الفصل السابع

أثر الغنوصية في الفكر الحديث

لم يندثر الفكر الكاثاري عقب زوال الحضارة الكاثارية الفرنسية، بل اتخذ أشكالًا جديدة، وحملته إلى العصور الحديثة في أوروبا حركات سرية تسمت بأسماء شتى منها: The Brothers of the Free Spirit, The Hossites, The Waldensians Anaptists, The Camisard.
وقد كان للفرقة الأخيرة وجود قوي في لندن خلال القرن الثامن عشر،١ ويبدو أن الكاثارية كانت أحد الروافد القوية التي شكلت جماعة الصليب الوردي في أوروبا (The Rosicrucians)، والتي ما زالت تعلن عن وجودها بقوة اليوم في المدن الأمريكية الكبرى وفي معظم العواصم الأوروبية، ولها محافل منتشرة في شتى أنحاء العالم.٢

وبعيدًا عن هذه الفرق السرية المتأثرة بالكاثارية، فقد كان للفكر الغنوصي عامة تأثير على بعض المفكرين الغربيين في العصور الحديثة، وذلك من خلال الصوفي والمفكر الألماني جاكوب بوهمه (نحو ١٦٠٠م)، الذي أسس للتيار الغنوصي في الثقافة الأوروبية الحديثة، وكان من أكثر المتأثرين بجاكوب بوهمه الفنان والشاعر الإنجليزي وليم بليك (١٧٥٧–١٨٢٧م)، الذي تشف رسوماته وأشعاره عن مؤثرات غنوصية عميقة، وضمن هذا التيار الذي خلقه بوهمه ابتدأت في ألمانيا بشكل خاص الدراسة الأكاديمية الجدية للغنوصية، وذلك منذ ظهور كتاب غوتفريد أرنولد: «التاريخ الإمبراطوري للكنائس والهرطقات» في عام ١٦٩٩م، الذي عرض في المؤلف الهرطقات الغنوصية باعتبارها تيارات مسيحية أصيلة، وقد قرأ الكاتب والمفكر الألماني غوته في شبابه عن كتاب أرنولد وتأثر به، ثم استعاد غوته شغفه الأول ذاك عندما كتب خاتمة مؤلفه الشهير «فاوست»، التي يصور فيها تجلي الأنوثة الخالدة، وكأنها نسخة عن صوفيا الغنوصية، التجلي الأكمل للألوهة.

لم يكن غوته الشاعر الوحيد الذي تأثر بالغنوصية، بل لقد أثرت الغنوصية على عدد كبير من شعراء الحركة الرومانسية في القرن التاسع عشر، الذين أخذوا بإعادة ابتكار أساطير غنوصية للتعبير عن موقف من العالم وصل إلى شفا هاوية من العدمية أحيانًا، من هؤلاء الشعراء نذكر: ب. شيلي P. B. Sheley في مؤلفه Prometheus Unbound (١٨١٨–١٨١٩م)، واللورد بايرون Byron في مؤلفه Ad Arimane (١٨٣٣م)، وألفونسو دي لامارتن Alfonso de Lamartine في مؤلفه Un Ange, La Chute d (١٨٣٧م)، وفيكتور هيجو Victor Hugo في مؤلفه La Fin de Satan (١٨٥٤–١٨٥٧م)، وميهيل إمينيسكو Mihail Eminescu في مؤلفه Muresanu and Demonism (١٨٧٢م)، وفيما عدا ليوباردي الذي كان على معرفة واسعة بالغنوصية القديمة ومتأثرًا بها بشكل مباشر، فإن البقية قد ابتكروا ميثولوجيا تطابقت أحيانًا في تفاصيلها مع الميثولوجيا الغنوصية القديمة، وكان هدفهم من ذلك التحرر من تركة العهد القديم في المسيحية، حتى وصل بهم نقدهم لمفهوم الألوهة التوراتي إلى الموقف المارقيوني (نسبة إلى المسيحي المنشق مارقيون، من القرن الثاني الميلاد)، الذي يرى في إله العهد القديم صانع هذا العالم المادي تجسيدًا للشر، ويجب مقاومته والتحرر من سلطانه.
كما ألهمت الغنوصية عددًا من الكتَّاب المحدثين مثل: أناتول فرانس Anatol France (١٨٤٤–١٩٢٤م) وأليكسندر بلوك Aleksander Blok (١٨٨٠–١٩٢١م)، وألبرت فيروي Albert Verwey (١٨٦٥–١٩٣٧م)، وهيرمان هيسه (١٨٧٧–١٩٦٢م) والروسي ميخائيل بولجاكوف M. Bulgakov، وفي مجال الفلسفة فقد نشر الألماني فرديناند كريستيان بوير في عام ١٩٣٥م كتابه المميز في الغنوصية المسيحية، الذي دافع فيه عن الغنوصية باعتبارها فلسفة دينية يقابلها في العصر الحديث المثالية الألمانية ممثلة بشيلينغ وهيغل، وغيرهم ممن تأثر برؤى بوهمه، وفي مجال علم النفس الحديث تأثر كارل غوستاف يونغ، مؤسس مدرسة علم النفس التحليلي وسيكولوجيا الأعماق، بالرؤى والصور الغنوصية، حتى إنه كتب مؤلفًا غنوصيًّا فيه الكثير من تأملات الغنوصي القديم باسيليد، عنوانه Septem Sermones ad Mortuous وبتأثير يونغ قام عددٌ من علماء النفس، بينهم Henri Charles وKarl Kerenye بتفسير الرموز الغنوصية باعتبارها إسقاطات ميثولوجية للتجربة الذاتية.٣
هذا عن أثر الغنوصية في الفكر الأوروبي، أما عن أثرها في الفكر المشرقي فقد ساهمت الغنوصية إلى حد بعيد في حركة التصوف الإسلامي، وبشكل خاص في الفكر الفلسفي والصوفي للشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي، كما أثرت في عقائد الفرق الإسلامية غير الأرثوذكسية،٤ التي تشف أهم مؤلفاتها عن عناصر غنوصية واضحة، ومنها (أم الكتاب) و(كتاب الأظلة) و(كتاب الكشف) و(كشف الحقائق)، أما في مجال الفكر والأدب العربي الحديث، فلم أجد أثرًا للغنوصية إلا في أدب جبران خليل جبران، ورسوماته المتأثرة إلى حد بعيد برسوم وليم بليك، وأغلب الظن أن هذه المؤثرات الغنوصية قد انتقلت إلى جبران من التيار الرومانسي الأوروبي، وليست نتيجة احتكاك مباشر.
وفي جنوب العراق ما زالت بقايا الفرق المندائية، وهي فرقة غنوصية لا تنتمي لا إلى المسيحية ولا إلى الإسلام، قائمة إلى اليوم وتمارس طقوسها وشعائرها بحرية تامة، وقد عمل عدد من الباحثين الغربيين على دراسة المعتقدات المندائية، ونشروا بعض نصوصها المقدسة.٥
١  حول هذه الجماعات السرية وصلتها بالكاثارية، انظر: Micheal Baigent, The Holy Blood and The Holy Grail, p. 28.
٢  معلوماتي عن جماعة الصليب الوردي حصلت عليها بشكل مباشر ومن خلال مراسلات جرت بيني وبين مقرهم الرئيسي بمدينة San Jose بالولايات المتحدة خلال عامي ١٩٨٤ و١٩٨٥م.
٣  حول التأثيرات الغنوصية في الفكر الحديث انظر: G. Quispel and I. P. Culianu, Gnosticism, in: M. Elaede, edt, Encyclopedia of Religion, vol. 5, pp. 573–577.
٤  حول التأثيرات الغنوصية في الفكر الإسلامي غير الأرثوذكسي، انظر المرجع السابق، ص٥٧٥.
٥  للتوسع في موضع الفرقة المندائية راجع: Kurt Rodolph, Gnosis, pp. 243–360.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤