الباب العاشر

خلافة عثمان بن عفان

انتقل بي المدعي إلى قبرٍ كان قريبًا من قبر الإمام مالك، وأشار إليه قائلًا: هذا قبر ذي النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه الخليفة الثالث، ثم أخذ يتلو أدعيته، ويطلب إلي أن أرددها، ولكني كنت أشعر وأنا ماثل أمام قبر الخليفة السبَّاق إلى الخير أن من هذه التسمية نصيبًا مباركًا طهورًا لصاحبها، فقد كنتُ أمام رجل استمد هذين النورين من نطفتين طهورتين، هما: كريمتا الرسول .

وإن في دفن عثمان رضي الله عنه في البقيع لحكمة، فقد أراد الله سبحانه أن يخص محمدًا ووزيريه بالروضة الشريفة التي هي من الجنة، وأن يُضفي على البقيع بركة عثمان، ولو أن كل من في البقيع من الصحابة الأجلاء، وبأيهم يقتدي المرء يهتدي، فقد قال رسول الله : «أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم»، وكذلك أراد الله عزَّ شأنه أن يبارك أرض النجف بدفن رُفات علي كرَّم الله وجهه هناك، وقد يكون في ذلك أيضًا مصداقًا لقوله تعالى: وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ الآية.

ولقد جاء دفن الخلفاء الأربعة في المواقع التي دُفنوا فيها أشبه بالماء الطاهر في قارورة، فتفجَّرَتْ وتناثر ماؤها، وتناثر هذا الطهر في بقاعٍ مختلفة.

•••

ولقد ذكرتُ عِظَم مكانة عثمان لدى الرسول، ورأيت بعين مخيلتي كيف أن رسول الله كان يجلس ذات يوم شديد القيظ تحت شجرة وارفة الظل في بستانٍ من بساتين المدينة، وقد خلع نعليه، وكشف عن ساقيه، ووضع قدميه في ماء عين، ورأيت بعيني مخيلتي عثمان مقبلًا، فحيى الرسول الذي شاهدته يُسرِع إلى تغطية ساقيه، فيتعجب عمر، ويقول: هل تستحي من عثمان يا رسول الله!

فيجيب الرسول: كيف لا، وعثمان تستحي منه الملائكة!

بل لقد كانت مكانة عثمان عند قريش تشغل أكبر جانب من محبتهم، أدرَّ الله تعالى الخير وفيرًا عليه، فكان موفور النعمة، جوَّادًا كريمًا؛ إذ قد بذل الكثير من ماله في سبيل رفاهية قومه، بل في سبيل الله، ونصره دينه أيضًا، فقد جاد إلى النبي بألف دينار حينما جهَّز الرسول جيش العسرة، ونثرها في حِجر الرسول الذي أخذ يُقلِّبها بين يديه ويقول: «ما ضرَّ عثمان ما صنع بعد اليوم.»

ومن مآثره في البذل أن بئر رومة كانت لرجلٍ يهودي يبيع للمسلمين ماءها، فرغب الرسول في أن يشتريها مسلم، حتى لا يرهَق المسلمون بجشع اليهودي، فتقدَّم عثمان لشرائها، فأبى اليهودي إلا أن يبيع نصفها فقط باثني عشر ألف دينار، فقبل عثمان، واتفقا على أن يكون لكلٍّ منهما يوم خاص، فكان المسلمون إذا جاء يوم عثمان استقوا ليومين، حتى اضطر اليهودي إلى بيع النصف الآخر. ولقد بلغت محبة عثمان من قلوب قريش أن الأم كانت إذا دلَّلَتْ طفلها أنشدته:

أحبك والرحمن
محبة قريش عثمان

وكذلك ذكرت عثمان، وقد كان من السابقين في اعتناق الإسلام، فشاهد جميع المشاهد والوقائع مع الرسول، ما عدا غزوة بدر، فقد كان متغيِّبًا لمرض زوجته «أم كلثوم»، وقد ماتت في اليوم الذي نصر الله فيه المسلمين في موقعة بدر، فكانت غيبة عثمان غيبة شرعية؛ ولذلك أسهم له الرسول مع الغانمين كما لو اشترك في القتال.

وكذلك ذكرت عظم ثقة الرسول بعثمان، فقد اتخذه سفيرًا إلى قريش في بيعة الحديبية، كما كان كاتب الوحي للرسول، وكاتبًا وأمينًا لأبي بكر وعمر، فقد كانا يستشيرانه في أهم الأمور لرجاحة عقله وحسن تدبيره، وكان أحد الستة الذين قال فيهم عمر: إن رسول الله مات وهو عنهم راضٍ، ولما بويع بالخلافة كانت المبايعة بأغلبية آراء المشيرين من زعماء المسلمين وقادة الرأي فيهم.

وذكرت كيف افتدى عثمان الخطيئة التي ارتكبها عبيد الله بن عمر بماله الخاص حين قتل عبيد الله الهرمزان، وأبا لؤلؤة، وابنته وحفيده، واعتقله عمرو بن العاص، وأتى به إلى صهيب الذي حبسه في دار سعد بن أبي وقَّاص، وقد كانت هذه أول قضية نظر فيها عثمان، وقد أُشير عليه بقتل عبيد الله؛ لأنه قتل عمدًا مَن لم يقتل أباه، فالذين قتلهم لم يثبُت عليهم قتل عمر ثبوتًا قاطعًا، ولكن بعض الصحابة الأجلَّاء من المهاجرين قالوا معترضين: لقد قُتل عمر بالأمس، فهل نقتل ولده اليوم؟

وقال عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين، إن الله قد أعفاك؛ إذ وقع هذا الحادث ولم يكن لك سلطان على المسلمين (أي إنه حدث قبل إتمام مبايعته بالخلافة)، فقال عثمان: ولكني وليهم، وقد جعلتها دية وافتديتها بمالي.

أول خطبة لعثمان

ذكرت كيف أن عثمان حين وليَ أمر المسلمين أوصاهم بالعمل الصالح، والجد، وعدم التغافل والاغترار بنعيم المدنية التي وجدوا عليها الفُرس والروم بعد أن فتح بلادهما الإسلام واختلط بهم المسلمون، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه وصلى على رسوله:

إن الدنيا طُويَتْ على الغرور، فلا تغُرَّنَّكُم الحياة الدنيا، ولا يغُرَّنَّكم بالله الغرور، واعتبروا بمن مضى، ثم جدُّوا ولا تغفلوا، فإنه لا يُغفل عنكم. أين أبناء الدنيا الذين آثروها، وعمروها، ومتعوا بها أنفسهم طويلًا؟ ارموا بالدنيا حيث رمى الله بها، واطلبوا الآخرة، فإن الله ضرب لها مثلًا فقال عز وجل: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا الآية.

أوامره إلى الحكام

وذكرت كيف بعث إلى أمراء الولايات وحكام الإيالات ينبههم إلى واجباتهم وإلى حقوق الرعية، ويُذكرهم بأنهم لم يكونوا حُكَّامًا ليستنزفوا أموال الشعب ويهضموا حقوقه، فقال:

أما بعد، فإن الله قد أمر الأئمة بأن يكونوا رعاة، ولم يأمرهم أن يكونوا جباة، وأن صدر هذه الأمة قد خلقوا رعاة، ولم يخلقوا جباة، وليوشكن أئمتكم أن يصيروا جباة، ولا يكونوا رعاة، فإذا عادوا كذلك انقطع الحياء والأمانة والوفاء، ألا وإن أعدل السير أن تنظروا في أمور المسلمين وفيما عليهم، فتعطوهم مالهم، وتأخذوهم بما عليهم، ثم تعنوا بالذمة فتعطوهم الذي لهم، وتأخذوهم بالذي عليهم.

أوامره إلى قواد الجيش

وذكرت كيف كتب إلى قواد الجيش يذكرهم بما كان يفعله معهم عمر، وينذرهم بأنهم إذا غيروا سلوكهم نحَّاهم عن القيادة، وجرَّدهم من الإمارة، واستبدلهم بغيرهم، فقال:

أما بعد، فإنكم حماة الإسلام، وقد وضع لكم عمر ما لم يغِب عنا، بل كان على ملأٍ منا، ولا يبلغني عن أحد منكم تغيير ولا تبديل فيغير الله بكم، ويستبدل بكم غيركم، فانظروا كيف تكونون، فإني أنظر فيما ألزمني الله النظر إليه، والقيام عليه.

أوامره إلى عمال الخراج

وذكرت عثمان وكيف نبَّه عمال الخراج إلى الاستمساك بالأمانة والحرص على الوفاء والسير على هدى الحق، فقال:

أما بعد، فإن الله خلق الخلق بالحق، فلا يقبل إلا الحق، خذوا الحق وأعطوا الحق به، والأمانة الأمانة، قوموا عليها، ولا تكونوا أول من يسلبها، فتكونوا شركاء من بعدكم إلى ما اكتسبتم، والوفاء الوفاء، لا تظلموا اليتيم ولا المُعاهِد، فإن الله خصم لمن ظلمهم.

فتوحات عثمان

تمثلت كيف كانت الإمبراطورية العربية واسعة النطاق، منفسحة الأرجاء، وقد قضى عمر على دولتَي الفُرس والروم، وذكرتُ كيف أن عثمان بدأ فتوحاته بتوطيد دعائم ما فتحه عمر، وترسيخ أقدام المسلمين فيما فتحوا من الأقطار والأمصار، فإذا ما انتهى من رد المتمردين إلى حظيرة الإسلام — ويُعتبر هذا بمثابة فتح جديد — أخذ يزيد أملاك الإمبراطورية الإسلامية، ويُوسِّع فتوحاتها، فبدأ بأرمينيا، وكانت قد انتقضت على المسلمين بعد قتل عمر لضعف حامية المسلمين فيها، وقلة عددهم، ورغبة كبراء الأرمن في الانسلاخ من جسم الإمبراطورية العربية.

وقد وُفِّقَ عثمان؛ إذ تمكَّنَتْ تجريدة معاوية بقيادة حبيب بن مسلمة من إخضاع الأرمن الذين طلبوا الصلح، وارتضوا دفع الجزية.

وأعقب فتح أرمينيا إتمام فتح بلاد الفُرس على يد عبد الله بن عامر، الذي استطاع أن يطأ أهل الفرس وطأة صاروا منها في ذل، وكتب إلى عثمان بالفتح، فاستعمل على ولاياتها من الولاة من رأى فيهم الخير والعدل ومخافة الله.

وتوجَّهَتْ أنظار عثمان بعد ذلك إلى دولة الروم، وكان يعلم أن معاوية بن أبي سفيان شغوف بالقضاء على تلك الدولة البيزنطية، فعهِدَ إليه عثمان في أمر فتحها.

وكان معاوية يعلم حق العلم أن الروم على حذر من المسلمين بعد انسلاخ الشام ومصر من أملاكهم، وكان يعرف صعوبة بلاد الأناضول ووعورة جبالها، وأن فتحها من طريق البر أمر عسير؛ لذلك فكَّر في أن يتخذ طريقه من البحر، فيستولي على أهم النقط والثغور، ثم يتوغَّل في سائر البلدان البيزنطية.

واستطاع معاوية أن يستولي على كريت ورودس، وأكثر الجزر التي استخدمها بعد ذلك في توجيه حملته أيام خلافته إلى القسطنطينية ومحاصرتها.

لقد كان للعرب أسطول بحري يخفق عليه علم المسلمين مرفوعًا على كل شراع لكل سفينة من السفن العربية، وكأنما رسول الله حين قال حديثه الشريف الذي معناه: الاستشهاد بالجهاد بحرًا يكفِّر عن الكبائر مهما تعظُم. كان يحث الأجيال اللاحقة على الإقدام على الاستشهاد في الجهاد بحرًا، ويحث على بناء الأسطول البحري الإسلامي؛ إذ كان يعلم أن أمته ستكون في مد فتوحاتها محتاجة إلى الأسطول البحري.

المنازعات بين أئمة الإسلام

لا بد لكل بداية نهاية، وسُنة الله في خلقه تقضي بنهاية كل كائن حي، فالدول كالأفراد، لا بد لها من أن تشيخ، وقد كمل نمو الأمة العربية بوساطة نظم تامة الكمال، فلا بد إذن من أن تنحدر إلى الضعف والشيخوخة، وليس أقتل للأمم من المنازعات بين أئمتها وكبرائها، فإن هذه المنازعات تُفضي إلى الفوضى والاضطراب والفتن والدسائس والوشايات، إلى غير ذلك من النقائص الاجتماعية التي تقضي على آجال الأمم. وقد كانت تلك الحال المؤلمة هي التي تمخَّض عنها قتل عثمان الخليفة الثالث للرسول الأعظم، وهو الخليفة الذي كانت مبايعته تكاد تكون بإجماع المشيرين في الدولة العربية، كما قدَّمنا.

فقاتَل الله الفتنة.

ويُنبهني المدعي إلى ما أنا فيه من شرود الذهن بقوله: «تقدَّم يا هذا إلى هذا القريب، إنه قبر إبراهيم ولد الرسول.»

حييت ابن الرسول ، ورضوان الله عليه بما حييت به أولياء الله السابقين، ثم استعرضتُ بعين مخيلتي ذكرى مرضه الأخير، وكيف أن الرسول نقله إذ ذاك إلى مصيف في أحد بساتين المدينة كما ينصح الأطباء الآن مرضاهم حين يرون أنهم في حاجة إلى تغيير الهواء، ولا غرابة، فقد كان الرسول خير طبيب، وإننا لا ننسى كيف أنه قبل من المقوقس مارية القبطية هدية، ورد الطبيب قائلًا: «نحن قوم لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع.»

انتقل النبي بولده إلى المصيف ومعه أمه ماريا وخالته سرينا، وكانت كلتاهما تمرضه، وكان الرسول يرعاه، ولكن ذلك كله لم ينفع، فقد قضت إرادة الله أن ينتقل ابن الرسول إلى جوار ربه في جنات النعيم.

ذكرت كيف أن الرسول احتضن ولده وهو يلفظ النفس الأخير قائلًا ما معناه: «إن أباك لا ينفعك يا إبراهيم، وإن أولاد الأنبياء يموتون، كما أن الأنبياء يموتون.»

فما أعظم أخلاق النبي، وما أعظم إيمان النبي بقدرة الله.

وذكرت كيف أن إيمان ماريا لم يتزعزع بموت ولدها، وهي تعلم أن أباه رسول الله، فكان لها من قوة إيمانها ما تُدرك به أن الله هو وحده الحي الباقي، يرث الأرض وما عليها.

ورأيتُ بعيني مخيلتي دموع الرسول تنحدر من عينيه الشريفتين وهو يقول ما معناه: «إن العين لتبكي، والقلب ليحزن عليك يا إبراهيم.»

فما أصدقه من تأبين سنَّه الرسول بهذه الكلمات.

وذكرت كيف أن الرسول، الرجل العالِم حقًّا حين سمع أحدهم مواسيًا: لقد شاركَتْنَا الطبيعة في الحزن على إبراهيم، وها هي ذي الشمس قد كُسِفَتْ لوفاته، فرد عليه بما معناه: «كلا، حتى لو مات النبي إن الله لا يغير من سنة العمران شيئًا.»

في الروضة النبوية

خرجتُ من البقيع متسائلًا متعجِّبًا إذا كان هؤلاء هم سكان المقابر الأموات، فأين إذن العمران أو الأحياء؟! إن أرض البقيع تضم هاتيك الشخصيات العظيمة التي لو بُعثَتْ إلى العالم من جديد لتغيرت الأرض غير الأرض، فزال النزاع، وانحسم كل خلاف، ولعاشت الأمم أخوات، في: «سلام، وأمن، وود، ووئام!»

وذهبتُ إلى الحرم النبوي الشريف لتأدية صلاة المغرب في الروضة، وقد تركني المدعي، رجاء أن يصحبني في الصباح الباكر لزيارة المعالم الدينية الأخرى.

في جبل أحد والمساجد الخمسة

كانت الساعة السابعة صباحًا حين حضر المدعي إليَّ وأخذ يناديني من فناء المنزل، لكي أُسرع في النزول.

لم تمضِ دقائق معدودات حتى كنا نستقل السيارة إلى جبل أحد، ولا يبعد الجبل عن المدينة أكثر من عشرين دقيقة بالسيارة، فلما وصلنا إليه وجدته جبلًا شامخًا، يحد المدينة من الحد الشامي الغربي، أي: من الجانب الشمالي الغربي.

وفي سفح الجبل يرى الزائر قبرًا طويلًا عريضًا، وعلى مقربة منه بعض القبور متجاورة متقاربة.

أما القبر الأول فهو قبر حمزة رضوان الله عليه فقد استُشهِد في غزوة أُحُد، وكان الذي اغتاله غدرًا وغيلة عبدًا من عبيد بني سفيان، جاءت به هند امرأة أبي سفيان، ليترصَّد حركات حمزة في المعركة، حتى إذا ظفر به قتله، ثم وعدته بفك رقبته.

ويشاء الله أن يظفر المسلمون بأعدائهم في البداية، وأن يُسارعوا إلى اقتسام الغنائم والأسلاب، وأن تُخالف مؤخرة جيوشهم ما أمر به الرسول، فيتركوا أماكنهم؛ طمعًا في مشاطرة سائر فرق الجيش تلك الغنائم والأسلاب، فينكشف الجيش للأعداء، ويكفي أن يكون في قيادة جيش الأعداء خالد بن الوليد الذي لم يكن قد أسلم بعد، ليرى هذا الضعف فرصة في مداهمة جيش محمد من الخلف، ويكون عبد بني سفيان على مقربة من حمزة، فيُسدِّد إليه سهمه ويصيبه في مقتله.

وبهذا انقلب سير القتال، وحلَّ الاضطراب في جيش المسلمين، وتمكنت هند في خلال ذلك الهرج والمرج من العثور على جثة حمزة، فانتزعت منها كبده وأكلتها، ثم مثَّلَتْ به إمعانًا في الانتقام منه؛ لأنه ثكلها في أعزاء لها كثيرين.

ولقد كان حمزة رضي الله عنه شديد البأس، لا يهاب الموت، يَنْصَبُّ على الأعداء كما تنصبُّ الصاعقة، شجاعًا، بل كان خير من امتشق الحُسام، وجال وصال في مواقع النضال، وميادين القتال.

•••

لما انتهت المعركة بهزيمة الأعداء، بعد أن كرَّ عليهم المسلمون وأعملوا فيهم السيف فولوا الأدبار، نقول: لما انتهت المعركة وسأل الرسول عن حمزة، وقيل له إنه استُشهِد، بكى النبي، وسأل له الرحمة والرضوان.

ولما رجع المدينة ووجدها في حزنٍ عظيم، وكل شهيد تندبه الأقرباء، عز عليه ألا يندب أحد حمزة، فاستحضر من يبكي عليه، ولا يمنع الشرع هذا، وإنما يمنع شق الجيوب ولطم الخدود، فهذا الأمر منهي عنه.

جبل أُحُد

كان الرسول يحب جبل أُحد حبًّا جمًّا، وكان يقول فيه: «هذا أحد جبل يحبنا ونحبه»، إشارة إلى انتصار المسلمين في هذه الغزوة المشهورة باسم هذا الجبل، بعد ما مُنوا به من خسارة في أول الأمر، خسارة لم يرضَها الرسول، فإنه أمر الجيش ثانيةً أن يتبع جيش المشركين ويوقِع بمؤخرته هزيمة نكراء.

وحدث ذات يوم بينما كان الرسول واقفًا على هذا الجبل ومعه أبو بكر وعثمان وعلي؛ إذ حدثَتْ هزَّة أرضية، فقال الرسول: «اثبت أُحد، فإن لعليك نبيًّا، وصِدِّيقًا، وشهيدين.» وهذه نبوءة لرسول الله بأن عثمان وعليًّا سيموتان شهيدين.

وتركنا قبر حمزة بعد أن حيَّيناه هو والشهداء المجاورين له بما حيينا به الراقدين في قبور البقيع، وبشَّرناهم بقرب الساعة، وأن الله يبعث من في القبور.

•••

قصدنا إلى المساجد الخمسة، وهي متقاربة، وتُعتبر من الآثار الدينية القديمة، وقد أُطلِق عليها أسماء بعض الخلفاء الراشدين والصحابة الأجلاء رضوان الله عليهم أجمعين وقد زرتها واحدًا بعد الآخر، وصلَّيتُ في كلٍّ منها ركعتين، ومن بين هذه المساجد الخمسة: «مسجد القِبلتين» الذي ترى فيه أثر القبلة، وقد كان اتجاهها بيت المقدس، ثم الاتجاه الحالي إلى مكة؛ ولذلك سُميَ مسجد القبلتين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤