ميلاد جديد

لم يتوقَّف نادر عن زيارتنا أو التحدُّث إليَّ هاتفيًّا بحجة الاطمئنان عليَّ، وكانت المحادثات بيننا تدور حول كلِّ ما يخُصُّنا، هواياتنا وطفولتنا ومشاكلنا، فخلال فترةٍ بسيطةٍ صرنا أصدقاء ونعرف عن بعضنا كل شيء. كنت أشعر معه بالراحة، ولا أخاف منه ولا أتكلف وأنا أتحدَّث معه، استمعت منه لأحلامه وطموحاته، وعرفت كم نحن متشابهون؛ فهو مثلي يخشى التعلُّق والفقد. جاء نادر ذات ليلة مع سليم لبيتنا وقال لأمي: أنا جاي النهاردة لسببين؛ الأول أبشَّركم إن نتيجة العينة كويسة ومافيش فيها حاجة.

قالت أمي: عينة إيه؟

– التجمُّع الدموي، كان لازم نفحصه ونتأكَّد إنه ماعملش ورم.

– الحمد لله.

فقال سليم بخبث: والسبب التاني أكيد عوز حلاوة الخبر دا عشرين جنيه.

فقال نادر متلعثمًا: هو … أنا … عاوز حاجة تانية غير العشرين جنيه.

فسكت، فقال سليم ضاحكًا: لازم طمعان في خمسين.

– لا، طمعان في نهلة.

– نعم؟

– عاوز أتجوِّز نهلة.

سكتنا جميعًا واحمرَّت وجنتاي حتى قالت أمي: وماله يا حبيبي، احنا هنلاقي أحسن منك، بس مش يمكن أهلك يرفضوا بسبب ظروفها؟

حكى نادر لهم ظروفه العائلية، ثم قال: أنا عارف إن إمكانياتي المالية أقل منكم، لكن أنا بابذل كل جهدي عشان دخلي يتحسَّن.

فقال سليم بجدية: الفلوس وسيلة عشان الناس تعيش مرتاحة، لكنها مش كل حاجة في الحياة، المهم إنك تحافظ عليها وتصونها.

– أوعدك إني هاتقي الله فيها.

– وأنا مش عاوز أكتر من كده، وانتي إيه رأيك يا نهلة؟

سكتُّ ولم أُجِب، فقالت أمي: أنا هاعمل لكم الشاي، تعالى يا سليم عاوزاك.

خرجا وتركاني معه، فقال نادر: ما قولتيش إيه رأيك؟

– ليه أنا؟ شفقة وعطف؟

– لأ، إنما لأننا متشابهون في ظروفنا كتير، مش هاقولك بحبك وبافكر فيكي طول الليل، لكن هاقولك عجبتيني بأخلاقك وتفكيرك وشخصيتك، أنا وحيد ومحتاج واحدة مخلصة تكون جنبي في حياتي ونعمل عيلة تملا عليَّ الدنيا، وانتي الوحيدة اللي فكَّرت إنها تشاركني حياتي.

– ومش هتعايرني بطلاقي، ولا هتغير إني كنت متجوزة قبلك؟

– أنا عارف ظروفك كويس جدًّا، وعارف نفسي مش أنا الراجل اللي يعاير واحدة ست بظروف مالهاش دخل بيها.

– أنا خايفة أفشل تاني.

– فشلك الأولاني لأنك جريتي ورا عواطفك بس ولغيتي عقلك، وبعدين في فترة الخطوبة من حقك تقرري هتكملي ولا لأ.

– سيبني أفكَّر وأستخير ربنا.

– وأنا منتظر ردَّك.

أبدت أمي وسليم ارتياحهما له مع تخوُّف سليم من ظروفه المالية، فقالت له أمي: بلاش نعقدها معاه، وماتنساش إنها مطلَّقة.

– إنتي يا ماما اللي بتقولي كده؟

– لا، كلام الناس والمنطق اللي بيقول كده.

فقلت: أنا هافكر بعقلي وهاستخير ربنا، وبعد كدة أقرر أقبل ولا أرفض.

بعد أسبوع أخبرت سليم بموافقتي المبدئية، وأريد أن أتحدَّث مع نادر لأعرف كل ظروفه، فأخبر نادر الذي أتى إلينا وجلس معنا، فقلت له بعد الترحيب: أنا عاوزة أعرف كل ظروفك.

– أنا مقيم في شقة جَدتي القديمة، وبعد ماحوشت مبلغ حوَّلت عقد الإيجار باسمي، الشقه ٣ أوض كبيرة وصالة واسعة ومكانها في المنيل، باشتغل الصبح في مستشفى حكومي ولسه واخد الماجستير وهاحضَّر للدكتوراه، كمان باشتغل في المستشفى اللي أنتم عارفينه وباحلم في يوم تكون عندي مستشفى كبيرة بتاعتي، عندي عربية صغيرة مش قديمة أوي ومش أحدث موديل لكن بتخلَّص مشاويري، الخلاصة عايش في مستوى متوسط، ولو اتجوزنا هتعيشي معايا في نفس المستوى.

فقالت أمي: واللي ينقصها عندك نكمله إحنا.

– كتر خيركم، بس أنا ما اسمحش حد يصرف على بيتي ومراتي مليم غيري، لو ظروفي تناسبها يبقى اتفقنا، ولو ماتناسبهاش يبقى مافيش نصيب.

سكت الجميع فقلت: موافقة بس ليَّ شرط، ماتمنعنيش عن شغلي.

– وأمنعك ليه، أنا معظم الوقت بره البيت، يبقى انتي لازم تملي فراغك بحاجة تحبيها، بس في حالة وجود أطفال أتمنى تتفرغي لهم.

احمرت وجنتاي خجلًا، فقالت أمي: على بركة الله.

فقال سليم: وبالنسبة للعفش والشبكة.

– أنا محوش قرشين، وتعالوا شوفوا الشقة، وشوفوا هتعملوا إيه فيها.

اتفقنا على كل التفاصيل وقرأنا الفاتحة، وحددنا الأسبوع المقبل موعدًا للخطبة التي ستقتصر على الأهل فقط.

لا أعرف لمَ هي دونًا عن غيرها التي جذبتني إليها، وشعرت أني أرغب أن أُكمل حياتي معها، فهي ليست أجمل مَن قابلت ولا أكثرهم ثراءً، لكنَّ بها شيئًا يجعل قلبي سعيدًا عندما يراها، وأستمتع بالحديث معها ولا أريده أن ينتهي، كما أني أتلهَّف لرؤيتها بل كنت أخترع الأسباب لأراها وأبدِّل وردياتي لأكون بجوارها أطول وقتٍ ممكن، هل هذا هو الحب الذي طالما خفت أن أقع في شِباكه طالما حلمت به؟ لا أعلم، لكني سعيدٌ بأنها صارت لي وبعد خطواتٍ ستكون معي للأبد. أفقت من أفكاري على اتصالٍ من دكتور إيهاب الذي قال: شفت إيه اللي حصل؟

– لو خبر حلو قول، لو وحِش لأ عشان ماتبوظش مزاجي.

– نهلة.

– مالها؟

– نتايج العينة بتاعتها كان فيها لخبطة وجاتلي دلوقتي النتيجة السليمة.

– اتكلم على طول فيها إيه؟

– ورم.

سكتُّ للحظات وقد أصابتني صدمةٌ، ثم تمالكت نفسي وقلت: وقلت لها؟

– لأ أنا باقولك أنت، بس …

– اتكلم فيه إيه تاني.

– مالك عصبي ليه، هي تهمك للدرجة دي؟

– أنا لسه قاري فاتحتها.

– يا خاين من ورايا، طب وهتعمل إيه دلوقتي؟

– ولا حاجة، هاكمل الجواز، ولما تبقى مراتي أبقى أعرف أعالجها وهتكون تحت رعايتي.

– وعليك من دا كله بإيه؟ ما تسيبها وتتجوز واحدة سليمة.

– إنت يا دكتور اللي بتقول كده؟ ومين فينا ضامن إنه يفضل سليم؟ ومين فينا أصلًا ضامن عمره؟

– دا انت غرقان لشوشتك يا عم، طيب عمومًا أنا عرفت إنك خطبتها من سليم وحبيت أباركلك وأطمنك إنه ورم حميد.

– تصدَّق إنك بارد وتستاهل اللي مراتك وحماتك بيعملوه فيك.

– حرام عليك دا أنا غلبان، عمومًا ألف مبروك وربنا يسعدك.

أدركت بعد تلك المحادثة أن ما أشعر به ليس إعجابًا فقط، بل هو أكبر من ذلك، فخوفي عليها ورعبي من فقدها جعلاني أدرك كم هي مهمه في حياتي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤