مُقدِّمة

figure
مدارس أثينا. تبين الصورة مجموعة من فلاسفة المدارس الفلسفية اليونانية المختلفة (بريشة رفائيل).

(١) كيف بدأت الفلسفة

لم يكد يظهر الإنسان على وجه الأرض، حتى دأب يسعى ويلح في السعي كلما ألحت عليه غريزة حب البقاء، ولم تكن الحياة حين ألقت به سخية كريمة، فلم تبسط يدها في العطاء بحيث تمنحه من قوى الفكر ما يحصل به ضرورات العيش ويرد به عادية الطبيعة في سهولة ويسر، بل كانت مقترة مسرفة في التقتير، اكتفت من ذلك بالحد الأدنى الذي يحتمه مجرد البقاء، فجاء الإنسان وكل بضاعته من التفكير شعاع خافت ضئيل، يعينه على جمع القوت، وتحصيل الضروري من أسباب الحياة.

ولكن الزمان الذي يغير كل شيء، قد أخذ بيد الإنسان فأخرجه قليلًا قليلًا من تلك الحياة التي كانت تقنع بدفع الخطر، وما زال به حتى شحذ مواهبه، ووسع من نطاق إدراكه، فمرن على القيام بأعباء الحياة، ولم يعد يصدر في ذلك عن شعور ووعي يستنفدان كل ما يملك من قوة ومجهود، ثم لا يبقى له من دهره شيء، بل أصبح كثيرٌ من شئون العيش عادة آلية يديرها اللاشعور، وبذلك استطاع أن يظفر بشيء من الفراغ الفينة بعد الفينة، ينعم به بعد جهد العيش الجهيد، فأخذ يحلم بهذا الكون الذي يحيط به، والذي يبعث في النفس اللذة والخوف في آن واحد، ولكن ماذا عساه أن يقول عن ظواهر الكون لكي يُرضي خياله الساذج الغرير سوى أساطير ينسجها له الخيال فيرويها، لتكون له عقيدة وأدبًا وعلمًا وما شئت من فنون الإنتاج، وهكذا كانت «الميثولوجيا»١ أول الأمر، ثم يمضي الزمن ويمعن في مُضِيِّه، فيدفع معه في تياره الجارف هذا الإنسان، فإذا الخيال تضيق دائرته وتضيق، وإذا العقل يتسع ويتسع، ثم إذا بالإنسان قد هانت عليه أعباء الحياة، وخف عنه العذاب الذي كانت تسلطه عليه الضرورات ليدأب في جمع القوت ودرء الخطر، واستقبل عهدًا جديدًا رأى فيه اللذة والفراغ بجانب عناء العمل، وانتقل من حياة تملؤها الضرورات القاسية، إلى حياة يمازجها شيء من ترف الفكر وإبداع الفن، وإذ ذاك تغير موقفه، فلم يعد عبدًا يذله قانون الحياة وكفى، عليه أن يستمع لأمره فيطيع، بل أخذ يساهم في تعديل قانون الحياة، وأخذ يفكر في خلق السموات والأرض، ويُسائل نفسه: لماذا كان هذا هكذا ولم يكن غيره؟ وكيف نشأ ذلك كذلك؟ فبدأت بذلك الفلسفة.

(٢) متى بدأت الفلسفة

كانت قيادة الفكر عند الأمة اليونانية منذ القرن العاشر قبل ميلاد المسيح في أيدي الشعر والشعراء، وكانت السيادة فيه لهذا الخيال الرائع الذي تراه في الشعر، والذي يستهوي الأمة في مراحل الطفولة، فكانت قصائد هومر Homer،٢ وهزيود Hesiod٣ شائعة ذائعة بين الناس يحفظونها وينشدونها، فلما كان القرن السادس قبل الميلاد حدث في الأمة اليونانية انقلاب خطير كان عظيم الأثر في شتى نواحي الحياة، وكان الطابع الذي وُسم به ذلك الانقلاب هو حرية الفرد وظهور شخصيته، فقد بسط اليونان سلطانهم على البلاد المجاورة، واتسعت أملاكهم اتساعًا عظيمًا، أدى إلى هجرة اليونان أفواجًا إلى مستعمراتهم الجديدة، فخالطوا شعوبها ودرسوا ما لها من أخلاق وعادات تباين ما ألفوه في بلادهم، فوسع ذلك من أفقهم القصصي، واقترن ذلك التوسع في الاستعمار بانقلاب سياسي واجتماعي في بلاد اليونان نفسها؛ إذ بدأت سلطة الأشراف تتزعزع وتميل إلى السقوط، وساعد على ذلك نظام جديد اصطنعه اليونان في معاملتهم الاقتصادية، أعني نظام النقد الذي استبدلوه بنظام المقايضة أو تبادل السلع، ونشأ عن هذا التطور الاقتصادي طبقة جديدة موسرة، تنافس هؤلاء النبلاء الذين ورثوا ضياعهم عن آبائهم، وما هو إلا أن نشب بين الفريقين — النبلاء من ناحية، وباقي الشعب من ناحية أخرى — عراك حاد عنيف، انتهى بسيادة الطبقة الجديدة، فانتصرت الديمقراطية، واعتز أفراد الشعب بحريتهم التي ناضلوا من أجلها عصرًا طويلًا، وأخذوا يرقبون عن كثب شئون البلاد بأنفسهم.

وظهرت شخصية الفرد في الشعر كما ظهرت في السياسة، فقد كان الشعراء من قبل ينظمون القصائد دون أن ينفسوا عن مشاعرهم المكبوتة في صدورهم، فهذا «هومر» يقص عليك أقاصيص الأبطال وأساطير الآلهة مستقلة عن نفسه، فكان من أثر هذا الانقلاب أن ظهر عنصر جديد في الشعر أُضيف إلى تلك الملاحم القديمة، هو الشعر الغنائي الذي هو أشد فنون الشعر اتصالًا بالنفس، فتغير موقف الشاعر عما كان عليه من قبل، واتسع المجال أمامه لخلجات نفسه، وانفعالات حسه، بل أصبحت عواطف الشاعر هي المحور الذي تدور عليه القصيدة الغنائية كلها، وبهذا ظهرت شخصيته ظهورًا لا تخطئه الأبصار والأسماع.

ولم ينجُ الدين عند اليونان من هذه الغزوة الفردية، فقُلبت بعض أوضاعه القديمة، وأُزيح من الطريق كل ما يحول بين الشخص وآلهته، فأصبح اتصاله بها مباشرًا، لا يحتاج إلى وساطة الوسطاء.

انقلاب في الاجتماع، وانقلاب في الاقتصاد، وانقلاب في الفن، وانقلاب في الدين، أدى كله إلى ظهور الشخصية الفردية، وانتقل بالإنسان خطوة فكرية جديدة جريئة، من رواية الأساطير وقصص القصص إلى العلم والتفكير، ولم يعد يطمئن إلى تقديس الكون وعبادة ظواهره، فأخذ يبحث عن عللها وأسبابها لكي يُرضي منطقه الجديد المستقيم، وهو إِلَّا يكنْ قد بلغ في ذلك أول الأمر مبلغًا كبيرًا، فقد جمع لنفسه طائفة قيمة من المعلومات الصحيحة، كانت ينبوعًا تفجرت منه الفلسفة في القرن السادس قبل الميلاد.

(٣) معنى الفلسفة

وما دمنا قد تعرضنا لمعنى الفلسفة وحدودها، فجدير بنا أن نحاول وضع حد فاصل بين الفلسفة وما عداها من صنوف العلم والمعرفة ونبين عم تبحث، وفيم تتحدث؟ وهل نستطيع أن نضع لها تعريفًا جامعًا مانعًا تُجمِع على صحته المذاهب الفلسفية المختلفة؟

أما التعريف الجامع المانع فشاقٌّ عسير، بل هو متعذر مستحيل في الفلسفة، وإن كان هينًا يسيرًا في العلم؛ ذلك لأن كلمة الفلسفة لم تستقر على مدلول واحد طوال العصور، إنما اختلف معناها اختلافًا بعيدًا، كما اختلفت مباحثها اختلافًا أبعد، فقد كانت في بدء حياتها أمًّا رءومًا تضم إلى صدرها أنواع المعرفة جميعًا، ولكن أخذ صغارها — كلما تقادم العهد — يشتد ساعدها وتزداد رشدًا، حتى نمت نموًّا أدى بها إلى اعتزال ذلك الصدر الحنون، والاتجاه نحو الاستقلال في البحث … فقد كانت علوم الطبيعة والفلك والنفس فصولًا من مبحث واحد — هو الفلسفة — فلما اكتمل نموها أصبحت علومًا مستقلة كما نراها اليوم، وإذن فتعريف الفلسفة اليونانية لا يصدق على الفلسفة الحديثة بحال من الأحوال.

ومما يزيد الأمر عسرًا أنَّ وجهة النظر قد تباينت في المذاهب المختلفة، فكان لكل منها تعريف يلائم وجهة نظرها، فمثلًا يعرف بعضهم الفلسفة بأنها «تَعَرُّف الموجود المطلَق»، وبالطبع ينكر أشياع المذهب المادي هذا التعريف إنكارًا تامًّا؛ لأن ذلك الموجود المطلق المجرد عن المادة ليس له حقيقة في نظرهم، كما يرفضه «سبنسر»؛ إذ يرى أنه — وإن كان ذلك المطلق موجودًا حقًّا — يستحيل على العقل البشري أن يعلم من أمره شيئًا، وإذن فمن العبث أن يكون غرضًا تنشده الفلسفة، وأخيرًا نرى من الفلاسفة المحدثين من يمجُّ هذا البحث ولا يسيغه، فسواء لدى هؤلاء أكان ذلك المطلق موجودًا أم غير موجود، وسواء لديهم أكانت معرفته في مقدور البشر أم فوق مقدورهم، فليست تجدي معرفته نفعًا، ومن الغفلة أن ببذل الإنسان من وقته وجهده ذرة في هذه السبيل، وينبغي للفلسفة أن تولي وجهها شطرًا آخر.

فهذه مذاهب أربعة، ينكر المذهب منها ما يثبته الآخر، فكيف تستطيع أن تؤلف بين هذه المذاهب المتناكرة في تعريف واحد؟ وإذن فلن نسوق إلى القارئ تعريفًا للفلسفة؛ لأنه مستحيل أو عسير، وهب أنه هين ميسور، أفلا يكون افتياتًا على حقه أن نسارع إلى إثبات التعريف له في طليعة الكتاب دون أن يلم بالمذاهب الفلسفية المختلفة إلمامًا ما؟ أولم يكن من حقه أن نقدم إليه تلك المذاهب مبسوطة مشروحة، حتى إذا ما فرغ من دراستها كان له أن يشاطر في تكوين الحكم وصوغ التعريف؟

(٤) الفرق بين الفلسفة والعلم

ولكن إذا تركنا الآن تعريف الفلسفة فلا أقل من أن نسوق إلى القارئ بعض معالمها التي تميزها عن فروع المعرفة الأخرى كي يستعين بها على تكوين الرأي وفهم الموضوع، ولعل أول ما يخطر من تلك الفروق الأساسية التي تفصل بين الفلسفة والعلوم الأخرى: أن كل علم يلتزم جانبًا واحدًا من الكون يختصه بالبحث والدراسة، ولا يكاد يمس الجوانب الأخرى، فأما الفلسفة فتتخذ من الكون بأسره موضوعًا لدرسها، وهي تنشد توحيد المعرفة ما استطاعت إليه سبيلًا، فهذا علم النبات لا يعدو دائرة النبات، وهذا علم الفلك لا يتجاوز أجرام السماء، وتلك الجيولوجيا تقنع بطبقات القشرة الأرضية، وقل مثل ذلك في كل العلوم، أما الفلسفة فلا تكفيها أجرام السماء ولا ظواهر الأرض، بل تتسع وتسعى لتركز الكون كله في قضية واحدة تكون مدار بحثها، فإذا كانت العلوم تُجْمِل ألوف الجزئيات في قانون واحد فإن الفلسفة تحاول أن تجمل هذه العلوم نفسها وتخضعها جميعًا لقانون واحد.

ولما كانت العلوم كما ترى لا تتعقب ظواهر الوجود لتردها جميعًا إلى أصل واحد، وقف كل منها في بحثه عند حد يرسمه لنفسه، ويتخذه أساسًا لدراسته، مسلمًا بصحته، ولم يحاول أن يسير خطوة واحدة وراء ذلك الحد المرسوم، أما الفلسفة فلا تجيز لنفسها أن تقف في بحثها عند عنصر من العناصر، أو ظاهرة من الظواهر، دون أن تحاول تذليلها وتحليلها، ثم تجاوزها إلى ما بعدها، وهكذا إلى أن تصل إلى المبدأ الأول الذي يدور حوله الوجود بأسره، وإذن فالفلسفة تبدأ سيرها حيث ينتهي شوط العلوم، وهاك أمثلة توضح ما نريد:

يبحث علم الهندسة في قوانين المكان، فعالم الهندسة يفرض وجود المكان، ثم يبني على هذا الفرض قوانينه المختلفة، ولكن هل سمعت عالم هندسة وقف يسائل نفسه ما المكان؟ وهل أجاز لنفسه الشك في أن يكون ثمت مكان في العالم الخارجي؟ كلا، فهو يفرض صحته أولًا بحيث لا يحتاج في وجوده إلى الدليل والبرهان، أما الفيلسوف فيبدأ عمله حيث انتهى زميله العالم، فهو يستهل دراسته بهذا السؤال: ما حقيقة هذا المكان الذي فرضه العلم؟ ثم يظل يتابع البحث لعله يدرك حقيقته، كي يؤلف منه ومن ظواهر الوجود الأخرى وحدة شاملة، كذلك تفرض الهندسة طائفة من البَدائِه لا تُجوِّز أن تكون محلًّا للجدل والشك: فالكميات المتساوية إذا أُضيفت إلى كميات متساوية أنتجت كميات متساوية، والخطان المتوازيان لا يتلاقيان مهما امتدا، وما إلى ذلك مما هو مشهور عند طلاب الهندسة، نعم يصر العلم على أن الخطَّيْن المتوازيَيْن لا يلتقيان في كل مكان وفي كل زمان، هما لا يتلاقيان الآن، ولم يتلاقيا يومًا منذ الأزل، ولن يتلاقيا يومًا إلى آخر الأبد، هما لا يتلاقيان فوق الأرض، ولا يتلاقيان على سطح المريخ أو القمر، بل لا يتلاقيان على الكواكب التي لم يدركها البصر … ما أعجب العلم في أحكامه! فمن أدراه بهذا؟ وكيف أطلق حكمه هذا في يقين لا يعرف الشك، مع أنه لم يرَ إلا عددًا قليلًا من الخطوط المتوازية لا تصلح مطلقًا أن تكون أساسًا للحكم على كل الخطوط المتوازية فوق الأرض وحدها، وفي هذا الزمان وحده، فضلًا عن الماضي والمستقبل، وعن القمر والمريخ وما لا يدركه البصر من الكواكب؟! ولكن هذا الذي أقنع العلم لن يرضي الفلسفة، هي لا تطمئن إلى هذا الركون والركود، ولا تستقر إلا إذا وجدت للظواهر ما يؤيدها تأييدًا ثابتًا تامًّا.

وكما يسلم علماء الهندسة بوجود المكان تسليمًا لا يحتمل الشك، كذلك نرى علماء الطبيعة يفرضون وجود المادة فرضًا لا يعوزه الدليل، ثم يقيمون عليها أبحاثهم حتى يخلصوا إلى طائفة من القوانين تتحكم في المادة، فهم يقولون مثلًا إن المادة تَمْتَدُّ بالحرارة وتنكمش بالبرودة … ولكن هل شهدت عالم طبيعة وقف عند المادة وقفة قصيرة يُسائل نفسه عن جوهر الوجود المادي، ويتردد كثيرًا، ويشك طويلًا في وجودها، ويقول باحتمال ألا يكون ثمت مادة إلا في وهم الإنسان؟ كلا، فمنتهى ما يبلغ إليه العلم الطبيعي في بحثه أن يحاول تحليل المادة إلى عناصرها الأولى، فهي كهرباء، أو هي أثير، أو هي ذرات، إلى آخر هذه الفروض التي تقوم كلها على أساس واحد، وهو أن المادة موجودة فعلًا وليس في وجودها شك ولا ريب.

وليس هذا التسليم المطمئن قاصرًا على علمَي الهندسة والطبيعة إنما هو سمة تراها في العلوم جميعًا، خذ مثلًا آخر: قانون السببية الذي هو من أكثر العلوم بمثابة الأساس من البناء، إذا تحطم الأساس انهار في أثره البناء، ذلك أن العلم يبحث طائفة من الظواهر، فإذا اتفقت كلها على نتيجة واحدة أيقن أن كل ما يطرأ على العالم من ظواهر هذه الفصيلة لا بُدَّ أن تنتهي إلى النتيجة نفسها، ما دامت الظروف الملابسة ثابتة لم تتغير: فعلم الحيوان مثلًا يقرر أن الجمل حيوان آكل للعشب، وهو لا يقصر الحكم على الجمال التي تعيش بين ظهرانينا، والتي يمكن أن تُجرى عليها التجربة، بل يسحب حكمه على الماضي، ويصبه على المستقبل، دون أن تساوره خلجة من الشك في صحة هذا القانون، وكل وثائقه التي يقدمها إليك إن طالبته بالدليل هو أنه أقام التجربة على طائفة كبيرة من الجمال فألفاها تأكل العشب ولا تأكل اللحم، وبناءً على قانون السببية لا بُدَّ أن يكون كل جمل كذلك بغض النظر عن الزمان والمكان!

سَلِ العلم عن خصائص الماء، يُجِبْكَ أنه يتجمد في درجة الصفر، وهو كذلك يبني حكمه على قانون السببية، فما دام الماء الذي وقع تحت نظره يتجمد في درجة الصفر فلا بد أن يصدق هذا الحكم على كل ماء في كل زمان وفي كل مكان … إذن فقانون السببية بديهي عند العلم لا يجوز فيه البحث، وهولا يطيق أن يسمع منك أن هذا القانون قد يكون خطأ من أساسه، ومن الجائز ألا يتسع إلى درجة الشمول المطلق، فهو يلقي بهذه المشكلات الملتوية على عاتق الفلسفة تضطلع بها دونه.

تَرى من هذا كله أن العلوم على اختلافها تفرض وجود الكون، وتُسَلِّم ببعض الأسس تتخذها مبدأ لأبحاثها، فأما الفلسفة فتنكر هذا التسليم أشد إنكار، وتصر على أن تغوص إلى أبعد الأغوار، حتى تصل إلى جوهر الوجود، وهي لا تجيز لنفسها أن تركن إلى حكم من الأحكام بالغًا ما بلغ من القوة والذيوع، إلا إذا أيده الدليل القاطع، بل هي لا تقف عند هذا، ولكنها تُسائل عن سبب الوجود وخلقه، وعن الأصل الذي عنه انبعثت الكائنات جميعًا، أهو عنصر واحد أم أكثر؟ أهو مادة أم روح أم شيء يخالف المادة والروح معًا؟ وإن كان مادة فكيف انبثق منه الروح، وإن كان روحًا فكيف صدرت عنه المادة؟ هو خير أم شر؟ وإن كان خيرًا فكيف أنشأ عنه ما نرى في العالم من شرور؟

وخلاصة القول أنَّ الفلسفة تختلف عن العلم في أنها تنظر إلى العالم كله كوحدة مترابطة متماسكة، تكون بأسرها موضوع بحثها، أي إنها لا تختص بالدراسة جانبًا من الكون دون جانب، كذلك لا ترضى الفلسفة أن تسلم بصحة مبدأ أو فكرة إلا إذا ثبتت لديها ثبوتًا لا يدع مجالًا للريب والشك، فهاتان صفتان تستطيع بهما أن تفرق بين الفلسفة والعلم.

ولا بأس من أن نشير إلى صفة ثالثة هي من أخص خصائص الفلسفة، وأعني بها «التجريد» أي إنها تحاول ما استطاعت ألا تربط الفكرة المعينة بجسم من الأجسام، بل تريد أن تصل إلى الأفكار الخالصة المجردة، وليس هذا هينًا ولا يسيرًا عند الكثرة الغالبة من أفراد البشر؛ لأن الإنسان مفطور بطبيعته أن يأخذ من العالم ما يصله عن طريق الحواس، ثم لا يكاد يصدق بعد ذلك شيئًا، وحتى لو اضْطُرَّ اضطرارًا إلى التفكير فيما لا يحس بإحدى الحواس، فإنه يحاول أن يصبغه بالصبغة المادية التي يفهمها عقله، فتراه مثلًا يصف الله تعالى بالنور؛ لكي يقرب إلى ذهنه صورة مجردة لا يقوى على فهمها في غير ثوبها المادي، وبديهي أن الله تعالى ليس نورًا — بمعنى الكلمة المادي — كما أنه ليس حرارة أو كهرباءً.

ولا تألو الفلسفة جهدًا في تحطيم هذه القيود، والارتفاع بالعقل البشري إلى مستوى يستطيع معه أن يسيغ الأفكار المجرد دون أن يلجأ إلى المادة يستعين بها على تصوير ما يريد.

(٥) أين بدأت الفلسفة

لعلك الآن في ضوء هذا التحليل الذي تقدمنا به إليك، تدرك معنا أن هذا الضرب من التفكير، الذي يحاول أن يوحِّد بين ظواهر الكون المتنافرة، والذي يرفض التسليم الساذج رفضًا تامًّا، والذي يسمو بالعقل فوق المستوى المادي من حيث أسلوب التفكير وصور الفكر، نقول لعلك تذهب إلى ما ذهبنا إليه، من أن هذا التفكير الفلسفي الصحيح، لم ينشأ ولم يَنْمُ إلا عند شعب واحد دون الشعوب القديمة جميعًا: هم اليونان القدماء.

إن كانت الفلسفة — كما قال بحق أفلاطون — تُبنى على المعارف العلمية الصحيحة، مهما تكن قليلة ضئيلة، فلا شك في أن بلاد اليونان كانت مهدها.

فقد عرفت الصين شيئًا كثيرًا عن مبادئ الأخلاق العلمية التي يستعين بها الناس على معرفة طرق العيش وفن الحياة، ولكنها لم تنظر إلى ظواهر الكون نظرة علمية باحثة، وسادت في فارس أفكار عن الخير والشر، ولكنها لم تتجاوز الرغبة في انتصار الخير على الشر فيما نشب بينهما من عراك، ولم تكن ثم دراسة عقلية تسير بالفكر نحو العلم الصحيح، وامتلأت الهند بالأساطير الدينية ولم تتناول بالدرس الدقيق ظواهر الكون.

نعم كان في مصر طائفة كبيرة من العقائد تدور حول النفس وما يطرأ على الحياة بعد الموت، ولكن لم يثبت أن كان لديها من العلوم الإيجابية النظرية شيء كثير، ولو عرف المصريون كثيرًا من علوم الرياضة لما رأينا في كتب فيثاغورس محاولات أولية للهندسة، مع العلم بأن عهده في التاريخ جاء بعد اتصال اليونان بالمصريين اتصالًا وثيقًا واستمدادهم من المصريين بعض معارفهم وحضارتهم، فليست القواعد العملية التي استعملها المصريون في أغراضهم كقياس الأرض وبناء الأهرام، هي العلم الذي قصده كوبرنيكس، وجاليلو، وكبلر، ونيوتن.

لم تستمد الفلسفة اليونانية فلسفتها من تلك الأمم القديمة، ولكن خلقها اليونان خلقًا، وأنشأوها إنشاءً، فهي وليدتهم وربيبتهم، ويستطيع الباحث أن يرجع بالفلسفة خطوة بعد خطوة حتى يصل إلى مهدها في بلاد اليونان دون أن يشعر في خلال البحث بحلقة مفقودة أو غامضة.

ونحن إذا ذكرنا بلاد اليونان في هذا المقام، لا نقصر هذا الاسم على هذه البلاد التي تُسمى به اليوم فحسب، إنما نضيف إليها المستعمرات اليونانية — وهي في الواقع مهد الفلسفة — فقد بسط اليونان نفوذهم ونشروا سلطانهم في آسيا الصغرى وجزيرة صقلية وجنوبي إيطاليا وجزء من شمال أفريقيا. في تلك المستعمرات وُلدت الفلسفة وشبت، قبل أن تنتقل إلى أرض اليونان نفسها، حيث وصلت على أيدي الفحول الثلاثة: سقراط وأفلاطون وأرسطو، إلى درجة عالية من النضوج.

ومرت الفلسفة عند اليونان في مراحل ثلاث: ما قبل سقراط، وفيها نشأت الفلسفة، ثم من السوفسطائيين إلى آخر عهد أرسطو، وفيها بلغت الفلسفة اليونانية رشدها، وأخيرًا ما بعد أرسطو حتى بدء العصور الوسطى، وفيها أخذت الفلسفة اليونانية في التدهور … ولكل مرحلة من هذه المراحل الثلاث سمات وصفات تظهرها وتميزها، سنحدثك عنها بعد.

١  الميثولوجيا: العلم الذي يبحث فيما رُوي عن الكون والآلهة والأبطال من أساطير، وقد يُطلق هذا الاسم على الأساطير نفسها.
٢  هومر Homer شاعر يوناني كبير عاش بين القرنين العاشر والحادي عشر قبل الميلاد، ضاع كثير من شعره، ولم يبقَ منه إلا الإلياذة والأوديسا.
٣  هزيود Hesiod شاعر يوناني عاش خلال القرن الثامن قبل الميلاد، وصل إلينا من شعره قصيدتان: «الأعمال والأيام» و«درع هرقليس».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤