كان مضطجعًا، وأسرعا في الذهاب إلى تلاميذه وقولا لهم إنه قام من بين الأموات، وها هو ذا يسبقكم إلى الجليل، فترونه هناك. فتركتا القبر مسرعتين، وهما في خوف شديد وفرح عظيم، وبادرتا إلى التلاميذ تحملان البشرى.

الإضافة اللاحقة:

قام يسوع صباح الأحد فتراءى أولًا لمريم المجدلية، تلك التي أخرج منها سبعة شياطين، فمضت وأخبرت تلاميذه، وكانوا في مناحةٍ ونحيب، فلما سمعوا أنه حي، وأنها شاهدته لم يصدقوها، وتراءى بعد ذلك بهيئةٍ أخرى لاثنين منهم، كانا في الطريق ذاهبين إلى إحدى القرى.

فرجعا وأخبرا الآخرين، فلم يصدقوهما أيضًا، وتراءى آخِرًا للأحد عشر أنفسهم، وهم على الطعام فوبَّخهم لقلة إيمانهم وقساوة قلوبهم؛ لأنهم لم يصدقوا الذين رأوه بعدما قام، ثم قال لهم: اذهبوا في الأرض كلها وأعلنوا البشارة إلى الخلق أجمعين، فمن آمن واعتمد يخلُص، ومن لم يؤمن يقضَ عليه والذين يؤمنون تصحبهم هذه الآيات: فباسمي يطردون الشياطين، ويتكلمون بلغاتٍ مختلفةً، ويمسكون بأيديهم الحيات، وإن شربوا شرابًا قاتلًا لا يؤذيهم، ويضعون أيديهم على المرضى فيتعافون.

وبعدما كلمهم الرب يسوع، رُفع إلى السماء، وجلس على يمين الله.

وإذا يسوع قد جاء للقائهما فقال لهما:

السلام عليكما، فتقدمتا والتزمتا قدميه ساجدتين له، فقال لهما يسوع:

لا تخافا، اذهبا فقولا لإخوتي أن يمضوا إلى الجليل فهناك يرونني.

وأما التلاميذ الأحد عشر، فذهبوا إلى الجليل إلى الجبل الذي جعله يسوع موعدًا لهم، فلما رأوه سجدوا له.

ولكن بعضهم ارتابوا، فدنا يسوع إليهم وكلمهم، وقال:

إني أوليت كل سلطان في السماء والأرض، فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس، وعلموهم أن يحفظوا كل ما أوصيتكم به، وها أنا ذا معكم طوال الأيام إلى انقضاء الدهر.

من هذه المقارنة بين الروايتين نجد أن النص الأصلي لمرقس صامت تمامًا عن ظهورات المسيح وعن ارتفاعه إلى السماء، حتى إنه لا يتابع النتيجة المنطقية المتوقعة، وهي ذهاب النسوة الثلاث إلى التلاميذ وإخبارهم بما رأين وسمعن، وبذلك يبقى خبر القيامة بالنسبة إلى التلاميذ مجرد رواية قالها شابٌّ غامضٌ، ونقلتها نسوةٌ يشك بشهادتهن، ومن هنا كان لا بد من إكمال القصة وتزويدها بما يعطيها مصداقية، وذلك بجعل عدد متزايد من التلاميذ يواجهون المسيح القائم من بين الأموات، وهكذا تمت صياغة خاتمة كل من متَّى ولوقا بشكلٍ يتجاوز خاتمة مرقس الأصلية، كما جاء محرر متأخر فزاد على خاتمة مرقس عناصر الظهور والارتفاع إلى السماء، بعض هذه العناصر مستمد من متَّى ولوقا، وبعضها من مصدر مجهول لا نعرفه.

تُبدي خاتمتا مرقس ومتَّى في شكلهما الأخير عددًا من التباينات، فمرقس يذكر ثلاث نسوة هن: مريم المجدلية، ومريم أم يعقوب، وسالومة، بينما يذكر متَّى امرأتين فقط، هما: مريم المجدلية، ومريم الأخرى (التي كان قد دعاها في الإصحاح ٢٧: ٥٦ بأم يعقوب وموسى)، وفي نص مرقس تجد النسوة أن الحجر قد دُحرج عن مدخل القبر، فيدخلن ليجدن شابًّا جالسًا عن اليمين، يخبرهن بأن يسوع قد قام وأنه سيلتقي بتلامذته في الجليل، أما في نص متَّى فتجد النسوة أن الحجر قد دحرج عن مكانه بسبب زلزال، ويرين ملاك الرب جالسًا فوقه، ومنظره كالبرق وثيابه بيضاء كالثلج، فيخبرهن بأن يسوع قد قام، ويأمرهن بالإسراع لإعلام تلاميذه بذلك؛ لأنه سيسبقهم إلى الجليل حيث يرونه هناك. وبدون أن تتأكد المرأتان من فراغ القبر، تسرعان في خوفٍ وفرح لإعلام التلاميذ.

يظهر الانقطاع في نص مرقس واضحًا، فبعد أن يقول بأن النسوة الثلاث خرجن من القبر هاربات، وقد أخذتهن الرعدة والدهشة، ولم يخبرن أحدًا لأنهن كن خائفات، يتابع قوله: «قام يسوع صباح الأحد فتراءى أولًا لمريم المجدلية …» فذهبت وأخبرت التلاميذ الذين لم يصدقوها، ثم بعد ذلك تراءى لاثنين منهم وهم على الطريق إلى إحدى القرى، فراحا أيضًا وأخبرا البقية الذين ظلوا على عدم تصديقهم، وأخيرًا ظهر يسوع للتلاميذ الأحد عشر وهم مجتمعون للطعام، فوبخهم على قلة إيمانهم ثم وجههم للتبشير بين الخلق أجمعين، وبعد ذلك يرتفع إلى السماء أمام أعينهم، أما عند متَّى فإن يسوع لا يظهر إلا مرةً واحدة للتلاميذ الأحد عشر الذين سبقوه إلى الجليل، وهذا يعني أنه ظهر لهم بعد عدة أيامٍ من قيامته، لا في يوم القيامة نفسه ولا في أورشليم، كما هو الأمر عند مرقس، ولا يأتي متَّى على ذكر ظهور يسوع للمجدلية ولا للتلميذين الآخرين، ثم إن الخاتمة عند متَّى لا تنتهي بصعود يسوع إلى السماء، وإنما بقوله: «اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم … وها أنا ذا معكم طوال الأيام إلى انقضاء الدهر».

فإذا انتقلنا إلى خاتمة لوقا وجدناها الأكثر إطالةً وتفصيلًا، وغنًى بالحوارات والعناصر الأدبية، يقول لوقا:

الإصحاح الثالث والعشرون

(٥٥) وكان النسوة اللواتي جئن من الجليل مع يسوعٍ يتبعن يوسف، فأبصرن القبر وكيف وضع فيه جسده. (٥٦) ثم رجعن وأعددن طيبًا وحنوطًا، واسترحن في السبت على ما تقضي به الوصية.

الإصحاح الرابع والعشرون

(١) وجئن عند فجر الأحد إلى القبر وهن يحملن الطيب الذي أعددنه. (٢) فوجدن الحجر قد دُحرج عن القبر. (٣) فدخلن فلم يجدن جسد الرب يسوع. (٤) وبينما هن في حيرة؛ إذ تراءى لهن رجلان عليهما ثياب براقة. (٥) فاستولى عليهن الخوف ونكسن وجوههن نحو الأرض، فقالا لهن: لماذا تبحثن عن الحي بين الأموات؟ (٦) إنه ليس ها هنا بل قام، اذكرن ما أنبأكن إذ كان في الجليل. (٧) قائلًا: يجب على ابن الإنسان أن يُسلم إلى أيدي الخاطئين، ويصلب ثم يقوم في اليوم الثالث. (٨) فذكرن كلامه. (٩) ورجعن من القبر فأخبرن الأحد عشر والآخرين جميعًا بهذه الأحداث كلها. (١٠) وهن مريم المجدلية وحنة ومريم أم يعقوب، وكذلك سائر النسوة اللواتي صحبنهن أخبرن الرسل بذلك، فبدا لهم هذا الكلام ضربًا من الهذيان ولم يصدقوهن، غير أن بطرس قام فأسرع إلى القبر، فلم يرَ عند انحنائه غير اللفائف، فانصرف متعجبًا ممَّا حدث.

(١٣) واتفق أن اثنين منهم كانا ذاهبين في ذلك اليوم إلى قريةٍ يقال لها عماوس، على مسافة ستين غلوة من أورشليم. (١٤) وكانا يتحدثان بهذه الأمور كلها. (١٥) وإنهما ليتحدثان ويتجادلان إذ يسوع نفسه قد دنا منهما وأخذ يسير معهما. (١٦) على أن أعينهما حُجبت عن معرفته. (١٧) فقال لهما: ما هذا الحديث الذي تخوضان فيه وأنتما سائران؟ فوقفا مكتئبين. (١٨) وأجابه أحدهما واسمه كلاوبا: أأنت وحدك تقيم في أورشليم ولا تعلم ما حدث فيها هذه الأيام؟ (١٩) فقال لهما: ماذا؟ قالا له: ما حدث فيها ليسوع الناصري، وكان نبيًّا مقتدرًا على العمل والقول عند الله والشعب كله. (٢٠) كيف أسلمه الأحبار وأولياء أمرنا ليحكم عليه بالموت، وكيف صلبوه. (٢١) وهو الذي كنا نرجو أن يعتق إسرائيل ومع ذلك كله فهذا هو اليوم الثالث لتلك الأحداث التي وقعت. (٢٢) غير أن نسوةً منَّا قد حيرتنا، فإنهن قد بكرن إلى القبر. (٢٣) فلم يجدن جسده فرجعن وقلن إنهن أبصرن ملائكة تراءوا لهن وقالوا إنه حيٌّ. (٢٤) فذهب بعض أصحابنا إلى القبر فوجدوا الحال على ما قالت النسوة ولكنهم لم يروه. (٢٥) فقال لهما: بل قليلي الإدراكي وبطيئي القلب عن الإيمان بكل ما تنطق به الأنبياء. (٢٦) أما كان يجب على المسيح أن يعاني هذه الآلام فيدخل في مجده؟ (٢٧) ثم أخذ يفسر لهما ما يعنيه مما ورد في جميع الكتب من موسى إلى سائر الأنيباء. (٢٨) ولمَّا اقتربوا من القرية التي يقصدان إليها، أظهر لهما أنه ماضٍ إلى مكانٍ بعيد. (٢٩) فتمسكا به وقالا: أمكث معنا، فقد حان المساء ومال النهار فدخل ليمكث معهما. (٣٠) ولما جلس معهما إلى الطعام أخذا خبزًا وبارك ثم كسره وناولهما. (٣١) فانفتحت أعينهما وعرفاه فتوارى عنهما. (٣٢) فقال أحدهما للآخر: أما كان قلبنا متقدًّا في صدرنا حين حدثنا في الطريق وفسَّر لنا الكتب؟ (٣٣) ثم قاما من ساعتهما ورجعا إلى أوشليم، فوجدا الأحد عشر وأصحابهم مجتمعين. (٣٤) وكانوا يقولون: قام الرب حقًّا وتراءى لسمعان. (٣٥) فرويا لهم ما حدث في الطريق، وكيف عرفاه عند كسر الخبز. (٣٦) وإنهما ليتكلمان، إذ هو يتوسطهم فيقول: السلام عليكم. (٣٧) فدهشوا وخافوا وتوهموا أنهم يرون روحًا. (٣٨) فقال لهم: ما بالكم مضطربين ولمَ ثارت الأوهام في نفوسكم؟ (٣٩) انظروا إلى يدي ورجلي أنا هو بنفسي، المسوني وتوحققوا، فإن الروح ليس لها لحم ولا عظم كما ترون لي. (٤٠) قال هذا وأراهم يديه ورجليه. (٤١) غير أنهم لم يصدقوا من الفرح يتعجبون فقال لهم: ألديكم ما يؤكل؟ (٤٢) فناولوه قطعة سمك مشوي. (٤٣) فأخذها وأكل على مرأًى منهم.

(٤٤) ثم قال لهم: ذاك كلامي الذي قلته لكم إذ كنت معكم، وهو أنه يجب أن يتم كل ما كتب في مصيري في شريعة موسى وكتب الأنبياء والمزامير. (٤٥) فحينئذٍ فتح أذهانهم ليفهموا الكتب. (٤٦) وقال لهم: كتب أن المسيح يتألم ويقوم من بين الأموات في اليوم الثالث. (٤٧) ويُدعى باسمه في جميع الأمم إلى التوبة لغفران الخطايا، ويُبتدأ بذلك في أورشليم. (٤٨) وأنتم شهود على ذلك. (٤٩) وسأرسل إليكم ما وعد به أبي فامكثوا في المدينة إلى أن تنزل عليكم القوة من العُلا.

(٥٠) ثم خرج إلى بيت عنيا، ورفع يديه وباركهم. (٥١) وبينما هو يباركهم انفصل عنهم ورُفع إلى السماء. (٥٢) فسجدوا له ورجعوا إلى أورشليم بفرح عظيم. (٥٣) وكانوا يلازمون الهيكل لله مسبحين.

تُظهر لنا المقارنة بين رواية لوقا هذه وروايتي مرقس ومتَّى عددًا من خصوصيات خاتمة لوقا. فالنساء الثلاث عند مرقس، وهن مريم المجدلية ومريم أم يعقوب وسالومة، والمرأتان عند متَّى وهن مريم المجدلية ومريم الأخرى (أم يعقوب ويوسي) يتحولن إلى عددٍ غير محدد من النساء اللواتي جئن من الجليل وتبعن يسوع، وشهدن صلبه وموته ودفنه، وأبصرن القبر الذي وُضع فيه جسده، ثم ذهبن فأعددن طيبًا وحنوطًا واسترحن في السبت، ثم جئن إلى القبر في صباح الأحد، وعندما دخلن لم يجدن جسد يسوع، ولكنهن وجدن رجلين عليهما ثياب براقة لا رجلًا واحدًا كما هو الحال عند مرقس، فرجعن من القبر وأخبرن التلاميذ، وكان بينهن مريم المجدلية ومريم أم يعقوب وحنة، لا مريم المجدلية ومريم أم يعقوب وسالومة كما هو الحال عند مرقس، ولكن التلاميذ رأوا في خبر النسوة ضربًا من الهذيان، وكان لا بد لهم من شهادة رجل موثوق، فذهب بطرس بنفسه وتحقق من خلو القبر، وذهاب بطرس هذا، عنصر انفرد به لوقا.

ثم إن لوقا يغض الطرف عن ظهور يسوع للمجدلية أولًا، ويجعل ظهوره الأول للاثنين اللذين ورد ذكرهما عند مرقس (١٦: ١٢)، ولكنهما لا يتعرفان عليه للوهلة الأولى، وهنا يتوقف لوقا ليسرد حوارية بين يسوع والتلميذين تنتهي بأن يتعرفا على يسوع عندما جلس معهما للطعام، وأخذا خبزًا وبارك ثم كسره وناولهما، ثم قاما ورجعا إلى أورشليم، وعندما كانا يسردان لبقية التلاميذ ما وقع لهما، عرفا أن يسوع قد تراءى أيضًا لسمعان (بطرس)، ولكن دون تفاصيل، وهنا يحصل الظهور الأخير ليسوع عندما تجلى أمام التلاميذ الأحد عشر.

ولكي يزيد لوقا في التوكيد على أن ظهور يسوع لم يكن ظهورًا شبحيًّا، وإنما ظهورًا ماديًّا حقيقيًّا، فقد جعله يطلب من التلاميذ أن يلمسوه، وأراهم موضع المسامير في يديه ورجليه من أثر الصلب، وكما أكل مع التمليذين أولًا، فقد طلب منهم أن يأكل معهم، فناولوه قطعة سمك مشوي، وأكل أمام أنظارهم، وبعد أن فتح أعينهم على معنى رسالته التي عليهم إكمالها، انفصل عنهم وصعد إلى السماء.

(٦) رسالة يسوع في الأناجيل الإزائية

إن الأناجيل الإزائية، على اختلافها في التفاصيل، تقدِّم لنا سيرةً واحدة ليسوع ووجهًا واحدًا لشخصيته وتعاليمه، حتى لتبدو وكأنها إنجيل واحد في ثلاثة تنويعات.

ولقد أعلن يسوع عن جوهر رسالته في مطلع إنجيل مرقس، في أول تعاليمه العلنية، حيث نقرأ في الإصحاح الأول: ١٤-١٥: «وبعد أن أسلم يوحنا، جاء يسوع إلى الجليل يعلن بشارة الله، فيقول: قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله، فتوبوا وآمنوا بالإنجيل.»

فيسوع هو المسيح الذي يأتي من نسل داود، وفق النبوءات التوراتية، ليختتم التاريخ ويفتتح الزمان المقدس، أو ملكوت الله، يتقدمه النبي إيليا في صورة يوحنا المعمدان، وفق النبوءة التوراتية الواردة في سفر ملاخي ٤: ٥-٦: «ها أنا ذا أرسل إليكم إيليا النبي، قبل مجيء يوم الرب اليوم العظيم والمخوف، فيرد قلب الآباء على الأبناء، وقلب الأبناء على آبائهم.» ولهذا أجاب يسوع رسل يوحنا الذين بعثهم من سجنه ليسألوه: أأنت الآتي، أم ننتظر الآخر؟ وقال لهم: «اذهبوا وأخبروا يوحنا بما تسمعون وترون، إن العمي يبصرون والكسحان يمشون، والبرص يبرَءُون، والصم يسمعون، والموتى يقومون، والفقراء يبشرون، وطوبى لمن لا يشك فيَّ» (متَّى ١١: ٢–٥)، وهذه كلها من علامات ظهور المسيح في اليوم الأخير الذي يفتتح ملكوت الرب في التصورات التوراتية (راجع إشعيا ٢٦: ١٩ و٢٩: ٨ و٣٥: ٥)، ولما انصرف الرسل، أخذ يسوع يقول للجموع بشأن يوحنا: «ماذا خرجتم إلى البرية تنظرون؟ أقصبة تهزها الريح؟ بل ماذا خرجتم ترون؟ أرجلًا يلبس الثياب الناعمة؟ بل ماذا خرجتم؟ ألكي تروا نبيًّا أقول لكم أجل، بل أكرم من نبي، فهذا الذي كُتب في خبره: ها أنا ذا أرسل رسولي قدامك ليعد الطريق أمامك، الحق أقول لكم لم يظهر في أولاد النساء أكبر من يوحنا المعمدان، ولكن أصغر الذين في ملكوت السموات أكبر منه … فإذا شئتم أن تصدقوني، فاعلموا أنه إيليا الذي يُنتظر رجوعه، من كان له أذنان فليسمع.»

يتخذ مفهوم مملكة الله، أو مملكة السموات، مكانة مركزية في تعاليم يسوع الإزائي، ولا أدل على ذلك من ورود هذا التعبير نحو ثمانين مرة في الأناجيل الثلاثة، بينما لم يرد إلا مرة واحدة فقط في إنجيل يوحنا، كما تشغل المطاليب الأخلاقية والسلوكية لدخول مملكة الرب الجزء الأكبر من تعاليم يسوع، فرسالة يسوع الإزائي هي رسالةٌ أخروية بالدرجة الأولى، وترتكز على فكرة نهاية الزمن والتاريخ، وحلول اليوم الذي فيه ينتزع الله العالم من الشيطان، الذي كان حتى كرازة يسوع سيدًا على الأرض، ولكن يسوع قدَّم منذ البدء مفهومه الخاص عن ملكوت الله، وميزه بحدةٍ عن المفهوم السائد لدى يهود عصره، الذين كانوا ينتظرون مسيحًا سياسيًّا، يعيد مجد إسرائيل ويخضع جميع الأمم تحت قدميها، ثم يسلم الحكم إلى يهوه، فملكوت يسوع هو ملكوت روحاني، وكان متحفظًا تجاه لقب المسيح، وفضل عليه لقب ابن الإنسان لما للقب المسيح من تداعياتٍ سياسية، كما أنه تحفظ تجاه لقب الملك ولم يقبله إلا باعتبار ما سيأتي من صعوده إلى السماء وجلوسه عن يمين الآب.

وعلى عكس ملكوت الرب اليهودي، فإن ملكوت السموات الذي بشر به يسوع يشمل جميع الأمم والشعوب، وهو يؤكد في أكثر من قول له عدم أهلية اليهود لدخول هذا الملكوت، رغم اعتقادهم بأنهم أصحابه الشرعيون، نقرأ في إنجيل متَّى ٨: ١٢: «الحق أقول لكم، سوف يأتي أناس كثيرون من المشرق والمغرب، فيجالسون إبراهيم وإسحاق ويعقوب على المائدة في ملكوت السموات، وأما بنو الملكوت فيلقون في الظلمة البرانية، وهناك البكاء وصريف الأسنان.» ونقرأ في متَّى ٢١: ٤٣: «لذلك أقول لكم: إن ملكوت الله سيُنزع عنكم إلى أمةٍ تجعله يُخرج ثمره.»

لقد اكتملت سلسلة الأنبياء عند يوحنا المعمدان، كما اكتملت الأزمنة وظهر يسوع في مجيئه الأول ليبشر بالملكوت، ثم صلب ومات وقام في اليوم الثالث ليتمجد مسيحًا كونيًّا يجلس عن يمين الآب، وأما في مجيئه الثاني فسيأتي إلهًا ديَّانًا ينهي العالم القديم، ويقيم على أنقاضه عالمًا جديدًا يرثه المؤمنون، نقرأ في إنجيل متَّى ١٦: ٢٧-٢٨: «سوف يأتي ابن الإنسان في مجد أبيه مع ملائكته فيجازي يومئذٍ كل امرئ على قدر أعماله، الحق أقول لكم، في جملة الحضور هنا من لا يذوقون الموت حتى يشاهدوا ابن الإنسان آتيًا في ملكوته.» ونقرأ في متَّى أيضًا ٢٤: ٢٩: «وعلى أثر الشدة في تلك الأيام، تظلم الشمس ويفقد القمر ضوءه وتتساقط النجوم من السماء، وتتزعزع أجرام السموات، عندئذٍ تظهر في السماء آية ابن الإنسان، فتنتحب جميع قبائل الأرض، ويرى الناس ابن الإنسان آتيًا على غمام السماء بقوةٍ ومجدٍ كثيرٍ، فيرسل ملائكته ببوق عظيم الصوت، ليجمعوا مختاريه من جهات الرياح الأربع، من أطراف السموات إلى أطرافها الأخرى.»

إنجيل يوحنا

إنجيل يوحنا ظاهرةٌ فريدة بين الأناجيل، وهو يشكل بحق جنسًا قائمًا بذاته بين أسفار العهد الجديد، وإذا كانت الأناجيل الثلاثة الأولى تتبع نفس الخطوط العامة لسيرة يسوع وتعاليمه، فإن إنجيل يوحنا يمتلك رؤيةً خاصة به وبنية عامة، وتحقيبًا زمنيًّا، ونسيجًا لاهوتيًّا، وأسلوبًا في أقوال يسوع، لا يوازيها شيءٌ في الأناجيل الإزائية، أما الرسالة المعوزة ليسوع فيه فجديدة، وغالبًا ما تتناقض مع شهادات الإزائيين، إن القراءة النقدية للأناجيل الأربعة لا توصلنا إلى تسوية من أي نوع بينهما، فإذا كان يوحنا على حق، كان الإزائيون على خطأ، والفريقان لا يمكن أن يكونا صحيحين في الوقت نفسه، وفق أبسط قواعد المنطق، فالإزائيون، مثلًا، يعينون سنة واحدة لحياة يسوع التبشيرية، بينما يعين يوحنا سنتين أو أكثر، وذلك بذكره لثلاثة أعياد فصح، والإزائيون يؤرخون حادثة الصلب في الخامس عشر من نيسان، في يوم الفصح بينما يؤرخ يوحنا الحادثة في الرابع عشر من نيسان، اليوم السابق للفصح.

يجمع معظم الباحثين في العهد الجديد على أن إنجيل يوحنا قد كتب بين عام ٩٠ وعام ١١٠م، ذلك أن الشذرات الأقدم التي وصلتنا منه يتراوح تاريخها بين ١٢٥ و١٥٠م، كما أن أقدم الإشارات إلى هذا الإنجيل في المصادر الخارجية ترجع إلى أواسط القرن الثاني الميلادي، وهذا ما يرجح أن الإنجيل قد كُتب قبل هذه التواريخ، ومن ناحيةٍ أخرى فإن اللاهوت العالي التركيب للنص، يشير إلى فترة تالية لفترة تحرير الأناجيل الإزائية التي يُرجح أنها كُتبت خلال الفترة من عام ٧٠ إلى عام ٩٠م، ويرى بعض الباحثين أن ما يُظهره إنجيل يوحنا من العداء السافر لليهود، يشير إلى الفترة التي طُرد فيها المسيحيون من الكنيس اليهودي، أي خلال الفترة الانتقالية من القرن الأول إلى القرن الثاني الميلادي.

أما بخصوص مؤلف الإنجيل، فإن الباحثين في العهد الجديد ليسوا على هذه الدرجة من الاتفاق، فهل هو يوحنا التلميذ الذي كان يحبه يسوع أكثر من غيره، والذي اتكأ على صدره في مجلس العشاء الأخير؟ أم هو شخصٌ آخر يحمل الاسم نفسه؟ أم إن المسألة ليست أكثر من إعطاء مصداقية للنص من خلال نسبه إلى يوحنا الحبيب؟ إن عنوان النص: الإنجيل بحسب يوحنا، لا يزيل هذا الالتباس، والنص لا يطابق بين كاتب الإنجيل ويوحنا الحبيب إلا في الفقرة الأخيرة من المشهد الختامي، والتي يمكن أن تكون مقحمة على السياق، حيث نقرأ: «وهذا التلميذ (أي الذي يحبه يسوع) هو الذي يشهد بهذه الأمور ويدوِّنها، ونحن نعلم أن شهادته حق» (يوحنا ٢١: ٢٤). يضاف إلى ذلك أن أخبار يوحنا الحبيب تنقطع في أسفار العهد الجديد، قبل وقتٍ طويل من الفترة المفترضة لتدوين الإنجيل، فقد ورد ذكره لآخر مرة في أعمال الرسل، عندما ذهب مع بطرس إلى أهل السامرة ليبشر بينهم، كما أفاد بولس المُتوفَّى سنة ٦٧ أو ٦٨م أن يوحنا كان أحد أعمدة كنيسة أورشليم مع يعقوب وبطرس (غلاطية ٢: ٩)، فهل عاش يوحنا أربعين سنةً أخرى حتى كتب إنجيله؟ وهل كان في نحو المائة من عمره في وضع عقلي يساعده على التذكر وربط الأحداث، وإنجاز مثل هذا النص اللاهوتي المتماسك والعالي التركيب؟ ولماذا انتظر كل هذه السنين ليخرج علينا بإنجيله؟ وأخيرًا، يرى البعض أنه من الصعب علينا أن نتصوَّر أن كاتب الإنجيل الرابع، المتبحر في الفلسفة الهيلينستية، هو نفسه يوحنا بن زبدي، صياد السمك البسيط.

لقد ترسَّخ اعتقاد الكنيسة بنسبة الإنجيل الرابع إلى يوحنا الحبيب، بتأثير ما أورده إيرينايوس، أحد آباء الكنيسة الأوائل، والذي كتب في أواسط القرن الثاني الميلادي، أن يوحنا الرسول قد رحل إلى إفسوس بآسيا الصغرى، حيث عاش إلى سنٍّ متقدمةٍ جدًّا، وأنجز إنجيله في أواخر حياته، ولكن لا يوجد بين أيدينا شاهد من أسفار العهد الجديد، يقيم صلة بين يوحنا الرسول ومدينة إفسوس، كما أن أغناطيوس الشهيد، أسقف أنطاكية الذي كتب نحو عام ١١٠م رسالة إلى مسيحيي إفسوس، قد وصفهم بأنهم جماعة بولس (صاحب الرسالة إلى أهالي إفسوس)، ولم يُذكرهم بأن يوحنا كان بين ظهرانيهم في ذلك الوقت، أو قبله بقليل.

انطلاقًا من كل هذه المعطيات، فإن الرأي الغالب لدى الباحثين غير الكنسيين، هو أن مؤلف إنجيل يوحنا لم يكن شاهد عيان على حياة يسوع، ويتراوح الرأي في هويته من أنه كان يهوديًّا خوارجيًّا ذا خلفية صوفية مسطيقية، أو مثقفًا يونانيًّا اعتنق المسيحية، إلا أن هذا، في رأينا، لا يقدم حجةً على ضعف مصداقية ما أورده هذا الإنجيل من تعاليم يسوع، بل ربما يكون العكس هو الصحيح، ذلك أن ما يظهره إنجيل يوحنا من مواقف حاسمة ليسوع في رفض اليهود واليهودية، يدل على رسالة مسيحية صافية لم تنَلْها المداخلات اليهودية إلا في الحد الأدنى، وفي هذا يقول ألبير باييه، الباحث في سيسيولوجيا العهد الجديد: «إن إنجيل يوحنا في شكله الأول يسير على النهج الذي عرفناه في مؤلفات الغنوصي مرقيون، وبعد إدانة مرقيون وحرمانه من الكنيسة، أي بعد عام ١٤٤م، خضع الإنجيل لتنقيحات مهمة غرضها إسباغ حلة قويمة عليه.»٦

إن القواسم المشتركة بين إنجيل يوحنا والأناجيل الإزائية، هي من الندرة بحيث تقتصر على الإصحاح السادس الذي يسرد معجزة إطعام خمسة آلاف شخص من خمسة أرغفة وسمكتين، وسير يسوع على الماء لاحقًا تلاميذه الذين كانوا قد سبقوه في سفينة إلى الضفة الأخرى من بحيرة طبرية، وهناك قصص أخرى أوردها يوحنا بشكلٍ معدل، ومنها قصة شفاء يسوع لخادم قائد روماني، وذلك بنطقه أمر الشفاء عن بُعد، والتي حولها يوحنا إلى شفاء يسوع لابن موظف عند أنتيباس ملك الجليل (وهو هيرود أنتيباس بن هيرود الكبير)، نقرأ في إنجيل متَّى ٨: ٥–١٣ (وما يقابله في إنجيل لوقا ٧: ١–١٠) ما يلي: «ودخل كفر ناحوم فدنا منه قائد مائة متوسلًا إليه بقوله: سيدي إن عبدي ملقًى على الفراش في بيتي مقعَدًا يعاني أشد الآلام، فقال له: أنا ذاهبٌ لأشفيه، فأجاب قائد المائة: سيدي، لستُ أهلًا لأن تدخل بيتي، فتقف تحت سقفي، ولكن حسبك أن تقول فيبرأ عبدي … ثم قال يسوع لقائد المائة: اذهب وليكن لك قدر ما آمنت، فبرئ العبد من ساعته.» وقد وردت هذه الحادثة عند يوحنا على الوجه التالي: «وكان في كفر ناحوم عامل للملك له ابن مريض، فلما عرف أن يسوع عاد من اليهودية إلى الجليل، وفد عليه يسأله أن ينزل فيبرئ ابنه الذي أشرف على الموت، فقال له يسوع: إذا لم تروا الآيات والأعاجيب لا تؤمنوا، فقال له عامل الملك: انزل سيدي قبل أن يموت ولدي، فقال له يسوع: اذهب إن ابنك حيٌّ فآمن الرجل بالكلمة التي قالها يسوع ومضى … وبينما هو نازلٌ تلقاه عبيده فبشروه بأن ابنه حيٌّ» (يوحنا ٤: ٤٦–٥١).

ومن القصص التي وردت بشكلٍ معدل قصة طرد يسوع للباعة والصيارفة من باحة الهيكل، فقد وضع الإزائيون هذه القصة في نهاية حياة يسوع التبشيرية بينما وضعها يوحنا في أولها وحملها معاني نبوئية ولاهوتية عندما قال: انقضوا هذا الهيكل وأنا أقيمه في ثلاثة أيام، نقرأ في يوحنا ٢: ١٣–٢٢ (وما يقابله عند متَّى ٢١: ١٢–١٣، ومرقس ١١: ١٥–١٧، ولوقا ١٩: ٤٥-٤٦): «واقترب فصح اليهود فصعد يسوع إلى أورشليم، فرأى في الهيكل باعة البقر والغنم والحمام، والصيارفة جالسين إلى مناضدهم، فجدل سوطًا من حبالٍ وطردهم جميعًا من الهيكل مع الغنم والبقر، ونثر دارهم الصيارفة وقلب مناضدهم، وقال لباعة الحمام: ارفعوا هذا من هنا، ولا تجعلوا من بيت أبي بيت تجارة. فتصدى له اليهود فقالوا: أية آية ترينا حتى نفعل هذا؟ فأجابهم يسوع: انقضوا هذا الهيكل وأنا أقيمه في ثلاثة أيام، قال له اليهود: بني هذا الهيكل في ست وأربعين سنة فكيف تقيمه في ثلاثة أيام، ولكنه كان يعني هيكل جسده، فلما قام من بين الأموات تذكر تلاميذه أنه قال ذلك.»

ولدينا أيضًا قصة قيام مريم، أخت لِعازر (الذي أقامه يسوع من بين الأموات)، بدهن قدمي يسوع بزجاجة عطر فاخرة ومسحها بشعرها، واعتراض يهوذا على ذلك، فهذه القصة عند يوحنا تحتوي على عناصر من قصتين، الأولى وردت عند متَّى ٢٦: ٦–١٣، ومرقس ١٤: ٣–٩، حيث قامت امرأة لم يورد النص اسمها بسكب زجاجة طيب على رأس يسوع، عندما كان جالسًا للعشاء في قرية بيت عنيا عند المدعو سمعان الأبرص، والثانية وردت عند لوقا ٧: ٣٦–٥٠، عندما دخلت امرأة خاطئة على يسوع وهو جالس للعشاء في بيت أحد الفريسيين، فجلست عند رجليه وجعلت تبلل قدميه بالدموع وتمسحها بشعرها، وتقبل قدميه وتدهنهما بالطيب. وهذه هي القصة في الروايات الثلاث:

عند متَّى ٢٦، ومرقس ١٤ عند لوقا ٧
وكان يسوع في بيت عنيا عند سمعان الأبرص، وبينما هو على الطعام دنت منه امرأة بيدها قارورة طيب غالي الثمن فأفاضتها على رأسه. ودعاه أحد الفريسيين إلى الطعام عنده، فدخل بيت الفريسي وجلس إلى المائدة، وكان في المدينة امرأة خاطئة، فعلمت أنه على المائدة في بيت الفريسي فجاءت ومعها قارورة طيب، وطلبت مكانًا من خلف عند رجلَيه وهي تبكي، وجعلت تبلل قدميه بالدموع وتمسحهما بشعرها وتدهنهما بالطيب.
فلما رأى التلاميذ ما فعلت استاءوا فقالوا: لم هذا الإسراف؟ فقد كان يمكن بيعه غاليًا والتصدُّق بثمنه على الفقراء، فشعر بهم يسوع فقال لهم: لماذا تعنتون هذه المرأة؟ فقد عملت لي عملًا صالحًا، أما الفقراء فهم عندكم دائمًا، وأما أنا فلست عندكم دائمًا، وإذا كانت قد أفاضت هذا الطيب على جسدي، فلأجل دفني صنعت ذلك، الحق أقول لكم: حيثما تعلن هذه البشارة في الأرض كلها، يحدث بما صنعت إحياء لذكراها.

فلما رأى الفريسي الذي دعاه هذا الأمر، قال في نفسه: لو كان هذا الرجل نبيًّا لعلم من هي المرأة التي تلمسه وما حالها، إنها خاطئة. فأجابه يسوع: يا سمعان عندي ما أقوله لك:

أترى هذه المرأة؟ إني دخلت بيتك فما سكبت على قدمي ماء، وأما هي فبالدموع بللت قدمي وبشعرها مسحتهما، أنت ما قبلتني قبلةً أما هي فلم تكف عن تقبيل قدمي، أنت ما دهنت رأس بزيت، أما هي فبالطيب دهنت قدمي، أقول لك: إنما غفرت لها خطاياها الكثيرة؛ لأنها أحبت كثيرًا، وأما الذي يغفر له القليل فإنه يحب قليلًا.

عند يوحنا ١٢

جاء يسوع قبل الفصح بستة أيام إلى بيت عنيا، حيث كان لِعازر الذي أقامه من بين الأموات، فأعد له عشاء، وأخذت مرتا (أخت لِعازر) تخدم، وكان لِعازر في جملة الذين كانوا على الطعام فتناولت مريم (أخت لِعازر الأخرى) حُقة طيبة من الناردين الخالص غالية الثمن، ودهنت قدمي يسوع ثم مسحتهما بشعرها، فعبق البيت بالطيب، فقال يهوذا الإسخريوطي، أحد تلاميذه، وهو الذي كان مزمعًا أن يسلمه: لماذا لم يبِعْ هذا الطيب بثلاثمائة دينار، ليُتصدق بها على الفقراء؟ ولم يقل هذا لعطفه على الفقراء، بل لأنه كان لصًّا، وكان مؤتمنًا على صندوق الدراهم، فيختلس ما يُدفع فيه، فقال يسوع: دعها، فإنها حفظت هذا الطيب ليوم دفني، أما الفقراء، فهي عندكم دائمًا أبدًا، وأما أنا فلست عندكم دائمًا أبدًا (١٢: ١–٨).

ولقد أكدت الأناجيل الإزائية على أعمال يسوع الشفائية، وطرده للشياطين من أجساد المرضى والممسوسين، ولكن هذا العنصر غائب تقريبًا في إنجيل يوحنا، فمن بين عمليات الشفاء الكثيرة الواردة لدى الإزائيين لم يحتفظ يوحنا إلا بواحدةٍ فقط، قدَّمها بشكلٍ معدل، وهي قصة شفائه لخادم موظف روماني، التي حوَّلها يوحنا إلى شفائه لابن واحدٍ من موظفي ملك الجليل، ممَّا شرحناه منذ قليل، ثم أضاف يوحنا إلى هذه الحادثة، حادثتين من عنده لم تردا عند الإزائيين، الأولى شفاؤه لرجلٍ مقعدٍ بكلمةٍ من فمه: قم احمل سريرك وامشِ (٥: ٢–٩)، والثانية شفاؤه لأعمى منذ الولادة، عندما طلى عينيه بعجينةٍ من تراب الأرض مزجها بلعابه (٩: ١–٧)، وفيما عدا ذلك فقد وردت مجرد إشارات عامة إلى أن يسوع كان يصنع آيات في المرضى (٦: ٢)، وربما يرجع ذلك إلى ارتباط هذه الظواهر الشفائية لدى الإزائيين بفكرة قرب حلول مملكة الرب، التي لم يركز عليها يسوع يوحنا، ولم تكن فكرة محورية في لاهوت الإنجيل الرابع.

وبالمقابل فإن يوحنا أكد على معجزات يسوع، واعتبرها «آيات» تشف عن أصله السماوي فوق الطبيعي، فإلى جانب معجزة تكثير خمسة أرغفة وسمكتين، لإطعام خمسة آلاف شخص، ومعجزة سير يسوع على الماء، التي اشترك بهما مع الأناجيل الإزائية، فقد انفرد إنجيل يوحنا بمعجزة تحويل الماء إلى خمرٍ في عرس قانا (٢: ١–١١)، وقصة إحياء الشاب لِعازر (أخي مرتا، ومريم التي سكبت الطيب على قدمي يسوع) بعد أربعة أيام من موته (١١: ١–٤٥)، وهي المعجزة التي صنعت له شهرة كبيرة في اليهودية، وأقنعت أحبار اليهود بأنه لا بد من قتل يسوع.

وردت قصة معجزة تحويل الماء إلى خمرةٍ في الإصحاح الثاني من إنجيل يوحنا، بعد أن جمع يسوع إليه التلاميذ الخمسة الأوائل، فكانت أول عمل علني ليسوع افتتح به حياته التبشيرية، نقرأ في يوحنا ٢: ١–١٢ ما يلي:

«كان في قانا الجليل عرس وكانت فيه أم يسوع فدُعي يسوع وتلاميذه إلى العرس، ولما فرغت الخمر قالت أم يسوع له: لم يبقَ عندهم خمر، فقال لها يسوع: ما لي ولك أيتها المرأة؟ لم تأتِ ساعتي بعد، فقالت أمه للخدم: افعلوا ما يأمركم به، وكان هناك ست أجاجين لقضاء الطهارة تسع كل واحدة منها مقدار مكيالين أو ثلاثة، فقال لهم يسوع: املئُوا الأجاجين ماءً، فملئوها حتى طفحت، فقال لهم: اغرفوا الآن وناولوا وكيل المائدة، فناولوه فذاق وكيل المائدة الماء الذي صار خمرًا، وكان لا يدري من أين أتت، غير أن الخدم الذين استقوا يدرون، فدعا وكيل المائدة العريس، وقال له: جرت عادة الناس أن يقربوا الخمرة الجيدة أولًا، فإذا أخذ منهم الشراب قربوا ما كان دونها في الجودة، أما أنت فأخرت الخمر الجيدة إلى الآن. فهذه أولى آيات يسوع أتى بها في قانا الجليل، فأظهر مجده فآمن به تلاميذه.»

أما معجزة إقامة لِعازر من بين الأموات فقد تمت في آخر حياة يسوع التبشيرية، نقرأ في يوحنا ١١: ١–٤٥ ما يلي:

«وكان رجلٌ مريضٌ يدعى لِعازر من بيت عنيا، من قرية مريم وأختها مرتا، ومريم هي التي دهنت الرب بالطيب ومسحت قدميه بشعرها، وكان لِعازر المريض أخاها، فأرسلت أختاه تقولان: ربنا، إن الذي تحبه مريض، فقال يسوع حين بلغه الخبر: ليس هذا المرض مرض الموت، بل مآله إلى مجد الله، ليتمجد به ابن الله، وكان يسوع يحب مرتا وأختها ولِعازر، على أنه لبث في مكانه يومين بعدما عرف أنه مريض، ثم قال لتلاميذه بعد ذلك: لنعد إلى اليهودية، فقال له تلاميذه: رابي (= يا معلم) أتعود إلى هناك وقد أراد اليهود رجمك منذ قريب؟ فأجاب يسوع: أليس النهار اثنتي عشرة ساعة؟ فمن سار في النهار لا يعثر لأنه ينظر نور هذا العالم، ومن سار في الليل يعثر لأنه ليس فيه نور، وقال لهم بعد ذلك: إن صديقنا لِعازر راقد، فأنا ذاهبٌ لأوقظه، فقال له تلاميذه: ربنا، إذا كان راقدًا فسيشفى. وكان يسوع يعني موته، فظنوا أنه أراد به رقاد النوم، فقال لهم يسوع موضحًا: قد مات لِعازر، ويسرني، رحمة لكم كي تؤمنوا، أني لم أكن هناك فلنمضِ إليه … فلما وصل يسوع رأى أنه في القبر منذ أربعة أيام … وكان كثيرٌ من اليهود قد جاءوا إلى مرتا ومريم يعزونهما عن أخيهما، فلما سمعت مرتا بمجيء يسوع خرجت لاستقباله، ولبثت مريم قاعدةً في البيت، فقالت مرتا ليسوع: يا سيد، لو كنت هنا لما مات أخي، ولكني ما زلت أعلم أن الله يعطيك جميع ما تسأله إياه. فقال لها يسوع: سيقوم أخوك. قالت له: أعلم أنه سيقوم في القيامة في اليوم الآخر. فقال لها يسوع: أنا القيامة من آمن بي يحيا وإن مات، ومن يحيا مؤمنًا بي لا يموت أبدًا. أتؤمنين بهذا؟ قالت له: نعم يا سيد أؤمن بأنك المسيح ابن الله الذي يأتي إلى العالم … قال: أين وضعتموه؟ قالوا: تعالَ سيدي فانظر، فدمعت عينا يسوع فقال اليهود: ما أشد ما كان يحبه. على أن بعضهم قالوا: أما كان بوسعه أن يرد الموت عنه، وهو الذي فتح عيني الأعمى؟ فارتعشت نفس يسوع ودنا من القبر، وهو كنايةٌ عن مغارة وُضع عليها حجر، فقال يسوع: ارفعوا الحجر. فقالت مرتا: هذا يومه الرابع، لقد أنتن، قال لها يسوع: ألم أقل لك إني آمنت بي ترين مجد الله؟ فرفعوا الحجر، ورفع يسوع عندئذٍ عينيه وقال: شكرًا لك يا أبت لأنك استجبت لي، وقد علمت أنك تستجيب لي في كل حين، ولكني قلت هذا من أجل أولئك الناس الذين يحدقون بي؛ لكي يؤمنوا أنك أنت الذي أرسلتني، وصاح بعد ذلك بأعلى صوته: هلم لِعازر فاخرج. فخرج الميت مشدود اليدين والرجلين بالعصائب ملفوف الوجه بمنديل، فقال لهم يسوع: حُلُّوه ودعوه يذهب، فآمن به كثيرٌ من اليهود الذين جاءوا إلى مريم إذ رأوا ما صنع.»

كما انفرد يوحنا بذكر حادثتين تحملان دلالات بعيدة الأثر، الأولى حادثة العفو عن الزانية، التي أعلن فيها يسوع صراحة معارضته لشريعة موسى، والثانية لقاؤه مع امرأةٍ سامريةٍ عندما مر في أراضي السامرة، منتهكًا العرف اليهودي بتجنب المرور في أراضي السامريين، والاحتكاك بهم وإقامة أي علاقة معهم، وقد شفَّ حواره مع المرأة السامرية بشكلٍ خاصٍّ عن بعض الجوانب المهمة في لاهوت يوحنا.

نقرأ في يوحنا ٤: ٤–٢٤

«فوصل إلى مدينةٍ سامريةٍ تدعى سيخارة، بالقرب من الأرض التي جعلها يعقوب لابنه يوسف، وفيها بئر يعقوب، وكان يسوع قد تعب من المسير فقعد على حافة البئر، وكانت الساعة نحو السادسة، فجاءت امرأةٌ من السامرة تستقي، فقال لها يسوع: اسقيني، وكان التلاميذ قد مضوا إلى المدينة ليبتاعوا قوتًا، فقالت له المرأة (وقد ظنته يهوديًّا): أنت يهودي وأنا سامرية فكيف تستقيني؟ فأجابها يسوع: لو كنت تعرفين عطاء الله، ومن هو الذي يقول لك اسقيني، لسألته أنت فأعطاك ماءً حيًّا، قالت له: سيدي ليس لك ما تستقي به، والبئر عميقة، فمن أين لك الماء الحي؟ هل أنت أعظم من أبينا يعقوب الذي أعطانا هذه البئر، وشرب منها هو وماشيته، فأجابها يسوع: من يشرب من هذا الماء فلا بد له أن يظمأ، وأما الذي يشرب من الماء الذي أعطيه إياه فلن يظمأ أبدًا، فالماء الذي أعطيه إياه يصير فيه عين ماء يتفجر حياةً أبديةً، قالت المرأة: سيدي أعطني هذا الماء؛ لكي لا أظمأ فأعود إلى الاستسقاء من هنا، قال لها: اذهبي فادعي زوجك وارجعي إلى هنا، أجابت المرأة: ليس لي زوج، فقال لها يسوع: أصبت إذ قلت ليس لي زوج، فقد اتخذت خمسة أزواج وأما الذي يصحبك اليوم فليس بزوجك لقد صدقت، قالت المرأة: سيدي أرى أنك نبي، قد تعبد آباؤنا في هذا الجبل، وأنتم تقولون إن أورشليم هي المكان الذي فيه يجب التعبد، قال لها يسوع: صدقيني يا امرأة ستأتي ساعة تعبدون فيها الآب لا في هذ الجبل ولا في أورشليم، أنتم تعبدون ما تجهلون، ونحن نعبد ما نعلم؛ لأن الخلاص هو من اليهود، ستأتي ساعة بل أتت الآن، يعبد فيها العباد الصادقون الآب بالروح والحق؛ لأن الآب يريد مثل هؤلاء العباد، إن الله روح، فيجب على العباد أن يعبدوه بالروح والحق.»

لقد أعلن يسوع للمرأة السامرية عن زوال العبادات الشكلانية القديمة، والتأسيس لعبادةٍ روحية جديدة، عبادة القلب لا عبادة الحرف، في هذه العبادة لم يعد لهيكل أورشليم مبرر؛ لأن الله سوف يُعبَد في كل مكانٍ من دون ذبائح ولا محارق يصعد دخانها إلى عنان السماء ليتشممها يهوه فيرضى، وقبل ذلك يجب التخلص من اليهود ومن معتقداتهم البالية.

ولقد أعلن يسوع في مناسباتٍ عديدة سدى الشريعة اليهودية، وضرب مثالًا على ذلك من خلال سلوكه وسلوك تلاميذه.

ولعل في حادثة عفوه عن المرأة الزانية، التي أوردها إنجيل يوحنا، أوضح تعبير عن موقف يسوع الحقيقي من هذه المسألة.

«أما يسوع فذهب إلى جبل الزيتون ثم عاد عند الفجر إلى الهيكل، فأقبل إليه الشعب كله، فجلس وجعل يعلمهم، فأتاه الكتبة والفريسيون بامرأةٍ أُخذت في زنا، فأقاموها في وسط الحلقة وقالوا له: يا معلم، إن هذه المرأة أُخذت في الزنا المشهود، وقد أوصانا موسى في الشريعة برجم أمثالها، فأنت ماذا تقول؟ وإنما قالوا ذلك ليحرجوه فيتهموه، فأكب يسوع يخط بإصبعه في الأرض، فلما ألحوا عليه في السؤال جلس وقال لهم: من كان منكم بلا خطيئة فليتقدم ويرمها أولًا بحجر، ثم أكب ثانيةً يخط في الأرض، فلما سمعوا هذا الكلام، انصرفوا واحدًا بعد واحدٍ يتقدمهم كبارهم سنًّا، ولبث يسوع وحده والمرأة في مكانها، فجلس يسوع وقال لها: أين هم أيتها المرأة؟ ألم يحكم عليك أحد؟ فأجابت: لا يا سيدي، فقال لها يسوع: وأنا لا أحكم عليك، اذهبي ولا تعودي إلى الخطيئة» (٨: ١–١١).

ويسبغ يوحنا على قصة لقاء يسوع بيوحنا المعمدان، والتي أوردها بشكلٍ مختلف عن الإزائيين، معاني لاهوتية خاصة به، فيسوع لم يعتمد على يد يوحنا؛ لأنه الابن المؤله الذي ولد بلا خطيئة يغسلها العماد، وهو أعظم من يوحنا وبالتالي لا موجب لكي يركع أمامه ويعتمد على يديه، ويوحنا يشهد له بأنه ابن الله، وهو الذي رأى دون غيره، الروح القدس ينزل عليه، ولكن من غير أن يعين المكان والزمان: «فسألوه أيضًا (الكتبة واللاويون): إذا لم تكن المسيح ولا إيليا ولا النبي، فلم تُعمد إذًا؟ فأجابهم يوحنا: أنا أعمد بالماء وبينكم من لا تعرفونه ذاك الذي يأتي من بعدي ولست أهلًا لأن أحل سيور حذائه … وفي اليوم الثاني رأى يسوع آتيًا نحوه فقال: هو ذا حَمَل الله الذي يحمل خطيئة العالم، هذا الذي قلت فيه: يأتي بعدي رجلٌ قد تقدمني؛ لأنه كان قبلي، ولم أكن أعرفه، فجئت أعمد بالماء لكي ينجلي لإسرائيل وشهد يوحنا قال: رأيت الروح ينزل كأنه حمامةٌ فيستقر عليه، ولم أكن أعرفه، ولكن الذي أرسلني أعمد بالماء قال لي: إن الذي ترى الروح ينزل عليه فيستقر، هو ذاك الذي يعمد بالروح القدس، وأنا رأيته وشهدت له بأنه ابن الله» (يوحنا ١: ٢٤–٣٤).

ينفرد يوحنا هنا بتعبير «حَمَل الله»، وهو من خلال هذا التعبير يقارن بين يسوع وحَمَل الفصح الذي يضحي به اليهود ابتداءً من بعد ظهر اليوم السابق للفصح، والذي يحمل دمه المراق مفعولًا تطهيريًّا وخلاصيًّا عند اليهود، ولكن على عكس حَمَل الفصح الذي يطهر اليهود من خطاياهم، فإن حَمَل الله هذا سوف يحمل خطيئة العالم بأكمله وذلك بموته على الصليب؛ ولهذا السبب فقد انفرد يوحنا عن الإزائيين بجعله واقعة الصلب في اليوم السابق للفصح؛ لكي تكتمل رمزية الفداء وتأخذ أبعادًا كونية غير مسبوقة في الأناجيل الإزائية، مؤسسة بذلك لأهم ركن في اللاهوت المسيحي المقبل.

وينعكس اختيار يوحنا لليوم السابق على الفصح يومًا للصلب، على قصة العشاء الأخير، فالعشاء الأخير عند الإزائيين كان عشاء فصح وحصل عشية الفصح، أما عند يوحنا فقبل ذلك بأربع وعشرين ساعة، وهنا تختلف الرسالة في كلتا القصتين، فبينما يركز الإزائيون على طقس التناول الذي ابتدره يسوع في تلك الجلسة، عندما أخذ خبزًا وبارك ثم كسره وناولهم، وقال: «خذوا هذا هو جسدي، ثم أخذ كأسًا وشكر وناولهم فشربوا منها كلهم، وقال لهم: هذا هو دمي، دم العهد، الذي يراق من أجل جماعةٍ كثيرة» (مرقس ١٤: ٢٢-٢٣)، (راجع أيضًا متَّى ٢٦: ٢٦–٢٨، ولوقا ٢٢: ١٧–٢٠)، فإن يوحنا يتجاهل هذه المناولة ويستبدلها بقيام يسوع بضرب مثل عملي لتلاميذه على المحبة والتواضع، عندما قام وغسل أرجلهم جميعًا (يوحنا ١٣: ٤–٦).

ومن أهم خصائص إنجيل يوحنا تركيزه على كراهية يسوع لليهود، وسعي اليهود منذ البداية لقتله والتخلص منه، وإذا كان الإزائيون قد جعلوا من النخبة اليهودية المتمثلة في الفريسيين والكتبة والناموسيين من علماء الشريعة، الخصوم الرئيسيين ليسوع فإن إنجيل يوحنا يشير على الدوام إلى اليهود جملةً باعتبارهم خصومًا ليسوع يرومون هلاكه بسبب إفساده للعقيدة: «وأخذ يسوع بعد ذلك يسير في الجليل، ولم يشأ أن يسيروا في اليهودية؛ لأن اليهود كانوا يريدون قتله … وكان اليهود يطلبونه في العيد، ويقولون: أين هو» (يوحنا ٧: ٢٥-٢٦) وقد وصف يسوع اليهود بأبشع الأوصاف، فهم أولاد الأفاعي وقتلة الأنبياء وأولاد الشيطان: «فقال يسوع لليهود … إنكم أولاد أبيكم إبليس، وأنتم تريدون إتمام شهوات أبيكم، ذاك كان منذ البدء مهلكًا للناس لم يثبت على الحق» (يوحنا ٨: ٣١–٤٤).

(٧) رسالة يسوع في إنجيل يوحنا

في الأناجيل الإزائية تمحورت أقوال يسوع حول الأب السماوي، وقرب حلول ملكوت الله الذي سيفتتحه المسيح في قدومه الثاني، هابطًا من السماء على جناح الغمام، فيفصل بين الأشرار والأخيار، ويرسل الأشرار إلى عذابٍ أبديٍّ، ويجعل الأخيار ينعمون بسعادةٍ أبدية، أما يسوع يوحنا فلا يبدي انشغالًا بملكوت الله، وهذا التعبير لم يرد في أقواله إلا مرةً واحدة (بينما ورد في الأناجيل الإزائية ثمانين مرة)، وحتى في هذه الحالة فقد اتخذ مفهوم ملكوت الله معاني مختلفة تمامًا عن معناه لدى الإزائيين، نقرأ في يوحنا ٣: ٥–٨: «الحق، الحق أقول لك: ما من أحد يمكنه أن يرى ملكوت الله إلا إذا ولد من علٍ، فقال له نيقوديموس: كيف يسع الإنسان أن يولد وهو شيخٌ كبير؟ أيستطيع أن يدخل في بطن أمه ثانية ثم يولد؟ أجاب يسوع: الحق، الحق أقول لك، ما من أحد يمكنه أن يدخل ملكوت الله إلا إذا ولد وكان مولده من الماء والروح، فمولود الجسد يكون جسدًا، ومولود الروح يكون روحًا.» أي إن دخول الملكوت لن يتيسر في زمنٍ مقبل، بل هو متاحٌ الآن وهنا إذا مات الإنسان عن نفسه وعاش في الله.

ورسالة يسوع ليست رسالة آخروية وإنما هي رسالة عرفان روحي، يتحقق من خلال معرفة الابن الذي هو تجسيد لله على الأرض، والإيمان بأنه ابن الله الوحيد، الذي حمل الخلاص للعالم بموته على الصليب؛ لهذا فإن يوحنا لا يهتم في مطلع إنجيله بتتبع الأصل الأرضي ليسوع، على طريقة متَّى ولوقا، وإنما يفتتح نصه بمقدمةٍ فلسفية صوفية تتتبَّع أصل يسوع السماوي، باعتباره الكلمة–الابن، الذي كان عند الله منذ الأزل، والذي صار جسدًا وحل بين الناس في هيئة يسوع الناصري، الابن الوحيد الذي أتى من لدن الآب، نقرأ في إنجيل يوحنا ١: ١–١٨:

«في البدء كان الكلمة، والكلمة كان لدى الله، والكلمة هو الله، كان منذ البدء لدى الله، به كل كل شيء، وبغيره لم يكن شيء مما كان، هو الحياة لكل موجود، والحياة نور الناس، والنور يضيء في الظلمات، ولا تغشاه الظلمات، ظهر رسول من لدن الله اسمه يوحنا، جاء شاهدًا ليشهد للنور، فيؤمن على يديه جميع الناس، لم يكن هو النور، بل شاهدًا للنور، الكلمة هو النور الحق الذي ينير كل إنسان، كان قادمًا إلى العالم، وكان في العالم، ولم يعرفه العالم، جاء إلى بيته، فما قبله أهل بيته، أما الذين قبلوه فقد أولاهم أن يصيروا أبناء الله، هم الذين آمنوا باسمه، وهو ليس من دم، ولا من رغبة ذي لحم، بل الله ولَدَه، والكلمة صار بشرًا فسكن بيننا فرأينا مجده، مجد الابن الواحد الذي أتى من لدن الأب ملؤه النعمة والحق، شهد له يوحنا فهتف: هذا الذي قلت فيه إن الذي يأتي بعدي قد تقدمني؛ لأنه كان قبلي، ومن ملئه نلنا بأجمعنا نعمةً على نعمة؛ لأن الشريعة أتتنا على يد موسى، وأما النعمة والحق فقد بلغا إلينا على يد يسوع المسيح، ما من أحد رأى الله، الابن الواحد الذي في حضن الآب هو الذي أخبر عنه.»

ويكمل هذه المقدمة ما ورد على لسان يسوع في الإصحاح الثالث: «لم يصعد أحدٌ إلى السماء، إلا الذي نزل من السماء … إن الله بلغ من حبه للعالم أن جاد بابنه الواحد، لكي لا يهلك من يؤمن به، بل ينال الحياة الأبدية، فإن الله لم يرسل ابنه إلى العالم ليحكم على العالم، بل ليخلص العالم، فمن يؤمن به لا يحكم عليه، ومن لم يؤمن به حُكم عليه؛ لأنه لم يؤمن باسم ابن الله وواحده، وإنما الدينونة هي أن النور جاء إلى العالم، فاستحب الناس الظلام على النور؛ لأن أعمالهم سيئة» (يوحنا ٣: ١٣–١٩).

من هنا، فقد كان اللقب الذي أحب يسوع يوحنا أن يستخدمه في الإشارة إلى نفسه هو لقب الابن، الابن الغريب عن هذا العالم، «فقال لهم (لليهود) أنتم من أسفل أما أنا فمن فوق، أنتم من هذا العالم، أما أنا فلست من هذا العالم» (٨: ٢٣). وهذا بالفعل هو جوهر رسالة الإنجيل الرابع: يسوع الابن، ابن الله الآب، الذي جاء من عند الآب وإلى الآب يعود: «لأني من الله خرجت وأتيت، وما أتيت من نفسي بل هو الذي أرسلني» (٨: ٤٢). «لأن الكلام الذي بلغتنيه بلغتهم إياه، فقبلوه وعرفوا حقًّا أني من لدنك أتيت، وآمنوا بأنك أنت أرسلتني» (١٧: ٨). «أتيت من لدن الآب وجئت إلى العالم، أما الآن فإني أترك العالم وأمضي إلى الآب» (١٦: ٢٨). «لأني إلى الآب ذاهب» (١٤: ١٢). والطريق إلى معرفة الآب هي معرفة الابن لأنهما من طبيعة واحدة: «أنا هو الطريق والحق والحياة، لا يمضي أحدٌ إلى الآب إلا إذا مر بي، فإذا كنتم تعرفونني عرفتم أبي أيضًا، وقد عرفتموه ورأيتموه … من رآني رأى الآب … صدقوا قولي: إني في الآب، وإن الآب فيَّ» (١٤: ٦–١١).

هذه المعرفة هي التي تضمن الحياة الأبدية: «من يؤمن بالابن فله الحياة الأبدية، ومن لم يؤمن بالابن لا يرى الحياة الأبدية» (٣: ٣٦). فهو ماء الحياة: «من يشرب من هذا الماء فلا بد له أن يظمأ، وأما من يشرب من الماء الذي أعطيه إياه فلن يظمأ أبدًا» (٤: ١٣). «من كان عطشانَ فليأتني، ومن آمن بي فليشرب» (٧: ٣٨). وهو خبز الحياة، قال لليهود: «آباؤكم أكلوا المن في البرية وماتوا، هو ذا الخبز النازل من السماء ليأكل منه الإنسان فلا يموت، أنا الخبز الحي الذي نزل من السماء» (٦: ٤٩–٥١).

وفي الحقيقة فإن هذه الأقوال وغيرها ممَّا سنورده لاحقًا من إنجيل يوحنا تشف عن طابعٍ غنوصي لا يخفى، كما سيتضح لنا في سياق الفصل القادم، الذي سنقدم من خلاله الخطوط العامة للفكر المسيحي الغنوصي اعتمادًا على نصوصه الأصلية، وعلى الرغم من أن إنجيل يوحنا ليس إنجيلًا غنوصيًّا بالمعنى الدقيق للكلمة، إلا أنه يشكل في حقيقة الأمر صلة وصل بين الأناجيل الأربعة والأناجيل الغنوصية.

١  دعا أتباع كنيسة روما أنفسهم بقويمي الإيمان، ودعوا كنيستهم بالقويمة، أو الأورثوذكسية بالتعبير اليوناني، والأورثوذكسية بهذا المعنى لا علاقة لها بالكنيسة البيزنطية اللاحقة التي دعت نفسها أورثوذكسية أيضًا.
٢  قامت الترجمة الكاثوليكية الجديدة بتغيير موقع هذه القصة من بلدة جدرة البعيدة عن بحر الجليل إلى بلدة جراسة الواقعة على شاطئه، فقالت: «في ناحية الجراسيين» بدلًا من «في ناحية الجدريين»، وهذا نموذجٌ آخر عن استمرار عملية التحرير في العهد الجديد.
٣  ترد هذه الجملة في الترجمة الكاثوليكية الجديدة على الوجه التالي: «(٢٥) على أنه لم يعرفها فولدت ابنًا فسماه يسوع.» وورد في الهامش تبريرًا لحذف جملة: «حتى ولدت ابنها البكر» مفاده أن مريم بقيت بكرًا بعد ولادتها ليسوع، على ما أجمع عليه التقليد المسيحي منذ القديم. وفي الحقيقة فإن مثل هذا التعديل على النص يثبت لنا أن عملية تحرير النص الإنجيلي ما زالت مستمرة إلى يومنا هذا.
٤  «فتاي» هكذا وردت في كل الترجمات العربية للإنجيل، بينما وردت «عبدي» سواء في الأصل العبري لنص إشعيا، أو في النص اليوناني لنص متَّى، وبهذه الطريقة أوردتها ترجمة الملك جيمس الكلاسيكية للكتاب المقدس، وهذا مثال ثانٍ على تعديل النص المقدس بما يتلاءم مع اللاهوت المسيحي اللاحق.
٥  بخصوص النص الأصلي لمرقس وافتقاره إلى الخاتمة التي تتضمن ظهورات المسيح بعد القيامة وراجع: Geza Vermes, The Changing Faces of Jesus, pp. 161, 184.
جيمس بنتلي: اكتشاف الكتاب المقدس في سيناء، ترجمة آسيا الطريحي، دار سينا للنشر، القاهرة ١٩٩٥م، الصفحات: ١٢٥-١٢٦.
٦  ألبير باييه، أخلاق الإنجيل: دراسة سيسيولوجية، ترجمة عادل العوا، دار كنعان، دمشق، ١٩٩٧م، ص١٥٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤