الفصل الثالث عشر

الأبيقوريون

The Epicureans
figure
أبيقور.

أسس أبيقور مدرسته قبل أن يؤسس زينو مدرسته بسنة أو سنتين، فسارت المدرستان جنبًا إلى جنب متنافستَيْن تنافسًا شديدًا، على الرغم من أنهما تشتركان في كثير من المواضع.

وُلد أبيقور في ساموس سنة ٣٤٢ق.م، ولما بلغ عامه الثامن عشر انتقل إلى أثينا حيث قضى عامًا واحدًا، ثم قصد إلى كولوفون، وبقي فيها اثني عشر عامًا لا ينقطع عن الدراسة والبحث، معلمًا نفسه بنفسه، فلما أن كانت سنة ٣١٠ أسس مدرسة في ميتيلين Mitylenes، ثم نقلها إلى لمبساكوس Lampsacus وأخيرًا استقر في أثينا سنة ٣٠٦، وأقام المدرسة في داره وحديقته وأوصى قبل موته أن تُخَصَّص للمدرسة من بعده، ومن هنا أُطلق على تلاميذه الذين كانوا يوالون الحضور ويحرصون على الاستماع لحديثه اسم «فلاسفة الحديقة» وقد جمعت بين أفرادها كثيرًا من النساء والعبيد، هذا وقد اتصل أبيقور عن طريق الرسائل بأصدقائه في الخارج اتصالًا لم يفتر ولم ينقطع، يبادلهم الرأي والنظر، وكان أبيقور ذا شخصية محبوبة؛ إذ تعلق به تلاميذه تعلقًا مبعثه الإكبار الذي كاد يصل بهم إلى حد التقديس، وقد رسخت منزلته من نفوسهم رسوخًا لم يذهب به الموت، بل ازدادوا له بعد موته حبًّا وإجلالًا، وقد بقيت مدرسة أبيقور قائمة نحوًا من ستة قرون، وهو الذي وضع أساس مذهبه وأكمله، فلم يزد معتنقو مذهبه شيئًا ذا قيمة على ما وضعه هو، ولا غيروا من آرائه.

وقد ألف أبيقور فأفرط في التأليف؛ إذ أخرج نحوًا من ثلاثمائة مجلد، على أن يد الزمان قد عبثت بمعظمها فلم تُبْقِ لنا من ذلك الخضم الزاخر إلا قطرات ضئيلة، ومن أهم كتبه كتاب «في الطبيعة» ويقع في سبعة وثلاثين جزءًا، كذلك وضع ملخصًا لفلسفته في أربع وأربعين قضية أراد بها أن تُحْفَظ عن ظهر قلب، ولعل ذلك ما عمل على ذيوع آرائه وسيرورة كلماته بين الناس إلى عهد طويل بعد وفاته، وقد كتب نظرية المعرفة في كتاب عنوانه «القانون»، أما الأخلاق فأشهر كتبه التي وضعها فيها: «في الخير الأسمى» و«ما يجب أن نتجنبه» و«في أنواع الحياة».

(١) الفلسفة الأبيقورية

(١-١) نظرية المعرفة

لئن كان زينو رأس المدرسة الرواقية قد اعتبر الفلسفة سبيلًا تؤدي إلى غاية وراءها، هي الحياة العملية، فقد بالغ أبيقور في ذلك الرأي مبالغة عظيمة، حتى كاد ينبذ الأبحاث العلمية والرياضية نبذًا تامًّا، فهي عنده عبث لا غناء فيه، وليست تطابق الحقائق الواقعة في شيء، ولم يقدر من فروع الفلسفة إلا ما يبحث في الأخلاق ومعيارها الذي يُقاس به الخير والشر، أما علم الطبيعة فلا يُراد لذاته، ولكن لكي يقفنا على أسباب الأحداث الطبيعية حتى لا تعود تلقي في نفوسنا الرعب، ولا يكون للآلهة تلك الرهبة القديمة، ولا للموت ذلك الأسى المعهود، وأما البحث في الطبيعة البشرية فهو كذلك وسيلة لغاية؛ إذ يحلل لنا نفسية الإنسان فندرك رغباته الحقيقية، فنعلم ما هو خليق بالرغبة فيه، وما هو حقيق بالرغبة عنه.

على هذا الأساس بحث الأبيقوريون في الطبيعة الإنسانية، وانتهوا من بحثهم بنظرية يشرحون بها وصول المعرفة إلى الذهن، أساسها أن الأشياء الجزئية التي نصادفها في الحياة والتي تصلنا عن طريق الحواس هي وحدها الحقيقة، فكل ما تحوي رءوسنا من أفكار وآراء إن هي إلَّا سلسلة من الإدراكات الحسية التي انبعثت إلينا من الأشياء الخارجية، فانطبعت صورها في أذهاننا. وإذن فالإدراك الحسي هو وحده المقياس الذي نقيس به الحقائق النظرية، أما الجانب العملي من الحياة فمقياسه الشعور باللذة والألم.

وليس من شك في أن هذا الإدراك الحسي مقياس صحيح، فإن وَجَدَ الشكُّ إليه سبيلًا فمعنى ذلك أننا نفرق بين ما نعرف وما نعمل وذلك مستحيل؛ لأننا نسير في الحياة وفق ما جاءت إلينا بها الحواس من معرفة الظواهر التي نعيش في وسطها. أما هذا الاعتراض الذي يُقام عادة في هذا الصدد من أن الحواس كثيرًا ما تَزِلُّ وتخطئ فتنقل إلينا خطأً ووهمًا في مكان الحقيقة الواقعة فمردود؛ لأنك إن أخطأت فليس خطؤك راجعًا إلى الصورة التي نقلها إليك الإدراك الحسي، بل يرجع إلى الحكم الذي وصلتَ إليه أنت، فلا ريب في أن الحواس نقلت إليك صورة صحيحة لا غبار عليها، ولكن قد يصيبها التغير في ذهنك، فتحكم بأن الصورة الذهنية مطابقة لحقيقتها الخارجية، في حين أنه لا يحق للإنسان أن يقطع بقول في أي صورة ذهنية؛ لأنه لا يعلم إن كان لها في الخارج أصل يطابقها أم لا، وهنا يتركنا الأبيقوريون في حيرة، فلا يدلوننا على طريقة نميز بها الصور التي تمثل الواقع من تلك التي أصابها المسخ والتشويه فليست تمثل في الخارج شيئًا.

ومن تلك الآثار الذهنية التي تطبعها الحواس على صفحة الذهن تتكون لدينا المدركات الكلية عن الأجناس بواسطة الذاكرة؛ لأنها تحتفظ بالمعلومات الجزئية المتفرقة، ثم تعيدها إلينا عند الموازنة والمقارنة لنصل إلى حكم كلي، وما دامت هذه الأحكام الكلية منشؤها المدركات الحسية وهذه الأخيرة حق فالأولى حق كذلك، أي يمكن اعتبارها مقياسًا للحقيقة كالإدراكات الحسية والشعور سواء بسواء، وهناك شيء رابع هو الخيال، فيرى أبيقور أنه يتكون مما يكون في النفس من صور جاءتها بها الحواس من قبل، وإذن فالخيال كذلك مقياس صحيح تُقاس به الحقيقة، فإن كان الإدراك الحسي، والشعور باللذة والألم، والإدراك الكلي، والخيال، مقاييس للحقيقة لا تخطئ ولا تَزِلُّ، فمن أين يجيئنا الخطأ إذن؟ يجيب أبيقور: إننا نتعرض للخطأ في الرأي عندما نتجاوز ما أتت به الحواس، فنحاول أن نستنتج منه شيئًا بدون وساطة الحواس، كأن نصدر حكمًا عن المستقبل بناءً على الماضي، أو نرى رأيًا في الأسباب الخفية التي تختبئ وراء ظواهر الطبيعة؛ ولذا فأبيقور يحذرنا ألا نعدو في مثل هذه الأحكام ما عرفناه من تجربتنا العملية التي منشؤها الحواس.

(١-٢) علم الطبيعة

لم يهتم أبيقور بعلم الطبيعة إلا من ناحية فائدتها في إزالة المخاوف الخرافية من عقل الإنسان، فهو يقول إن الإنسان قد مُلِئَ خوفًا من الله ومن العقاب على أعماله، ومن الموت بسبب ما قيل عن الحياة بعد الموت — وهذا الخوف أكبر منغص لحياة الإنسان ومضيع لسعادته، فإذا ذهب الخوف تخلصنا من أكبر عائق يعوق السعادة — ولا وسيلة إلى إزالة هذا الخوف إلا بدراسة الطبيعة، وفهمنا أن هذا العالم آلة ميكانيكية، محكوم بأسباب طبيعية لها نتائجها الطبيعية، وليس فيه كائنات فوق الطبيعة، والإنسان في هذا العالم حر، يبحث عن سعادته حيث كانت وكيفما يريد، وهو حر الإرادة — عكس ما يقول الرواقيون — ووظيفة الفلسفة أن تعين على تحقيق سعادته في هذا العالم.

كان أبيقور ماديًّا فلا يرى هناك أرواحًا مجردة ولا شيئًا غير المادة، وكل الأشياء مكونة من ذرات — كما هو مذهب ديمقريطس — وهذه الذرات عند أبيقور تختلف في شكلها ووزنها لا في كيفيتها، والنفس ذاتها ليست إلا ذرات تتفرق عند الموت، ويقول إنه لا يصح أن نفكر في آخرة، وهذا يجعلنا سعداء، ويحررنا من الخوف منها، وليس الموت شرًّا؛ لأننا إذا متنا فلا نكون، وإذا كنا فلا موت، وقد أخذ المتنبي هذا المعنى فقال:

والأسى قبل فرقة الروح عجز
والأسى لا يكون بعد الفراق

فإذا جاء الموت فلا شعور؛ لأن الموت نهاية الشعور، ومن الحكمة ألا نخاف مما نعلم أنه عندما يجيء لا نشعر، كذلك ذهب أبيقور إلى أنه لا معنى للخوف من الآلهة، وهو لم ينكر وجودها، بل قد اعترف بآلهة لا تُعد ولكنه قال إن لها أشكال الإنسان لأن شكله أجمل شكل في الوجود، وهم يأكلون ويشربون ويتكلمون اللغة اليونانية، وجسمهم يتكون من عنصر كالضوء، وهم يعيشون عيشة سعيدة هادئة أبدية، وهم لا يتدخلون في شئون هذا العالم لأنهم في سعادة، فلِمَ يَزجُّون بأنفسهم في ضوضاء هذا العالم يحملون عبء حكمه؟

إذن فلا خوف من الموت ولا خوف من الآلهة، ولا شيء على الإنسان إلا أن يبحث كيف يعيش سعيدًا في أيامه التي يعيشها على ظهر الأرض، والبحث في هذا وظيفة علم الأخلاق.

(١-٣) الأخلاق

كما أن الذرة كانت أساسًا للطبيعة عند أبيقور، كذلك كان الفرد أساسًا للأخلاق، فقد ذهب الأبيقوريون — كما ذهب قبلهم القورينائيون — إلى أن أساس الأخلاق اللذة، فاللذة وحدها غاية الإنسان، وهي وحدها الخير، والألم وحده هو الشر الذي يفر منه الإنسان ويتجنبه، والفضيلة ليست لها قيمة ذاتية، إنما قيمتها فيما تشتمل عليه من اللذة.

هذا هو أساس نظرية الأخلاق في رأي أبيقور، وما قاله بعد ذلك إنما هو شرح للذة، ولم يَعْنِ أبيقور باللذة ما عناه القورينائيون من اللذة الوقتية، بل عنى باللذة اللذة بأوسع معانيها، فيصح أن نرفض لذة عاجلة لأنها تستتبع ألمًا أكبر منها، ويصح أن نتحمل ألمًا عاجلًا لأنه يستتبع لذة أكبر منه.

كذلك لم يقصر أبيقور نظره على اللذة الجسمية، بل قال إن اللذة العقلية أكبر قيمة من اللذة الجسمية؛ لأن الجسم لا يحس إلا باللذة الحاضرة، أما العقل فيستطيع أن يتلذذ بذكر لذة ماضية، وبأملٍ في لذة مستقبله، وقال: إنَّ خير لذة يتطلبها الإنسان هدوء البال وطمأنينة النفس، ووافق الرواقيين في قولهم إن السعادة تعتمد على نفس الإنسان أكثر مما تعتمد على الظروف الخارجية، وذهب إلى أن من أهم اللذائذ العقلية لذة الصداقة؛ لأن مدرستهم لم تكن مجرد تلاميذ في مدرسة بل كانوا — فوق ذلك — أصدقاء.

كذلك ذهبوا إلى أنَّ الفرار من الألم خير من السعي في تحصيل اللذة، فعدم الألم وهدوء النفس وذهاب الاضطراب من الخوف أفضل من العمل على إيجاد اللذة الإيجابية. وقالوا إن اللذة لا تكون في كثرة الحاجات وسدها، بل إن كثرة الحاجات تجعل من الصعب سدها، وهي تركب الحياة من غير أن تزيد في السعادة، فخير لنا أن نقلل حاجاتنا جهد الطاقة. وكان أبيقور نفسه يعيش عيشة بسيطة ويحث تلاميذه على بساطة العيش، ويقول إن البساطة والاعتدال وابتهاج النفس وضبطها أهم وسائل السعادة، وأكثر طلبات الإنسان وحرصه على الشهرة ليس بضروري بل لا قيمة له. ولم يكن الأبيقوريون شهوانيين أنانيين كما يفهم بعضهم من هذا اللفظ، فقد رأيتَ حثهم على الاعتدال والبساطة وقالوا لأن تُحْسِن خير من أن يُحْسَن إليك، واليد العليا خير من اليد السفلى.

ويشترط أبيقور على الحكيم لكي يكون جديرًا بهذا الاسم أن يسيطر سيطرة تامة على رغباته؛ حتى لا تدفع به في طريق الضلال، وكثيرًا ما كان يصف نفس الحكيم بهدوء البحر، أو بالسماء الصافية المشمسة، وهو لا يجيز للإنسان تحت أي ظرف من الظروف أن يرضى لنفسه الذل والهوان من كائن من كان، بل لا يرضاهما من الحياة نفسها، فإن كان لا بُدَّ من الذل مع الحياة جاز للإنسان أن يطلق الحياة مختارًا.

أما علاقة الفرد بالدولة فيرى أن القوانين جميعًا إنما شُرعت لحماية المجتمع من خرق الحمقى وظلمهم؛ إذ لا يستطيع أن يسلك في حياته طريقًا قويمة عادلة غير الحكماء، أما أوساط الناس فلا مندوحة من ردعهم بقوة القانون لعجز نفوسهم عن تقويم نفسها بنفسها، ويرى الأبيقوريون أن الدولة بقوانينها قد نشأت بادئ الأمر بالتعاقد بين أفراد المجتمع؛ ولذا فيجب علينا أن نحترم القانون، وأن نطيعه ما وسعتنا الطاعة والاحترام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤