الباب السادس

فتح الإسلام وتشريعه

الرسول في المدينة

تمثَّلتُ الرسول وقد استقرَّ به المُقام في «يثرب» بعد أن ألقى بها عصا التَّسْيار، ووجد من أهلها خير الأنصار، فكان آمِنًا في جوارهم، راضيًا عنهم، قريرَ العين بهم، مستبدلًا عَنَتَ قومِه وأذاهم بطاعتهم وصِدْقهم دون سائر الناس، فكانوا له حقًّا دونَ الناس.

أجل، كان الرسول وهو في «يثرب» بين قبيلتَيْها العظيمتين، الأوس والخزرج، في مأمنٍ من شر قريش، ولكن إلى حين، ذلك أنه كان يعلم علمَ اليقين أن قريشًا ما كانت تقف مكتوفةَ اليدين إزاء جرح عِزتها. وقد بدأ يندكُّ دِينها، ويتضاءل سلطانها، وقد كاد يتلاشى ويندثر، ثم كرامتها وقد أخذَتْ تنحدر إلى هُوَّة الذِّلة، ودَرك الهوان، وإذن فلا بد لها من أن تستعيد ما فقدتْ على يدِ محمدٍ من عزٍّ ومَنَعة وسيادة وسلطان.

كان الرسول يُدرِك أن قريشًا لن تسكت عنه، وأنه لكي يتفرغ لتأدية تكاليف الرسالة ينبغي أن يقضي عليها ويستأصل شَأفةَ شرِّها حتى يتيسَّرَ له نشرُ تعاليم دينه، وتوطيدُ دعائم أركانه، ومدُّ ظلال الإسلام إلى العالم الخارجي، عالم الجهالة والضلال والظلام، فيُحِيله عالمَ هُدى وعلم ونور.

بدأ عليه الصلاة والسلام فبعث بالوفود إلى ما جاوَرَ المدينةَ من قُرى متاخمة، يدعو أهلها إلى عبادة الله، والإيمان بوحدانيته، والشهادة لعبده محمد بنبوته ورسالته.

وكذلك أرسل الرسول في الوقت نفسه بعثةً إلى قُريش لاستطلاع أحوالهم، والكشف عن خفايا نياتهم، ومعرفة أخبارهم، وجعل على رأس هذه البعثة عبد الله بن جحش، وهو من الصحابة الأجِلاء الذين لا تلين قناتهم، ولا تنثني عزيمتهم، فقد كان ذا بأسٍ شديد.

وكتب الرسول إلى عبد الله كتابًا طالبًا إليه ألَّا يَفضَّه إلا بعد أن يقطع في مراحل سفره يومين، فلما انقضى الموعد وفضَّ الكتاب وجد عبد الله أن مهمته فيه مرسومة معينة، هي أن يقتصر هو ورجاله على تقصِّي أحوال قريش دون أن يناصِبهم القتال؛ أيْ أن بعثته كانت استكشافية، على مثال ما نشهده في هذا العصر من بعثات الاستكشاف والاستطلاع.

إذن فليس في هذا الأمر جديد، وإنما مرجعه إلى العرب، وهو تقليدٌ من تقاليدهم اتخذه الرسول تمهيدًا للقضاء على العدو الخارجي، ولم يكن هناك إذ ذاك أشدُّ عداوةً للرسول من قريش، فكيف يأمن شرهم إلا باستطلاع أحوالهم والكشف عن أخبارهم ونياتهم؟ وهذا ما فعله الرسول، تقليدٌ اقتبَسَه من العرب أولئك الغربيون الذين كم باهوا وفاخَروا بما هم عليه من علم وعرفان، وما هم في الحقيقة إلا آكِلو تراثِ العرب الأقدمين من مدنية سارت بذكرها الركبان، وشادت بمفاخرها العصور والأجيال.

•••

لم يرضَ عبد الله بن جحش هو ورجال بعثته أن يكونوا طليعة استكشاف فحسب، ولكنهم شاءوا إلا أن يكونوا الصفَّ الأول للمقاتلين في جند محمد، فاشتبكت هذه الطليعة — وكانت أولى طلائع جيوش المسلمين في عهد الرسول — مع قافلة تجارية من قوافل قريش، فقتلت بعض عظمائها، ومنهم: الحَكَم بن كيسان، وعمرو بن الحضرمي، ثم عادت بعد ذلك بأموال عظيمة غنمتها من القافلة.

وانتهى إلى أسماع قريش أنباءُ تلك المناوشات، وما وقع بقافلتها وما نزل بعظمائها، فاشتدَّ غضبها وغلى غليان المِرجَل، فتجمَّعت تجمُّع النمل، وأصرَّتْ إصرارًا على أن تضرب محمدًا وأنصاره ضربةً في الصميم، وكان الرسول في الوقت عينه يرى أنه لم يَعُد هناك مجالٌ للتريُّث، وأنه لا بد من مُلاقاةِ جموع قريش ومنازَلتهم، وأن الله ناصره.

وعقد محمد مؤتمرًا من صحبه من الأنصار أهل يثرب، ومن المهاجرين من قريش، وقال لهم ما معناه أنهم أمام عدو شديد، إن سكتوا عنه كان الخطر عليهم في سكوتهم، ثم طلب منهم المشورة، فقال الأنصار على لسان كبيرهم سعد بن معاذ: «إن كنت توجِّه إلينا القول يا رسول الله، فإننا قد آمَنَّا بك وصدَّقناك، وإن العهود التي قطعناها على أنفسنا أمام الله تُلزِمنا الطاعة، وتجعلنا أتبعَ لك من ظلك، فامضِ إلى ما أرادك الله.»

وقام المقداد بن عمرو على أثر سعد بن معاذ، وخطب فقال: «يا رسول الله، إنَّا معك، وإنَّا لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ، ولكنا نقول لك: اذهب أنت وربُّك فقاتلا إنا معكما مقاتِلون، فوالذي أيَّدك بالحق لو سِرتَ بنا إلى أقصى حدود الكون لَجالَدْنا معك من دونه حتى نبلغه.»

وأخذ الخطباء بعد ذلك يتبارون متحمِّسين للحرب، مؤكِّدين أن رجلًا واحدًا، بل غلامًا واحدًا منهم لن يتخلَّف عن صفوف المقاتلين المجاهدين.

هنا أشرق وجه الرسول بابتسامة الرضا عن هؤلاء الأنصار المدفوعين بروحٍ من قوة الله إلى الدفاع عن دينه، وإلى الذَّوْدِ في سبيل الدفاع عن نبيهم الكريم.

ثم سار محمد يحيط به قوَّاده، وخلفه جموع جيشه المجاهدون، وأمامهم الرايات السود، رايات التوحيد، وقال الرسول وقد بدءوا المسير: «سيروا وأبشِروا، فإن الله وعدني إحدى الطائفتين، فوالله لكأني أنظر إلى مصارع القوم.»

•••

بينما كان هذا يحدث في يثرب، كان ضمضم بن عمرو الغفاري — وهو من أكابر قريش ومن ذوي الكلمة المسموعة فيهم — يصيح وهو يطوف أنحاء مكة مستنهضًا هممَ قومه لمقاتَلة محمد، قائلًا: يا قريش، اللَّطِيمةَ اللَّطِيمة، أموالكم مع أبي سفيان، قد عرض لها محمد في أصحابه.

ونفرت قريش جميعًا فلم يبقَ في مكة مَن لم يمتشق حسامَه وسيفه، ويتقلَّد قوسه وترسه، ويتدرَّع بنشابه ودرعه، ليدافع عن قريش، أو أموال قريش التي عرض لها محمد فاغتنمها اغتنامًا.

موقعة بدر

رأى محمد قريشًا أجمع وهي تخرج لمقاتلته في جموعها التي تُعدُّ بالألوف، بينا جيشه لا يزيد على الثلاثمائة مقاتل، فلم يفزعه ذلك التفوق العددي الهائل لعدوه على جيشه، فقد وعَدَه الله بالنصر المبين، ولكن رأى أن بعض المقاتلين من رجاله الذين خرجوا للقتال رجاءَ الغنائم والأسلاب، شاهدوا أن القافلة التي كان يسوقها أبو سفيان من الشام إلى مكة قد أفلتتْ من أيديهم، وأنها انطوت إلى قريش تبغي حمايتها، فلم يَعُد لأولئك المقاتلين مَطمعٌ في القتال، وأخذوا يجادلون النبي في رجوعهم إلى المدينة، حتى إذا ما نزلت الآية الشريفة تحضُّهم على القتال: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ أجمع أكثرهم إجماعًا على وجوب القتال والموت في سبيل نصرة دين الله، واقتداءً برسوله الأمين.

كانت هذه أول معركة جدية يتلاقى فيها جيش المسلمين بقيادة محمد بجيوش الكفار من أهل قريش، لكن شتَّان بين الجيشَيْن في العدد والعُدَّة، في الرَّحْل والخيل، في اليد والترس.

كان محمد واثقًا من النصر، ولكنه كان يشهد ذلك البحر الخضم من جيوش قريش، وهذا النفر القليل من رجاله، فدخل إلى خيمته وبصحبته أبو بكر وهو في إشفاق، ثم قال مستقبِلًا القبلة: «اللهم هذه قريش، قد أتت بخيلائها وفخرها تحاول وتُكذِّب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة اليومَ لا تُعبَد في الأرض.»

وأخذ الرسول يدعو الله حتى مال عن كتفيه رداؤه وهو لا يشعر، لاتجاهه بقلبه وروحه إلى الله، فأعاده أبو بكر وهو مشفق على الرسول أيما إشفاق، قائلًا مناشدًا الرسول: «يا رسول الله، كفاك مناشدتك ربك، فإن الله مُنجِز لك ما وعدك من النصر.»

لكن الرسول كان مشغولًا عما حوله؛ إذ كان في حالة روحية انقطع فيها عن الخلق متصلًا بالخالق، وتثاقل جسمه، فتسلَّمه أبو بكر، وأضجعه قليلًا، فأخذته سِنة من النوم، وبينا أبو بكر واقفًا وهو مأخوذ حزين؛ إذ وجد جسم الرسول يرتعش، كما وجده يتكلم كلامًا وهو نائم، فأشفق عليه أبو بكر، وخرج من الخيمة وهو حائر، وبخاصة وقد كانوا على وشك الالتحام بجيش عظيم العُدَّة، كثير العدد، غني بالخيول والخيَّالة، وهم بضع مئات لا يتجاوزون الثلاثمائة، وقائدهم ينتفض.

حينئذٍ دعا أبو بكر ربه قائلًا: «اللهم إنك وعدتنا بالنصر فانصرنا.» وبينا هو في هذه الحال، إذ أقبل عمر يريد أن يستعلم عن مكان الرسول، ويستطلع جَلِيَّة الأمر، فشغل بالَه انقباضُ صدر الرسول، ووقوعه في غيبوبة، وأخذ أبو بكر وعمر يضربان أخماسًا في أسداس، وإذا بهم يُباغَتون برؤية الرسول ممتلئًا نشاطًا، يعلو وجهه البِشْر وهو يقول: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ، ثم قال: «يا أيها الناس، هذه آية نزلَتْ، والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليومَ رجلٌ فيُقتَل صابرًا محتسبًا مُقبِلًا غير مُدبِر إلا أدخله الله الجنة.»

وهنا بلغ صياح الجنود المقاتلين من المسلمين أشده، واندفعوا وكأنهم قد شربوا كئوسًا من الحُمَيَّا، يتدافعون متسابقين إلى القتال، وقَبَضَ محمد — وقد شاهد حالة جنوده المعنوية على خير — قبضةً من التراب، وألقى بها في وجوه المشركين قائلًا: «شاهت الوجوه، شاهت الوجوه.» وأمر أصحابه وهم على رءوس الصفوف قائلًا: «شدوا.»

نزول الملائكة

وبينا هم كذلك، إذا بأنصار محمد وأتباعه يرون حولهم ومن خلفهم وأمامهم جنودًا بيضاء أبدع ما يكونون جمالًا، وكانوا جنودًا من الملائكة، أنزلهم الله ليتمِّموا المقصد، ويعاوِنوا جيش المسلمين، فلما رآهم جندٌ ببدر هلَّلوا قائلين: الله أحد، الله أحد.

ثم هجموا هجمة واحدة صادقة، أطاحت برءوس الكثيرين من كبراء قريش وهزمت أجنادهم، وانجلت المعركة عن نصر مبين، وخذلان — وأي خذلان — لقريش، القوم الكافرين.

وأمَرَ الرسولُ بشهداء بدر فدُفِنوا، وهم أولئك الذين ولا شك صاروا في الجنة، ولم ينسَ الرسول قبل أن يُغادر مكان بدر أن يمر على القبر الذي حُشرَتْ فيه جثث كبار قريش، ويخاطبهم بقوله: «بئستِ العشيرة كنتم لنبيكم؛ كذَّبتموني وصدَّقني الناس (يعني الأنصار)، وأخرجتموني وآواني الناس، وقاتلتموني ونصرني الناس، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقًّا؟ فإني وجدتُ ما وعد ربي حقًّا.»

لعل انتقام الله كان شديدًا من قريش في معركة بدر، فإن بلالًا — وقد كان مولى أمية بن خلف، من أكابر زعماء قريش وسادتها — جزَّ رأسَ سيده بالأمس، وقد كان فظًّا غليظَ القلب كالصخر الصَّلد لا يلين، فلا يعرف رحمة، بل لا يدري للشفقة معنى، كان يُحكِمُ وثاقَ بلال حين اتصل بمسمعه نبأ إسلامه، ويشدُّ على بطنه، ويجعله في الظهيرة مُلقًى تحت أشد أشعة الشمس وهجًا ووقدًا، وهو يقول متشفِّيًا منتقمًا: أَمَا زلتَ يا بلال تتابع محمدًا على دينه؟ فيجيبه بلال رضي الله عنه: الله أحد، الله أحد.

ومن أبدع الظواهر التي تدل على تفاني المسلمين في سبيل العقيدة مُضحِّين حتى بالآباء والأبناء لنُصْرة الدين وإعلاء كلمته ورفع منارته: أن أبا حذيفة بن عيينة شاهده الرسولُ وقد تغيَّر وجهه بعد قتل أبيه في المعركة، فقال له الرسول : «أَدَخَلَكَ من شأنِ أبيك شيء؟» قال: لا والله يا رسول الله، ما شككت في أبي ولا في مصرعه، ولكن كنت أعرف منه رأيًا وحِلمًا وفضلًا، فكنتُ أرجو أن يهديه ذلك إلى الإسلام، فأحزنني أن يموت هذه الميتة على الكُفر.

معركة بدر

لقد كانت فاتحة الفتوحات الإسلامية، كانت حجرَ الزاوية في بناء الإمبراطورية الإسلامية التي شيَّدَ أُسُسها محمد، ودعمها بخير ما يُدعَم به المُلك.

بل لقد كانت بدر بمثابة العَلَم الخفَّاق الذي يُرفرِف على ممتلكات الإسلام في قابل السنين والأعوام، كانت بدايةَ فتح خير دِين سمت مبادؤه، وتلألأت أضواؤه حتى بلغت جبال الألب والبيرنيه غربًا، والصين واليابان شرقًا، وصار معتنقوه خمسمائة مليون من النفوس بعد أن كانوا نفرًا قليلًا، محمدًا وصحبه الأكرمين الأولين.

كم من معارك زعموا وقالوا إنها غيَّرت وجه التاريخ، فلا تكاد تمضي بضع سنين حتى يُغيِّر التاريخُ وجهَها، فلا تعود سوى ذكرى من الذكريات، وأقصوصة من الأقاصيص.

أما معركة بدر فقد غيَّرَت التاريخَ كله، غيَّرت تاريخ الكون، وغيَّرت تاريخ الأديان، وغيَّرت تاريخ الدول والأمم، وغيَّرت حتى تاريخ التاريخ! فقد أدركَتْ قريش بعد معركة بدر أن محمدًا لم يَعُد ذلك الهارب من شرهم، ولكنه المتحدِّي لهم، المنتصِر عليهم، القوي بالله وإن قلَّ عدد جيشه، وكثُر عددهم هم.

أجل، ها هو ذا محمد، ولمَّا تمضِ على خروجه من مكة خمس سنين وهو يتستَّر بالظلام اتقاءً لشر قريش، وبطش قريش، وسطوة قريش؛ ها هو ذا يُجنِّد جنده، ويعود إلى أولئك الذين كانوا بالأمس يُلحِقون به الأذى بل يريدون قتله قتلًا، يعود إليهم متحدِّيًا إياهم، طالبًا منهم أن يدخل مكةَ عُنوةً ليطوف بيت الله الحرام.

عمرة الحديبية

عسكر محمد بجنده في «الحديبية» تأهُّبًا لدخول مكة، لكنَّ قريشًا أقسمَتْ أن لا يدخل حتى تكون أجسامهم جميعًا طعامًا للوحوش وزادًا للطيور، وإلا أن تُكسر سيوفهم في نحورهم، وتُغمَد النِّصال في بطونهم وخيولهم، ولا يبقى في مكة منهم ديَّار، ولا نافخ نار.

أخذ زعماء قريش يتشاورون فيما بينهم، مُقلِّبين وجوه الرأي في الوسائل التي تمنع محمدًا من الدخول إلى مكة، وأخيرًا هداهم التفكير إلى أن يُرسِلوا إليه الرسل للمفاوَضة، وكان منهم نعيم بن مسعود.

دخل نعيم خيمة الرسول (عرين الأسد)، فهاله أن يسير بين سيوف مدجَّجة، وجنود مُتعطِّشة إلى الحرب والنِّزال في حومة الوغى، ووجدوا محمدًا يحوطه صحبُه كما تحوط الهالةُ القمر، فقال ابن مسعود: يا محمد، ما هو الذي جمعتَ إليه جمْعَك، وحشدتَ إليه جُندك؟ أراك قد جمعتَ أَوْشابَ الناس ثم عدوت بهم على قومك من قريش، تحاول أن تُذلَّهم وتنتهك حُرمتهم … إنها والله لَقريش، قد علم الناس صِدقها عند اللقاء، وكِفاحها في البأساء … هم مساعر حرب، وأحلاس خيول، ولقد ترامى إليهم أنك جئتَ غازيًا ديارَهم قاصدًا الكيدَ بهم … وإنهم عاهدوا الآلهة أن لا تدخل عليهم أبدًا، واسم الله، كأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك غدًا وبقيت وحدك، فلا تحوَّطتَ لنفسك، ولا احتفظتَ بقومك، فتدبَّرْ أيُّ شرٍّ أنت قادم عليه، وأيُّ أمر أنت مقصد له.

فقال له الرسول: يا ابن مسعود، لقد تحدَّثت إلى غيرك من الموفدين. إني ما جئت أبغي حربًا أو أريد قتالًا، وإنما جئنا معتمِرين، وللبيت الحرام طائفين ومُعظِّمين، فإن شاءوا خلُّوا لنا الطريق، وإلا فإن لنا معهم شأنًا نترقَّبُ فيه أمر الله.

عاد ابن مسعود إلى قريش مبهوتًا مبهورًا وهو يقول: لقد وفدت على قيصر في مُلْكه، وعلى كِسرى في إيوانه وعِزه، وعلى النجاشي في عَرْشه، فوالله ما رأيت رجلًا يعظِّمه قومه كما يعظِّم محمدًا قومُه، وقد ألقَوْا إليه بمقاليدهم، وأمكنوه من قيادهم، وإنهم لا يرجعون له قولًا، ولا يردُّون له رأيًا، فاقتدِحوا زنادَ عقولكم، والأمرُ نهايتُه بين أيديكم.

فقالوا على لسان أحد كبارهم وقد أدركتهم الحَمِيَّة: إنَّ دونَ ما يرجو محمد مشيب الغراب، ومخ النعام.

رجوع محمد إلى المدينة

اقتضَتْ إرادة الله، ورأى الرسول وفق ما اقتضت المشيئة الإلهية، ألَّا يعمد إلى تحكيم السيف، فقد كانت بغيته الطواف، ومقصده السلام، ولقد كان أغلب مَن في صحبة الرسول وجيشه في حنقٍ من مرابطتهم خارج مكة دون حربٍ أو اقتحامِ مكة قوةً وعُنوةً للطواف وإذلال قريش، وقد كان في مقدمتهم عمر رضي الله عنه، فقد اختلى بأبي بكر وهو يقول: ما هذا يا أبا بكر، ألسنا بالمسلمين؟ فأجاب أبو بكر: بلى. ثم قال: يا عمر، الزم غرزه (أيْ أطِعْ أمر الرسول والزمْ نهيه)، فإني أشهد أنه رسول الله، وأن له في هذا. قال عمر: وأنا كذلك أشهد أنه رسول الله، وأني منذ أسلمتُ ما شككتُ في الرسالة، ولكن ما هذا؟ أنُصَدُّ عن البيت، ونُمنَع من الطواف فيه، وينعم بذلك أحطُّ القبائل؟!

قال أبو بكر: إن شئت فأفضِ بهذه الخواطر إلى الرسول.

ودخل عمر رضي الله عنه على رسول الله وهو يقول: يا رسول الله، أَلَمْ تَعِدنا بأننا سنطوف البيت؟ أوَلستَ أنت رسول الله؟ أوَليسوا هم المشركين؟ إذن فما هذا؟

وقد كان في مقدور محمد أن يعلنها حربًا شعواء على قريش، فيقضي عليها قضاءً مبرمًا، فتغدو كعصفٍ مأكول! ولكن الله سبحانه وتعالى كان يريد خيرًا بالإسلام، كان يريد أن ينتفع الإسلام ببعض عظماء قريش ممَّن لم يكونوا قد دخلوا في دين الله بعدُ.

فلما ألحَّ عمر رضي الله عنه على رسول الله بدخول مكة، مستنكرًا عقد الصُّلح بين المسلمين وأهل قريش المشركين، قائلًا: لماذا نقبل على صُلحٍ فيه هوان؟ وعلامَ نُعطَى الدنيَّةَ في ديننا؟ أوَلستَ كنتَ تحدِّثنا أننا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال رسول الله: أوَأخبرتك أننا سنأتيه هذا العام؟ أنا عبد الله ورسوله، فلن يُضيِّعني.

وعُقِدَت المعاهدة بين محمد وقريش، وهي تنصُّ على ما يلي:
  • أولًا: أن تضع الحربُ أوزارَها عشرَ سنين.
  • ثانيًا: أنَّ مَن يأتي محمدًا من قريش بغير إذنِ وليِّه، يُرَدُّ إلى قريش.
  • ثالثًا: أن مَن يجيء قريشًا ممَّن كان مع محمد، لن يردُّوه عليه.
  • رابعًا: أن بين الطرفين عَيْبَةً مكفوفة، صدور لا تنطوي على غِلٍّ، وأنه لا إِسْلالَ ولا إِغْلالَ (أيْ لا سرقة ولا خيانة).
  • خامسًا: أنَّ مَن أحبَّ أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومَن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه.
  • سادسًا: أن محمدًا يرجع عامه هذا، فلا يدخل مكة، وفي العام المقبِل تخرج قريش من مكة ويدخلها محمد.

ثم انتهت المعاهدة إلى هذا الحد، واستقر الأمر وانحسم النزاع، وخرج رسول الله إلى صحبه وجيشه قائلًا: «أيها الناس: أمَّا ما أهمكم من العهد، فإن مَن ذهب إليهم فلا حاجةَ لنا به، ومَن جاءنا منهم فسيجعل الله له فرجًا. وأما البيت فإنكم إن شاء الله مطوفون به في قابل، وما فعلتُ ما فعلتُ عن أمري، وإنما عن أمر الله، وهو نصيري ولن يُضيِّعني …»

ثم دعا الحلاق فحلق، وعمد إلى البُدْنِ فذبح وتحلَّل من الاعتمار، واقتدى به الجيش، ورجعوا إلى يثرب، ولكنهم كانوا في لهفةٍ على البيت والطواف حوله.

تمثَّلت أمام عينَيْ مخيِّلتي كلُّ هاتيك الحادثات، وما كان يَلْقاه الرسول في سبيل نشر الدعوة الإسلامية من إرهاق وإعنات؛ إذ كان في الاستطاعة — وقد عقد معاهدة مع قريش على أن تضع الحربُ أوزارَها بينه وبينهم عشر سنين — أن يستريح من قريش، ولكن سرعان ما عادت بي الذاكرة إلى ما أعقب ذلك من أحداث، فذكرت كيف نقضتْ قريش عهدَها، فصار الرسول في حلٍّ من نقض ذلك العهد.

كانت قبيلة بني بكر في عقد قريش وعهدهم، وكانت قبيلة خزاعة في عقد رسول الله وعهده، وكانت بينهما حروب، فبعثت بنو بكر خزاعة فقتلوا منهم عشرين، وعاونتهم قريش بالرجال والسلاح، وخرج عمرو بن سالم الخزاعي في طائفة من قومه، حتى قَدِموا على الرسول في المدينة مستغيثين به، وقد وقف عمرو بين يديه وهو جالس في المسجد، وأنشده أبياتًا أخبره فيها بما كان من أمر قريش ونقضها عهده، وهي:

لاهُمَّ أني ناشدٌ محمدَا
حِلْفَ أَبِينَا وأبيه الأتلدَا
فوالدًا كنا وكنتَ الولدَا
وواحدًا كنتَ وكنا العددَا
إنَّ قريشًا أخلفوك الموعِدَا
ونقضوا ميثاقَك المؤكَّدَا
وزعموا أنْ لستَ تدعو أحدَا
وهُم أذلُّ وأقلُّ عددَا
هم بيتونا بالوتير همدَا
وقتلونا رُكَّعًا وسُجَّدَا
فانصُرْ هَداكَ اللهُ نصرًا أبدَا
وادعُ عبادَ الله يأتوا مَددَا

تمثَّلتُ الرسول بعد أن سمع هذه الشكاية الأليمة وقد دمعت عيناه، قال: لا ينصرني الله إنْ لم أنصر بني كعب (خزاعة) بما أنصر به نفسي.

وعمَّت الشكايات من قريش وإيذائهم للمسلمين، فجيَّش الرسول جيش النصر؛ إذ جمع من المسلمين عشرة آلاف مُدججين بالأسياف والدروع، وكل أداة من أدوات الحرب والطعن والنِّزال.

وخرج الرسول من المدينة ومعه جيشه العرمرم، وكان مؤلَّفًا من المهاجرين والأنصار، وغيرهما من طوائف العرب، وسار حتى قارَبَ مكة، وخشي العباس عم الرسول أن تهلك قريش إذا ما دخلها جيش محمد فاتحًا، فركب بغلة الرسول وقال: ليتني أجد رجالًا يُعلِمون قريشًا بخبر رسول الله ، فيأتونه ويستأمنونه، وإلا هلكوا عن آخِرهم، وسمع العباس صوت أبي سفيان بن حرب، وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء الخزاعي، وكانوا قد خرجوا يتجسَّسون، فقال العباس لأبي سفيان: أبا حنظلة! فقال: أبا الفضل! قال العباس: نعم. قال أبو سفيان: لبيك فداك أبي وأمي، ما وراءك؟ فقال العباس: لقد أتاكم رسول الله وعشرة آلاف من المسلمين. قال أبو سفيان: وما تأمرني به؟ قال العباس: تركب معي لأستأمن لك رسول الله وأن لا يضرب عنقك. وتمثَّلت الرسول قد مثَلَ أمامه أبو سفيان بن حرب ومعه العباس، قال الرسول: يا أبا سفيان، أَمَا آنَ أن تعلم أن لا إله إلا الله؟ قال أبو سفيان: ويلي. قال الرسول: ويحك! ألم يَأْنِ لك أن تعلم أني رسول؟ قال أبو سفيان: بأبي أنت وأمي، أمَّا هذه ففي النفس منها شيء. فقال له العباس: ويحك! أسلِم قبل أن نضرب عنقك. فأسلم، وأسلم معه حكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء الخزاعي، فقال الرسول للعباس: اذهب بأبي سفيان إلى مضيق الوادي ليشهد جنود الله. فقال العباس: إنه يحب الفخر، فاجعل له شيئًا يكون في قومه. فقال : «مَن دخل دار أبي سفيان فهو آمِن، ومَن دخل المسجد فهو آمِن، ومَن أغلق عليه بابَه فهو آمِن، ومَن دخل دار حكيم بن حزام فهو آمِن.»

ورجع العباس بأبي سفيان إلى مضيق الوادي كما أمره الرسول، وأخذت قبائل المسلمين من كتائب جيش الفتح تمر واحدة بعد الأخرى، وأبو سفيان يسأل العباس عن كل قبيلة، وهو يُعلِمه، حتى وصل رسول الله في كتيبته الخضراء من المهاجرين والأنصار لا يَبينُ منهم إلا الحَدَقُ من الدروع والسلاح، فقال أبو سفيان: مَن هؤلاء؟ فأجابه العباس: رسول الله في المهاجرين والأنصار. فقال أبو سفيان: ما لأحد بهؤلاء قِبَل ولا طاقة، والله يا أبا الفضل لقد أصبح مُلْك ابن أخيك مُلكًا عظيمًا. فأجابه العباس: إنها النبوَّة … فقال أبو سفيان: نعم. قال العباس: إذن فالْحقْ بقومك فحذِّرهم.

رأيت بعينَيْ مخيِّلتي وقد انطلق أبو سفيان وهو يصيح بأعلى صوته: يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم بما لا قِبَلَ لكم به … قالوا: فَمَهْ؟ قال: فمَن دخل دار أبي سفيان فهو آمِن. قالوا: ويحك! فما تُغنِي دارَك عنا شيئًا. قال: فمَن أغلق عليه بابَ داره فهو آمِن، ومَن دخل المسجد فهو آمِن، ومَن ألقى السلاح فهو آمِن.

وتخيَّلتُ كيف تفرَّق قريش إلا الأقلُّون إلى دورهم وإلى المسجد حتى يكونوا آمِنين، ثم تمثَّلتُ الرسول وهو يدخل بجيشه مكة من جميع نواحيها، وقد ركب ناقته وهو يقرأ سورة الفتح، ولما مكَّن اللهُ رسولَه من رقاب قريش، قال لهم: «ما تروني فاعلًا بكم؟» قالوا: خيرًا.

وقام سهيل بن عمرو، وكان من رؤساء قريش، وقال: يا محمد، أنت أخٌ كريم وابن أخٍ كريم، وقد قَدَرْتَ، فإن عذَّبتَنا فَبِجُرمٍ عظيم، وإن عفوتَ عنا فبحِلْم قديم.

وتبسَّم الرسول في وجوههم وقال: «بل أقول مثلَ ما قال أخي يوسف عليه السلام: لا تثريب عليكم اليوم، يغفر الله لكم، فاذهبوا فأنتم الطُّلقاء.»

الله أكبر، إن رسول الله يعفو عن قريش، ولَكَمْ آذَوْه من قبلُ وعذَّبوه، بل حاولوا أن يتعاونوا على قتله، ولكنه يعفو عنهم. حقًّا! إنه لَعلى خُلق عظيم، ومَن غيره كان أحلم الناس وأرحم الناس؟! ومَن غيره كان أرغبَهم في العفو عند المقدرة؟! حتى لقد أُتِيَ في يومٍ بقلائد من ذهب وفضة قسمها بين أصحابه، فقام رجل من أهل البادية، فقال: يا محمد … والله لقد أمرك الله أن تعدل، فما أراك تعدل! فقال الرسول: ويحك! فمَن يعدل عليك بعدي؟! فلما انصرف الأعرابي قال الرسول: ردُّوه عليَّ رويدًا. ثم أرضاه ولم يسخط عليه ولم ينهَهُ.

ولقد أتت له اليهودية بالشاة المسمومة، وعرفها وأقرَّت له، قالوا: أفلا قتلتَها؟ فقال: لا. ولم ينتقم منها لنفسه. وسحره بعض اليهود، فأطلَعَه جبريل عليه، فاستخرجه وحلَّ العقد، فوجد لذلك خفَّة ونشاطًا، وما ذكر الرسول ذلك لليهودي ولا أظهَرَه عليه. وكان الرسول يقبض للناس يوم خيبر من فضة من ثوب بلال، فقال رجل: يا رسول الله، اعدل. فقال: ويحك! فمَن يعدل إذا لم أعدِل؟ فقد خِبْتُ إذن وخسرتُ إن كنتُ لا أعدل. فقام عمر رضي الله عنه وقال: أَلَا أضرب عنقه، فإنه منافق؟ فقال الرسول: معاذ الله أن يتحدَّث الناس أني أقتلُ أصحابي.

وجاء أعرابي يطلب شيئًا، فأعطاه، ثم قال: أحسنتُ إليك؟ قال: لا، ولا أجملت. وغضب المسلمون وقاموا إليه، فأشار إليهم أن كفُّوا عنه، ثم قام ودخل منزله، وأرسل إلى الأعرابي وزاده شيئًا، ثم قال: أحسنتُ إليك؟ قال: نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرًا. وقال الرسول لأصحابه: إني لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار.

إنه محمد النبي الرحيم بأمته من المؤمنين، فما أراد لهم إلا الخير، وإلا الرحمة من الله، مهما ينله من أذى، حتى لقد كان يقول: «رحمه الله أخي موسى، قد أوذِيَ بأكثر من هذا فصبر.»

وكيف لا يعفو رسول الله محمد وقد أدَّبه ربه بالقرآن، فقد ورد عن سعد بن هشام، قال: دخلت عائشة رضي الله عنها، فسألتها عن أخلاق الرسول ، فقالت: ما تقرأ القرآن؟ قلت: بلى. قالت: كان خُلُق رسول الله القرآن، وإنما أدَّبه القرآن بمثل قوله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ، وقوله: وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ، وقوله: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ.

ولما كُسِرَتْ رباعيته وشُجَّ وجهه يوم أُحُد، وجعل الدم يسيل منه وهو يمسحه ويقول: كيف يُفلِح قوم خضَّبوا وجهَ نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى ربهم؟ أنزل الله عليه الآية: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، فهو إذن أفضلُ مَن أُدِّبَ بالقرآن وأدَّبَ به؛ ولذلك قال: «أدَّبني ربي فأحسن تأديبي.»

أجل، لقد كان الرسول المقصود الأول بالتأديب والتهذيب، ومنه يُشرق النور على أمته وكافة الخلائق، لقد كان في حياته وأعماله وصفاته وأخلاقه دروسٌ للناس في هذه الحياة، هذه الدروس التي كانت وما زالت خير المبادئ والتعاليم، فأصبحنا نتناساها حتى صِرنا إلى ما نحن فيه من تأخُّرٍ وتدهوُرٍ وذلة وانحطاط وهَوان.

•••

وتمثَّلتُ الرسول وقد أمَّنَ أهل مكة وهو يطوف البيت، فلما دخل الكعبة ورأى فيها الأصنام أخذ يكسرها وهو يقول: «جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقًا.» وكان بيده الشريفة قضيب، فما أشار به إلى صنمٍ من أمامه إلا استلقى على قفاه، أو من خلفه إلا انكبَّ على وجهه، ورأى فيها صورة إبراهيم وفي يده الأزلام يستقسم بها، فقال: قاتَلَهم الله، جعلوا شيخنا يستقسم بالأزلام! ما شأن إبراهيم والأزلام! ثم أمر بتلك الصور فطُمِستْ.

وقام الرسول على الصفا يدعو الله تعالى ويحمده على هذا الفتح المبين، وقد أحدقت حوله الأنصار، فقال بعضهم لبعض: أتظنون أن رسول الله يرجع إليكم وقد فتح الله عليه أرضه وبلده؟

فلما فرغ الرسول من دعائه قال: ماذا تقولون يا معشر الأنصار؟ قالوا: لا شيء يا رسول الله. فلم يزل بهم حتى أخبروه، فقال : معاذ الله، المحيا محياكم، والممات مماتكم.

بينا كانت كل هاتيك الخواطر عن هذه الحادثات الخالدات تمر سِراعًا أمام عينَيْ مخيِّلتي، كنا قد وصلنا إلى جدة، ومنها واصلنا السير إلى يثرب في ذلك الطريق المُعبَّد المجاور للبحر، وقد أخذت السيارة تقطعه في سرعة وسهولة، وقد زاد متعة النفْس ما كنت أشاهده من مناظر طبيعية، لا أغالي إذا قلت إنها أبدع ما صنعته قدرة الخلَّاق في هذا الكون؛ مناظر متمازجة أيما تمازُج بين ماء وسماء وصحراء، فسبحان المبدع الأعظم!

وذكرتُ وأنا في ذلك الطريق الطويل ما كان عليه في الماضي من وعورة، وكم لاقى من وعورته صحابةُ محمد من الغزاة الفاتحين، وقد بعث بهم بالسرايا يدعون الناس إلى الإسلام، ثم ذكرتُ كيف كان محمد يدعو كل أمير على سرية إلى أن يبشِّر بالدعوة بالحسنى فلا يقاتل. فكانت القبائل والوفود تدخل في دين الله أفواجًا حتى أعزَّ الله الإسلام، ولم يعُد أمام محمد إلا أن يُعلِّم جيله، وبدأ بصحابته الذين كان يعلم أنهم سيكونون من بعده أساتذة الأجيال المقبِلة، جيلًا بعد جيل، فأتباعُ الصحابة تعلَّموا عن الصحابة، وتابِعو التابعين تعلَّموا عن التابعين، وبذلك وضع محمد تعاليم الدين أساسًا لمُلكه، فكان مُلكه هو المثل الأعلى بين الأمم والشعوب، بل إنه قد غلب مُلك كسرى، ومُلك هرقل، ومُلك المقوقس، وغالبتْ مَدنيَّته جميع المَدنيَّات وغلبتها.

وضع محمد قوانينه، فكانت وما زالت حتى اليوم خيرَ القوانين وأدعمَها أسسًا، وأقواها أثرًا، وأعمَّها نفعًا. وضع قوانينه المستمدة من القرآن، فنظمت الزكاة والمال والاقتصاد والصحة والزواج والطلاق والعتق والإرث وما إلى ذلك، بل إنه وضع كل تشريع ما زال الغربيون إلى اليوم يرجعون إليه ويستمدون منه إذا غمَّ عليهم، وإذا ادلهمَّتْ أمورهم، وإذا سارتْ شئونهم في طريق الزلل والشَّطَط والضلال.

الرسول يودِّع الدنيا

أدى محمد الرسالة، وأبلغ الأمانة بعد طول جِلاد وجهاد، حتى لقد صعدتْ روحه إلى الرفيق الأعلى فتخيَّر الآجلة على العاجلة. فلما قضت إرادة الله خرج على الناس فخطبهم، وتحلَّل منهم، وصلى على شهداء أُحُد واستغفر لهم، ثم قال ما معناه: إن عبدًا من عباد الله خيَّره الله بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده.

وفهم أبو بكر قول الرسول، فبكى وقال: بل نفديك بأنفسنا وأبنائنا. فقال: على رِسْلِك يا أبا بكر. ثم جمع رسول الله أصحابه فرحَّب بهم وعيناه تدمعان، ودعا لهم كثيرًا، وقال: أوصيكم بتقوى الله، وأوصي الله بكم، وأستحلفه لكم، وأُودعكم إليه، إني لكم نذير وبشير، ألَّا تعلوا على الله في بلاده وعباده، فإنه قال لي ولكم: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ.

كيف تُوفِّي الرسول؟

رُوِيَ عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: في آخر مرض رسول الله ، اضطجع في حجري، فدخل عليَّ رجل من آل أبي بكر وفي يده سِواكٌ أخضر، فنظر إليه الرسول، فعرفت أنه يريد السِّواك، فعرضته عليه بعد أن مضغتُه وليَّنته، فتناوَلَه بيده الشريفة، وأخذ يستنُّ به بشدة، ثم ألقاه بجواره، وثقل عليَّ فنظرت إليه، فإذا بصره قد شخص وأخذ يقول: «بل الرفيق الأعلى من الجنة.»

فقالت عائشة: «خُيِّرتَ فاخترتَ، والذي بعثك بالحق.» ثم تُوفِّي ، فوضعَتْ عائشة رأسه على وسادة، وأخذت تضرب وجهها.

وذكرتُ، وقد انتشر بين العرب من أهل يثرب نبأ الفاجعة، كيف قام عمر بن الخطاب — رضي الله عنه — في الناس، وقال: «إن رجالًا من المنافقين يزعمون أن رسول الله قد تُوفِّي، والله ما مات، ولكنه قد ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران، فقد غاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم بعد أن قيل إنه مات، والله لَيرجعنَّ رسول الله كما رجع موسى، وسأقطعُ أيدي رجالٍ وأرجُلَهم زعموا أن رسول الله مات.»

وذكرتُ كيف أقبل أبو بكر وقد كان متغيبًا، فوجد عمرَ يخطب الناس، فمضى لا يلتفت إلى شيء حتى دخل المسجد، ثم أُدخِل على رسول الله في بيت عائشة، فوجده مُسجًّى في ناحية من البيت، وعليه بُرْدٌ حِبَرَةٌ، فكشف عن وجهه الشريف، ثم أقبل عليه فقبَّله، ثم قال: بأبي أنت وأمي، أما الموتة التي كُتِبت عليك فقد ذقتها، ثم لن تصيبك موتة بعدها أبدًا، ثم ردَّ البُرْدة على وجهه .

وخرج فوجد عمرَ لا يزال يهدِّد الناس ويتوعَّدهم ويُرْغِي ويُزْبِد، نافيًا الموت عن الرسول، فقال أبو بكر: على رِسْلِك يا عمر، أنصِتْ! ثم حمد الله وأثنى عليه وقال:

أيها الناس، مَن كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومَن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا.

ثم ذكرتُ كيف اندهش الناس حين سمعوا هذه الآية، فقد خُيِّل إليهم أنهم لم يسمعوها إلا حين تلاها عليهم أبو بكر، وقال أبو هريرة رضي الله عنه: إن عمر قال: كأني ما سمعت هذه الآية إلا حين تلاها أبو بكر.

وخرَّ عمر على الأرض مغشيًّا عليه من هول الخطب، وشدة النازلة، ثم إذا أفاق من غشيته دخل على الرسول فوجده تحت الغُسْل، فأخذ يبكيه ويرثيه، قال:

بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد كان جِذْعٌ تَخْطُبُ الناسَ عليه، فلما كثُر الناس اتخذتَ منبرًا لتُسمِعهم، فحنَّ الجِزْع لفِراقِك حتى جعلتَ يدك عليه فسكن، فأمَّتُك كانت أولى بالحنين إليك لمَّا فارقتَها.

بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد بلغ من فضيلتك عند الله أن جعل طاعتَك طاعتَه، فقال عز وجل: مَن يُطِعِ الرَّسُولُ فُقَدْ أَطَاعَ اللهَ.

بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد بلغ من فضيلتك عنده جلَّ جلاله أن أخبرك بالعفو عنك قبل أن يخبرك بالذنب، فقال تعالى: عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ.

بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد بلغ من فضيلتك عنده سبحانه وتعالى أنْ بعثك آخِرَ الأنبياء، وذكرك في أولهم: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ.

بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد بلغ من فضيلتك عنده جلَّ شأنه أن أهل النار يودُّون أن يكونوا قد أطاعوك وهم بين أطباقها معذَّبون: يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا.

بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لَئن كان موسى بن عمران أعطاه الله حجرًا يتفجَّر منه الأنهار، فما ذا بأعجب من أصابعك حين نبع فيها الماء.

بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لئن كان سليمان بن داود أعطاه الله الريح غدوها شهر ورواحها شهر، فما ذا بأعجب من البُرَاق حين صعدت عليه إلى السماء السابعة، ثم صليت الصبح من ليلتك بالأبطح.

بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لَئن كان عيسى بن مريم أعطاه الله إحياء الموتى، فما ذا بأعجب من الشاة المسمومة حين كلَّمتَك وقالت لك الذراع: لا تأكلني فإني مسمومة.

بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد دعا نوح على قومه فقال: رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا، ولو دعوتَ علينا بمثلها لَهلكنا، فلقد وُطِئ ظهرُك، وأُدمِيَ وجهُك، وكُسِرت رَباعِيَتُك، فأبيتَ أن تقول إلا خيرًا، وقلت: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.»

بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد اتَّبَعَك في قلةِ سِنِّك وقِصَر عُمرك، ما لم يتَّبِع نوحًا في كثرة سِنِّه وطول عُمره.

بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لو لم تُجالس إلا كُفئًا لك ما جالَستَنا، ولو لم تنكح إلا كُفئًا لك ما نكحتَ إلينا، ولو لم تُؤاكِل إلا كُفئًا إليك ما واكَلْتَنا، فلقد والله جالَسْتَنا، ونكحتَ إلينا، وواكَلْتَنا، ولبستَ الصوف، وركبتَ الحمار، وأردفتَ خلفَك، ووضعتَ طعامَك على الأرض، ولعقتَ أصابعَك تواضُعًا منك.

بينما كنت أتمثَّل عمر رضي الله عنه يؤبِّن الرسول، ويودِّعه الوداع الأخير، وهو أشد ما يكون حزنًا وألمًا، مرتْ بخاطري مناظرُ تلك الجموع الحاشدة؛ جموع الأنصار، وهم أبناء قبيلتَي الأوس والخزرج، وقد عقدتا مؤتمرًا حينما بلغهما وفاة الرسول.

•••

وإنني أقف خاشعًا، مأخوذَ اللُّبِّ، شاردَ الذهن، مذهولًا أو أشبه بالمذهول.

وإني لَأشعرُ بيدِ المدعي تُربِّتُ على كتفي، وهو ما زال يتلو أدعيته، قائلًا: ما لك لا تردِّد ما أقول؟

قلت: قُل.

قال: قُل. وأخذتُ أردِّد ما يقول، وهو: «السلام عليك يا سيدي يا رسول الله، السلام عليك يا سيدي يا حبيب الله، السلام عليك يا خاتم النبيين، وإمام المرسلين، وسيد ولدِ آدم على الإطلاق، اللهم إني أودعتُ شهادةَ ألا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله في هذا المكان المطهَّر الشريف، إلى يوم الحشد العظيم.»

وعدتُ فشرد فكري، وعاوَدَني ذهولي، فلم أعُدْ أردِّد بقيةَ دعاء المدعي، وجعلتْ روحي تحلِّق في جوٍّ من النور الإلهي الذي يُشعُّ على قلوب الزائرين فيُضيء جوانبَها، ويتسرَّب إلى صميمها.

وعاد المدعي فلاحَظَ ما أنا فيه من ذهول، فربَّتَ على كتفي، وقال: يا هذا، التفِتْ.

فقلت: إلى أي شيء، وأنا أمامَ كلِّ شيء؟!

قال: إلى الصدِّيق، أبي بكر.

أبو بكر الصدِّيق

وحيَّيتُ الصدِّيق تحيةَ الإسلام، وردَّدتُ دعاء المدعي وهو يقول: «السلام عليك أيها الصدِّيق، السلام عليك يا ثانيَ اثنين في الغار، السلام عليك يا أول مَن صدَّق بالإسراء، وقال: لأصدِّقنَّه حتى لو قال إنه عرج.»

وهنا شرد ذهني من جديد، وذكرتُ أنني أمامَ قبرِ وزيرِ محمد الأول، ومستشاره الأمين، الرمز الأعلى للوفاء، فلم يكن في الدنيا — كما حدَّثنا التاريخ، وأكبر الظن أنْ لن يحدِّثنا التاريخ بعدُ — مَثَلٌ للوفاء مِثل أبي بكر.

•••

تمثَّلتُ الأنصارَ يريدون أن يُبايعوا بالإمارة واحدًا منهم دون المهاجرين من قريش، معتقدين أنهم أَوْلى مِن آله ومِن صَحْبه .

اجتمع الأنصار في مؤتمرٍ عقدوه في سقيفة بني سعد، وكان سعد زعيم الأنصار مريضًا، إلا أنه لذلك الحدَث الجَلَل ولشغور منصب الإمارة على المسلمين حملوه على نقَّالة ليَخْطبهم، وليُدلِي إليهم برأيه، ورأيه لديهم هو المُطاع، قال:

يا معشر الأنصار، لكم سابقة في الدين، وفضيلة في الإسلام لم تجتمع لقبيلة من العرب. إن محمدًا عليه السلام مكث بضع عشرة سنة في قومه يدعوهم إلى عبادة الرحمن وخلع الأوثان، فما آمَن به إلا القليل، وما كانوا يقدرون على أن يمنعوا رسوله، ولا أن يعِزُّوا دينَه، ولا أن يدفعوا عن أنفسهم ضَيْمًا عُمُّوا به، حتى إذا أراد بكم الفضيلة ساقَ إليكم الكرامة، وخصَّكم بالنعمة، فرزقكم الله الإيمان به وبرسوله، والمنع له ولأصحابه، والإعزاز له ولدينه، والجهاد لأعدائه، وكنتم أشدَّ الناس على عدوِّه منكم، وأثقله على عدوِّه من غيركم، حتى استقامت العرب لأمر الله طوعًا وكرْهًا، وأعطى البعيد المقادة طاهرًا داخرًا، حتى أثخن الله عز وجل لرسوله بكم الأرض، ودانت بأسيافكم له العرب، وتوفاه الله وهو عنكم راضٍ، وبكم قرير العين، استَبِدُّوا بهذا الأمر دون سائر الناس، فإنه لكم دون الناس.

ورأيت بعينَيْ مخيِّلتي وقد ساد الهَرْج والمَرْج جموعَ الأنصار، وأخذوا يتصايحون فيما بينهم: إن الإمارة لنا، فإن أبَتْ مهاجرة قريش إلا أن يقولوا إنا المهاجرون وصحابةُ رسول الله الأوَّلون، ونحن عشيرته وأولياؤه، فَلْيكن منا أميرٌ ومنهم أمير.

هنا رأيتُ سعدًا وقد أفتر لونه واصفرَّ، وغضب غضبًا شديدًا، ورفع صوته فيهم قائلًا: «هذا أول الوهن.» في تلك الآونة تمثَّلتُ أبا بكر وعمر وقد دخلا على جموع الأنصار بعد أن سمعا قولة سعد، فسارَعَ عمر إلى الكلام، ولكنَّ أبا بكر ربَّتَ على كتفه وقال: «أنصِتْ يا ابن الخطاب.» ثم حمد الله وأثنى عليه وقال:

بسم الله الرحمن الرحيم، إن الله قد بعث محمدًا رسولًا إلى خلقه، وشهيدًا على أمته؛ ليعبدوا الله ويوحِّدوه، وهم يعبدون من دون الله آلهة شتى ويزعمون أنها لهم عنده شافعة ولهم نافعة، وإنما هي من حجر منحوت وخشب منجور: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ، وقالوا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى.

فعظُم عند العرب أن يتركوا دين آبائهم، فخصَّ الله المهاجرين الأوَّلين من قومه بتصديقه والإيمان به، والمواساة له، والصبر معه على شدة أذى قومهم لهم وتكذيبهم إياهم، وكل الناس لهم مخالف زارٍ عليهم، فلم يستوحشوا لقلة عددهم، وشَنَفِ الناس لهم، وإجماع قومهم عليهم، فهم أول مَن عبد الله في الأرض، وآمَن بالله وبالرسول، وهم أولياؤه وعشيرته، وأحق الناس بهذا الأمر من بعده، ولا ينازعهم ذلك إلا ظالم. وأنتم يا معشر الأنصار مَن لا يُنكَر فضْلُهم في الدين، ولا سابقتهم العظيمة في الإسلام، رضِيَكم الله أنصارًا لدينه ولرسوله وجعل إليكم هجرته، وفيكم جُلَّة أزواجه وأصحابه، فليس بعد المهاجرين الأوَّلين عندنا بمنزلكم، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء، ولا تُفتاتون بمشورة ولا تُقضَى دُونَكم الأمور.

وهنا رأيت أحد كبار الأنصار ينهض منافِحًا مدافِعًا يردُّ على أبي بكر قائلًا: «يا معشر الأنصار، املكوا عليكم أمركم، فإن الناس في فَيْئِكم وفي ظِلِّكم، ولا يجترئ مجترئٌ على خِلافكم، ولن يصدر الناس إلا عن رأيكم، أنتم أهل العِزَّة والثروة، وأولو العدد والمَنَعَة والتجرِبة، وذوو البأس والنجدة، وإنما ينظر الناس إلى ما تصنعون، ولا تختلفوا فيفسد عليكم رأيكم ويُنتقَص عليكم، أبى هؤلاء إلا ما سمعتم، فمنا أمير ومنهم أمير.»

وهنا رأيت عمر رضي الله عنه يندفع إلى القول بصوتٍ جهير، قال: «هيهات، لا يجتمع سيفان في قرابٍ واحد، والله لا ترضى العرب أن يؤمروكم ونبيهم من غيركم، ولكن العرب لا تمتنع أن تولِّي أمرها مَن كانت النبوة فيهم، ووليُّ أمورهم منهم، ولنا بذلك على من أبى من العرب الحجة الظاهرة، من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته ونحن أولياؤه وعشيرته، إلا مُدلٍ بباطل ومتجانف لإثم، أو متورِّط في هلكة.»

وهنا رأيت بعين المخيلة كبيرًا من كبار الأنصار يُدعى الحباب، وقد هبَّ من مجلسه معترضًا يقول: «يا معشر الأنصار، لا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه، فإن أبوا عليكم ما سمعتموه فأَجْلُوهم عن هذه البلاد، وتولوا عليهم هذه الأمور، فأنتم والله أحق بهذا الأمر منهم، فبأسيافكم دان بهذا الدين من دان، أنا جُذَيْلُها المُحَكَّكُ، وعُذَيْقُهَا المُرَجَّبُ، أما والله لئن شئتم لنعيدنها جَذَعَةً.»

قال عمر: إذن يقتلك الله.

وهنا انبرى أبو عبيدة بن الجراح قائلًا: «يا معشر الأنصار، لا تكونوا أول من بدَّل وغيَّر، فأنتم أول من آزر وناصر.»

ثم هبَّ بشير بن سعد أبو النعمان الأنصاري، وهو زعيم قبيلة الخزرج، وقال: «يا معشر الأنصار، إنا والله لئن كنا أولي فضيلة في جهاد المشركين وسابقة في هذا الدين، ما أردنا به إلا رضاء ربنا وطاعة نبينا في الكدح لأنفسنا، فما ينبغي أن نستطيل على الناس بذلك، ولا أن نبتغي به من الدنيا عرضًا، فإن الله ولي المنة علينا بذلك، واعلموا أن محمدًا من قريش، وقومه أحق به وأولى، وايم الله لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر أبدًا، فاتقوا الله ولا تنازعوهم ولا تخالفوهم.»

قال أبو بكر: هذا عمر، وهذا أبو عبيدة، فأيهما شئتم فبايعوا.

فقال عمر وأبو عبيدة في صوتٍ واحد: إنك ثاني اثنين إذ هما في الغار، وخليفة رسول الله على الصلاة، والصلاة أفضل دين المسلمين، فمن ذا يبغي أن يتقدمك؟ ابسط يدك نبايعك. فسبقهما بشير بن سعد الخزرجي.

وهنا قال كبار قبيلة الأوس: والله لئن لم نُسرِع إلى المبايعة لتسبقنا الخزرج بالفضل.

ثم رأيت بعين المخيلة الناس مقبلين على مبايعة أبي بكر.

وتمثلتُ أبا بكر وقد وقف موقفيه الخالدين اللذين بفضلهما — بعد فضل الله ونعمته على المسلمين — عادت كلمة الإسلام إلى الوحدة، وعادت قبائل العرب إلى الالتئام والوئام، بعد ما كان يهددهم من عداوة وخصام.

ورأيت أبا بكر رضي الله عنه وقد بايعَتْه العرب يقف بينهم خطيبًا مبيِّنًا لهم برنامج سياسته التي يتبعها لإصلاح شئونهم ونشر دين الله وإعزاز الإسلام، وتوطيد أركانه بعون الله.

خطبة أبي بكر

قال أبو بكر: «أيها الناس، قد وُلِّيتُ عليكم ولستُ بخير منكم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن صدفت فقوِّموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له حقه، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ منه الحق إن شاء الله.»

ثم قال: «لا يدع أحد منكم الجهاد، فإنه لا يدعه قوم إلا ضربهم الله بالذل، أطيعوني ما أطعتُ الله ورسوله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤