الباب الثاني

في صحبة السلطان

مطلبٌ «في تحذير مصاحب السلطان أنْ يغتر باستئناسه»

إنْ ابتُليتَ بصحبة السلطان فعليك بطول المواظبة في غير معاتبة، ولا يُحْدِثَنَّ لك الاستئناسُ به غفلةً ولا تهاونًا.

إذا رأيتَ السلطان يجعلك أخًا فاجعله أبًا، ثم إن زادك فزِدْه.

إذا نَزَلْتَ مِن ذِي منزلة أو سُلطان، فلا تَرَيَنَّ أنَّ سلطانه زادك له توقيرًا وإجلالًا، من غير أنْ يزيدك وُدًّا ولا نصحًا، وأنك ترى حقًّا له التوقير والإجلال، وكن في مداراته والرفق به كالمؤتنف١ ما قبله، ولا تُقدِّر الأمر بينك وبينه على ما كنتَ تعرف من أخلاقه، فإن الأخلاق مستحيلة مع المُلك، وربما رأينا الرجل المُدِلَّ على ذي السلطان بقِدَمه قد أضرَّ به قِدَمه.
إنْ استطعتَ ألَّا تصحَبَ مَن صَحِبْت مِنَ الولاة إلَّا على شُعْبة٢ من قرابة أو مودَّة فافعل، فإن أخطأك ذلك فاعلم أنك إنما تعمل على السُّخْرة.٣

إنْ استطعت أنْ تجعل صُحْبَتَك لمن قد عَرَفَك بصالح مُرُوءَتك وصحَّة دِينك وسلامة أُمورك قبل ولايته فافعل.

فإنَّ الوالي لا عِلْمَ له بالناس إلَّا ما قد عَلِمَ قبل ولايته، أمَّا إذا وَلي فكلُّ الناس يلقاه بالتزيُّن والتصنُّع،٤ وكلهم يحتال لأنْ يُثنَى عليه عنده بما ليس فيه، غير أنَّ الأنذال والأرذال هم أشدُّ لذلك تصنُّعًا وأشدُّ عليه مثابرة وفيه تمحُّلًا.
فلا يمتنع الوالي — وإنْ كان بليغ الرأي والنظر — من أنْ يَنْزِل عنده كثيرٌ من الأشرار بمنزلة الأخيار، وكثيرٌ من الخانة٥ بمنزلة الأُمَنَاء، وكثيرٌ من الغَدَرَة٦ بمنزلة الأوفياء، ويغَطَّى عليه أمر كثير من أهل الفضل الذين يصونون أنفسهم عن التمحل والتصنُّع.

مطلبٌ «في تحذير أثير السلطان من إكثار ألفاظ الملق»

إذا عرَفتَ نفسَك من الوالي بمنزلة الثقة، فاعزل عنه كلام المَلَق، ولا تُكثرنَّ من الدعاء له في كل كلمة، فإنَّ ذلك شبيهٌ بالوَحْشة والغُربة، إلَّا أنْ تكلِّمه على رءوس الناس، فلا تَأْلُ عمَّا عظَّمه ووقَّره.

مطلبٌ «في الحذر من أنْ يظن الوالي بك مشايعة الهوى»

لا يعرِفنَّك الوُلاة بالهوَى في بلدٍ من البلدان، ولا قبيلة من القبائل، فيُوشِك أنْ تحتاج فيهما إلى حكاية أو شهادة، فتُتَّهم في ذلك.

فإذا أردتَ أنْ يُقْبل قولُكَ فصحِّحْ رأيك ولا تَشُوبَنَّه٧ بشيء من الهوى، فإن الرأي الصحيح يقبله منك العدوُّ، والهوى يردُّه عليك الولَد والصديق.

وأحقُّ مَن احترستَ من أنْ يظُنَّ بك خلْطَ الرأي بالهوى الولاةُ، فإنَّها خديعة وخيانة وكفرٌ عندهم.

مطلبٌ «في التنفير من صحبة والٍ لا يريد صلاح رعيته»

إنْ ابتُليتَ بصحبة والٍ لا يريد صلاح رعيته، فاعلم أنك قد خُيرتَ بين خَلَّتين٨ ليس منهما خيار: إمَّا الميل مع الوالي على الرعيَّة، وهذا هلاك الدِّين.

وإمَّا الميل مع الرعيَّة على الوالي، وهذا هلاك الدنيا.

ولا حيلةَ لك إلَّا الموتُ أو الهَرَب.

واعلم أنه لا ينبغي لك — وإنْ كان الوالي غير مرضيَّ السيرة إذا عَلِقَتْ حبالُك بحباله — إلَّا المحافظة عليه، إلَّا أنْ تجدَ إلى الفِراق الجميل سبيلًا.

تَبَصَّرْ ما في الوالي من الأخلاق التي تُحبُّ له والتي تكرَهُ، وما هو عليه من الرأي الذي تَرْضَى له والذي لا ترضى، ثم لا تُكابِرَنَّه بالتحويل له عما يُحبُّ ويَكرَه إلى ما تُحبُّ وتَكْرَه، فإنَّ هذه رياضة صَعبة تحمِلُ على التنائي والقِلَى.

فإنك قلَّما تقدِرُ على ردِّ رجلٍ عن طريقةٍ هو عليها بالمكابرة والمناقضة، وإنْ لم يكن ممن يجمحُ به عزُّ السلطان، ولكنَّك تقدر على أنْ تُعينه على أحسن رأيه، وتُسَدِّدَه فيه وتُزَيِّنَه، وتُقَوِّيه عليه، فإذا قَوِيتْ منه المحاسنُ كانت هي التي تكفيك المساوئَ، وإذا استحكمتْ منه ناحية من الصواب كان ذلك الصواب هو الذي يُبصِّره مواقع الخطأ بألطفَ من تبصيرك، وأعدلَ من حُكمك في نفسه، فإنَّ الصوابَ يُؤيِّد بعضُه بعضا، ويدعو بعضه إلى بعض حتى تستحكمَ لصاحبه الأشياء، ويظهرَ عليها بتحكيم الرأي، فإذا كانت له مكانةٌ من الأصالة اقتلع ذلك الخطأ كلَّه.

فاحفظ هذا البابَ وأحْكِمْه.

مطلبٌ «فيما ينبغي لطالب الحاجة لدى السلطان»

لا يكوننَّ طلبُك ما عند الوالي بالمسألة،٩ ولا تستبطئه وإنْ أبطأ عليك،١٠ ولكن اطلُبْ ما قِبَله بالاستحقاق له، واسْتَأْنِ به١١ وإنْ طالت الأناة منه، فإنك إذا استحققته أتاك عن غير طلب، وإنْ لم تستبطئه كان أعجل له.

مطلبٌ «في تحذير صاحب السلطان من الإدلال عليه»

لا تُخبرنَّ الوالي أنَّ لك عليه حقًّا، وأنك تعتدُّ عليه ببلاءٍ، وإنْ استطعت ألَّا ينسى حقَّك وبلاءك فافعل، ولْيكُن ما يُذَكِّره به من ذلك تجديدُك له النصيحةَ والاجتهاد، وألَّا يزالَ ينظرُ منك إلى آخر يُذَكِّره أوَّلَ بلائك.

واعلم أنَّ السلطان إذا انقطع عنه الآخِرُ نسي الأوَّل، وأنَّ الكثير من أولئك أرحامُهم مقطوعةٌ وحبالهم مصرومة، إلَّا عمَّن رضوا عنه وأغنى عنهم١٢ في يومهم وساعتهم.

مطلبٌ «في تحذير صاحب السلطان من التعتُّب عليه والاستزراء له»

إياك أنْ يقعَ في قلبك تعتُّبٌ١٣ على الوالي أو استزراءٌ له.

فإنه إنْ وقع في قلبك بَدَا في وجهك إنْ كنت حليمًا، وبدا على لسانك إنْ كنت سفيهًا.

فإن لم يَزِدْ ذلك على أنْ يَظهرَ في وجهك لآمَنِ الناس عندك، فلا تأمننَّ أنْ يظهر ذلك للوالي.

فإنَّ الناس إلى السلطان بعَوْرات الإخوان سِرَاعٌ، فإذا ظهر ذلك للوالي كان قلبُه هو أسرعَ إلى النفور والتغيُّر من قلبك، فَمَحَق ذلك حسناتِك الماضية، وأشرف بك على الهلاك، وصرت تعرف أمرَك مستدبرًا، وتلتمِس مرضاة سلطانك مستصعِبًا، ولو شئتَ كنت تركته راضيًا وازددتَ من رضاه دُنُوًّا.

مطلبٌ «في حض الوزير على الحذر من أعدائه والترويح عن نفسه»

اعلم أنَّ أكثر الناس عدوًّا جاهدًا حاضرًا جريئًا واشيًا وزيرُ السلطان ذو المكانة عنده؛ لأنه منفوسٌ عليه١٤ مكانُه بما يُنْفسُ على صاحب السلطان، ومحسودٌ كما يُحْسد، غير أنه يُجْتَرأ عليه، ولا يُجْتَرأ على السلطان؛ لأنَّ من حاسديه أحباءَ١٥ السلطان وأقاربَه الذين يشاركونه في المداخل والمنازل، وهم وغيرهم من عدوِّه الذين هم حُضَّاره، ليسوا كعدو السلطان النائي عنه والمُكْتَتِم منه، وهم لا ينقطع طمعهم من الظفر به، فلا يَغْفُلُون عن نَصْب الحبائل له.

فاعرف هذه الحال، والْبَس لهؤلاء القوم — الذين هم أعداؤك — سلاحَ الصحة والاستقامة، ولُزُوم المَحَجة فيما تُسرُّ وتُعلِنُ، ثم رَوِّحْ عن قلبك حتَّى كأنك لا عدوَّ لك ولا حاسد.

وإنْ ذكَرَك ذاكرٌ عند السلطان بسوءٍ في وجهك أو في غَيْبَتِك، فلا يَرَينَّ السلطان ولا غيرُه منك اختلاطًا لذلك، ولا اغتياظًا، ولا ضجرًا، ولا يَقَعنَّ ذلك في نفسك موقع ما يَكْرِثك،١٦ فإنه إنْ وقع منك ذلك الموقع أدخل عليك أمورًا مشتبهة بالرِّيبة، مُذكِّرة لما قال فيك العائبُ، وإنْ اضطرَّك الأمرُ في ذلك إلى الجواب فإيَّاك وجوابَ الغَضَب والانتقام، وعليك بجواب الحُجَّة في حِلمٍ ووقار.

ولا تَشُكَّنَّ في أنَّ الغَلَبَةَ والقوَّةَ للحليم أبدًا.

مطلبٌ «في حض الوزير على التحفظ في القول والحرص على الإجابة»

لا تتكلَّمَنَّ عند الوالي كلامًا أبدًا إلَّا لعناية، أو يكون جوابًا لشيء سُئِلت عنه، ولا تُحضِرنَّ عند الوالي كلامًا أبدًا لا تُعْنَى به أو تُؤمر بحضوره.

ولا تَعُدَّنَّ شَتْم الوالي شتمًا، ولا إغْلاظه إغْلاظًا، فإن ريح العزَّة قد تبسط اللسان بالغلظة في غير سخطٍ ولا بأس.

مطلبٌ «في مجانبة المسخوط عليه من السلطان حتى يتوب فتشفع له»

جانِبِ المسخوط عليه والظنينَ١٧ به عند السلطان، ولا يجمعنَّك وإياه مجلسٌ ولا منزلٌ، ولا تُظهِرنَّ له عُذْرًا، ولا تُثْنِيَنَّ عليه خيرًا عند أحد من الناس.
فإذا رأيته قد بَلَغَ من الإعْتاب١٨ مما سُخِط عليه فيه ما ترجُو أنْ تُلِينَ له به قلب الوالي، واستَيْقنت أنَّ الوالي قد استيقن بمباعدتك إياه وشدَّتِك عليه عند الناس، فضعْ عُذْره عند الوالي واعْمَل في إرضائه عنه في رفقٍ ولطفٍ.

مطلبٌ «في خضوع الوزير للسلطان إلَّا فيما يكرهه الدين والعِرض والمروءة»

لِيعلم الوالي أنك لا تستنكِفُ عن شيء من خدمته، ولا تدعُ مع ذلك أنْ تُقدِّم إليه القول — على بعض حالات رضاه وطِيب نفسه — في الاستعفاء من الأعمال التي هي أهلٌ أنْ يَكْرَهها ذو الدِّين، وذو العقل، وذو العِرْض، وذو المروءة؛ من ولايةِ القتل والعذاب وأشباه ذلك.

وإذا أصبتَ الجاهَ والخاصة عند السلطان، فلا يُحْدِثنَّ لك ذلك تغيُّرًا على أحد من أهله وأعوانه، ولا استغناء عنهم؛ فإنك لا تدري متى تَرى أدنَى جفوة أو تغيُّر فتذِلَّ لهم فيها.

وفي تلوُّن الحال عند ذلك من العار ما فيه.

لِيكنْ مما تُحْكِمُ من أمرك ألَّا تسارَّ أحدًا من الناس، ولا تهمس إليه بشيء تُخفيه على السلطان أو تُعلنه، فإنَّ السِّرار مما يُخيِّل إلى كل من رآه من ذي سلطان أو غيره أنه المرادُ به، فيكون ذلك في نفسه حَسِيكة١٩ ووغرًا وثُقْلًا.

مطلبٌ «في تجنب الكَذْبَةِ وتنكب التظاهر بالعمل لدى السلطان»

لا تتهاوننَّ بإرسال الكَذْبَةِ عند الوالي أو غيره في الهزل، فإنها تُسرع في إبطال الحق وردِّ الصدق مما تأتي به.

تنكَّبْ٢٠ فيما بينك وبين السلطان، وفيما بينك وبين الإخوان؛ خُلُقًا قد عرفناه في بعض الوزراء والأعوان وأصحاب الأبَّهات في ادعاء الرجل — عندما يظهر من صاحبه حُسن أثر أو صواب رأي — أنه عَمِل في ذلك وأشار به، وإقراره بذلك إذا مدحه به مادحٌ، وإنْ استطعتَ أن تُعرِّف صاحبك أنك تَنْحَلُهُ٢١ صوابَ رأيك — فضلًا عن أنْ تدَّعِي صوابه — وتسنِدَ ذلك إليه وتزيِّنه به فافعل.

فإن الذي أنت آخذ بذلك أكثرُ مما أنت مُعطٍ بأضعاف.

مطلبٌ «في التحذير من الإجابة عن سؤال وجه إلى غيرك»

إذا سأل الوالي غيرَك فلا تكوننَّ أنت المُجيبَ عنه، فإن اسْتِلابَك الكلامَ خِفَّةٌ بك واستخفاف منك بالمسئول وبالسائل.

وما أنت قائل؟ إنْ قال لك السائل: ما إياك سألت، أو قال لك المسئول عند المسألة يُعادُ له بها: دونك فأجب.

وإذا لم يقصد السائل في المسألة لرجل واحد وعمَّ بها جماعة مَن عنده، فلا تُبادرنَّ بالجواب، ولا تُسابق الجُلساء، ولا تُواثِبْ بالكلام مواثبةً؛ فإن ذلك يجمع مع الشَّينِ التكلُّف والخفة.

فإنك إذا سبقتَ القومَ إلى الكلام صاروا لكلامِكَ خُصَمَاء فتعقبوه بالعيب والطعن، وإذا أنت لم تعجَل بالجواب وخليته للقوم، اعْتَرَضتَ أقاويلهم على عينك، ثم تدبَّرتها وفكَّرت فيما عندَك، ثم هيَّأت من تفكيرك ومحاسنِ ما سمعتَ جوابًا رضيًّا، ثم استدبرتَ به أقاويلهم حين تصيخُ إليك الأسماع ويهدأ عنك الخصوم.

وإنْ لم يَبْلُغك الكلام حتى يُكتفى بغيرك، أو ينقطع الحديث قبلَ ذلك، فلا يكون من العيب عندك ولا من الغَبْن في نفسك فَوْتُ ما فاتك من الجواب.

فإنَّ صيانَة القول خيرٌ من سوء وضعه، وإنَّ كلمةً واحدةً من الصَّواب تُصيبُ موضِعَها خيرٌ من مائة كلمة تقولها في غير فُرَصِها ومواضعها، مع أنَّ كلام العجلة والبدارِ مُوَكَّلٌ به الزَّلل وسوءُ التقدير، وإنْ ظنَّ صاحبُه أنه قد أتقنَ وأحكم.

واعلم أنَّ هذه الأُمور لا تُدرَك ولا تُمْلَك إلَّا برُحْبِ الذَّرْع عند ما قيل وما لم يُقَل، وقلَّةِ الإعظام لما ظهر من المُرُوءة وما لم يَظْهَر، وسَخاوَةِ النفس عن كثيرٍ من الصَّواب؛ مخافة الخلاف ومخافة العجلة ومخافة الحسد ومخافة المِرَاء.

مطلبٌ «في آداب الاستماع»

إذا كلَّمك الوالي فأصغِ إلى كلامه، ولا تَشْغَل طَرْفَك٢٢ عنه بنظرٍ إلى غيره، ولا أطرافك٢٣ بعملٍ، ولا قلبك بحديث نفس.

واحذر هذه الخصلة من نفسك، وتعاهدْها بجهدك.

مطلبٌ «في حثِّ الوزير على مصانعة نظرائه»

ارْفُقْ بنُظَرائك من وزراء السلطان وأَخِلَّائه ودُخلائه، واتَّخذهم إخوانًا ولا تتَّخذهم أعداءً، ولا تنافِسْهم في الكلمة يتقربون بها، أو العمل يُؤمَرون به دونك.

فإنِّما أنت في ذلك أحدُ رجلين: إمَّا أنْ يكونَ عندك فضلٌ على ما عند غيرك، فسوف يبدو ذلك ويُحتاج إليه ويُلتمسُ منك، وأنت مُجْمِلٌ.

وإمَّا ألَّا يكون ذلك عندك، فما أنت مصيبٌ من حاجتك عند وزراء السلطان بمُقارَبتك ومُلاءمتك إيَّاهم ومُلاينتِك.

وما أنت واجدٌ في موافقتك إيَّاهم ولِينك لهم من مُوافقتهم إياك ولِينهم لك، أفضل ممَّا أنت مُدركٌ بالمنافسة والمنافرة لهم.

لا تَجْتَرِئَنَّ على خِلاف أصحابك عند الوالي؛ ثِقةً باعترافهم لك ومعرفتهم بفضل رأيك.

فإنَّا قد رأينا الناس يعترفون بفصل الرجل وينقادون له ويتعلَّمون منه، وهم أخْلِيَاءٌ،٢٤ فإذا حضروا السلطان لم يرضَ أحدٌ منهم أنْ يُقِرَّ له، ولا أنْ يكون له عليه في الرأي والعِلْم فضلٌ، فاجتَرَأوا عليه بالخلاف والنَّقْض.٢٥

فإن ناقضهم صار كأحدهم، وليس بواجدٍ في كل حين سامعًا فَهِمًا أو قاضيًا عَدْلًا.

وإنْ تَرَكَ مناقضتهم كان مغلوبَ الرأي مردودَ القول.

مطلبٌ «في تحذير جليس السلطان من الاستئثار بصحبته»

إذا أصبتَ عند السلطان لُطْفَ منزلة؛ لغَناء٢٦ يَجِده عندك أو هوًى يكون له فيك، فلا تَطْمحنَّ كلَّ الطِّماح، ولا تُزيِّننَّ لك نفسُك المزايلة٢٧ له عن أليفه وموضع ثقته وسرِّه قَبْلَك؛ تريد أنْ تقْلَعه وتَدْخُل دونه، فإنَّ هذه خَلَّة من خلال السَّفه قد يُبْتلَى بها الحُلماءُ عند الدُّنُوِّ من السلطان؛ حتى يُحدِّثَ الرجل منهم نفسه أنْ يكون دون الأهل والولد، لفضلٍ يظُنُّه بنفسه أو نقصٍ يظنه بغيره.
ولكلِّ رجلٍ من الملوك أو ذوي هيئةٍ من السُّوقة أليفٌ وأنيسٌ، قد عَرف روحه واطَّلع على قلبه، فليستْ عليه مئونة في تبذُّل يتبذَّلُه عنده، أو رأيٍ يسْتَبِين منه، أو سرٍّ يفشيه إليه، غير أنَّ تلك الأنَسَة٢٨ وذلك الإلْف يَسْتخرج من كل واحد منهما ما لم يكن ليظهرَ منه عند الانقباض والتشدُّد، ولو التمس مُلتمسٌ مثل ذلك عند مَن يستأنِف ملاطفته ومؤانسته ومناسمته٢٩ — وإنْ كان ذا فضل في الرأي وبسطةٍ في العلم — لم يجد عنده مثل ما هو منتفعٌ به ممن هو دون ذلك في الرأي، ممن قد كُفي مؤانستَه ووقع على طباعه.
لأنَّ الأنَسَةَ رَوْح٣٠ للقلوب، وأنَّ الوَحْشة رَوْع٣١ عليها، ولا يَلْتَاط٣٢ بالقلوب إلَّا ما لانَ عليها، ومَنِ استقبل الأُنس بالوحشة استقبلَ أمرًا ذا مئونة.
فإذا كلَّفتْك نفسُك السُّمُوَّ٣٣ إلى منزلة من وصفتُ لك، فاقْدَعْها٣٤ عن ذلك بمعرفة فضل الأليف والأنيس، وإذا حدَّثْتك نفسك أو غيرُك ممن لعلَّه أنْ يكون عنده فضل في مُرُوءة؛ أنك أولى بالمنزلة عند السلطان من بعض دُخلائه وثقاته، فاذكر الذي على السلطان من حقِّ أليفه وثقته وأنيسه في التكرِمة والمكانة والرأي، والذي يُعينه على ذلك من الرأي أنه يَجِدُ عنده من الألف والأنس ما ليس واجدًا عند غيره.

فليكن هذا مما تتحفَّظ فيه على نفسك وتعرفُ فيه عذر السلطان ورأيه.

والرأي لنفسك مِثلُ ذلك، إن أرادك مريدٌ على الدخول دون أليفك وأنيسك وموضع ثقتك وسرِّك وجِدِّك وهزلك.

واعلم أنه يكاد يكون لكل رجل غالبة حديث لا يزال يُحدِّث به؛ إمَّا عن بلد من البُلدان، أو ضَرْبٍ من ضروب العلم، أو صِنف من صنوف الناس، أو وجه من وجوه الرأي، وعندما يُغرَمُ به٣٥ الرجل من ذلك يبدُو منه السُّخْف٣٦ ويُعرَف منه الهوى.

فاجتنب ذلك في كل موطن، ثمَّ عند السلطان خاصَّةً.

مطلبٌ «في كتمان ما تكرهه من رأي السلطان»

لا تَشْكُوَنَّ إلى وزراء السلطان ودُخلائه ما اطَّلعتَ عليه من رأي تكْرهه له، فإنَّك لا تَزِيد على أنْ تفطِّنَهم لهواه، أو تُقرِّبَهم منه وتُغرِيهم بِتَزيين ذلك، والميل عليك معه.

واعلم أنَّ الرجلَ ذا الجاه عند السلطان والخاصة، لا محالة أنْ يَرى من الوالي ما يخالفه من الرأي في الناس والأمور، فإذا آثر٣٧ أنْ يكره كلَّ ما خالفه أوشك أنْ يمتعِض٣٨ من الجفوة يراها في المجلس، أو النَّبْوَة في الحاجة، أو الرد للرأي، أو الإدناء لمن لا يهوَى إدناءَه، أو الإقصاء لمن يكره إقصاءه.

فإذا وقعتْ في قلبه الكراهية تغيَّر لذلك وجهه ورأيه وكلامه؛ حتى يبدُو ذلك للسلطان وغيره، فيكون ذلك لفساد منزلته ومُرُوءَته سببًا وداعيًا.

فَذلِّلْ نفسَك باحتمال ما خالفك من رأي السلطان، وقرِّرْها على أنَّ السلطان إنما كان سلطانًا لتتَّبِعه في رأيه وهواه وأمرِهِ، ولا تكلِّفه اتِّباعَك وتغضَبَ من خلافه إياك.

مطلبٌ «في حثِّ الوزير على تصحيح النصيحة»

اعلم أنَّ السلطان يقبل من الوزراء التبخيل،٣٩ ويَعُدُّه منهم شفقةً ونظرًا له، ويحمَدهم عليه.
فإن كان جوادًا وكنتَ مُبَخِّلًا، شِنْتَ صاحبك بفساد مروءته، وإنْ كنتَ مُسَخِّيًا٤٠ لم تأمن إضرار ذلك بمنزلتك عنده.

فالرأي لك تصحيح النصيحة على وجهها، والتماسُ المخلَص من العيب واللائمة فيما تترك من تبخيل صاحبك، بألَّا يعرف منك فيما تدعوه إليه ميلًا إلى شيء من هواك، ولا طلبًا لغير ما ترجو أنْ يَزِينه وينفعه.

مطلبٌ «في أنَّ الطالب لصحبة الملوك لا يُفلح حتى يشايعهم ويمالئهم»

لا تكوننَّ صحبتك للملوك٤١ إلَّا بعد رياضة منك لنفسك على طاعتهم في المكروه عندَك، وموافقتهم فيما خالفك، وتقدير الأمور على أهوائهم دون هواك، وعلى ألَّا تكتُمَهم سرَّك ولا تستطلِع ما كتموك، وتُخفي ما أطلعوك عليه على الناس كلِّهم حتى تحميَ نفسك الحديث به، وعلى الاجتهاد في رضاهم، والتلطُّف لحاجتهم، والتثبيت لحُجَّتهم، والتصديق لمقالتهم، والتزيين لرأيهم، وعلى قلة الاستقباح لما فعلوا إذا أساءُوا، وترك الانتحال٤٢ لما فعلوا إذا أحسنوا، وكثرة النشْر لمحاسنهم، وحُسْن السَّتر لمساويهم، والمقاربة لمن قاربوا وإنْ كانوا بُعداء، والمباعدة لمن باعدوا وإنْ كانوا أَقرباء، والاهتمام بأمرهم وإنْ لم يهتمُّوا به، والحفظ لهم وإنْ ضيَّعوه، والذكر لهم وإنْ نَسُوه، والتخفيف عنهم من مئونتك، والاحتمال لهم كلَّ مئونة، والرضى منهم بالعفو، وقلة الرضى من نفسك لهم إلَّا بالاجتهاد.

وإنْ وجدتَ عنهم وعن صحبتهم غنًى، فأغنِ عن ذلك نفسك واعتزلْه جَهْدَك.

فإنَّ من يأخذُ عملهم بحقه، يُحَلْ بينه وبين لذة الدنيا وعمل الآخرة، ومَنْ لا يأخذُ بحقه يحتمل الفضيحةَ في الدنيا والوِزْرَ في الآخرة.

مطلبٌ «في مضار صحبة السلاطين»

إنك لا تأمن أنَفَة٤٣ الملوك إنْ علمتهم، ولا تأمن عقوبتهم إنْ كتمتهم، ولا تأمن غضبتهم إنْ صَدَقتهم، ولا تأمن سَلْوَتهم٤٤ إنْ حدَّثتهم، وإنَّك إنْ لزمتهم لم تأمن تبرُّمهم بك، وإنْ زايلتهم٤٥ لم تأمن عقابهم، وإنْ تستأمرهم حملتَ المئونة عليهم، وإنْ قطعت الأمر دونهم لم تأمن فيه مخالفتهم، إنهم إنْ سخطوا عليك أهلكوك، وإنْ رَضُوا عنك تكلَّفت من رضاهم ما لا تُطيق.
فإن كنتَ حافظًا إنْ بَلَوْك، جَلْدًا إنْ قرَّبوك، أمينًا إن ائتمنوك؛ تُعَلِّمُهُم وأنت تريهم أنك تتعلم منهم، وتُؤدِّبُهم وكأنهم يؤدبونك، تشكرهم ولا تكلِّفُهم الشكر، بصيرًا بأهوائهم، مُؤثرًا لمنافعهم، ذليلًا إنْ ظلموك، راضيًا إنْ أسخطوك،٤٦ وإلَّا فالبُعْد منهم كل البُعْدِ والحذر منهم كل الحذر.

مطلبٌ «في التحذير من الاغترار بالسلطان والمال والعلم والجاه والشباب»

تحرَّزْ من سُكْر السلطان، وسُكْر المال، وسُكْر العلم، وسُكْر المنزلة، وسُكْر الشباب؛ فإنه ليس من هذا شيء إلَّا وهو ريح جِنة تَسْلب٤٧ العقل، وتذهب بالوقار، وتَصْرِف القلب والسمع والبصر واللسان إلى غير المنافع.
١  المستأنف.
٢  الشعبة: الطائفة من كل شيء.
٣  السخرة: ما سخرت من خادم ودابة بلا أجر ولا ثمن.
٤  يقال تصنع الرجل: تكلَّف حُسن السمت والتزين، وأظهر عن نفسه فعلًا ليس فيه.
٥  الخانة: جمع خائن كما يجمع أيضًا على خونة وخائنين.
٦  الغدرة كفجرة، جمع غادر كفاجر، وهو الذي انبعث في المعاصي ففسق وزنى.
٧  أي لا تخلطنه بشيء من الهوى.
٨  الخَلة بالفتح: الخَصْلة.
٩  السؤال.
١٠  يقال أبطأ عليه بالأمر: أخَّره.
١١  من استأنى بالأمر: انتظره.
١٢  أي أجزأ وقام مقامهم.
١٣  التعتُّب: تخاطب الإدلال، وفلان لا يتعتب عليه في شيء؛ أي لا يعاب، ومن هنا أراد ابن المقفع.
١٤  محسود عليه.
١٥  كذلك وردت بالباء المشددة في أكثر النسخ، ولكن زكي باشا عدل عنها إلى «أحياء» بالتحتية، زاعمًا أنَّ الأحباء لا يتقدمون في الذكر على الأقارب، وأمَّا نحن فإنا نرى الأحباء في أول مراتب الذكر، ولا سيما لدى السلطان الذي لا يخفى على أحد ما يكنه الأهل والأقارب له.
١٦  يضجرك ويحزنك.
١٧  الظنين: المتهم من الظِّنة بالكسر وهي التهمة.
١٨  من قولهم أعتبني فلان، إذا عاد إلى مسرتي راجعًا عن الإساءة.
١٩  الحسيكة: الحقد والعداوة، وأمَّا الوغر فشدة الغيظ، من الوغرة التي هي شدة توقد الحر.
٢٠  أي تجنب.
٢١  من قولهم نحلته القول: أضفته إليه دون أنْ يكون له فيه أثر.
٢٢  الطرف: العين.
٢٣  جمع طرَف بفتحين، وهو من البدن اليدان والرجلان والرأس.
٢٤  جمع خلي.
٢٥  النقض: المناقضة.
٢٦  لكفاية.
٢٧  المفارقة.
٢٨  الأنَسَة بالتحريك: ضد الوحشة.
٢٩  المناسمة: المسارة.
٣٠  الرَّوح بالفتح: الراحة.
٣١  الروع: الفزع.
٣٢  يلتصق.
٣٣  السمو: مفعول آخر لكلف؛ لأن الفعل ينصب اثنين بنفسه أولهما الكاف.
٣٤  اقدعها: امنعها واكففها، والفعل كمنع.
٣٥  يولع به ويفتن.
٣٦  نقص العقل.
٣٧  آثر: اصطفى واختار.
٣٨  أي يغضب.
٣٩  يريد أنَّ السلطان يهوى من الوزراء من يحبب إليه البخل، ويزين له التقتير.
٤٠  أي محببًا في الكرم والسخاء.
٤١  أي تذليل.
٤٢  يريد إن أحسنوا فلا تنسب ذلك إلى نفسك دونهم.
٤٣  الأنَفة بالتحريك وكذلك الأَنَف: الاستنكاف.
٤٤  السلوة: التبرم والملل.
٤٥  زايل: فارق.
٤٦  جواب إن محذوف يفهم من المقام.
٤٧  الجِنة بالكسر: الجنون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤