الباب الحادي عشر

خلافة علي

حين كنت في زيارة البقيع وانتهيت من زيارة قبر عثمان ذكرتُ على الإثر الخليفة الرابع علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ابن عم الرسول، فقد خصَّ الله أرض النجف كما ذكرنا بدفن رُفاته فيها.

ذكرت في تلك الآونة كيف أن عليًّا شُغل بأمر دفن الرسول عن حضور مؤتمر سقيفة بني سعد الذي اجتمع فيه المهاجرون والأنصار، وقد كان مطمئنًّا إلى مبايعة المسلمين له بالخلافة؛ لأنه ابن عم الرسول، وأنه لا يمكن أن تخرج الخلافة عن بيته وآله، ولكن لما علم بما تمت عليه البيعة وتولية أبي بكر أبَى أولًا أن يبايعه، وقال: «أنا أحق بهذا الأمر منكم، لا أبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي، فلقد أخذتم هذا الأمر من الأنصار واحتججتم بالقرابة من النبي، وتأخذونها من أهل البيت غصبًا؟ ألم تزعموا للأنصار أنكم أولى بالخلافة منهم؛ لأن محمدًا كان منكم؟ فأعطوكم المقادة، وسلموا إليكم الإمارة، وإني لأحتج بمثل ما احتججتم به على الأنصار، فنحن أولى برسول الله حيًّا وميتًا، فأنصفونا إن كنتم مؤمنين.»

ولكن عليًّا عاد فبايع أبا بكر خشية الفتنة، ومنعًا لتمادي أهل الردة في عنادهم وعنتهم.

ولما توفي أبو بكر كان قد أوصى بخلافة عمر، فلم يعترض علي، ولكن لما قُتل عمر بعد أن أوصى باختيار الخليفة من الصحابة الأجلاء الستة الذين كان الرسول راضيًا عنهم، وفيهم علي، تغلبت كفة الرجحان لعثمان، فأسرَّها عليُّ في نفسه، وكان عثمان يعرف أن عليًّا غير راضٍ عن بيعته، حتى لقد ذكر صاحب الإمامة والسياسة أن عثمان خرج من المسجد فإذا هو بعلي وهو شاكٍ معصوب الرأس، فقال عثمان: والله يا أبا الحسن، والله ما أدري أأشتهي موتك أم أشتهي حياتك؟ فوالله لئن مت ما أُحب أن أبقى بعدك لغيرك؛ لأني لا أجد منك خلفًا، وإن بقيت لا أعدم طاغيًا يتخذ منك سلمًا وعضدًا، ويعدك كهفًا وملجأً، لا يمنعني منه إلا مكانه منك، ومكانك منه (ولعله يريد محمد بن أبي بكر)، فأنت مني كالابن العاق من أبيه، فإن مات فجعه، وإن عاش عقه. فإما سلم فنسالم، وإما حرب فنحارب، فلا تجعلني بين السماء والأرض، فإنك والله إن قتلتني لا تجد مني خلفًا، ولئن قتلتك لا أجد منك خلفًا، ولن يلي هذا الأمر فتنة.

فقال علي: إن فيما تكلمت به لجوابًا، ولكني مشغول بوجعي، فأنا أقول كما قال العبد الصالح: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ.

ومرَّ بخاطري كيف أن المسلمين خشوا انتشار الفتنة بعد قتل عثمان، فسارعوا إلى مبايعة علي، غير أن بعض زعمائهم أبى المبايعة. على أنه لم تمضِ خمسة أيام على مقتل عثمان حتى انتهى المسلمون من مبايعة علي إلا أهل الشام الذين بايعوا معاوية.

سياسة علي

ذكرت أن عليًّا وقد شاهد المسلمين جماعات وأحزابًا كلٌّ ينصر أحد الأئمة قُبيل مقتل عثمان، أراد بعد أن بويع له بالخلافة أن ينشغل الناس بالآخرة دون الدنيا، وأن يعودوا إلى العهد الذي كانوا فيه أيام رسول الله .

فلقد كانت أول خطبة لعلي تسن هذه السياسة، فقد قال بعد أن حمد الله وأثنى عليه.

أول خطبة لعلي

إن الله عز وجل أنزل كتابًا هاديًا، بيَّن فيه الخير والشر، فخذوا بالخير ودعوا الشر، الفرائض أدوها إلى الله سبحانه وتعالى يؤدكم إلى الجنة. إن الله حرم حرمًا غير مجهولة، وفضَّل حرمة المسلم على الحُرَم كلها، وشد بالإخلاص والتوحيد المسلمين، والمسلم من سلم الناس من لسانه ويده إلا بالحق، ولا يحل أذى المسلم إلا بما يجب، بادروا أمر العامة، اتقوا الله عباد الله في عباده وبلاده، إنكم مسئولون حتى عن البقاع والبهائم، وأطيعوا الله عز وجل ولا تعصوه، واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض.

وإذن فإن رؤساء الجمهوريات اليوم والملوك حين يطلعون على شعوبهم وأممهم أول توليتهم برسائلهم إلى شعوبهم، وبخطب عروشهم إلى أممهم، فإنما هم ينسجون على منوال الخلفاء الراشدين؛ أي إنهم ناقلون عن العرب، فما أعظم فضل العرب على الغرب وأهله.

علي يعزل الوُلاة

كان أول عمل قام به أمير المؤمنين على بن أبي طالب أن عزل الوُلاة الذين كان عثمان قد اختارهم عمالًا على الإيالات الإسلامية؛ إذ كان يعلم أنهم موضع الشكوى، وأنهم كانوا علة قتل عثمان، لظلمهم للرعية وتماديهم في الطغيان.

ولو أنه أرجأ عزلهم وبادر أولًا بالاقتصاص من قتلة عثمان لما أخذَتْ عليه عائشة وغيرها هذا الأمر، وألَّبَتْ عليه خصومه من بني أمية، فقد كانت عائشة تكره عليًّا؛ لأنه قال للرسول حين كثرَتْ قالة السوء: «لن يضيق الله عليك، والنساء غيرها كثير.»

على أن عليًّا كان مجبرًا على الإسراع في عزله ولاة عثمان؛ لإزالة علة الفتنة، كما أن الإبقاء على أولئك الولاة فيه مخالفة للدين الذي أوجب العدل بين الناس.

أما عدم إسراع علي في الاقتصاص من قتلة عثمان فقد أفصح علي نفسه عن سببه، وهو أن أولئك القتلة كانوا من مصر، وهم في المدينة أكثر من أهل المدينة عددًا وحولًا وقوة، فليس يستطيع علي معهم أمرًا، فكان في رأيه التمهل في الأمر دون تركه.

بداية الفتنة

أجل، ذكرت نقمة عائشة على علي، وكيف أنها خرجت مع فريق من بني أمية تطلب تأييد أهل البصرة لينضموا لها في الأخذ بثأر عثمان، فلما وصل القوم إلى أوطاس أشرف عليهم سعيد بن العاص، ومعه المغيرة بن شعبة، وقال لعائشة: أين تريدين يا أم المؤمنين؟ قالت: أريد البصرة.

– وما تصنعين بالبصرة؟

– أطالب بدم عثمان.

– هؤلاء قتلة عثمان معكِ، إن هذين الرجلين قتلا عثمان (يريد طلحة والزبير)، وهما يريدان الأمر لنفسيهما.

وقال المغيرة بن شعبة: أيها الناس، إن كنتم إنما خرجتم مع أمكم فارجعوا بها خيرًا لكم، وإن كنتم غضبتم لعثمان فرؤساؤكم قتلوا عثمان، وإن كنتم نقمتم على عليٍّ شيئًا فبيِّنوا ما نقمتم عليه. أنشدكم الله، فتنتين في عامٍ واحد؟!

وذكرت كيف أنهم لم يرتضوا نصح المغيرة ولا نصح سعيد، ومضى البعض إلى اليمن والبعض الآخر إلى الطائف والبصرة.

ذكرت أن السنين التي عينها الحديث الشريف للخلافة كانت على وشك الانتهاء، فلا بد أن يأخذ علي هو الآخر نصيبه من الحكم ليأتي بعده ولده الحسن، ثم يكون الأمر بعد ذلك للمسلمين ملكية.

وذكرت تلك الليالي السود التي مرت بالمدينة والتي أخذَت الإشاعات في غضونها تملأ الجو، فالمصريون يتهمون مروان بن الحكم سكرتير عثمان الخاص بأنه يدبر مؤامرة لتغيير صورة الإمارة بمصر، ويؤكدون أنه استخدم خاتم عثمان دون علمه، واستبدل تعيين محمد بن أبي بكر بالأمر بقتله.

وأهل الشام يذمون عليًّا بأنه تقاعس عن نصرة عثمان في أُخريات أيامه، وأنه غاب عن المدينة عمدًا ليتم تدبير التآمر.

والصحابة أمثال: عبد الله بن عمر، وأبي هريرة، وأبي ذر الغفاري، ومن على شاكلتهم ممن كانوا لا يهتمون بأمور الدنيا يَنأَوْن جانبًا ولا يشتركون في الأمر.

ذكرت تلك الليالي السود التي مرت بالمدينة، ورأيت أن أثبتها هنا؛ ليعرف القارئ سر عدم الإجماع على مبايعة علي الخليفة الرابع.

•••

ذكرت ما يتحدث به المؤرخون عن علي، وما يقولون في تَغَلُّب خلقه القوي وطبعه الحاد وميزاته الجريئة وشجاعته وبطولته على صفاته السياسية.

والحق أن عليًّا كان كذلك، فلو أنه كان قد استخدم الدهاء السياسي لاستطاع استمالة عائشة، وبخاصة أن شقيقها محمد بن أبي بكر كان من أنصاره، ولاستطاع أيضًا بغير جهد أن يؤَمِّن معاوية في منصبه في ولاية الشام، ولكنه بدلًا من أن يعمد إلى مثل هذه الوسائل اتجه اتجاهًا أملته عليه أخلاقه القوية، وطبيعته الصلبة التي لا تعرف في الحق لومة لائم.

بويع علي من القسم الأكبر من المسلمين، فماذا عساه قد فعل؟ لقد اعتبر أولئك الذين لم يبايعوه خارجين على الإجماع، وأراد تطبيق الحكم الشرعي عليهم، فجرَّد تجريدتين، الأولى: لإطفاء فتنة عائشة. والثانية: لإرغام معاوية على البيعة.

وهكذا نجد المؤرخين يتحدثون عن علي، فلا يعتبرونه في الصف الأول من أبطال السياسة، ولكنهم يضعونه على رأس القُوَّاد الحربيين المُحنكين، على أن لعلي ناحية أخرى يجب على المؤرخ المنصف أن يتحدث عنها حديث إطناب، هي ناحية الأدب.

علي كأديب

وقد فعل المؤرخون ذلك، فتكلموا عنه كأديب ممتاز في أدبه بالحِكَم الخالدة التي تُعد مرجعًا خلقيًّا لا يجارى، ومنهلًا عذبًا ما زال العالم يرتشف منه أفاويق الحكمة والعرفان.

وقد بلغ من عظم هذه الحِكَم أن المصلح يستطيع أن يُقوِّم اعوجاج المجتمع بحِكَم علي الخالدة، فقد جاءتْ حِكَمه كفيلة بإصلاح كل نقائص المجتمع، مهما يتطور الزمن وتختلف الأجناس والأديان.

ففي هذا الوقت الذي ارتقت فيه العلوم والمعارف، وسمَتْ فيه المواهب، وظهرت فيه العبقريات، نجد أرقى الطبقات في المجتمعات المختلفة تقتبس حِكَم علي.

وكما كان علي أديبًا له أثره في تاريخ الأدب كان خطيبًا يهز أعواد المنابر، ويصل ببلاغته وقوة بيانه إلى أعمق أغوار النفوس، فيحمل سامعيه على أن يؤمنوا معه بالحقيقة التي يتحدث بها عن يقين.

علي كشاعر

وكان علي أيضًا شاعرًا رقيق الحس، جزل الأسلوب، قوي العبارة، بليغ المعنى، يستطيع أن يُجَسِّم المعنويات، وأن يجعلك تلمس بيديك ما تحسه نفسك.

فقه علي وزهده

وكان علي فقيهًا له مكانته في الفقه، ولا عجب، فقد صاحب الرسول ونشأ على يديه، وكان من كُتاب وحيه، وسمع عنه جُل ما قال، ولا غرو إذا ما وصل في الفقه إلى هذه الدرجة التي جعلت منه مرجعًا صادقًا لسابقيه من الخلفاء ومَن أتوا بعده من عظماء الأئمة والفقهاء.

وكان علي زاهدًا متقشفًا شديد الحرص على أموال المسلمين.

•••

تولى علي كرَّم الله وجهه الخلافة زهاء خمس سنين، كان فيها مثال النزاهة والأمانة والعدالة والتديُّن، وترك أثرًا لا يُمحى في كتب الفقه والأدب والفلسفة، واقتُبِسَتْ من حِكَمه آيات رائعة لم يجئ بها أمثال تولستوي، وهيجو، وشكسبير.

وظل علي في الخلافة إلى أن اغتاله الشقي ابن ملجم غدرًا، فبكاه التاريخ. ودُفِنَ كرَّم الله وجهه في النجف الأشرف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤