ليلة سوداء

أخذ الأصدقاء يسيرون في الظلام على غير هدًى، وبعد فترة قال «عاطف» وقد أحسَّ بالتعب الشديد: لن أستطيع أن أسير أكثر من هذا. إنني متعب جدًّا … وجائع، فاتركوني وتقدَّموا أنتم.

أسرع «تختخ» إليه قائلًا: من غير المعقول أن نتركك وحيدًا في هذا المكان. إننا جميعًا متعبون، ونحتاج إلى الراحة … فتعالَوا نقضِ الليلة هنا، ونستمر في السير صباحًا.

محب: ولكن يا «تختخ»، إذا طلع النهار قد تستطيع العصابة أن ترانا وتهاجمنا. إن فرصتنا الوحيدة أن نستتر بالظلام لعلنا نستطيع عمل شيء، وإنقاذ «نوسة».

وقف الجميع لا يدرون ماذا يفعلون، فقالت «ناعسة»: لقد تعوَّدت على الحياة في هذه الأماكن، وأنا لم أتعب بعد، وأنصحكم أن تجلسوا أنتم هنا، بينما أقوم أنا بالتجوُّل في أنحاء الجزيرة لعلني أعثر على أثر العصابة، فإذا وجدتها فسوف أعود اليكم لأخبركم بمكانها.

عاطف: وكيف تستطيعين العثور علينا في هذا الظلام، وهذه الغابة المتشابكة التي لا يعرف أحد طريقه فيها؟!

ناعسة: أشعلوا بعض النار، ولْيبقَ أحدكم مستيقظًا بعض الوقت فلن أتغيَّب طويلًا.

وافق الأصدقاء على خطة «ناعسة» التي أسرعت بالمسير، وجلس الأصدقاء الثلاثة معًا … كانت «نوسة» في أيدي رجال العصابة و«لوزة» ليست معهم … فجلسوا صامتين لا يعرفون ماذا حدث للفتاتَين … وهل تعرَّضت «لوزة» لأخطار لا يعلمونها …

وعندما جلسوا ساكتين أحسوا لأول مرة أن الغابة حافلة بالبعوض الشرس، ألوف، بل ملايين من البعوض تُحيط بهم من كل جانب وتهاجمهم بشدة … وكانت أيديهم ترتفع وتنخفض لتضرب البعوض وتطرده بعيدًا … ولكن البعوض كان يُحيط على كل جزء من أجسامهم، ويلسعهم لسعات مؤلمة، فقال «محب»: إنني أُفضِّل أن أقع في أيدي رجال العصابة بدلًا من الوقوع في براثن هذا البعوض المزعج.

محب: والكارثة أن البعوض ينقل بعض الأمراض وأبرزها مرض الملاريا المخيف.

تختخ: لا داعي لهذه الأفكار السوداء، وتعالَوا نتحرَّك ونبحث عن بعض الأغصان الجافة لنشعل النار؛ إن النار والدخان سيُبعدان البعوض عنا، وفي الوقت نفسه تستطيع «ناعسة» العثور على مكاننا.

كان الثلاثة متعبين جدًّا، فقاموا متناقلين يبحثون في الظلام عن الأغصان والأعشاب الجافة، وابتعد «عاطف» عن المكان دون أن يدري، ووجد نفسه بعد دقائق وحيدًا وسط الغابة الكثيفة، وقد فقد الاتجاه، ولم يدرِ ماذا يفعل.

وضع يده في جيبه، وأخرج علبة الكبريت التي يحملها، وأشعل عودًا، ولكن النور البسيط الذي نشره عود الكبريت في مساحة ضعيفة لم يكشف شيئًا كبيرًا، فأخذ ينادي بصوت مرتفع على «تختخ» و«محب»، وكان يخشى في نفس الوقت أن يكون قريبًا من العصابة فيسمعه أحد. وانطفأ عود الكبريت، فأشعل عودًا آخر، وأخذ يتحرَّك في عدة اتجاهات، محاوِلًا العثور على صديقَيه.

كان الموقف محرجًا ومخيفًا في هذا الظلام الكثيف، وأحسَّ «عاطف» بالخوف والرهبة، فأخذ يُشعل عيدان الكبريت دون وعي … متحرِّكًا في اتجاه تصوَّر أنه يؤدي إلى مكان صديقَيه … وفجأةً على ضوء أحد العيدان شاهد منظرًا جعل الدم يجمد في عروقه … لقد رأى ثعبانًا ضخمًا تشع عيناه في الظلام … ويتحرَّك في اتجاهه في صمت … وقف «عاطف» لحظات وقد شلَّته المفاجأة … وتوقَّف عقله عن العمل … والثعبان الكبير ينساب في اتجاهه … ثم دبَّت الحياة فيه مرةً أخرى وجرى … جرى بكل ما تملكه ساقاه من قوة … جرى لإنقاذ حياته التي أحسَّ أنها في خطر حقيقي رهيب … لم يلتفت خلفه … وظل يجري ويجري … دون أن يعرف إلى أين يتجه … هل كان الثعبان خلفه … أم توقف؟! لم يكن يدري … كان كل ما يُحس به أنه يجب أن يجري دون توقُّف …

بعد دقائق طويلة من الجري أحسَّ بساقَيه تتوقفان عن الحركة … لقد أصبح في غاية التعب ولا يستطيع الحركة … ووقف متسارع الأنفاس يتساند على بوصة كبيرة، وأخذ ينظر حوله في فزع … وهو يتوقَّع أن يظهر الثعبان مرةً أخرى.

وفي هذه الأثناء كان «محب» و«تختخ» قد جمعا بعض الأغصان والأعشاب الجافة وأشعلا فيها النار …

وجلسا حولها ينتظران عودة «عاطف» و«ناعسة»، ولكن الدقائق مضت دون أن يظهر أحدهما أو كلاهما.

قال «محب»: أين ذهب «عاطف»؟ لقد غاب أكثر ممَّا ينبغي، هل نذهب للبحث عنه؟

تختخ: أين نبحث عنه؟ … وكيف؟ إننا الآن في مركز ثابت يمكن أن يتجه إلينا، أمَّا إذا تحرَّكنا فسوف نتوه جميعًا … فلْننتظر دقائق أخرى ثم ننادي عليه برغم أن أي صوت الآن خطر علينا.

وكان «عاطف» ما زال واقفًا في مكانه يلهث، ويتصوَّر كل حركة حوله هي حركة الثعبان المخيف … وكان ذهنه يعمل بسرعة … ويُفكِّر في هذه المغامرة الرهيبة التي لم يسبق أن اشترك في مثلها من قبلُ بعيدًا عن «المعادي» بمئات الكيلومترات … وحيدًا في غابة مظلمة ترتفع فيها أصوات الصراصير والحشرات الليلية … وتطارده الثعابين المخيفة … وليس معه أحد من الأصدقاء يمكن أن يعتمد عليه.

وبدأت رائحة دخان تتسرَّب إلى أنفه … فقال في نفسه: من أين يأتي هذا الدخان؟

وبدأ يتحرَّك في اتجاهه … لعله دخان آتٍ من ناحية الأصدقاء … أو حتى من ناحية العصابة … المهم أن يرى أحدًا … أن يهرب من هذا الثعبان المخيف.

أخذت رائحة الدخان تقوى شيئًا فشيئًا … واستطاع خلال الأغصان المتشابكة أن يرى ضوءًا يتأرجح مع الهواء … فاتجه إليه مسرعًا … وكم كانت فرحته عندما سمع صوت صديقَيه «تختخ» و«محب» وهما يتحدثان! … كان صوتهما في أذنيه أحلى من أي صوت موسيقى … وأسرع إليهما … وسمعا صوت قدمَيه فقاما مسرعَين … وألقى «عاطف» نفسه بين ذراعي «محب» قائلًا: لا أصدق أني نجوت … لا أصدق أني نجوت!

وجلس بجوارهما، وأخذ يقص عليهما قصة الثعبان بصوت مرتعش، قال «تختخ»: لقد عانيت وقتًا رهيبًا يا «عاطف»، ولكن هذه تجرِبة جديدة. على كل حال إن المغامرات …

وقبل أن ينهي «تختخ» جملته سمعوا صوت حركة بين الأعشاب فوقفوا جميعًا، وأسرع «تختخ» إلى قطعة ضخمة من الأخشاب المشتعلة وحملها في يده فأضاءت حولها … كان يستعد لاحتمال أن يظهر الثعبان فيضربه.

وفكر «تختخ» لعله ليس الثعبان … لعله أحد أفراد العصابة، وقال بصوت هامس: استعدا … وبدأ الصوت يرتفع … كان واضحًا أنه صوت أقدام … ثم سمعا في الظلام صوتًا يقول: «تختخ» «محب» «عاطف»!

وعرف في الصوت صوت «ناعسة»، فصاح «محب»: «ناعسة» … أنت هنا!

وبعد لحظات ظهرت «ناعسة» وأقبلت عليهم متسارعة الأنفاس.

قالت «ناعسة»: من الأفضل أن نتحرَّك … لقد سمعت وأنا أتجوَّل صوت موسيقى … ولكنني لم أستطِع تحديد اتجاهها … فتعالَوا معي لعلنا نتمكَّن من الوصول اليها … إنها بالقطع تصدر من مكمن العصابة …

قال «تختخ»: علينا أن نطفئ النار أولًا … حتى لا يعرف أحد أننا في الجزيرة.

أخذ الأصدقاء يُطفئون النار، وبدءوا السير … وقال «عاطف» محذرًا: لعل الثعبان يظهر مرةً أخرى … من الأفضل أن نكون على حذر … فقد يكون قريبًا منا.

ساروا متقاربين وهم يرهفون السمع … وكانت كل حركة حولهم تجعلهم يقفون ويُنصتون … ثم يستأنفون سيرهم. وفجأةً سمعوا صوتًا قويًّا يتجه ناحيتهم … ووقفوا جميعًا صامتين … كان الصوت يزيد شيئًا فشيئًا … صوت حركة واضحة بين الأعشاب … واتجهت أنظارهم إلى مصدر الصوت … ثم قفز من الأعشاب فأر ضخم، وجاءت قفزته على ساق «محب» الذي قفز مذعورًا فوقه … وبرغم توتُّر أعصابهم لم يملكوا أنفسهم من الضحك …

استأنفوا سيرهم بعد قليل … محاولين الاستماع إلى الموسيقى التي تحدَّثت عنها «ناعسة»، ولكن عبثًا حاولوا … لقد كانت الغابة صامتة.

قال «تختخ»: من الأفضل أن نتوقَّف قليلًا … إن أفضل وقت للتحرُّك هو على ضوء القمر.

قالت «ناعسة»: إن العصابة لن تنتظرنا … وعلينا أن نتحرَّك باستمرار. إن الصوت كان يصدر من ناحية اتجاه الريح.

ومضى الأصدقاء يسيرون … وهم في غاية التعب … لقد كانت ليلةً سوداء … ومغامرةً رهيبة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤