الباب الثامن

خلافة أمير المؤمنين عمر

حقًّا، إن رسول الله ما كان ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحيٌ يوحى، علَّمه شديد القوى، وقد دعا ربه أن يعز الإسلام بأحد العمرين، فكان أن أسلم عمر بن الخطاب.

نعم، ذكرتُ في تلك اللحظة كيف أسلم عمر بعد أن خرج من داره متوشِّحًا بسيفه وهو يعتزم قتل الرسول، فإذا به بعد ساعات يعتنق الدين الذي يبشر به محمد، وإذا به بعد ذلك يُضْحِي له ركنًا ركينًا، وحصنًا منيعًا.

في دار الخيزران

وهل تدري كيف أسلم عمر؟ هل تدري كيف انقلب ذلك الشر الذي كان يريده بالإسلام إلى خيرٍ ناله الإسلام بخلافة عمر؟

كان عمر في ذلك الوقت أشد ما يكون غضبًا ومَوْجِدَةً على رسول الله، فخرج متوشِّحًا بسيفه كما قلنا يبحث عن محمد وصحبه، فلقيه في الطريق نعيم بن عبد الله، فسأله عن وجهته، فقال: «أريد محمدًا، أريد هذا الذي عاب ديننا، وسبَّ آلهتنا، وسفَّه أحلامنا، فأقتله.»

فقال نعيم: «لقد غرَّتك نفسك من نفسك! أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمدًا؟ أفلا رجعت إلى أهل بيتك فقوَّمتَ أمرهم؟»

فقال عمر مستنكرًا: «ومن تقصد بأهل بيتي؟»

فقال نعيم: «أختك فاطمة، وابن عمك سعيد بن زيد، فقد والله أسلما وتابعا محمدًا على دينه، فعليك أولًا بهما!»

هال عمر ما سمع، وعاد أدراجه إلى داره ليُنزِل بأخته وابن عمه أشد القصاص، إن لم يفتِك بهما، وكان عندهما خَبَّاب بن الأَرَتِّ، وكان هذا يقرأ في صفحة كُتبت فيها «سورة طه» حين قدِمَ عمر وطرق الباب.

سمعوا صوت عمر، فاختبأ خباب في جانب الدار، وأخذت فاطمة الصفحة وأخفتها تحت فخذها، فلما دخل عمر والشر يكاد يتطاير من عينيه، قال: «كنت أسمع شيئًا، وقد أُخبِرت أنكما تابعتما محمدًا على دينه.»

ثم بطش بابن عمه، فقامت إليه أخته لتكفه عن زوجها، فاعتدى عليها وشجَّ رأسها، فلما شاهد سعيد منه ذلك قال: «لقد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله، فاصنع ما بدا لك.»

فلما رأى عمر الدم يسيل من رأس أخته وتبيَّن إصرارها على دينها، وأيقن أن الشدة لا تجدي ولا تنفع، قال لها: «أعطِني هذه الصفحة التي كنتم فيها تقرءون؛ لأنظر ما هذا الذي جاء به محمد»، فقالت فاطمة: «إنا نخشاك عليها.»

وأخذت فاطمة عليه المواثيق، واشترطت عليه أن يغتسل فيتطهَّر، وقد فعل، فأعطته الصفحة طمعًا في إسلامه، ولكي يشعر بعظمة القرآن ويدرك معجزة القرآن، وينظر إلى نور القرآن، وليكون من عظمة القرآن ومعجزته ونوره سحر يأخذ بنفس عمر، فيُخلِّصها من الشرك.

تناول عمر الصفحة من يد فاطمة، وتلا: «طه»، وهنا حدثت معجزة القرآن؛ إذ قال عمر: «ما أحسن هذا الكلام وأعظمه!»

وهنا خرج خباب من مخبئه، وقد طفرت من عينيه الدموع، دموع الابتهاج والفرح وهو يقول: اللهم إني أشهد أن هذه معجزة من معجزات الرسول.

لقد سمعته بالأمس يقول: «اللهم أيِّد الإسلام بأبي الحكم بن هشام، أو بعمر بن الخطاب.» فالله، الله يا عمر.

وهنا يسأله عمر: «وأين أجد محمدًا يا خباب؟» فأجابه خباب قائلًا: إنك لتجده في بيت عند الصفا، هو «بيت الخيزران».

أتى عمر دار الخيزران وطرق الباب، مرددًا في صوتٍ أجش ونبرات مختنقة: «أي محمد، يا ابن عبد الله، يا ابن بني عبد مناف.»

وكان النبي مجتمعًا مع الصحابة الأجِلَّاء داخل الدار، يتذاكرون في شئون الإسلام، وكان عدد الصحابة لا يزيد على العشرين، وكان منهم أبو بكر وحمزة وعلي وغيرهم من أصحاب الرسول ممن تسابقوا إلى تلبية الدعوة إلى اعتناق الإسلام بهداية الله.

وتسلَّل واحد من الصحابة حين سمع صوت عمر إلى باب الدار، وتطلَّع من ثقبه؛ ليتأكد إن كان هو عمر، فهاله أن وجد عمر متوشِّحًا بسيفه، فعاد وهو يقول: «إن عمر يريد بنا الشر، فهو متوشِّح بالسيف.»

فقال حمزة (سيف الله القاطع): «لِمَ الفزع؟ دعوني له، فإن كان يريد خيرًا بذلناه له، وإن كان يريد شرًّا فوالله الذي خلق السموات سبعًا، والأرض سبعًا، وما بينهما وما فوقهما وما تحتهما لأقتلنه بسيفه!»

وأخذ الصحابة يتسابقون إلى افتداء الرسول ، وكان حمزة أشدهم إصرارًا، فقال له الرسول: اتركه لي يا حمزة.

ونهض — وهو فارس الفرسان، وبطل الميدان — وفتح الباب، وأخذ عمر من ردائه، وجذبه جذبة وقال: «ما جاء بك يا ابن الخطاب! فوالله ما أرى أن تنتهي حتى يُنزِل الله بك قارعته!»

فقال عمر: جئتك لأؤمن بالله وبرسالتك وبما جاء من عند الله.

فقال الرسول: «الله أكبر! الله أكبر!»

وكانت هذه بشرى علِمَ بها الصحابة وهم داخل الدار بإسلام عمر.

عمر والنور الإلهي

هذا هو عمر، ذلك البدوي الفظ الغليظ القلب في شِركه، الذي وأد ابنته حتى ماتت، والذي كان لا يصحو من غشية الخمر، والذي حاول كما قدَّمنا قتل أخته وزوجها لأنهما أسلما! يعتنق الإسلام، ويُصبح إلى جانب أبي بكر بمثابة السمع والبصر لرسول الله؛ إذ جاء في رواية للترمذي: «أبو بكر وعمر بمنزلة السمع والبصر.»

حقًّا، لقد كان إسلام عمر فتحًا مبينًا، كما كان عهده العهد الذهبي للإسلام والدولة الإسلامية العربية، كان هو نفسه أعدل رجل أُودِعَتْ في عنقه أمانة الحكم، كان أول أمير للمؤمنين، ذا صلة روحية عُليا بخالقه، رأى بالنور الإلهي أن أحد جيوشه في فارس سيُقضَى عليه، فقال: «يا سارية، الجبل»، وكان العدو يحاول تطويق ذلك الجيش، فلما نبَّه عمر قائده «سارية» اعتصم بجيشه إلى الجبل، وجعله وراء ظهره ليحميه من الحصار والتطويق، وتمَّت للمسلمين الغلبة والانتصار.

أجل، إن عمر كان ينظر بالنور الإلهي؛ فقد حدث في واقعة بدر أن المسلمين أسروا من قريش كثيرًا من الأسرى، وأراد الرسول أن يشاور أصحابه في شأنهم، وكان أبو بكر رقيق الشعور، فنصح بالعفو عنهم، ولكن عمر قال: اضرب أعناقهم يا رسول الله، لا تأخذك فيهم رحمة.

وهنا قال الرسول ما معناه — وقد نزل الوحي مُصدِّقًا لقول عمر: «لو أن عذاب الله قد نزل بهذه الأمة ما نجا غير عمر»؛ إذ قد نزلت الآية الشريفة في هذه المسألة، تقول: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ.

وإذن فقد جاءت هذه الآية مؤيدة لرأي عمر، ولا عجب، أليس هو ينظر بنور الله؟

عظمة عمر

لم يحدثنا التاريخ منذ أبعد عصوره الغابرة، ولن يحدثنا في الأجيال المقبلة، بعظمة كعظمة عمر، فإنه ما من ملك من ملوك العالم، ولا إمبراطور من أباطرة الدنيا، ولا قيصر من القياصرة، ولا كسرى من الأكاسرة جمع المواهب العالية التي توفرت في عمر.

ولو زعموا أن قد كان هنالك في زمن من الأزمان ملك جمع عشر معشار مواهب عمر ومزاياه، فقد كان ذلك الملك، أو ذلك الكسرى ربيب حضارة ومدنيَّة، أما عمر فقد نبت في الصحراء الجدباء، وسط جهالة وضلالة، فمن أين جاءت له العظمة في كل شيء؟ ومن هو ذا الذي يضارع عمر؟ إننا لا نرى من يدانيه في عدله، ولا في بطولته، ولا في شجاعته، ولا في حكمته، ولا في إدارته، ولا في سياسته، ولا في قيادته، ولا في عظمة دولته وإمبراطوريته.

عمر ينظم الدولة

عاد المدعي، فأخذ يُربت على كتفي وهو يقول: «أفِق يا هذا وردِّد الأدعية التي أتلوها، عليك.»

ثم أخذ يتلو، وأنا في شغلٍ شاغل عنه.

كنت أرى بعيني مخيلتي عمر، وقد جمع مجلس الدولة الأعلى، وكان مؤلَّفًا من: عثمان، وعلي، والعباس، وولده عبد الله، وبعض الصحابة أمثال: خالد بن الوليد، وعبيد الله بن الجراح، ويسألهم: هذا هو مال المسلمين يزداد بسعة الفتح، وقد بلغ ملايين الدنانير، فماذا عسى أن نصنع؟ إنه ليؤلف وزارة للمالية، ثم يجمع المجلس ويستشيره في تعيين عُمَّال على الإيالات، وقضاة، ويجعل على أولئك مفتشين.

إنه لنظام في السياسة والإدارة، دقيق محكم، ليس كمثله نظام حتى في هذا العصر الذي زعموا أنه عصر العلم والحضارة العظمى.

كان أول ما أخذ عمر به نفسه ذلك العهد الذي قطعه على نفسه في أول خطبة بعد تولِّيه الخلافة، فقد قال:

إنما مَثل العرب كمثل جمل أَنِفٍ اتبع قائده، فلينظر قائده أين يقوده؟ أما أنا، فورب الكعبة لأحملنكم على الطريق.

التفتيش على الحكام

رأى عمر أن يجعل مصاريف سرية لقواد الجيش، وكانت تبلغ في بعض الأحايين عشرات الألوف من الدنانير، وقد بلغه أن خالد بن الوليد أنفق عشرة آلاف درهم قد منحها لأحد الشعراء، وهو الأشعث بن قيس، فأرسل إليه يعزله بعد التحقيق معه، فمن ذا عساه قد أرسل؟

إنه أرسل بلالًا.

قال خالد: وأمسك بلال بعنقي وعقلني بعمامته وهو يقول: «إن أمير المؤمنين يريد أن يعرف كيف تنفق أموال المسلمين؟»

فقلت: «إنه من مالي الخاص.»

ولكن عمر يعزل خالدًا، فسألوه في ذلك قائلين: «إن المال الذي أنفقه خالد هو من ماله الخاص، فلماذا تعزله؟» قال: «لكيلا يعتقد الناس أن النصر بيد خالد!»

ويرضى خالد بأن ينزل حتى يصير ضابطًا بسيطًا بعد أن كان قائدًا، بل أميرًا كبيرًا من أمراء الجيوش، فالله أكبر! ما أعظم هذه الطاعة! بل ما أعظم عدل عمر وأبلغ حكمته.

•••

وجاءت في حق سعيد بن حذيم والي حمص شكاية من الأهلين، فأرسل عمر في طلب رهط منهم، كما أرسل في طلب سعيد، واستوضحهم أسباب شكواهم في مواجهة واليهم، فقالوا: «إنه لا يخرج إلينا إلا بعد أن ترتفع الشمس قيد نخلتين، وإنه لا يخرج ليلًا قط، وإنه يمتنع عنا من يوم الخميس عصرًا إلى ما قبل صلاة الجمعة.»

وسكت سعيد، فالتفت إليه أمير المؤمنين عمر.

قال الوالي: «يا أمير المؤمنين، ليس عندي خادم يساعد أهل البيت؛ ولذلك أنا مجبر على أن أعاونهم حتى أنتهي في الضحى، أما امتناعي من الخروج ليلًا فقد جعلت النهار لهم، والليل لله سبحانه وتعالى أتعبده فيه، ويأخذ جسمي في بعضه قسطه من الراحة، وأما امتناعي عن الخروج من عصر الخميس إلى ما قبل صلاة الجمعة؛ فذلك لأني أغسل ثيابي وأنتظر حتى تجف، فأخرج للصلاة ثم أتفقَّد شئونهم.»

فانظروا كيف كان الولاة في عهد عمر، بل انظروا كيف كان عمر يحمل أمته على الطريق!

•••

جاءه مرة أن سعد بن أبي وقاص والي الكوفة قد شيَّد الكوفة تشييدًا هندسيًّا بديعًا، وشيَّد لنفسه دارًا للإمارة وعليها باب، فاستشاط عمر غيظًا وغضبًا، وأرسل إلى سعد جنديًّا بسيطًا، وقال له: «اذهب وأحرق باب الأمير.»

أجل، كان العرب هندسيين، خططوا المدن، ولكنهم كانوا يتمشون على سنن الديمقراطية، فقد كانوا يعرفون أنهم خدم الشعب، لا ينبغي أن يحتجبوا عن الشعب بأبواب.

الحكام والنزاهة وعدالتهم

كان عمر يحصي أموال عماله حين يوليهم، فإذا زادت أموالهم أضاف الزيادة إلى بيت المال؛ لأن الأمراء والحكام والولاة لا ينبغي أن يُثروا وهم في خدمة الشعب من أموال الشعب.

لقد خطب عمر الناس، فقال:

يا أيها الناس! إني، والله، ما أرسل عمالي إليكم ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم، ولكني أرسلهم إليكم ليعلموكم دينكم وسنتكم، ويقضوا بينكم بالحق، ويحكموا بينكم بالعدل، فمن فُعِلَ به شيء سوى ذلك فليرفعه إليَّ، فوالذي نفس عمر بيده لأُقِصَّنَّهُ منه.

ووثب عمرو بن العاص، فقال: يا أمير المؤمنين، أرأيت إن كان رجل من أمراء المسلمين على رعيته فأدَّب بعض رعيته، إنك لتقصه منه؟

قال عمر: إِي والذي نفس عمر بيده، إذن لأقصنه منه، وكيف لا أقصه منه وقد رأيت رسول الله يقتص من نفسه؟! ألا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم، ولا تُجَمِّرُوهم فتفتنوهم، ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم، ولا تنزلوهم الغياض فتضيعوهم.

كان عمر إذا بعث عماله اشترط عليهم: «أن لا تركبوا برذونًا، ولا تأكلوا نقيًّا، ولا تلبسوا رقيقًا، ولا تغلقوا أبوابكم دون حوائج الناس، إن فعلتم شيئًا من ذلك حلَّت بكم العقوبة.»

القضاء في عهد عمر

كان عمر أرحم على العدل من الرحمة ذاتها؛ ولذلك جعل إلى جانب عماله قضاة خصَّهم بالفصل بين الناس بالحق، وكان يُرسل إليهم الأوامر التي تعتبر لائحة داخلية للقضاء، بل إنها لخير اللوائح والقوانين، وإليكم مثالًا من هذه الأوامر بعث به إلى أبي موسى الأشعري، وهو من نعرف عدلًا وحكمة وحسن بلاء في الحروب، قال عمر:

بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس

سلامٌ عليك، أما بعد: فإن القضاء فريضة مُحكمة، وسُنة متبعة، فافهم إذا أُدلي إليك، فإنه لا ينفع تكلُّم بحقٍ لا نفاذ له، آسِ بين الناس في وجهك وعَدْلِكَ ومجلسك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك، البينة على من ادَّعى، واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحًا أحلَّ حرامًا، أو حرَّم حلالًا، لا يمنعك قضاء قضيته اليوم، فراجعت فيه عَقْلَكَ، وهُدِيتَ فيه لرشدك أن ترجع إلى الحقِّ، فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خيرٌ من التمادي في الباطل. الفهم! الفهم! فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سُنة، ثم اعْرِف الأشباه والأمثال، فقِس الأمور عند ذلك، واعْمد إلى أقربها إلى الله وأشبهها. واجعل لمن ادَّعى حقًّا غائبًا حَدًّا ينتهي إليه، فإن أحضر بيِّنته، وإلا استحْللت عليه القضيَّة، فإنه أنفى للشك، وأجْلى للعَمَى. المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودًا في حدٍّ، أو مُجَرَّبًا عليه شهادة زور، أو ظَنِينًا في ولاء أو نسب، فإن الله تولى منكم السَّرائر، ودرأ بالبينات والأيمان، وإياك والقلق والضجر والتأذي بالخصوم، والتنكُّر عند الخصومات، فإن الحق في مواطن الحق يعظم به الله الأجر، أو يحسن به الذكر، فمن صحت نيته وأقبل على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تخلَّق للناس بما يعلم الله أنه ليس من نفسه شانه الله، فما ظنك بثواب الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته، والسلام.

حقًّا إن هذه هي أسس العدل، وقد أنشأ عمر مملكته عليها، والعدل أساس الملك.

عمر والمساواة بين الرعية

ثم مثل لي عمر، وكيف كان لا يعرف طريقًا لمجاملة كبير، فالأمير والحقير لديه سِيَّان، وابن الأمير لا يعلو على ابن الصغير، ثم ذكرت ما حدث من اعتداء ابن عمرو بن العاص على ابن رجل فقير في مصر، وحضور الرجل وابنه إلى المدينة؛ حيث شكا الوالد أمر ولده إلى أمير المؤمنين الذي استقدم عمرو بن العاص وابنه، فلما مَثَلَا بين يديه في مواجهة شاكييهما، وأدلى الرجل بشكايته، أمر عمر ولد الرجل أن يضرب ابن عمرو بن العاص وإن كان أبوه حاكمًا.

وما كان عمر يرضى أن يغتصب الحكام أراضي الرعية أو أموالهم، فقد حدث أن جار عمرو بن العاص على قطعة أرض لامرأة عجوز مسكينة قبطية، وضمها إلى الأرض التي شيَّد عليها مسجده، فجاءت المرأة إلى المدينة تسعى، فلما قابلت أمير المؤمنين وأفضت له بغصب أرضها بفعل عامله عمرو بن العاص، كتب إليه عمر يقول بعد حمد الله والثناء عليه:

يا ابن العاص، نحن أحق بالعدل من كسرى.

فلما عادت المرأة إلى مصر وأعطت ابن العاص كتاب عمر، وضعه على رأسه إكبارًا وإجلالًا، وأعطى المرأة عشرة أمثال ثمن أرضها.

عمر وعزوفه عن مال المسلمين

وتمثل في خاطري كيف كان عمر يقتر على نفسه؛ إذ كان يتقاضى من بيت مال المسلمين ما دون كفايته وأهله، إلى حد أنه كان يقترض من أمين بيت المال، فإذا تناول راتب الشهر وفَّى بما عليه من دين لهذا الأمين.

وذكرت ما كان من أمر بعض أصحاب رسول الله وإشفاقهم على ما وصلت إليه حالة عمر من الضيق وجهد العيش، وكيف اجتمعوا، ومنهم عثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وأتوا أم المؤمنين حفصة بنت عمر رضي الله عنها فأبلغوها بما اعتزموا عمله، وهو زيادة راتب أمير المؤمنين، وطلبوا منها ألا تبلغ أباها، ولكن حفصة أبلغَتْ والدها، فغضب وقال: «مَن هؤلاء؟! لأسوأنَّهم.» قالت: «لا سبيل إلى معرفتهم»، قال لها متسائلًا: ما أفضل ما اقتنى الرسول من الملابس؟

قالت: «ثوبان كان يلبسهما للوفد والجمع.»

– وأيُّ طعام أصابه أحسن؟

– صرف من شعير يُطهى فيكون دسمًا حلوًا.

– فأيُّ مبسط له كان أوطأ؟

– كساء ثخين نربعه في الصيف، فإذا جاء الشتاء بسطنا نصفه وتدثَّرنا بنصفه.

– إذن فأبلغيهم يا حفصة أن رسول الله قدَّر فوضع الأمور في مواضعها، وتبلَّغ بالترجية، وإنما مثلي ومثل صاحبَي كثلاثة سلكوا طريقًا، فمضى الأول لسبيله وقد تزوَّد فبلغ المنزل، ثم اتَّبعه الآخر فسلك سبيله فأفضى إليه، ثم اتَّبعهما الثالث، فإن لزم طريقهما، ورضي بزادهما لحق بهما، وإن سلك طريقًا غير طريقهما لم يلقهما.

•••

وذكرت كيف كان عمر يطبِّع ولديه: عبد الله، وعبيد الله، وزوجه على طبعه، كما طبَّع ولاته وعماله أيضًا على الزهد والعزوف عن مال المسلمين.

ولقد روى مالك١ أن عبد الله وعبيد الله ابني عمر خرجا في جيشٍ إلى العراق، فلما قفلا مرَّا على أبي موسى الأشعري، وهو أمير البصرة، فرحَّب بهما وسهَّل، ثم قال: «لو أقدر لكما على أمرٍ أنفعكما به؟» ثم قال: «بلى، ها هنا مال من مال الله، أريد أن أبعث به إلى أمير المؤمنين، فأسلفكماه فتبتاعان به متاعًا من متاع العراق، ثم تبيعانه في المدينة، فتؤدِّيان رأس المال إلى أمير المؤمنين، ويكون لكما الربح»، فقالا: «وددنا ذلك»، ففعل، وكتب إلى عمر بن الخطاب أن يأخذ منهما المال، فلما قدما المدينة باعا وربحا، فلما دفعا المال إلى والدهما قال: «ابنا أمير المؤمنين يستغلان مال المسلمين! أدِّيا المال وربحه»، فأما عبد الله فسكت، وأما عبيد الله فقال: «ما ينبغي لك يا أمير المؤمنين هذا، لو نقص هذا المال أو هلك لضمنَّاه.» فقال عمر: «أدِّيا …» فسكت عبد الله، وراجعه عبيد الله، فقال رجل من جلسائه: «يا أمير المؤمنين، لو جعلته قراضًا؟»

فأخذ عمر رأس المال ونصف ربحه، وأخذ عبد الله وعبيد الله النصف الآخر من الربح.

هذا عن ولديه، أما عن زوجه فقد مرَّ بخاطري كيف حدث أنه بعد أن تم الصلح بينه وبين ملك الروم وأخذت العلاقات الودية تتمكَّن أواصرها بينهما، أهدت امرأته بعض الطيب والمشارب إلى امرأة ملك الروم، فجمعت هذه نساءها واستشارتهن فيما تقدمه لامرأة عمر من الهدايا، فأشرن عليها ببعض الهدايا، وكان منها عقد فاخر، فلما رآه عمر أخذه وأمر بالصلاة الجامعة، فاجتمع المسلمون وصلى بهم ركعتين، وقال: «إنه لا خير في أمرٍ أُبرِمَ عن غير شورى من أموري، قولوا لي في هدية أهدتها أم كلثوم (أعني امرأته) لامرأة ملك الروم، فأهدت لها امرأة ملك الروم عقدًا؟» فقال قائلون: هو لها. فرد عليهم بقوله: «ولكن البريد (الذي أتى بالهدية) بريد المسلمين، والرسول رسولهم، والمسلمون عظموها في صدرها.» ثم أمر بها لبيت مال المسلمين.

اغتيال عمر

ذكرتُ كل ذلك عن عمر، وهو قطرة من محيط في التحدُّث عن خلقه العالي، وعدله الذي لا يُجارى، وذكرت كيف قُتل غيلة وغدرًا.

قتل عمر

رأيتُ بعيني مخيلتي كيف لمَّا كان الصبح يومًا من الأيام، وخرج عمر للصلاة، ثم دخل المسجد بعد أن استوَتْ صفوف المصلين، وجاء فكبَّر … وكيف دخل أبو لؤلؤة في الناس وفي يده خنجر له رأسان، نصابه في وسطه، فضرب عمر ست ضربات إحداهن تحت سرته، وهي التي قتلته، وقُتل معه كُليب بن أبي بكير الليثي، وكان خلفه. فلما وجد عمر حر السلاح سقط، وقال: «أفي الناس عبد الرحمن بن عوف؟» قالوا: نعم، هو ذا، قال: «تقدَّم فصلِّ»، فصلى عبد الرحمن بن عوف وعمر طريح، ثم احتُمِل فأُدخِل داره، ثم دُعِيَ له الطبيب، فقال: «أيُّ الشراب أحب إليه؟» فجيء له بنقيع التمر فسقاه، فخرج على حاله من الجرح، ثم سقاه اللبن، فخرج على حاله، فأيقن أنه ميت، ولم يجد للقضاء حيلة.

وقد توفي عمر لثلاث ليالٍ بقين من ذي الحجة، ودُفن صبيحة يوم الأربعاء في حجرة عائشة مع صاحبيه محمد وأبي بكر، بعد أن استأذن عائشة في ذلك بعد أن طُعِن.

١  نقلًا عن الموطَّأ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤