هدية عيد الميلاد

كان يوم مولدي عندما كنتُ مدللتك يومًا بهيجًا أنتظره لتحتفي بي أنت وكل الأسرة والأصدقاء، وعندما غبتَ حرصت أمي على أن تحتفل به حتى لا أشعر بالفارق، ورغم كل جهدها كان هناك فارقٌ بالطبع، فلم تكن أنت هنا، لكن سليم وسلوى كانا ينشران البهجة في ذلك اليوم، ومنذ زواج سلوى غابت البهجة عن البيت ونسي الجميع أن يحتفلوا بيوم مولدي، فسليم مطحونٌ في مسئولياته، وأنا أعذره طبعًا، وأمي أنهكتها سنوات المسئولية والمرض. الوحيد الذي تذكَّر يوم مولدي كان عصام، حيث غاب اليوم كله لم أرَه، وفي نهاية اليوم عندما خرجت من المكتب للصلاة وانصرف جميع الزملاء، عُدت فوجدت علبةً كبيرةً مغلفةً وعليها بطاقة مكتوب عليها «كل عام وأنت كما أنت بكل طُهرك وبراءتك» ولم تحمل أي توقيع، ففتحت العلبة فلم أجد بها سوى قلب صغير أحمر مكتوب عليه «أحبك»، وقفت للحظات مصعوقةً من هول المفاجأة ومتعجبةً ولا أعرف مَن صاحب الهدية، أيعقل أن يكون عصام؟ بقدر سعادتي بالهدية كنت أشعر بالخوف من القادم، ليتك كنت معي يا أبي لترشدني وتكون سندًا لي في خطوتي القادمة.

خرجت من مكتبي وأنا أحمل الهدية ووصلت لغرفتي فأخرجتها ورحت أتأمَّلها مرات عديدة، فاحتفظت بالبطاقة في أشيائي الخاصة جدًّا في دولابي، ووضعت القلب على وسادتي، وبينما أنا في صراعٍ رهيبٍ بين قلبي العاشق وعقلي الرافض لكل هذا الحب لذاك الصياد الماهر، وهو يقول لي: «إنه ليس حبًّا، بل فخًّا مُحكمًا.» فإذا بموبايلي يعلن عن وصول رسالة على الواتس أب من رقمٍ مجهولٍ ففتحتها، فوجدت مَن يتساءل «عجبتك الهدية؟»

فقلت: إنت مين؟

– حقيقي مش عارفاني؟

– لا.

– خمني.

– لو ماقلتش إنت مين هاعملك بلوك.

– أكيد قلبك قالك إني …

لحظاتُ صمتٍ يخفق قلبي فيها بجنونٍ وأنا أتأمل الموبايل في انتظار إجابته، حتى كتب: عصام.

سكت للحظات ثم استجمعت شجاعتي وقلت: أستاذ عصام أنت عارف إني ما بحبش الهزار بالطريقة دي، ولا علاقة الزمالة بيننا تسمح بالكلام دا.

– أمال أخدتي الهدية ليه؟

– لأني ما كنتش عارفة أرجعها لمين.

– بس أنا مش باهزر.

– إنت ماتعرفش غير الهزار وصحوبية البنات وأنا ماليش في الاتنين.

– طيب لكي في الحب؟

– الحب اللي أنت تعرفه لأ.

– طيب إيه الحب اللي انتي تعرفيه وتقبليه؟

– واضح إنك مش فتك زي ما بيقولوا عنك، وإلا كنت فهمت لوحدك، الصبح هديتك هتكون على مكتبك، واعتبر اللي بيننا من زمالة انتهى.

أغلقت موبايلي وأنا أرتجف من فرط اضطرابي وقلبي يلومني على تفريطي في الحب الذي طالما انتظرته، وعقلي يقول لي أنني فعلت الصواب. دخلت المطبخ لأصنع كوبًا من الشاي لأشغل نفسي عن أفكاري فوجدت أمي تصنع كعكة، وبمجرد أن رأتني قالت: كده بوظتي المفاجأة؟ كنت باعملك تورتة لعيد ميلادك.

فقبَّلت يدها وقلت: تسلم إيدك يا ماما، بس كنتي ارتاحي؟ إنتي تعبانة.

– أنا ليَّ مين غيركم؟

– خلاص هي حلوة كده، تعالي ناكلها مع الشاي.

– يا بنتي استني أزوَّقها.

– لأ كده حلوة ومناسبة للريجيم، خوديها وأنا هاعمل الشاي وجاية.

تناسيت كل شيءٍ وأنا أجلس بجوار أمِّي حيث الأمان والدفء، وجلسنا لنأكل الكعكة حينما دخل سليم وقال ضاحكًا: بتحتفلوا بعيد ميلاد أبو الفصاد من غيري؟ خيااانة.

ضحكت وقلت: هو الاحتفال يحلى من غيرك يا حبيبي؟ اقعد وأعملك شاي.

قمت لأصنع الشاي فسمعته يتحدث مع أمي، لكني لم أفسِّر كلامهما، فلما خرجت قال: أنا كنت ناوي أجيب لك هدية لكن ربنا رزقك بهديتين؛ الأولى الرواية اللي كنتي هاتجيبيها أول الشهر لما تقبضي جبتهالك.

لم أتمالك نفسي وقفزت تجاهه وقلت: يا حبيبي يا سوسو، دايمًا كده فاكرني؟

– مش هتبطلي سوسو دي؟ طب مش هاقول الهدية التانية.

قبَّلته في وجنته وقلت بدلال: أهون عليك دا أنا حبيبتك؟

فابتسم وقال: الهدية التانية عريس.

نظرت له للحظات ثم فتَّشت جيوبه فقال بدهشة: بتدوري على إيه؟

– العريس حاطه فين؟

– ظريفة! أنا عارف عاجبه فيكي إيه؟ عمومًا اجهزي، هو جاي الساعة ٧ النهاردة.

– إنت بتتكلم جد؟ ما أنت عارف إني ما بحبش الطريقة دي في الجواز، باحس إني جارية وبتتعرض على الناس.

– بس هو حد تعرفيه.

– مين؟

– عصام زميلك.

لم أصدِّق أذنيَّ، وظننت أني سمعت ما يودُّه قلبي لا ما قاله سليم الذي تعجَّب من ذهولي فقال: هو مش زميلك؟

فأومأت برأسي أن نعم، فقال: أومال مالك؟ لو مش عايزاه نقابله النهاردة وبعدها نعتذر له.

فقالت أمي: يا بنتي خلينا نشوفه أنا وأخوكي ونحكم عليه، وبعد كده نقولك رأينا، العمر بيجري وإخواتك كل واحد هينشغل بحاله، وأنا مش هاعيشلك العمر كله، عايزة أطَّمن عليكي قبل ما أموت.

فقلت بلهفةٍ: بعيد الشر عنك يا ماما، حاضر هاقابله.

وهنا دقَّ جرس الباب فخفق قلبي ونظرت في ساعتي فوجدت أمامنا نحو ساعة على موعده، وعندما فتح سليم وجدناها سلوى بصخبها وبطنها المنتفخة وتحمل معها تورتة وتقول: رغم إنِّي خلاص هافرقع من التقل، لكن مش ممكن أفوَّت عيد ميلاد أبو الفصاد، ههههه.

فقلت لها وأنا أُقبِّلها: يعني مافيش حاجة هتقصر لسانك دا أبدًا؟

– ما أبقاش سلوى، يالَّا كل سنة وانتي طيبة، والسنة الجاية نخلص منك عشان أجي أنا وطلبة نعاكس ماما؟

فقال سليم وهو يضحك: طلبة مين؟

– ابني، قرَّرت أسمِّيه طلبة.

– الله يكون في عون جوزك.

فقالت أمي وهي تُقبِّلها: اقعدي يا حبيبتي، عاملة إيه؟

– خلاص على أخري يا ماما، وتعبانة على طول، وقلت لما أنزل وأهيَّص معاكم يمكن أنسى تعبي.

– كويس إنك جيتي، أختك جاي لها عريس النهاردة، خديها وخليها تهتم بنفسها زي البنات.

فجذبتني من يدي وقالت: جيتي للعنوان الصح يا حلوة.

دخلنا حجرتنا، وراحت تختار لي الملابس وهي تتكلم وتضحك وتتأوَّه في وقتٍ واحدٍ، وأنا مضطربةٌ ولا أعرف ما الذي دفع عصام لتلك الخطوة؟ أهو يريد الإيقاع بي في فخِّه من خلال الخِطبة؟ أم إنه يحبني حقًّا؟ هل يتلاعب بقلبي؟ أم إنه جادٌّ في مشاعره؟ أفقت على صوت سلوى وهي تقول بسخريةٍ: اللي واخد عقلك، مش هتقولي اتعرَّفتي عليه إزاي؟ واضح إن القصة كبيرةٌ.

– أبدًا، زميلي في الشغل وواخد الدنيا ضحك وهزار، فأنا صديته من البداية، لكن عمل معايا حركة الجدعنة مع أكمل، فاكرة؟ وعجبني فبقيت أتكلم معاه كلام عام، بس دي كل الحكاية.

– وده يخليه يتقدملك؟ الحكاية فيها إنَّ، ولازم أعرفها.

هنا دقَّ جرس الباب، فخفق قلبي بشدةٍ وشحب وجهي، فضحكت سلوى وقالت: على ما تخلصي لف الطرحة هاطلع أشوف عريس الغفلة.

جلست أمام المرآة وأنا أحاول أن أستجمع شجاعتي وأقول لنفسي لو كنت أنت معي لواجهت الكون كله بلا خوفٍ، حتى لو أسأت الاختيار كنت أعرف دائمًا أنك ستساندني، لكني اليوم عليَّ أن أختار وحدي وأتحمَّل نتيجة اختياري وحدي، يا رب كن معي وأنِر بصيرتي.

جاءت سلوى تقول: يا بنت الإيه لقيتي القمر دا فين؟ صحيح هو مش أحلى من جوزي، بس حلو.

– بس بطلي هزار، أنا مرتبكة أوي.

– مش بتقولي زميلك! يعني في وشك ليل نهار، معقولة مش عارفة إنه جاي.

– لأ، أصلي … لسه مبهدلاه الصبح.

– يا خراشي عليكي! طب الحقيه قبل ما يطفش يا فوزية، وأنا هامدد على سريرك شوية لأني تعبانة أوي.

خرجت وأنا أرتجف خجلًا واضطرابًا، واقتربت من الصالون فنادتني أمي لأحمل صينية العصير فقلت لها: لو شيلتها هتدلق عليه، فبلاش فضايح.

دخلت وألقيت التحية عليه دون أن أنظر إليه، وجلست على أبعد كرسي عنه، وظل سليم يتحدث معه في الموضوعات التي يعلم أني لا بد أن أشترك فيها وأنا صامتةٌ، ومكتفية بمشاهدة السجادة التي تغطِّي الأرض وكأني أراها لأول مرة، وانتبهت على صوت سليم وهو يقول: نهلة، الأستاذ عصام بيسألك بتحبي تقري إيه؟

– أنا؟ أه، كل أنواع الروايات والكتب التاريخية وكتب علم النفس، وانت بتحب القراءة؟

– مش أوي، مش دايمًا ألاقي الكتاب اللي بيشدني، لكن لو ساعدتيني ورشَّحتي لي كتب ممكن نقراها ونتناقش فيها.

احمرت وجنتاي وفوجئت بانسحاب سليم ليجيب على موبايله، بينما قامت أمي لعمل الشاي مع الجاتوه وفقًا لبروتوكولها في استقبال العرسان، فابتسم عصام وقال: اللي يشوفك في الشغل وانتي بتتكلمي ولا على الموبايل وانتي بتبهدليني ما يشوفكيش حالًا وانتي ما بتتكلميش كلمتين على بعض.

استجمعت شجاعتي ورفعت رأسي وقلت: جاي ليه؟

– أخوكي ما قالكيش؟ عاوز أخطبك.

– ليه أنا؟

– لأنك مختلفة عن كل اللي عرفتهم قبل كده، محترمة وعاقلة وطموحة ومثقفة.

– ويا ترى كل واحدة بتعجبك بتروح تخطبها؟

– مش فاهمك.

– يعني كل واحدة ما بتعرفش توصل لها بتعمل موضوع الخطوبة دا لعبتك عشان توصلها؟

فغضب وقال: أنا عمري ما خطبت قبل كده، ومش أنا اللي أدخل بيوت الناس عشان أستغل بناتهم، إنتي فاكراني إيه، سافل؟ ولا ما بافهمش إن البيوت لها حُرمة؟

– برضه ما جاوبتنيش ليه أنا؟

سكت قليلًا ثم قال برقةٍ: أعتقد الإجابة كانت على قلبي اللي بعتهولك.

احمرت وجنتاي وخفق قلبي بقوةٍ ولم أستطِع النظر في عينيه، وقبل أن أتكلم فوجئنا بصراخ سلوى، فجريت بسرعةٍ تجاهها، فقالت أمي لسليم بسرعةٍ هات تاكسي أختك بتولد.

فقال عصام: أنا معايا عربيتي تحت هادورها على ماتنزلوا.

نزلنا مسرعين، ومن حسن الحظ أن سلوى كانت أعدَّت حقيبة الولادة الخاصة بها وأحضرتها معها، فحملتها بينما أمسكها سليم ونزلنا وركبنا سيارة عصام وتوجهنا للمستشفى ودخلنا بها أنا وأمي، وبقي عصام مع سليم، وعندما أتى زوج سلوى انصرف عصام وترك رقمه مع سليم الذي شكره كثيرًا. أرسل لي بعد ساعتين على الواتس يسألني عن سلوى، فأخبرته أنها أنجبت ولدًا فهنَّأني، فاعتذرت له عن الموقف الذي وضعناه فيه، فقال إنه لأول مرة يشهد ولادة لأن إخوته كلهم ذكور، والآن فقط أدرك كم تعبت أمه فيهم. حصلت في اليومين التاليين على إجازة لأعتني بسلوى مع أمي، فلم أرَ عصام، وبعد يومين قال لي سليم: عصام بيسأل عن ردِّك.

– إنت رأيك فيه إيه؟

– حسب اللي عرفته كويس، بس لسه مسألتش عنه.

– وحكيت له عن بابا؟

– لأ، أنا فاكره عارف.

– لأ طبعًا ما باحكيش لحد، يبقى تقابله لوحدكم في أي مكان وتشرح له ظروفنا، واديله فرصة يفكر، وانت كمان تسأل عنه، بس …

– مالك؟

– خايفة منُّه لأنه معروف عنه في الشغل إنه دونجوان، وخايفة يفضل كده.

– كل الشباب بيبقوا كده، ولما بيتجوزوا ويشيلوا المسئولية بيعقلوا.

– هنشوف، بس اعمل اللي اتفقنا عليه، مش يمكن لما يعرف ظروفنا يغيَّر رأيه؟

عرفت من سليم أنهما تقابلا، وحكى له سليم ظروفنا وعصام يستمع بصمتٍ حتى قال له سليم في النهاية: فكر براحتك، ولو ظروفنا تناسبك كلمني، ولو ما تناسبكش كأنك ما سمعتش حاجة.

مرَّ يومان وأحمد الله أنهما كانا الجمعة والسبت، فلم أذهب للعمل، وفي مساء السبت جاءتني رسالة من عصام يقول فيها: خايفة تواجهيني بظروفك؟ فاكرة إنها ممكن تخليني أغيَّر رأيي؟

– مش أي حد بيقبل يرتبط بواحدة ظروفها زيي.

– مالها ظروفك؟ أنا شايفها عادية وما يغرِّكيش البيوت اللي شكلها سعيدة وهي مقفولة على بلاوي من جوه.

– كل واحد مختلف في حكمه وتفكيره، فحبيت أوفَّر عليك الإحراج.

– اللي يحبك مستحيل يحس بالإحراج، إنما هيحس بس بالفخر.

سكت ولم أجِبه فقال: سكتي ليه؟ عمومًا أنا هاتصل بعصام حالًا.

كدت أطير فرحًا، فلأول مرة يصدق قلبي، وها هو عصام يحبني حقًّا ويتقبلني كما أنا، أخيرًا يا أبي شعرت أني جديرةٌ بالحب، وأن من حقِّي الاستمتاع بالحياة كغيري، أخيرًا شعرت أني مرغوبةٌ وممن؟ من شخصٍ عرف العشرات وتركهن من أجلي، بل وفضَّلني عليهن، لكن ترى هل سيحنُّ لهن يومًا؟ هل سيهجرني — كما فعلت أنت — من أجل أخرى؟ لا لن أترك خوفي يقف في سبيل سعادتي، فلأغامِر فربما تلك تكون فرصتي للحياة، وإن ضاعت ضعت معها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤