الغفران

بكيت وأنا أقرأ الرسالة؛ فقد أدركت كم كنت أنانيةً في حكمي، فلم أكن أرى سوى آلامي أنا وجراحي أنا، ولم أُدرك أن هناك حقائقَ غائبةً وراء كل موقفٍ لا نفهمها حقًّا إلَّا بعد أن يحكي كلُّ طرف ما حدث. لقد آلمت أبي بكلامي الجارح وبتحميلي له كل مسئولية ما حدث لي، كما آلمت أمي وإخوتي بتهوِّري ومحاولة انتحاري، لم أفكِّر فيمن حولي، حيث كنت أتمحور حول ذاتي فقط، وحقًّا كما قال الطبيب، كنت أبحث عمَّا ينقصني لأغضب، ولم أحمد الله على ما لديَّ، وهو أكثر بكثير مما فقدته.

فكَّرت كثيرًا في كل حياتي، فقررت ألا أستطيع العودة لعصام، فما فعله لم يكن هينًا، وإن منحته فرصةً أخرى فسأظل أراقبه وأتربَّص به، وسأُحيل حياتنا لجحيم، لقد انكسر بداخلي حبِّي واحترامي له والأهم ثقتي به، وأية علاقةٍ تفشل إن فقدت الثقة والاحترام. سأُصرُّ على الطلاق وأبدأ حياتي من جديدٍ، حياةً لا أمنح فيها كل حبِّي أو ثقتي لأحد، حياةً أحبُّ فيها ذاتي لأني أستحقُّ ذلك، حياةً لا أُفني فيها نفسي في أحدٍ ولا أُضحِّي تمامًا من أجل أحدٍ، سأكون فيها معتدلةً في كل شيءٍ حتى مشاعري، هذا إن بقيت لي مشاعر تجاه أحدٍ.

في الصباح مرَّ عليَّ طبيبٌ غير نادر، فطلبت منه أن يكتب لي الخروج لأن أمِّي مريضةٌ ولن تحتمل غيابي أكثر من هذا، فوافق مع نصيحته بالمتابعة مع طبيبٍ نفسيٍّ، وعند حدوث أية مضاعفات الاتصال به أو بدكتور نادر لأنهما المتابعان لحالتي، فوافقت وارتديت ملابسي وعندما حضر سليم وأمي فوجئا بي أستعدُّ للخروج فاحتضنتني أمي وقالت: البيت كان وحش من غيرك.

– ماتخافيش يا حاجة، راجعة لك نناكف في بعض.

فقال سليم ضاحكًا: ربنا يُستر.

خرجنا معًا واستقبلتني سلوى في بيتنا بكل حبٍّ وودٍّ، شعرت بالدفء والأمان وأنا في بيتي بين أسرتي. بعد عودتي بيومين اتصل بي أبي وبعد الاطمئنان عليَّ وعلى صحتي سألني: عصام جالي وبيعتذر وبيطلب فرصة تانية، يا ترى إيه رأيك؟

– ما أقدرش أرجع له تاني من فضلك يا بابا، أنا مصممة على الطلاق، وتكون طلقةً بائنةً عشان مايردنيش تاني لعصمته، دي صفحة من حياتي محتاجة أطويها.

– هاعملك اللي انتي عايزاه، وهاحاول أصلَّح كل حاجة بيني وبينك وبين أخواتك، وأرجوكي يا بنتي سامحيني، وحاولي انتي وسليم وسلوى تقربوا من أخواتكم وتكونوا سندًا لهم بعد موتي.

– بعيد الشر عنك يا بابا.

– الموت حقيقة، توعديني؟

– أوعدك يا بابا.

بعد أسبوعٍ حصلت على الطلاق وطويت قصة حبٍّ خادعةٍ؛ فهو كان يبحث عن فتاةٍ خام لم تعرف غيره، وأنا كنت أبحث عن قصةِ حبٍّ تُغيِّر حياتي، فكانت النتيجة الطبيعية الفشل لتلك القصة التي يبحث فيها كل طرفٍ عمَّا يُسعده ولا يُفكر في سعادة الآخر.

كانت أول مرة أخرج فيها من البيت ذهبت فيها للمستشفى، حيث حملت بعض الهدايا للممرضات اللاتي اعتنين بي وشكرتهن على تعبهن معي، فقالت لي إحداهن: دكتور نادر هنا مش عايزة تسلِّمي عليه؟

– طبعًا عايزة.

طرقت باب غرفته، ولما أذن لي دخلت وأنا أتعثر في خجلي، فنظر لي بلا مبالاة وقال ببرود: أهلًا مدام نهلة، خير بتشتكي من حاجة؟

– لا، الحمد لله أنا كويسة، بس كنت جاية أشكر الممرضات، ولما عرفت إنك هنا جيت أشكرك.

– دا واجبي وشغلي اللي باخد عليه مرتبي، أنا ما عملتش حاجة مخصوص.

جفاء كلماته زاد من ارتباكي، فقلت: عمومًا أنا متشكِّرة وآسفة إن كنت عطَّلتك، عن إذنك.

– استني … فيه حاجة بتاعتك معايا.

قام وفتح حقيبته وأخرج منها بعض الأوراق التي أدركت أنها رسالة والدي، فاحمرَّت وجنتاي وقلت بغضبٍ: مش ملاحظ إنك متطفل زيادة عن اللازم! الأول تقرأ الكلام اللي وجهته لوالدي وتعرف عنِّي كل خصوصياتي من غير إذني، وبعد كده تسمح لنفسك تحتفظ برسالة بابا، وأكيد قريتها برضه من غير إذن.

– أولًا مذكراتك كانت مرمية جنبك متلطخة بدمك، وبعدما عالجتك كان لازم أفهم إيه اللي خلَّاكي تعملي كده عشان أقدر أساعدك، وفعلًا لما قريتها لقيت إن والدك لازم يقراها، والرسالة التانية لقيتها واحدة من الممرضات تحت مخدِّتك واديتهالي لأني عارف رقم أخوكي وعلى تواصل معاه، وأنا أصلًا نسيتها وما افتكرتهاش غير لما شوفتك ومافتحتهاش، لأني مش فضولي، ولأن خصوصياتك ما تهمنيش.

ساد الصمت بيننا للحظات، وقطعه بقوله: طمنيني، صحتك عاملة إيه دلوقتي؟

– كويسة.

– طيب ممكن تيجي أشوف النبض وأقيسلك الضغط.

– لأ شكرًا.

– أنا شايف وشك أصفر، إنتي ما بتاكليش كويس ولا لسه زعلانة على الجنين؟

– جنين إيه؟

– هو انتي ماتعرفيش إنك كنتي حامل، ولما وقعتي حصلك نزيف وإجهاض؟

شعرت بذهولٍ ودارت بي الأرض، فاستندت على المكتب فقال لي: اقعدي من فضلك، واضح إنك زعلتي، بس ما تخافيش إنتي لسه صغيرة وتقدروا تخلفوا تاني.

– إحنا اتطلقنا.

– أنا آسف، في البداية كنت فاكر إن جوزك ضربك وكان السبب في نزول الجنين، وبعد إنقاذك كنت مصمم أعمل له محضر، بس أخوكي رفض وقال مش عايزين فضايح، ولما قريت مذكراتك عرفت إن السبب خيانته، بس كنت فاكر إنك عارفة بالحمل وكنتي عايزاها مفاجأة.

سكت للحظات ثم قلت: أنا هامشي.

– بس إنتي شكلك تعبان، ممكن أكلم أخوكي يجي ياخدك، أو استنيني ساعة أخلص شغلي وأوصلك.

– لا شكرًا، أنا هاخد تاكسي.

– طيب دا رقمي هنا وفي العيادة ورقم موبايلي، من فضلك أول ما توصلي طمنيني عليكي، ولو تعبتي أي وقت كلميني.

– حاضر عن إذنك.

خرجت وأنا أتعجب من ترتيب القدر، فلو كنت عرفت بحملي لكنت بقيت من أجل طفلي مع عصام، لكني فقدت الطفل حتى لا أظل مرتبطة به لأي سببٍ. عُدت للبيت وأنا أشعر بالصداع الرهيب فاتصلت بنادر وطمأنته، فطلب منِّي أن ألتزم بالراحة وأن أستشير طبيب نفسي وأشار علي ببعض الأكفاء منهم، فوعدته أن أذهب. كنت أمضي أيامي التالية بين النوم والقراءة ولا أرغب في عمل أي شيءٍ، فأصرَّت أمي على زيارتي للطبيب النفسي، واستجبت لها. بعد عدة جلسات مع الطبيب النفسي تحسَّنت حالتي واستعدت رغبتي في الحياة، حتى إخوتي من أبي بدأت أتواصل معهم رغم جفائهم في معاملتي، لكني لم أهتمَّ، إنما كنت أهتمُّ بسعادة أبي بذلك التواصل. أصرَّ الطبيب النفسي على عودتي للعمل لتأثير ذلك الإيجابي على نفسيتي، لكنه طلب مني الاستعانة بطبيب متخصص لمعرفة سبب الصداع المستمر الملازم لي.

اتصلت بدكتور نادر وأخبرته بطلب الطبيب فقال: عدِّي عليَّ بكرة في المستشفى ونشوف رأي الدكاترة الكبار إيه.

في اليوم التالي بينما أستعدُّ لعمل الفحص تلقَّينا فاجعة موت أبي المفاجئ، كان الخبر صدمةً بالنسبة لي، فما إن تحسنت العلاقات بيننا يتدخَّل القدر ليحرمني من أبي، وكأنني كلما أخذت خطوة في طريق السعادة، تبتعد عنِّي هي بعشر خطواتٍ. شعرت أني طفلةٌ صغيرةٌ تاهت عن والدها، وبمجرد أن وجدته خطفه القدر من بين يديها، فبكيت يُتمًا كُتب عليَّ عمري كله، ومشاعرَ أفتقدها ولن أجدها، بكيت أبًا لم يكن موجودًا في حياتي سوى بالاسم وعندما عاد لي كاملًا فقدته مجددًا. كنت أتخبَّط في مشاعري تائهةً حتى ضمتني أمي لصدرها وقالت: الله يرحمه، ادعيله ربنا يغفر له.

– إنتي اللي بتقولي كده؟

– يا بنتي كلنا بشر لنا ميزاتنا وعيوبنا، وزي ما شفت مع أبوكي الوحش شفت معاه الحلو، وولاد الأصول اللي ساعة الفراق بينسوا كل الوحش وما يفتكروش غير العمل الطيب.

– الله يرحمه ويغفر له.

شعرت ببعض التعزية لأنِّي حاولت إسعاده قبل وفاته بمسامحته والتواصل مع إخوتي وأهله الذين أوصانا على وصلهم دائمًا.

اتصل بي نادر كثيرًا ولكني لم أجِبه، فظن أن مكروهًا أصابني فاتصل بسليم، فلما عرف بوفاة والدي حضر العزاء، وبعد عدة أيام اتصل بي؛ ليجدد موعدي للفحص الطبي. ذهبت في اليوم التالي وأجريت عدة تحاليل وأشعة، وبعد يومين قال لي: أنا عايزك تيجيلي بكرة المستشفى.

– ليه! نتيجة التحاليل فيها إيه؟

– الغريب إن مافيهاش حاجة، فعايزين نعمل أشعة مقطعية على المخ.

– ليه؟

– ممكن الوقعة اللي وقعتيها سبَّبت كدمة وهي اللي عاملة الصداع دا.

– بس أنا بكرة كنت رايحة أعمل مقابلة شغل جديد.

– هتخلَّصي إمتى؟

– تقريبًا الساعة ٣.

– هاستناكي بس متتأخريش.

– طيب ما أنا ممكن أعملها في أي مركز بره وأبقى أجيبهالك.

– زي ما تحبي، واضح إن متابعتي لكي مضايقاكي.

– لا أبدًا، أنا بس مش عايزة أعطَّلك.

– لا متخافيش، مافيش أي تعطيل، أنا بكرة ماعنديش حاجة بعد المستشفى.

– متشكرة يا دكتور.

تساءلت، هل هذا اهتمامٌ عاديٌّ من طبيبٍ بحالةٍ يتابعها، أم إنه اهتمامٌ خاصٌّ بشخصي؟ لا بد ألَّا أقع فريسةَ الأوهام؛ فهو مجرد طبيب مجتهد يُتابع مريضة، كما أن طريقة تعامله وكلامه كلها لا تدلُّ على غير ذلك. ذهبت لإجراء المقابلة، والحمد لله تم قبولي في العمل، فذهبت مسرعةً للمستشفى والتقيت بنادر الذي اصطحبني لإجراء الأشعة، وبعدها سألني عن المقابلة فأخبرته بقبولي فهنأني ببروده المعتاد، فودَّعته وانصرفت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤