الحب الحقيقي

تمَّت الخطبة في حفلٍ عائليٍّ بسيطٍ، وبعدها بدأنا تجهيز شقة الزوجية واتفقنا من البداية على تجهيز غرفة النوم والصالة بأثاثٍ جديدٍ، بينما سنكتفي بإعادة طلاء غرفتي المكتب والغرفة التي سنخصِّصها للأطفال، وسيحتفظ بمكتبه القديم، بينما غرفة الأطفال سنضع بها أثاث غرفته القديم حتى يرزقنا الله بأطفالٍ، وذلك توفيرًا للنفقات. ورغم وجود الكثير من أثاث شقتي السابقة في شقة خالي المغلقة إلَّا أني لم أستخدمه، بل أصررت على بيعه كله وشراءِ أثاثٍ جديدٍ يُناسب حياتي الجديدة. استنفد كل ذلك مدخرات نادر، فاضطررنا لتأجيل الزواج خاصة بعد أن رفض أية مساعدة بأي شكلٍ من أي أحدٍ، وخاصة أنا، وعندما عرف خاله بتأجيل موعد الزفاف — الذي أصرَّ على حضوره — بسبب نفاد مدخراته أرسل له مبلغًا كبيرًا وقال له إن تلك هدية زواجه، فهو مثل أبنائه، فقبله نادر شاكرًا. انتهينا من تجهيز الشقة وحددنا موعد الزفاف، وحضر خاله وهنأنا ودعانا لزيارته لقضاء شهر العسل، وأهدانا طارق زوج أختي تذكرتَي سفر مجانًا لأي مكانٍ في العالم في أي وقتٍ، فقال لي نادر: تسافري؟

– لو تحب.

– أحب، بس الشهر دا عندي شغلٌ مهم، هتزعلي لو أجَّلناه شوية؟

– لأ، زي ما تحب.

بدأت حياتي معه وأنا أشعر بالاطمئنان والسكينة بجواره؛ فقد كان إنسانًا هادئًا جدًّا ومتفاهمًا وعقلانيًّا جدًّا، لم يجبرني على شيءٍ ولم يمنعني من شيءٍ، إنما كان يناقشني إما أقنعه أو يقنعني، ورغم أني افتقدت المشاعر المتدفقة والرغبات المشتعلة إلا أني كنت أشعر بالأمان أكثر معه. بدأت بيننا بالعِشرة مشاعرُ هادئةٌ تنمو بالتدريج لم نتعجَّلها، ولم يضغط أحدنا على الآخر؛ ليعترف بحبه أو ليمنحه اهتمامًا أكبر. اتفقنا على تأجيل الإنجاب لمدة عام حتى نختبر حياتنا معًا، هل سننجح في الحياة معًا أم لا، وأيضًا لأن إمكانياتنا المالية الحالية لا تحتمل وجود طفلٍ. كنت أعمل ورغم ذلك كان يرفض أن أُنفق راتبي في البيت، إنما سمح لي بإنفاقه على ما أحتاجه فقط، وبالطبع لم يستطِع الوفاء بوعده لي لنسافر للخارج بسبب ظروفنا المالية، وكان ذلك يُضايقه كثيرًا، حتى عاد في يوم للبيت مبكرًا عن موعده، ولأول مرة يحتضنني بقوةٍ ويغمرني بقبلاته، وقال لي: عاملك مفاجأة.

– خير.

– هنسافر زي ما وعدتك.

– بجد؟

– طبعًا، والتذاكر أهي.

– وهنقعد أد إيه؟

– سنتين.

– إيه؟

– لما خالي عزمني أقضي شهر العسل عنده قلت له الأحسن تشوفلي شغل عندك، فوعدني لكن ماردش فقلت نسي، لحد ما لقيته بعتلي عقد العمل، وعملت الإجراءات وحجزت التذاكر.

– بس دي أول مرة تاخد قرار مهم زي دا من غير ما تاخد رأيي.

– ودي محتاجة رأي؟ هنسافر برة وأشتغل بمرتبٍ كبير وممكن كمان أحضَّر الدكتوراه من هناك، عارفة دا معناه إيه؟ يعني لما نرجع مكانة كبيرة والمستشفيات هي اللي هتجري ورايا، وممكن أحقق حلمي ويبقى عندي مستشفى كبير للأورام، وأعمل جزء منه مجانًا.

– يعني انت فكَّرت في نفسك ومصلحتك، وافترضت إن موافقتي موجودة أو اعتبرتها تحصيل حاصل؟

– إنتي مش عاوزة تسافري؟

– عاوزة أسافر رحلة، لكن فكرة السفر لمدة دي ما اتكلمناش فيها، ولا انت ناسي إننا شركاء في حياتنا، وأي قرار حد فينا ياخده هيأثر على الطرف التاني؟

جلس حزينًا وقد تلاشت الفرحة من عينيه وقال: أنا مافكرتش فيها كده، أنا فكرت إنها هتبقى مفاجأة حلوة لكي.

– عشان تبقى مفاجأة حلوة لازم نكون اتكلمنا فيها، وتعرف أنا بحلم بالسفر بره ولا لأ.

– قصدك إنك مش عاوزة تسافري معايا؟ ولا ألغي السفر من أساسه؟

– مش عارفة، بس هي زي ما قلت مفاجأة فعلًا، وسيبني أفكَّر بهدوء.

– بس أنا حجزت التذاكر كمان ١٠ أيام.

– ما تضغطش عليَّ من فضلك.

– خلاص براحتك.

لأول مرة أراه حائرًا ومنكسرًا وليس قويًّا كما اعتدته، هل حقًّا يهتم لغضبي لتلك الدرجة؟ هل سيفتقدني إن سافر بمفرده؟ هل سأقوى على الحياة بدونه أو بعيدًا عن أهلي؟ ومن الواضح أنها الفرصة التي يحلم بها، لكني لا أستطيع العيش بعيدًا عن أهلي وخاصة أمي التي كبرت وتحتاجنا بجوارها، أنا حائرةٌ لا أدري أيهم أختار. كان اليوم التالي هو يوم الجمعة حيث نجتمع على الغداء عند أمي، فذهبت مع نادر الذي ظل صامتًا طوال الطريق وبعد أن تناول الغداء استأذن بحجة متابعة حالة في المستشفى، وبعد أن غادر قالت أمي: جوزك ماله! إنتم متخانقين؟

– لا يا ماما، أنا هاحكيلكم وانتم احكموا.

وبدأت في سرد ما حدث، فقالت لي أمي: يا بنتي أنا زمان غلطت لما فضَّلت عيلتي على جوزي، وكانت النتيجة إني خسرته وعشت بطولي شايلة حمل تقيل لوحدي، ما تغلطيش غلطتي وتضيعي راجل بيحبك.

وقالت هدى زوجة أخي التي نادرًا ما تتدخل في الحديث: بصي يا نهلة، بلدك مكان ما يكون جوزك، لكن دا ما يمنعش إنك تبرِّي أهلك وتنزلي لهم في الإجازات مثلًا.

فقال سليم: سافري، ولو تعبتي هناك ابعتيلي، وساعتها أبعتلك تذكرة سفر تقعدي لحد ما ترتاحي وبعدين ترجعي لجوزك.

ثم قالت سلوى: وأنا أخلي جوزي يجيبلك تخفيض على التذاكر، وبعدين النت قرَّب الدنيا من بعضها، دا جوزي طول ما هو مسافر بافضل أكلمه فيديو لحد ما يرجع.

ضحك سليم وقال: إنتي فظيعة، سيبيه يتنفس.

– أبدًا، هافضل كاتمة على نفسه لآخر لحظة.

ضحكنا كلنا وقالت أمي: سافري مع جوزك يا حبيبتي، وماتخافيش أخوكي وأختك معايا.

عُدت لبيتي مبكرًا لأُصالح نادر وأبشِّره بموافقتي وأنا سعيدة أني توصلت لحل سيسعدنا معًا، وبمجرد أن فتحت باب الشقة وجدت نور غرفة نومي مُضاءً، فارتجفت بشدة فقد استعدت نفس مشهد خيانة عصام، مما جعلني أتسمَّر مكاني ولا أقوى على الحركة لمدة دقيقة، وتجمَّعت الدموع في مقلتيَّ، ودعوت الله ألَّا يتكرَّر ذلك المشهد مرة أخرى، فأنا لن أحتمل تلك المرة مرارة الغدر، استجمعت نفسي، وأنا أشعر بثقلٍ جسمي وتحركت صوب حجرتي، ومع خفقات قلبي المجنونة صار جسدي يرتجف بشدةٍ، وفتحت الباب ففوجئت بمشهدٍ لم أتخيَّله، فنادر ساجد يصلي ويبكي وهو يقول بصوتٍ مرتفعٍ من خلال دموعه: يا رب زي ما رزقتني بيها وزرعت حبها في قلبي وأسعدتني بيها، ماتحرمنيش منها، يا رب لو سفري هيتعسها أو هيبعدها عنِّي هاتخلى عنه وعن حلمي، بس خليها تفضل معايا ماتسيبنيش يا رب، أنت وحدك عارف أنا اتعذبت أد إيه وهي الوحيدة اللي قدرت تعوضني عن كل اللي فات، فما تحرمنيش منها. يا رب واجمعنا على حبك وطاعتك.

لم أستطِع منع دموعي ولا شهقاتي، فسقطت على الأرض جالسة وجسدي كله يرتجف، فختم نادر صلاته وأسرع إليَّ وضمني لصدره وقال بلهفة: نهلة مالك؟

– أنا كويسة، أنا بس مش مصدقة إن ربنا عوضني بيك، وعمري ما تخيلت إنك بتحبني كده.

– أنا ما باعرفش أقول كلام حلو، وده عيب فيَّ، لكن على استعدادٍ أعمل أي حاجة ترضيكي.

– أنا أكتر حاجة ترضيني إني أكون جنبك لآخر عمري.

ضمني لصدره بقوةٍ، فتمسَّكت به لأني أنا مَن أخشى أن يتركني كما تركني غيره، نظر في عينيَّ ومسح دموعي وقال: إيه لازمتها الدموع دي؟

– أنا كده، أفرح أبكي، أزعل أبكي، أحب أبكي، نكد بعيد عنك.

ضحكنا معًا، فقلت له: عندي حاجة عايزة أطلبها منك.

– عيوني عشانك.

– تسلم عيونك، بس أنا عاوزة حاجة تانية، عاوزة بنوتة.

– بنوتة إيه، مش فاهم؟

– عايزة أخلف منك بنوتة لما نسافر إن شاء الله.

– ولو ولد هنرجعه؟

– أنا باتكلم جد.

– وأنا جد أكتر منك، أنا بقى عاوز ست عيال، باقولك إيه تعالي نعمل بروفة.

– إنت قليل الأدب.

– أنا بحبك رغم إني طول عمري خايف أحب لأني باخاف من آلام الفقد جدًّا، فحرَّمت الحب على قلبي عشان ما يتوجعش، جيتي انتي لخبطتي كل كياني وخلتيني مش بس بحبك، لا باموت فيكي وبتمنى رضاكي، وهاموت لو بعدتي عني.

– أنا كنت فاكرة إن قلبي نسي الحب، جيت انت وعرَّفتني إني ماعرفتش الحب قبلك، أنا بحبك بعقلي قبل قلبي، بحب احترامك ليَّ، بحب إحساسي بالأمان معاك، بحب وجودك في حياتي، بحب كل تفاصيلك حتى تكشيرتك، اوعدني إنك هتفضل تحبني طول عمرك.

– أوعدك إني هافضل أحبك، وحتى لو مشاعري اتغيرت هافضل أحترمك وأصونك وأتقي الله فيكي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤