الفصل السادس

الانتفاضة الأخيرة للغنوصية البوجوميل والكاثار

بينما كانت الغنوصية المسيحية تدافع عن وجودها في أصقاع الإمبراطورية الرومانية، شرقًا وغربًا، خلال النصف الثاني من القرن الثالث، كانت الغنوصية المانوية، التي أسسها المعلم ماني المولود في بابل (٢١٦–٢٧٥م)، تنتشر مثل الإعصار، فقد انتشرت في فارس والعراق وسورية خلال حياة ماني، وبعد وفاة ماني انتقلت من سورية إلى مصر، حيث تشكلت جماعات مانوية قوية التأثير في الحياة العامة والسياسية، كما دانت إمارة الحيرة العربية بالمانوية عندما اعتنق ملكها عمر بن عدي ديانة ماني، وصار من أشد المدافعين عنها خلال فترة حكمه التي امتدت من ٢٧٠ إلى ٣٠٠ ميلادية، ومن الحيرة خرجت بعثات تبشيرية مانوية إلى جزيرة العرب على ما يروي الجغرافي العربي ابن رستة، فوصلت إلى مكة واستمالت فريقًا من أهلها، بينما يروي المؤرخ ابن قتيبة أن القرشيين قد جلبوا هذه البدعة من بلاد الشام، ومن مصر انتشرت المانوية إلى شمال إفريقيا وإلى إسبانيا، كما عبرت سورية إلى آسيا الصغرى واليونان وإيطاليا وأوروبا الوسطى، وباتجاه الشرق انتشرت المانوية خلال حياة ماني إلى المناطق الهندية القريبة من إيران، وصارت ديانة رسمية لمملكة طورفان. وبعد وفاة ماني صارت مدينتا سمرقند وطقشند في إقليم الصغد مركزًا للدعوة المانوية، ومنهما انتقل المبشرون على طول طريق الحرير نحو أعماق الشرق حتى طرقوا باب الإمبراطور الصيني وشرحوا له معتقدهم، ونحو عام ٧٦٠م صارت المانوية الديانة الرسمية لمملكة أويغور الصينية الحدودية، التي كانت تسيطر على أجزاء كبيرة من مناطق آسيا الوسطى.

لم تكن المانوية فرعًا من الغنوصية المسيحية على الرغم من أنها الابن الشرعي لها، بل كانت ديانة توفيقية حاولت الجمع بين الديانات الكبرى السائدة في ذلك الوقت من خلال منظور غنوصي، وقد اعتبرها بعض مؤرخي الأديان بمثابة الدين العالمي الرابع بعد المسيحية والإسلام والبوذية، تتفق الغنوصية المانوية مع الغنوصية المسيحية في نقطتين رئيسيتين، هما أن العالم شر ومحكوم من قبل القوى الشريرة، وأن العرفان لا الإيمان هو الذي يقود إلى خلاص الروح، التي هي قبس من النور الأعلى حبيس في المادة. ولكن المانوية تفتقد إلى عنصر المخلص ذي الطبيعة الإلهية، الذي يتجلى بشرًا في عالم الإنسان ليقدم له الخلاص، وهي لا تعتمد أيًّا من الأناجيل المسيحية الرسمية منها أو الغنوصية، وإنما تعتمد ما خطه ماني بيده من كتب مقدسة.١ وبما أن دراستنا هنا تقتصر على الغنوصية المسيحية، فإننا سوف نتجاوز المانوية إلى حركتين مهمتين في تاريخ الغنوصية المسيحية، هما البوجوميل والكاثار اللتان بقيتا تصارعان من أجل البقاء بعد انتصار الكنيسة القويمة.
انتشر في أرمينيا منذ وقت مبكر من العصر المسيحي شكل من المسيحية غير القويمة، على يد مبشر قدم من أورشليم يدعى عاديا. وقد بشر عاديا بعقيدة تقول إن المسيح ليس ابن الله، بل هو كائن بشري تبناه الله وجعل منه ابنًا له، ثم تطور ضمن هذه العقيدة تنويع آخر، يقول بوجود إلهين أعليين لا إله واحد، الأول هو الأب السماوي الأعلى والثاني هو الديميرج خالق هذا العالم، وعندما صارت المسيحية القويمة دينًا رسميًّا للإمبراطورية الرومانية، تم تصنيف هذه المسيحية الأرمينية في زمرة الهرطقات الكبرى، ولكنها بقيت في منأى عن بطش السلطات الكهنوتية في روما، وأخذت تجتذب إليها جماعات غنوصية تم تهجيرها من مواطنها الأصلية، فأقامت في أرمينيا وشكلت مع أتباع عقيدة التبني مذهبًا غنوصيًّا عُرف بالمذهب البوليسي، نسبة إلى بولس الرسول، وقد عُرف هؤلاء البولسيون بنزعتهم الحربية وميلهم المستميت إلى الدفاع عن عقيدتهم الدينية، وعندما أفلحت السلطات البيزنطية أخيرًا في الضغط على البولسيين وتهجيرهم، توجهت جماعات منهم غربًا واستقرت في مكدونيا وبلغاريا والبلقان، وهناك تلاقحت أفكارهم مع أفكار جماعات محلية غير أرثوذكسية، ونجم عن ذلك مذهب قوي آخر في سياق القرن العاشر الميلادي، عُرف بمذهب البوجوميل نسبة إلى كاهن مسيحي اسمه بوجوميلوس، وقد قام البوجوميل بهجوم معاكس سياسي وعقائدي على بيزنطة، وتمتعوا بجاذبية خاصة بين الجماهير بسبب نقدهم الشديد لسلوك الأباطرة البيزنطيين، ولفساد الكنيسة البيزنطية، فكان لهم جماعات سرية أو علنية في أقطار عديدة من الإمبراطورية البيزنطية، ولكن الاضطهادات الدموية التي تعرضوا لها من قبل الكنيسة الرسمية والسلطات البيزنطية، قد أدت إلى تشتيتهم تدريجيًّا خلال القرن الثاني عشر، ومع ذلك فإن كنيسة غنوصية قد بقيت قائمة في البوسنة حتى القرن الخامس عشر، وتحول من بقي من أتباعها بعد ذلك إلى الإسلام، وعلى الرغم من ذلك فقد تمتعت الكتابات البوجوميلية التي دوِّنت باللغة السلافية القديمة بانتشار واسع، وأثرت في الأدب الشعبي السلافي، وحتى وقت متقدم من العصور الحديثة كان الشحاذون على أبواب الكنائس في روسيا ينشدون أغاني احتفظت بطابعها البوجوميلي القديم.٢

اعتبر البوجوميل كتاب العهد القديم من صنع الشيطان، ولم يتبنوا من أناجيل العهد الجديد سوى إنجيل يوحنا الذي رأوا فيه إبانة عن الله الحق، وهم يقولون بثنوية معتدلة لا تجعل من الشيطان إلهًا مستقلًّا، بل تجعله ابنًا لله خرج عن طاعته وعصاه، فهم يؤمنون بإله واحد أعلى هو الإله المسيحي الطيب صانع كل ما هو خيِّر وحسن، ويعتقدون بأن الإله الطيب قد أنجب ابنه البكر لوسيفر، الذي يعني اسمه حامل الضياء نظرًا لشدة بريقه ولمعانه، إلا أن لوسيفر هذا عصا أباه، وسقط من المستوى الروحاني الأعلى بمحض إرادته، وصار اسمه ساتانا–إيل، أي الشيطان، وهم في تبنيهم لقصة التكوين التوراتية، فإنهم يعزونها إلى الشيطان لا إلى الله، فقد خلق الشيطان (إله العهد القديم) السموات والأرض، انطلاقًا من المادة القديمة المتمثلة بالمياه الأولى، كما خلق الإنسان، ولكن روح الإنسان، كما هو الحال في بقية النظم الغنوصية، قد استُمدت من روح الله؛ ولذلك فقد عمل الله على إنقاذ أرواح البشر عن طريق «الكلمة»، التي تجسدت في الشكل الشبحي ليسوع المسيح على الأرض، ومن الناحية التنظيمية، انقسم البوجوميل إلى ثلاث شرائح، على الطريقة المانوية، هي شريحة الكاملين المهيئين للانعتاق من دورة تناسخ الأرواح في هذا العالم، تليها شريحة السمَّاعين المؤهلة للتحول إلى شريحة الكاملين في التناسخ المقبل، فشريحة عامة المؤمنين، وكان الالتزام بالأخلاقيات والسلوكيات البوجوميلية يختلف من شريحة لأخرى، فكانت شريحة الكاملين بمثابة النموذج الأعلى في الالتزام، فلم يكن أفرادها يتناولون الخمر أو اللحم، وعاشوا حياة زهد وتنسك تحكمها قواعد أخلاقية وسلوكية صارمة.

لقد وصف أحد آباء الكنيسة في القرن الثاني الميلادي الغنوصية بأنها مثل التنين الذي إذا قطعت له رأسًا نبت له رأس آخر محله، وها هو تاريخ الغنوصية يثبت صحة ذلك الوصف، فبعد القضاء على البوجوميل في البلقان وأوروبا الوسطى، انتشرت أفكارهم إلى فرنسا عن طريق مناطق إيطاليا الشمالية، وتجلت في معتقد غنوصي جديد هو المعتقد الكاثاري.

من بين الفرق الغنوصية التي عبرت المحن وعاشت حتى القرون الوسطى، كانت الفرقة الكاثارية أكثرها نجاحًا، وأشدها خطورة على الكنيسة الرسمية من أي هرطقة أخرى، تواجد الكاثار (أو الكاثاريون) بشكل خاص في مقاطعة Lanuedoc في الجنوب الفرنسي، فيما بين مدينة بوردو شمالًا وسفوح جبال البيرينيه على حدود إسبانيا جنوبًا، لم تكن هذه المقاطعة في مطلع القرن الثاني عشر جزءًا من فرنسا، بل منطقة مستقلة بلغتها وثقافتها ونظامها السياسي، يحكمها عددٌ من الأسر النبيلة برئاسة كونت تولوز وعائلة ترانسفال المتنفذة، ضمن هذه المساحة الواسعة التي تضم عشرات المدن، من بينها ألبين ومونبيلييه وتولوز ومرسيليا، نشأت ثقافة كاثارية متميزة كانت الأكثر تطورًا في الغرب المسيحي بعد بيزنطة، فقد انتشر فيها التعليم ونشطت التيارات الفكرية والفلسفية المختلفة، وعلا شأن الشعر والشعراء وتعلم الطلاب اللغات اليونانية واللاتينية والعربية، وكان النبلاء يرعون هذه النشاطات ويشاركون فيها، في الوقت الذي لم يكن فيه نبلاء الشمال قادرين على كتابة أسمائهم، ونظرًا لقرب المنطقة من مركز الإشعاع الحضاري في الأندلس، فقد وردتها تأثيرات عربية عن طريق الموانئ البحرية وعبر جبال البيرينيه، دُعيت هذه الغنوصية المسيحية المتأخرة بالكاثارية، نسبة إلى كلمة كاثاري، التي تعني نقيًّا أو طهورًا، كما دعيت بالألبينية نسبة إلى مدينة ألبين Albin أهم مراكزها في الجنوب الفرنسي.

وعلى الرغم من أن العقيدة الكاثارية قد صارت عقيدة رسمية لمجتمع ولنظام سياسي معين، فإنها لم تشكل كنيسة بالمفهوم المسيحي القويم، أو بالمفهوم المانوي، ولم تتحول إلى أيديولوجيا دينية مصاغة في قالب دوغمائي منمط، بل كانت تضم عددًا من الطوائف التي يتبع كل منها مرشدًا روحيًّا ويتكنَّى باسمه، أي إنها بقيت أمينة لمبادئ الغنوصية المسيحية المبكرة، التي عرفناها في القرون الأولى للميلاد، ولكن على الرغم من اختلاف الطوائف الكاثارية في تفاصيل المعتقد والممارسة، إلا أنها تتفق على عدد من المبادئ، وعلى رأسها العرفان وتناسخ الأرواح والثنوية الكونية.

لقد رفض الكاثار المؤسسة الدينية كوسيط بين الله والناس، وكمفسر لِوَحْي الكتاب، كما رفضوا مفهوم الإيمان المسيحي، وأكدوا على العرفان الداخلي الذي يقود إلى الانعتاق من دورة التناسخ، وقد استتبع ذلك رفضهم لفكرة المسيح المتجسد، ورفض المضمون الخلاصي لواقعة الصلب، والصليب كرمز لخلاص الإنسان، بل لقد رأوا في الصليب رمزًا لأمير الظلام حاكم العالم المادي والعدو الأول لمبدأ الخلاص، ورأوا في كنيسة روما تجسيدًا لسلطان أمير الظلام على العالم، ومع ذلك فقد اعتبروا أنفسهم المسيحيين الحقيقيين، واعتقدوا بمسيح سماوي لم يتجسد في إنسان؛ لأن الجسد الإنساني ينتمي إلى عالم المادة المظلمة صنيعة الشيطان، ومن غير الممكن للمسيح أن يلبس جسدًا ويبقى في الوقت نفسه ابنًا لله.

لا يقف المعتقد الثنوي الكاثاري عند حدود الثنوية الأخلاقية للمسيحية، وإنما يتعداه إلى ثنوية كونية تتخلل جميع مظاهر الوجود قطباها مبدآن متصارعان على كل صعيد، المبدأ الأول روحاني جوهره الحب، والمبدأ الثاني مادي جوهره القوة، الأول هو الله والثاني هو الشيطان، وبما أن الخلق والتكوين هو عملٌ من أعمال القوة لا من أعمال الحب، فإن العالم المادي قد صنعه الشيطان، ملك الدهر وأمير هذا العالم، من هنا، فإن المادة بجميع أشكالها شر، بما في ذلك جسد الإنسان، فبعد أن انتهى أمير العالم من عمل التكوين وجاء إلى صنع الإنسان، وجد نفسه غير قادر على بث الحياة في الجسد الطيني للزوجين الأولين، فعمد إلى اصطياد روحين ملائكيتين من الأعالي وسجنهما في الهيئة المادية التي صنعها، فنهض أمامه آدم وحواء بشرًا سويًّا بجسدٍ ظلامي وروح نورانية، ولما كان ملك العالم راغبًا في احتباس مزيد من الأرواح في المادة الكثيفة، فقد أغوى آدم وحواء وزين لهما الفعل الجنسي، الذي يقود إلى التكاثر فكانت الخطيئة الأصلية للإنسان.

عندما بدأ أولاد آدم يتكاثرون، أعلن الشيطان ألوهته لهم عن طريق أخنوخ بن يارد (انظر سفر التكوين ٥: ١٨–٢٤)، الذي رفعه إليه وأعطاه ريشة وحبرًا فكتب سبعة وستين كتابًا، وأمر بأن تُحمل إلى الأرض وتُسلم للناس لكي تعلمهم كيفية إقامة الطقوس وتقديم القرابين، وأشياء أخرى تُخفي عنهم ملكوت السماء، وكان الشيطان يقول لهم: آمنوا فأنا إلهكم ولا إله إلا أنا، بعد ذلك أعلن ألوهته لموسى واختار اليهود شعبًا له، وأعطاهم الشريعة على يد موسى، وقادهم عبر البحر الذي انشق أمامهم؛ ولهذا نزل المسيح إلى العالم، وقبل نزوله أرسل الله ملاكه قبله واسمه مريم ليستقبل فيه الابن، فلما نزل، دخل عبر الأذن من مريم وخرج من الأذن الأخرى، وعندما علم الشيطان بنزول الابن أعطى اليهود ثلاثة أنواع من الخشب ليصلبوه، واعتقد في ضلالته أنه قد أماته.٣

وعلى الرغم من كل مجهود للشيطان، فإن الإنسان قادر على إزالة أثر الخطيئة الأصلية من خلال التعرف على أصله النوراني، ومقاومة كل تأثير للعالم المادي عليه، وهو في سعيه لتحرير روحه إنما يشارك في الوقت نفسه بالسعي الخلاصي الكوني، الذي يهدف إلى القضاء على مملكة الشيطان، ومع ذلك، فإن سعي الإنسان هذا يبقى قاصرًا إذا لم يرفده مدد من عند الله. لقد شعر الأب النوراني بالعطف نحو ملائكته المحبوسة في أجساد بشرية مادية، وغفر للإنسان خطيئته الأصلية التي ارتكبها جهلًا لا اختيارًا، فأرسل ابنه المسيح لمساعدتهم على الخلاص، كما أمدهم بالروح القدس لتوجيههم وتعليمهم، وعلى الرغم من أن المسيح قد تألم في الأعالي من أجل الإنسانية وتعاطف معها، فإنه لم يكن له أن يتألم ويعاني في ظهوره الشبحي على الأرض، حيث تراءى للناس في هيئة وشكل، ولكن حضوره بينهم كان أشبه بحضور ملائكي منظور ومسموع، ولكن من غير قوام مادي؛ لهذا فإن الإنسان لا يستطيع أن يلتمس المسيح في الكنائس لأنها ليست بيتًا له، وإنما يلتمسه في هيكل النفس ويطلب عونه على الخلاص بالمعرفة، وعندما تنتصر الإنسانية على الشيطان وتخلص من ربقته، فإن هذا الانتصار لن يتوج ببعث الأجساد التي تعود للاتحاد بأرواحها، بل بتدمير الجسد مع ما يتم تدميره من عالم الشيطان، عندما تأتي السيادة النهائية للعالم الروحاني بعد فناء العالم المادي وقهر صانعه.

تختلف ثنوية المعتقد الكاثاري عن ثنوية البوجوميل المعتدلة في النظر إلى طبيعة تناقض المبدأين، فالتناقض بين النور والظلام لدى الكاثارية هو تناقض مطلق، وتعارضهما أزلي؛ لأنهما مبدآن مستقلان ومنفصلان أصلًا ولم ينشأ أحدهما عن الآخر، فالكاثارية في هذا أقرب إلى المانوية من أي معتقد غنوصي آخر، فالخيار الحر لم يكن السبب في سقوط الشيطان واستقلاله عن الله؛ لأن الشيطان كان في استقلال منذ البداية، ولم يكن لله في أي وقت سلطان عليه، على الرغم من أنه سيربح حربه تدريجيًّا في نهاية المطاف، وكما لم تكن الحرية سببًا في سقوط الشيطان، فإنها لم تكن أيضًا السبب في سقوط الإنسان؛ لأن الإنسان قد سقط عنوة في إسار الشيطان، ولم يكن له خيار في ذلك، ولكنه قادر على التحرر عبر حيوات متتالية، يعمل خلالها على تكميل معرفته، وتطهير روحه من عالم المادة، الذي هو الجحيم بعينه ولا جحيم غيره، هذا التطهير التدريجي يتم عن طريق رفض العالم رفضًا كليًّا، ونبذ الشروط التي تجعل الوجود الإنساني المادي ممكنًا، وهذا يعني الامتناع عن الزواج والمعاشرة الجنسية، التي تؤدي إلى استمرار النسل الإنساني، وتقديم مزيد من الرعايا لإله هذا العالم، يضاف إلى ذلك الامتناع عن أكل الحيوان؛ لأنه نتاج عملية التناسل المادية، وعدم تملك أي شيء من متاع الدنيا، وممارسة الزهد والتقشف إلى أبعد حد ممكن، وعلى النطاق الأخلاقي، على الكاثاري التزام الصدق وحسن معاملة الآخرين، وعدم إيذاء جميع الكائنات الحية.

ولما كان هذا النهج عسيرًا على معظم الناس، فقد انقسم الكاثاريون إلى شريحتين، الأولى شريحة رهبانية منذورة للخلاص القريب، هي فئة الكاملين الذين يلتزمون السلوكيات والأخلاقيات الكاثارية بحذافيرها، ويتفرغون للتأمُّل والمعرفة الباطنية والرياضات الروحية، والثانية هي شريحة سواد الناس الذين يمارسون حياتهم الاعتيادية، ويتبعون سلوكيات وأخلاقيات أقل صرامة، ويدعمون الكاملين، ويقبلون توجيههم الروحي، وذلك على أمل الالتحاق بهم في تناسخات مقبلة. ذلك أن الانتماء إلى جماعة الكاملين متاح أمام الجميع، ولمن يجد في نفسه القوة الروحية اللازمة، وباب السماء مفتوح لكل من يشاء اختصار دورة الحياة والموت والالتحاق بالأبدية، يتم قبول المريدين الجدد إلى جماعة الكاملين بعد طقس إدخالي خاص، يؤمن عبور المريد من عالم ملذات الدنيا الفانية إلى عالم متع الروح الصافية، ومن أهم فقرات هذا الطقس، عميلة التعميد الروحي التي تتم من خلال وضع يد الشيخ على رأس المريد، بعد فترة اختبار تدوم عامًا كاملًا، يكشف خلالها الشيوخ للمريدين المقبولين أسرار العقيدة المخفية عن عامة المؤمنين، ويغدو هؤلاء المريدون أعضاءً عاملين في سلك الرهبنة الكاثارية.

نحو عام ١٢٠٠م، شعرت الباباوية الكاثوليكية بأن المقاطعة الكاثارية في فرنسا، وجيوبها المتفرقة في أنحاء عديدة من الغرب المسيحي، باتت تشكل خطرًا حقيقيًّا عليها، فأمر البابا إنوسنت الثالث بتجهيز حملة عسكرية دعاها بالحملة الصليبية الألبينية، ووجهها إلى جنوب فرنسا عام ١٢٠٩م، كان قوام الحملة ثلاثين ألف جندي من المشاة والفرسان الذين انحدروا من الشمال كالإعصار نحو مقاطعة الكاثار، وكان أجرهم هو ما يحصلون عليه من أسلاب وغنائم، إضافة إلى صك غفران يضمن لهم مكانًا في الجنة، ويروي أحد مؤرخي تلك الحملة أن قائدها سأل ممثل البابا الذي يرافقه عن كيفية تمييز الهراطقة من المسيحيين في المدن المفتوحة قبل إعمال السيف فيهم، فقال له: اقتلهم جميعًا واترك لله بعد ذلك أن يميز رعيته بينهم. وهذا ما حصل فعلًا، فقد أحرق الصليبيون الجدد الأرض ومسحوا المدن الآمنة فسووها بالتراب، وأفنوا سكانها عن بكرة أبيهم دون تمييز، وفي هذه الأثناء، كان الممثل البابوي في الحملة يرسل تقارير التي تثلج قلب الفاتيكان قائلًا: إن السيف لم يميز ضحاياه تبعًا للجنس أو السن أو المكانة الاجتماعية،٤ ولكن هذه الحملة الألبينية الأولى لم يقدر لها أن تنتهي بسرعة، على الرغم من النجاحات التي حققتها في الهجمات الأولى، وذلك بسبب المقاومة العنيفة التي أبداها الكاثاريون الذين انسحب خيرة مقاتليهم إلى المناطق الوعرة والصعبة الاجتياز على الجيوش النظامية، ومن هناك كانوا يشنون حرب عصابات أرهقت الجيش البابوي، كما بقي عدد من المواقع الحصينة في يد الكاثار مدة أربعين سنة أخرى، إلى أن سقطت مدينة Monstegur في عام ١٢٤٤م، وكانت آخر معاقل الكاثار. وبذلك تم محو أرقى ثقافة في أوروبا القرون الوسطى عن الخارطة الأوروبية المظلمة.
١  للتوسع في موضوع المانوية، انظر مؤلفي (الرحمن والشيطان) فصل المانوية، دار علاء الدين، دمشق، ٢٠٠٠م.
٢  للتوسع في موضوع البوجوميل والكاثار، انظر المراجع التالية: فقرة Cathari في موسوعة Encyclopedia of Religion، تحرير M. Eliade، الجزء الثالث، الصفحات ١١٥–١١٧، وفقرة Gnosticism، من الموسوعة نفسها، الجزء الخامس، الصفحات ٥٦٦–٥٧٩.
  • Kurt Rodolph, Gnosis, pp. 374–376.
  • Michael Baigent, The Holoy Blood and the Holy Grail, pp. 10–32.
٣  حول هذه الأفكار المتعلقة بتاريخ الشيطان في العالم وإيحائه لأخنوخ وخلفائه، وإعلان ألوهته لموسى، انظر إنجيل يوحنا المنحول، وهو أحد الكتب التي تداولتها شيعة الكاثار، ولم يرد في مكتبة نجع حمادي: Book of John the Evangelist, in: Montague, R. James, The Apocryphal New Testament, pp. 187–193.
٤  حول تفاصيل الحملة الألبينية على الكاثار انظر بشكل خاص الصفحة ٢٠ وما بعدها من: Micheal Baigent, The Holy Blood and The Holy Grail.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤