الباب الخامس

في الطريق إلى يثرب

شعرت وأنا أهمُّ بمغادرة مكة كم عزَّ على الرسول مهاجرتها، وذكرت دعاءَه إلى الله جلَّ شأنه: «اللهم إنك أخرجتَني من أحب الديار إليَّ، فأسكِنِّي في أحب الديار إليك.»

وكيف لا أشعر بعِظَم ما انتاب الرسول من الوحشة والألم لمفارقته مكة، والزائر العادي لهذا البلد الطهور المقدس لا يستطيع أن يبرحه دون أن يشعر بالوحشة والحزن! فكيف إذن — لَعَمْر الحق — كان شعور الرسول وهو يغادر البلد الذي وصفه بأنه أحبُّ الديار إليه.

لم يفارقني وأنا في السيارة شعورُ الوحشة الذي كان يتملَّك على نفسي، كلما فكرت في أني أبعد عن مكة، مع أني كنت أعلم أني في طريقي إلى يثرب، المدينة التي ليس أفضل منها مدينة من مدن الدنيا بحالها، فهي وإن بعُدَتْ عن العالم، وتوسَّطَتْ صحراء بلقع جرداء، لا زرعَ فيها ولا ضرع، فهي مدينة أكلت المدن والأمصار، مدينة أطاحت بمَدنيَّة الفُرس والروم، مدينة انحدرَتْ منها أجناد الغزو بقيادة أبطال الفتح، متجهة إلى الجنوب والشمال، وإلى الشرق والغرب، فشعَّت على الكون نور الهُدى، وأضفَتْ على العالم نعمةَ الحضارة والفضائل والعلم والدين.

وإذا كان الله عزَّ وجل قد كرَّم مكة بوجود بيته الحرام، ومولد الرسول عليه السلام، ونزول الرسالة عليه، والتبليغ والتبشير بخير دين؛ فقد خُصَّت المدينة بقطعة قد انسلخَتْ من الجنة، أَلَا وهي: الروضة التي بين القبر والمنبر، ثم بخير الأنصار، وبنشر الإسلام، وبسعة الفتح وامتداد السلطان، وفضلًا عن هذا وذاك، بنزول التشريع الإلهي النبيل الغايات، الشريف المقاصد، السامي المبادئ، الصادق التعاليم، المنظِّم للمجتمع البشري خير تنظيم.

•••

كان — حقًّا — عزيزًا على الرسول الكريم أن يهجر مكة وفيها نشأ، وبين أعمامه من سادة قريش دَرَج، وإن كان يعلم أنه مُقبِلٌ على يثرب بلد أخواله الصادقين، وقد عزَّ على نفسه أن يخرج من مكة اتقاءً لأذى قريش، وصنوف إرهاقهم ومكارههم، وقد احتملها جميعًا بصدرٍ رحب، وجَلَدٍ عظيم.

ولقد كان في مقدور الرسول أن يظل في مكة، وهو في حماية الله وتأييده، ولكن مشيئة الله اقتضَتْ أن تكون الهجرة؛ لأن الرسول كان مكلَّفًا تبليغَ الرسالة لقومه، ثم لسائر العالمين.

وفي الهجرة نشرٌ للدين، ولعلَّ من أبلغ دروس العِظة ووجوب الكفاح في سبيل الله والخير هي الهجرة نفسها، فضلًا عن دروس هذه الهجرة وما توصي به من تعاليم.

•••

ذكرت إذن ما كان قد بلغ الرسول من أن زعماء قريش وسائر القبائل اجتمعت بدار الندوة١ وتآمرت على قتله غِيلةً، واتفقوا فيما بينهم على أن يشترك واحد من كل قبيلة في هذا الجُرم الكبير، حتى لا يستطيع أن يُطالِب بنو عبد مناف — وهم الأُسود الأشاوس، فضلًا عن عِظَم النسب وشرف المَحْتِد — بالثأر من قبيلة بعينها، وحسبوا باطلًا ونكرًا أنهم سينالون محمدًا ويبطشون به، وما علموا أن الله القوي القادر من جانبه يؤيده ويحفظه، وأنه سبحانه وتعالى ناصِرُه، ومانعٌ عنه كلَّ مكروه.

تنفيذ أمر الله

نحن في مكة والوقت قُبَيل الفجر، بل الفجر نفسه، وقد أخذَتْ جيوش الظلام تعدو هربًا، وتكرُّ القهقرى أمام جحافل الصبح المُغِيرة الداهمة، والهواء نسيم، وكأني أسمع أذان الفجر، وأسمع مَن يقول: «الصلاة خيرٌ من النوم.»

هبَّ من مرقده رجلٌ رَبْعَة، ليس بالطويل ولا بالقصير، لكنه إلى الطول أقرب، أزهر اللون، مُستديرُ الوجه مع بعض تدوير فيه، ليس بالآدم ولا بالشديد البياض، وقد تناثرَتْ على وجهه حبَّات هي عرق مُندَّى أشبه باللؤلؤ، وأطيب رائحة من المسك الأزفر، بعيد ما بين المنكبين، رَجِلُ الشَّعْر حَسَنُه، لم يجاوز شَعرُه شحمتَيْ أذنَيْه.

تطلَّعتُ بعينَيْ مخيِّلتي إلى صفحة وجهه، فإذا هو أحسنُ الناس وجهًا، واسعُ الجبين، له نورٌ يعلوه، كثُّ اللحية، معتدلُ الخَلْق في السمن والنحافة، عريضُ الصدر، طويلُ الزندين، يمشي هونًا ويخطو تكفُّؤًا، إذا التفتَ التفتَ كلُّه، ولا يولي عنقه، طيبُ الريح، خافضُ الطَّرْف، نظرُه إلى الأرض أطولُ من نظرِه إلى السماء.

هبَّ الرجل من نومه فإذا به يردِّد: الله أكبر، الله أكبر! وإذا به يمثل أمام القبلة رافعًا يديه إلى رأسه، رافعًا نظره إلى سماء الحجرة، متهيِّئًا للصلاة.

ونظرتُ بعينَيْ مخيِّلتي إلى خارج الدار فإذا بأشباح تروح وتغدو حول هذه الدار، تخشى الافتضاحَ فتتستَّر بين تضاعيف الظلام.

وقد وصل إلى سمعي صوتُ واحدٍ من هذه الأشباح، وهو بين ثلاثة من رفاقه يقول لهم: هيا نَدهَم الدار. فيجيبه آخر: «فيها بناتُ أعمامنا وننتهك حُرْمتَهن؟! هذا لا يكون.»

وصلَّى الرجل وانتهى من صلاته، وحمد الله وأثنى عليه، ثم رأيته قبل أن ييمِّم شطر الباب يركع ويُقبِّل غُلامًا نائمًا ويستودعه الله، ثم يفتح الباب ويأخذ من الأرض قبضةً من التراب، ويُلقِي بها في وجوه الأشباح التي رأيتها وهو يقول: «شاهت الوجوه! شاهت الوجوه! …» فعميَتْ عن رؤيته تلك الأشباح، وغدَتْ لا ترى أمامها شيئًا.

وتتبَّعتُ بعينَيْ مخيِّلتي ذلك الذي خرج من داره وقد أحاطت به جموعٌ تتلألأ من النور، كأنها أحياء من الملائكة تسير في ركابه حُراسًا من عند الله.

وأخذ في السير، حتى أقبل على دار أخرى وطرق بابها، فسُرعان ما انفرج عن رجلٍ آخَر، أقصرَ قامةً من زميله، فاستقبله في أدبٍ وإجلال، وأقرأه التحية الطيبة والسلام الزكي، ثم أغلق باب داره ورافَقَ صديقه، وسار كلاهما جنبًا إلى جنب، يَخِبَّان في مشيتهما الوئيدة المتزنة، وما زالت أجناد النور تحيط بالرجل المتعبِّد الذي يبدو أنه خرج من داره، ولا إخالُه إلا مهاجِرًا بلده ومنبت رأسه، ومهبط طفولته الناضرة وصباه الباهر، في سبيل أمرٍ جليل، وشأنٍ عظيم.

سار الرجلان، فسمعتُ الرفيق الجديد يقول: لقد أعددتُ الراحلتَيْن يا نبي الله، وهما الآن في دار عبد الله بن أُريقط.

إذن هو محمد رسول الله، هذا الذي يهم الآن بمغادرة مكةَ خفيةً عن عيون قريش، اتِّقاءً لأذاها، وطوعًا لأمر الله! وبصحبته وزيره الأول أبو بكر؟

اركب فداك أبي

وفي الطريق إلى دار عبد الله دار حديث بين النبي عليه الصلاة والسلام وأبي بكر الصدِّيق رضي الله عنه، عن ثمن الناقة التي أعدَّها الصدِّيق للرسول، وقد أبى أن يركب ناقةً ليست له، وكأني أسمع أبا بكر وهو يقول للرسول: اركب فداك أبي وأمي.

فيجيبه الرسول: إني لا أركب ناقةً ليست لي، فما الثمن؟

– بكذا وكذا، وهو الثمن الذي ابتعتُها به.

– إذن فقد أخذتها به.

– هي لك يا رسول الله.

في غار ثور

ورأيتُ بعينَيْ مُخيِّلتي الرسولَ وأبا بكر يُعرِّجان على غار ثور يختبئان فيه، حتى لا يلحق بهما رُسل قبائل قريش وعيونها وأرصادها.

رأيت العنكبوتَ ينسج خيوطه، ورأيت اليمامةَ تبيض وقد احتضنت بيضها على باب الغار.

ورأيت بعد قليل بضعةً من الأعراب وقد قال قائلهم: هيا فَلْندخل هذا الغار، علَّنا نعثر عليه فيه.

وسمعت أحدهم يجيب: ولكن هذا الغار مهجور من زمن طويل، وها هو ذا العنكبوت ناسجًا خيوطَه على الباب، وأكثر من هذا أني أرى يمامة! أكبر الظن أنها محتضنةٌ أفراخَها.

ورأيت هذا النفر من الأعراب يعدلون عن الدخول، ويواصلون سيرهم في اقتفاء أثر الرسول.

وفي تلك الهُنَيْهة نفسها رأيت بعينَيْ مخيِّلتي أبا بكر وقد أوجس خِيفةً من أن يدخل كفار قريش الغار، اشتدَّ حزنه على الرسول ، وسمعته يقول: إن قُتِلت أنا فأنا رجلٌ واحد، وإن قُتِلت أنت فقد هلكَتِ الأمة. وسمعت الرسول يجيب: لا تخَفْ، فإن الله ثالثنا.

•••

لقد ذكَّرني موقفُ نبي الله وثقته في الله، قولَه تعالى وهو أصدق القائلين: مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ ليَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ … الآية.

إذن فقد كان الرسول واثقًا حين الهجرة من أن الله ناصِرُه، فلا غرابةَ إذا قال لأبي بكر: لا تخَفْ، فإن الله ثالثنا.

وذكرت إذ ذاك ما يُروى عن يونس من أن أبا بكر حين فزع من صوت أبي جهل بن هشام، وسمع وقع الأقدام خارج الغار، حزن على ما عسى أن ينال الرسول من مكروه، فأنشد أبياتًا من الشعر، قال:

قالَ النبيُّ ولم يجزع يُوقِّرُني
ونحن في سُدفةٍ من ظُلْمة الغارِ
لا تخْشَ شيئًا فإن اللهَ ثالثُنا
وقد توكَّلَ لي منه بإظهارِ

ثم قال:

حتى إذا الليلُ وارَتْنا جوانبُه
وسدَّ مِن دونِ ما نخشى بأستارِ
سارَ الأُرَيقِطُ يَهدينا وأَيْنُقُه
يَنْعَبنَ بالقومِ نعْبًا تحت أكوارِ

وذكرت بمناسبة الغار كيف أن أسماء وعبد الله ولدَيْ أبي بكر كانا يتناوبان حمْلَ الطعام إلى الرسول وأبيهما، متستِّرين بجُنح الظلام وهما يدخلان الغار.

ثم انتقَلَتْ بي الذاكرة، بل نظرت بعينَيْ مخيِّلتي إلى ذلك الجني الذي طاف مكة حين خفِيَ على أسماء بنت أبي بكر وعلى مَن معها أمر الرسول وأبيها بعد خروجهما من الغار؛ طاف هذا الجني وهو يُنشد قصيدة مطلعها:

جزى اللهُ ربُّ الناسِ خيرَ جزائِه
رفيقَيْن حلَّا خيمتي أمِّ معبدِ
لقد خابَ قومٌ غابَ عنهم نبيُّهم
وقد سُرَّ مَن يسري إليهم ويقتدي
ترحَّلَ عن قومٍ فضلَّت عقولُهم
وحلَّ على قومٍ بنورٍ مجدَّدِ

وبهذه الوسيلة اطمأنَّ آل أبي بكر وصحب النبي عليه الصلاة والسلام على الرسول، وعلموا أنه في طريقه إلى يثرب سالم.

مكافأة لمَن يُرشد

هالَ قريشًا أن تغيب عنها أخبارُ محمد، فعيَّنَتْ مكافأة لمَن يُرشِد عنه أو يأتيها بنبأٍ يقينٍ عن الطريق الذي سلكه، وأخذت تزيد المكافأة حتى بلغت مائتَيْ ناقة.

سراقة يَغرُّه المال

غرَّت سراقة بن مالك بن جعشم المكافأة، وسال لعابه عليها، فسوَّلت له نفسه أن يقتفي أثر الرسول، فركب فرسه وأسرع إلى اللحاق بالمهاجر الأعظم صلوات الله وتسليماته عليه، وهو يقول في نفسه: والله لن أرجع إلا بنبأٍ عن محمد.

ولما قاربت الفَرس المكانَ الذي يسير فيه الرسول ورفيقه، غاصت أقدام الفرس في الرمال، وكانت كلما حاولت إخراجَ أقدامها تخرج من الرمال لتعود منغرسة إلى أشد غورًا مما كانت، حتى أيقن سراقة بنبوَّة الرسول، فأخذ يصيح قائلًا: يا محمد.

قال أبو بكر: ماذا تريد؟

قال سراقة: أنا سراقة بن مالك بن جعشم.

فقال الرسول لأبي بكر: قل له وماذا تبغي؟

قال سراقة: تكتب لنا كتابًا، يكون آيةً بيني وبينك، فوالله لن أبوح بأي شيءٍ تكرهانه.

فكتب له الرسول الكتاب.

ولما عاد الرسول إلى مكة فاتحًا قدَّمَ سراقة الكتاب، فتعرَّف به عند بئر جعرانة.

•••

ذكرت سراقة بن مالك بن جعشم، وقد أخذ على نفسه عهدًا بأن لا يُفشِي أمر الرسول، وذكرت في الوقت نفسه كيف أن ذلك الجني كان يطوف كما قدَّمنا مُعلِنًا نزول الرسول في ضيافة أم معبد، فما كان من قريش إلا أن سارعوا إلى مكان تلك العجوز المضياف، وقد سألها كبيرهم: هل مرَّ بكِ محمد؟

– لا أعرف صاحب هذا الاسم، وإنما نزل بخيمتي أربعة، منهم حالب الشاة الحائل.

فعادت قريش أدراجها.

وانطبعَتْ في ذهني تلك المعجزة الخالدة، معجزة الرسول ، وهي: حلب الشاة الحائل، فإنه حين أقبل النبي على خيمة أم معبد سألها أبو بكر رضي الله عنه: هل لديكِ أيتها العجوز الكريمة ما يسدُّ جوعنا؟ فقالت أم معبد في حيرةٍ وألم: هذه شاتي، ليس لي غيرها أقدِّمه.

وكانت شاةً حائلًا غيرَ حلوب، فتناول الرسول ضرعَها، وسأل الله سبحانه وتعالى القدير أن يجعلها حلوبًا، فدرَّت اللبن، وارتوى الرسول وصحبه، وبقي من اللبن قسطٌ وافر لأم معبد.

واستمر آل معبد يؤرِّخون سِنيهم من يومِ قدومِ الرجل المبارَك.

•••

وتطلَّعتُ بعينَيْ مخيِّلتي، فرأيت قافلة الرسول تسير شمالًا، وقافلة أخرى تُقبِل على الجنوب، وكانت الأخيرة قافلة كبرى، وقد خرجَتْ من المدينة لملاقاة الرسول وقد تزوَّدوا بالسلاح لحماية النبي مما عسى أن يتهدَّده من خطرِ لحاقِ قريش به، ومما عسى أن يلحق به من أذاهم.

الله أكبر!

وهل كان رسول الله في حاجةٍ إلى نصرةِ أحدٍ وقد كان الله ناصِرَه، وكان في عونه وتأييده أبدَ الآبدين!

تمثَّلَتْ في مخيِّلتي صورة رائعة، الروعة كلها بمعناها ومبناها؛ هي صورة أهل المدينة وهم يستقبلون الرسولَ في أفراحٍ زُمَرًا وجماعات، بعد أن نبَّهَهم رجلٌ يهودي وقف على أُطم من آطام المدينة مترقِّبًا الرسول، فلم يملك نفسه أن صاح: يا معشر العرب، هذا صاحبكم الذي تنتظرون.

كان الرَّكْب النبوي الشريف يسير وسط أفراح أهل المدينة، وتكبير الأنصار وتهليلهم، حتى لقد خرجَت النساء من خدورهن وهن يُزغرِدْن ويُنشِدن أنشودتهن الحلوة الخالدة:

طلع البدر علينا
من ثنيَّات الوداع
وجب الشكر علينا
ما دعا لله داع
أيها المبعوثُ فينا
جئتَ بالأمرِ المُطاع

وفي رواية أخرى أنهن أنشدن:

أشرَقَ البدرُ علينا
واختفَتْ منه البدور
مثلَ حُسنِكَ ما رأينا
قطُّ يا وجْهَ السرور

وكذلك خرجت جواري بني النجار (أخوال الرسول)، وأخذْن يُنشِدْن:

نحن جَوارٍ من بني النجار
يا حبَّذا «محمدًا» من جار

وقد سُرَّ من نشيدهن، وسألهن: أتُحبِبْنَني؟ فقُلن: نعم.

فقال: وإني أحِبُّكن.

وفي رواية أخرى: يعلم الله أني أحِبُّكن.

تمثَّلت هذا الاستقبال الرائع وتساءلتُ في نفسي: هل هذا استقبال ذلك الرجل المُضطهَد من قومه، الفارِّ من قريش؟

وكان أكثر أهل المدينة لم يروا الرسول من قبل، فلم يتعرَّفوه من أبي بكر، وصارت النسوة تسأل بعضهن بعضًا مَن منهما الرسول الكريم؟

فقالت يهودية: كيف لا ترَوْنَه؟ ليس هو ذلك الأبيض النحيف الخفيف العارضَيْن الناتئ الجبهة، فهذا أبو بكر.

وقالت خزرجية: هو الآخَر حقًّا! ما أبهى طلعته وأعظم وقاره!

•••

من ثم تواردت على مخيِّلتي صورة رائعة مرَّت سراعًا، فقد رأيت أهل المدينة يعرضون على رسول الله النزول في ديارهم واحدًا بعد الآخر، مُمسِكين بزمام الناقة، وهو يقول: خلُّوا سبيلَ ناقتي فإنها مأمورة، فحيثُ بركَتْ نزلْتُ.

ورأيتُ بعينَيْ مخيِّلتي الناقةَ تبرك حين أتت موضعَ المسجد وهو عليها، ثم نهضَتْ دون أن تُزجَر، وسارت غير بعيد، وبركت تجاه دار أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، فنزل الرسول هناك، وهي دار تقع شرقي المسجد.

تمثَّلتُ الرسول وقد نزل بدار أبي أيوب سبعة شهور، بنى في خلالها المسجدَ الشريف، وبيتَيْ زوجتَيْه سودة وعائشة رضي الله عنهما.

ثم تخيلت ذاته الشريفة وهو يشرع في البناء هو وأصحابه المهاجِرون الأجِلَّاء، والأنصار من أهل المدينة، تخيَّلته يأمر بقبور المشركين فنُبِشَتْ، وبالنخل والشجر فقُطِعَتْ ووُضعَت في قبلة المسجد، وجعل الأساس نحو ثلاثة أذرع من الحجارة، وبنى المسجد نفسه باللَّبِن، وكان الرسول يبني معهم وينقل اللَّبِن والحجارة.

تمثَّلتُ سيدَ الخلائق يبني مسجده بيده الشريفة، يعاونه أصحابه والأنصار، وهو يقول وهم يردِّدون:

اللهم لا عيشَ إلا عيش الآخِرة
فاغفرْ للأنصار والمهاجِرة

وتم البناء.

ذكرت كلَّ هذا وأنا قابعٌ في أحد أركان السيارة، وقد شرد ذهني إلى تلك الأدوار التاريخية من هجرة الرسول إلى المدينة فرارًا من أذى قريش، وإتمامًا لتحقيق الرسالة ونشرها، وتثبيت دعائمها، وإذا بي أصحو فأجد نفسي على أبواب «المدينة».

داخل أبواب المدينة

نزلتُ من السيارة وترجَّلتُ؛ إذ ليس مما يجمل بالمرء أن يدخل مدينةَ الرسول راكبًا، ولم ألبث إلا قليلًا بعد أن تخطَّيتُ المناخة حتى عثر بي المدعي، فسارع إليَّ مجيبًا، وقادني من يدي، فسِرنا مرحلة يسيرة حتى صرتُ أمام المسجد النبوي الشريف، فقلتُ: «بسم الله، وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ

ودخلنا إلى المسجد من باب السلام (وهو الباب الذي كان يدخل منه النبي )، فما أسرع ما هبَّ عليَّ ذلك العبيرُ الذكي، والعطرُ الفيَّاح عبيقُ رياحين الجنة، وشذى رياض الفردوس.

وأخذتُ أردِّد في نفسي: «هبِّي يا رياحين الجنة! هبِّي! هبِّي يا نسمات الفراديس، هبِّي! هبِّي واشرحي الصدور التي وسوسَتْ فيها شياطينُ المَدنيَّة الفاسدة المُضِلَّة! هبِّي وطهِّري النفوس التي دنَّسَتْها الشهوات البهيمية! هبِّي وغذِّي الأرواح التي لوَّثتها الرذائل الإنسانية الوحشية، هبِّي يا رياحين الجنة، هبِّي!»

وشعرتُ برهبة وخشوع يدبُّ دبيبهما في حنايا نفسي؛ إذ كنتُ ماثلًا أمام قبر الرسول . هو شعور لا يمكن أن يزول عن نفس المرء ما دام أمام القبر النبوي الشريف. ولو أنك زُرت مسجدَ محمدٍ عشرات المرات في اليوم الواحد لَكان شعورُ الرهبة في كل مرة هو نفسه الشعور الذي يتملَّك نفسَك للمرة الأولى، بل إن نفسك لَتشعر باللهفة على زيارة قبر الرسول المرةَ تلو المرة، وكلما زدتها إشباعًا زادت لهفتها، واشتدَّ التياعها شعاعًا.

كانت جوارحي ومشاعري وجميع نفسي وأنا أمام قبر الرسول شيئًا غير ما كنت عليه، كنت شارد الذهن، مُحلِّق الروح في عالم من الطُّهر والنور، كنت أمام قبرِ نبيٍّ ورسولٍ قرَنَ اللهُ اسمَه تعالى باسمِه، ودُوِّنَتْ أحاديثه وجميع أقواله كلمةً كلمة، ونزل عليه كتاب ليس في العالم منذ نشأته، ولن يكون في الغد، كمثله كتاب! فيه الهدى واليقين، وفيه الرحمة، فيه أسمى المبادئ وأشرف التعاليم.

وقفتُ أمام قبرِ نبيٍّ ورسولٍ تَدِين اليومَ المئاتُ من الملايين من أقصى المعمورة إلى أقصاها بدِينه، دِين الحق المبين، وكلما امتد الزمن، ومرَّت الحِقَبُ بعد الحِقَب زاد هذا الدِّين انتشارًا، وانبلجَ نوره إشعاعًا وإشراقًا.

إن أي ملك من الملوك أو إمبراطور من الأباطرة حدَّثَنا التاريخُ عن عظَمة مُلْكه واتساع سلطانه، لا يلبث هذا المُلْكُ أن يتضاءل، وهذا السلطان أن يزول بعد موته، أو حتى في أيام حياته.

وهذا المَلِك الزائل مُلكه لا يلبث قليلًا وهو في قبره حتى يختلط جسده بالتراب فيزول، ولا يُعرَف له جسد، أما محمد الثاوي في قبره المنير فسيظل رفاته فيه طاهرًا مُطهَّرًا، بعيدًا عن أديم الأرض، فلا يختلِط بالثرى، سيظل قبره الشريف وروضته المنيفة مصونتَين بقدرة الله ما دامت الشمس تشرق وتغرب، سيظل اسمه مشهورًا ودِينه منشورًا ما دام الجديدان. أما محمد — وقد كان عدد أنصاره لا يزيد على عدد أصابع اليدين الاثنتين — فقد أسَّسَ إمبراطورية إسلامية شامخة البناء، سامقة، شمَّاء، قوية الدعائم والأُسس، مكينة الجدران والأركان، أكلت مَدنيَّتُها مدنيَّاتِ أعظمِ أمم التاريخ القديم، ونعني: الفُرس، والروم.

حقًّا، إنني أمام قبر نبي استطاع بكتابه وسنَّته أن يُكوِّن أمة من قبائل أشتات، يقتل بعضُها بعضًا، فإذا بهم إخوان متحدون، وأوجد النظام من الفوضى، كما قرَّر حقوق الفرد وحرية الجماعة، ووضع خير القوانين في التملُّك، والمواريث، والزواج، والطلاق، والصحة، والسياسة، والاقتصاد … وهي قوانين لا يمكن أن تَبْلَى ولو بليت الأيام؛ لأنها وحي الله، وما ينطق عن الهوى.

١  هي دار قُصي بن كلاب، أحد كبار زعماء قريش، وقد كان زعماء قبائل قريش يجتمعون فيها للتشاور في شئونهم وتدبير أمرهم؛ وإذن فقد كانت هذه الدار شبيهةً بدار نيابة (برلمان).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤