الحب الأول

دعنا نبدأ من البداية تمامًا لا أعلم متى أحببتك، هل عندما تكوَّنتُ كجنينٍ في بطن أمِّي؟ أم قبلها عندما كنت مجرَّد روحٍ؟ أم بعد ميلادي؟ لا أعلم لكن كل ما أعلمه أني كنت دومًا أُحبك، لا بل أعشقك، وكنتُ مُدلَّلتك التي لا ترفض لها طلبًا أبدًا. كنتُ صغيرةً جدًّا يا أبي، لكني ما زلتُ أتذكَّر عندما تعود من عملك متعبًا وتخلع جاكيت البدلة والحذاء فأسرع لأرتديَهما، وبالطبع كان جاكيت البدلة أكبرَ منِّي بعشرات المرَّات، وكذلك الحذاء، لكنك كنتَ تضحك أنت وإخوتي عندما أقول: «أنا بابا أنا كبيرةٌ»، ثم تُمسكني بيدك لتمنعني من السقوط بعد تعثُّري في هذا الحذاء الكبير، فكنتُ أشعر أن تلك اليد الكبيرة ستحميني دومًا من السقوط.

كم كنتُ أسعَدُ عندما تأخذني معك عندما تخرج لملاقاة أصحابك، وأجلس بجوارك في السيارة وتطلب منِّي أن أُغنِّي لك وتضحك على غنائي، بل وتُغنِّي معي، وكنتُ أشعر بالأمان عندما تقبع كفِّي الصغيرة في دفء كفِّك الكبيرة وأنت تمسك بيدي ونحن نسير معًا في الطريق، حينها كنتُ أشعر أنِّي أقوى شخصٍ في الكون، كنتُ قويةً بك يا أبي وبوجودك بجواري، كنتُ حينها أشعُر ألَّا أحدَ في هذا الكون يستطيع إيذائي؛ لأنك كنتَ بطلي الذي سيُدافع عنِّي ويحميني. وزاد من ذلك الشعورِ ربما ضآلةُ جسدي كطفلة حينها، وضخامةُ جسدك؛ فقد كنتَ طويلًا وعريضًا بشعرٍ أسودَ مجعَّدٍ وعيون عسليَّةٍ وابتسامةٍ حنونةٍ أعشقها وأخاف عندما تختفي من وجهك.

كنتَ تصطحبني معك كثيرًا في كل مشاويرك لزيارة أصدقائك الذين كانوا يُحبونني ويغمرونني بالهدايا والتدليل، كما كنتُ أسعَدُ كثيرًا عندما تصطحبنا لزيارة أقاربك في بلدتك الصغيرة؛ فقد كنتَ دائمًا واصلًا للرحم، وكنتَ تُشجِّعني وإخوتي دائمًا على صلة الرحم.

ولا أنسى مغامرتنا السريَّة التي كنا نُخفيها عن أمِّي عندما ذهبنا مرةً مع أحد أصدقائك؛ لنخطب له فتاةً جميلةً ما زلتُ أتذكَّرها حتى الآن، وقلت لي: «لا تُخبري أمَّك.» وعندما سألَتني أمي «أين كنتم؟» قلت لها بمكرٍ: «لا أعلم، اسألي أبي.» فكانت تغضب وكُنا نضحك معًا، كما أنك مرة أتيت لمدرستي وأخرجتني من اليوم الدراسي أنا وجاراتي اللاتي كن معي في نفس المدرسة، وأخذْتَنا لنتنزَّه وأحضرت لنا الأيس كريم، ثم أعدتنا للبيت دون أن تُخبر أحدًا بما فعلت، كنتُ فرحةً جدًّا بتلك المفاجآت التي تخصني بها والتي تُشعرني بأني حبيبتك المميزة، كما كنتَ أنت بطلي المميز الذي لا مثيل له في الكون.

ولا أنسى رقَّة قلبك تجاهي؛ فلم تكن تحتمل دموعي أو غضبي، فكنتَ تُسرِع لمصالحتي فورًا، وفي الشتاء كنتُ أرتجف من البرد بسبب ضَعف بِنْيتي، فكنتَ تفرُك بيديك قدميَّ حتى تدفئهما، كما كنتَ تضمُّني لصدرك بقوةٍ لتمنحني دفءَ جسدك، فكانت تلك أسعَدَ لحظات حياتي؛ فأنا في حِضنك لن يمسَّني سوءٌ أبدًا.

كان تدليلك لي محلَّ حسدِ صديقاتي، وربما أشعرَ إخوتي بقليلٍ من الغَيرة، لكنك كنتَ تقول دائمًا: «أدلِّلها لأنها صغيرةٌ كما كنتُ أفعل معكم.» كنتَ تمنحني مصروفًا كبيرًا أكبرَ من كل صديقاتي، كما كنتُ أنال أحيانًا بعضَ المكافآت الاستثنائية عندما أقوم لك ببعض الخدمات، كأنْ ألمِّع لك حذاءك، أو أُحضر لك جاكيت البدلة، كانت أعمالًا محببةً لقلبي، لا لأني أنال المال مقابلها فقط، إنما لأني أنال رضاك، وتلك الابتسامةَ الحنون.

كنتَ تحرص على الاحتفال بعيد ميلادي، وكان ذلك اليوم بمثابة العيد بالنسبة لي، حيث أشتري فستانًا جديدًا لتلك المناسبة، وأدعو كلَّ أصحابي وأقاربنا، ونُقيم احتفالًا مبهجًا يتحدَّث عنه الجميع، وكان أجمل ما في ذلك اليوم صورتنا معًا وأنت تُقبِّلني وتحتضنني، كانت أيامًا جميلةً يا أبي ما زالت محفورةً ذكرياتُها على جدار الروح والقلب.

كنتُ صغيرةً جدًّا لم أتجاوز الست سنوات، لكني ما زلتُ أتذكَّر كيف كنتَ تجمعنا أنا وإخوتي وتُحدِّثنا عن الصدقات، وإسعاد الفقراء، وكنتَ لا تكتفي بالحديث، بل كنتَ تطبِّق ذلك عمليًّا، فكنتَ تمنح الفقراء مالًا، أو تجعلنا نحن مَن نعطيهم المال أو بعض الطعام الجيد حتى تعلِّمنا العطاء، كنتَ تحثُّنا دائمًا على صلة الرحم، فكنَّا نزور أقرباءك وأقاربَ أمِّي، وكان بيتُنا مفتوحًا للجميع؛ الأهل والأصدقاء والجيران، وكنتَ تُكرم الكلَّ.

ألم أقُل لك كنتَ بطلي، ولم تكن ككل الأبطال يخرجون من الأساطير والحكايات، لكنك كنتَ واقعًا متجسِّدًا أمامنا، فكلما كبرتُ وفهمتُ واستوعبتُ ما كنتَ تفعله، كنتُ أزداد لك عشقًا يا أبي. لم أكن أرى بك أيَّةَ عيوبٍ، ربما بسبب صِغَر سنِّي وشدة تعلُّقي بك، وربما لأنك كنت تدللني فقط ولم تعاقبني يومًا ولم تُعنِّفني على خطأ ارتكبتُه، وربما لأني كنتُ أراك — ككل المحبين — بعيون قلبي فقط.

كنتَ تعشق عملَك وتقضي معظم وقتِك فيه؛ لذا في الإجازات كنتَ تصطحبنا لزيارة أخوالي وخالاتي وتقضي معنا عدة ساعاتٍ ثم تعود لعملك، وكذلك في الإسكندرية كنت تأتي معنا في اليوم الأول وتنزل معنا البحرَ وأنت تحملني — لأني كنتُ خائفةً من الأمواج جدًّا ولم أشعر بالأمان إلا في وجودك معي — ثم تتناول معنا الغداء وتتركنا وتعود لعملك؛ فقد اعتدنا أن نقضي الإجازات بدونك، وكنتَ دومًا تقول لنا: «أنا مشغولٌ بعملي لأحضر لكم ما تحتاجون من مالٍ.» ورغم استمتاعي بالإجازة لكني كنتُ أفتقد وجودَك معي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤