الفصل الثاني

الفيثاغوريون

The Phthagoreans
figure
فيثاغورس.
أُطلق عليهم هذا الاسم نسبة إلى زعيمهم فيثاغورس Pythagoras، وهو شخصية قوية رائعة تستوقف النظر بين صفحات التاريخ، ولكنها مبهمة غامضة، لا تكاد تستبين العين قسماتها في وضوح وجلاء، فكأنما هو عملاق يروح ويغدو وراء ستار، فلا يرى منه الرائي إلا ظلًّا هائلًا يتردد في جيئة وذهاب، وإنما طُمست معالمه لاختلاف الرواية في ترجمته اختلافًا واسعًا، ولما شاع عنه من الأساطير والقصص، فبين أيدينا تراجم ثلاث كُتبت عنه بعد موته بمئات السنين، فانتحلت له من الأخبار والمعجزات ما شاء وهم كاتبيها، حتى أصبح فيثاغورس أقرب إلى أبطال الخيال منه إلى أشخاص التاريخ.
ومهما يكن من أمر هذا الخلاف في ترجمة حياته، فقد استطاع المؤرخون أن يستخرجوا من أشتات الروايات طائفة من الحقائق الصحيحة: وُلد فيثاغورس بين سنتَي ٥٨٠ و٥٧٠ق.م في جزيرة «ساموس»١ حيث درج في طفولته وشبابه، ثم هاجر منها إلى كروتونا Crotona في جنوبي إيطاليا، ويُقال إنه عرج على مصر وبعض بلاد الشرق فطاف في أرجائها قبل أن يلقي عصا تسياره في كروتونا، ولم يكد يستقر فيها حتى أنشأ الجمعية الفيثاغورية، وظل على رأسها يقودها ويدبر أمرها بقية حياته، ولم تكن تلك الجمعية في أول أمرها مدرسة فلسفية، بل كانت جمعية تدعو إلى الإصلاح الديني ومكارم الأخلاق، وطهارة النفس من الرجس والدنس، وكان أعضاؤها يرتدون لباسًا أبيض شعارًا لهم، قد آثروا في عيشهم الخشونة والتقشف؛ لأن الجسم لم يكن في رأيهم إلا سجنًا حُبس فيه الروح، فينبغي أن نحطم من قيوده وأغلاله ما وسعنا التحطيم، ولا بد لنا أن نسلك بنفوسنا كل سبيل لتخليصها من سجنها على ألا يكون الانتحار سبيلًا مشروعًا؛ «لأن الإنسان ملك لله».

ولعل ما حدا بفيثاغورس إلى إنشاء هذه الجمعية رغبة قديمة كان يطمح إلى تحقيقها منذ شبابه؛ ذلك أن طاغية جبارًا يدعى «بوليكراتس» كان يحكم ساموس وطن فيثاغورس، وكان يسوم أهله الذل والعذاب، فكان ذلك حافزًا لفيثاغورس في مستهل حياته على التفكير في النظم الاجتماعية القائمة، ومن أي نواحيها أُصيبت بالفساد، فلما اكتمل نضوجه العقلي، وكُتبت له الزعامة الفكرية وهو في كروتونا أراد أن يكوِّن جماعة مثالية، تحقق المثل الأعلى الذي ينشده، فوثق بين أعضائها برباط الإخاء، ودعاهم أن يسلكوا في الحياة صراطًا مستقيمًا يلتزمونه مهما كلفهم ذلك من عناء.

ولم تكن هذه الجماعة سياسية بالمعنى الذي نفهمه اليوم، ولكن سرعان ما اصطدمت شعائرهم ونظمهم بالسياسة؛ لأنهم أرادوا أن ينشروا مبادئهم ويفرضوا تعاليمهم على أهل «كروتونا»؛ فنتج عن ذلك اضطهاد الحكومة للفيثاغوريين، فأحرقت مكان اجتماعهم، وفرقت شملهم، وقتلت بعضهم وشردت آخرين، غير أن الجماعة استردت قوتها بعد، واستمرت في عملها، ولكن لم يُسمع عنها شيء يستحق الذكر بعد القرن الخامس قبل الميلاد.

كانت الجمعية الفيثاغورية ذات نزعة صوفية غامضة، وهذا ما جعل الناس يحوكون حولها الأساطير، كما كانت لهم نزعة علمية وفنية تستحق التقدير، فرقوا الصناعات والفنون والرياضة البدنية، والموسيقى، والطب، والعلوم الرياضية، حتى رووا أن فيثاغورس ابتكر ٤٧ نظرية من نظريات أوقليدس Euclid، وحتى يرى بعضهم أن الجزء الأول من كتاب أوقليدس من ابتكار فيثاغورس.
اتصلت تلك الطائفة الفيثاغورية بمذهب ينتمي إلى شاعر قديم يدعى أورفيوس Orpheus، قيل فيما روي عنه من الأساطير أنه استطاع أن يحرك الجماد بقوة أشعاره وسحر غنائه، فاستمدوا منه كثيرًا من الموسيقى وأصولها، كما أخذوا عنه القول بتناسخ الأرواح من بدن إلى بدن، ومن إنسان إلى إنسان أو حيوان، ثم اقتفوا أثره في حياة الزهد والتقشف وضرورة تطهير النفس وخلاصها مما يدنسها من آثار الجسم، ولكن الفيثاغوريين سلكوا إلى طهار النفس سبيلًا قد تبدو عجيبة أول أمرها، وقد يظهر عليها أنها لا يربطها بالغرض الذي يرمون إليه علاقة أو صلة، ولكنها في الواقع سبيل مؤدية إلى الغاية المقصودة، فقد رأوا أن تطهير النفس من أدران الجسد لا تكون إلا بالتفكير في الفلسفة والعلوم؛ لأنهما مظهران للنشاط العقلي والروحي، كما أن تعشقهما يؤدي إلى إهمال الجسد ولذائذه … ومن هنا أخذت تصطبغ تلك الجمعية الدينية الخلقية بالصبغة الفلسفية، واستحقوا من أجلها أن يكونوا فصولًا في تاريخ الفلسفة، وينتجوا رأيًا في مادة الكون، هو في الواقع استمرار لما سبقهم من الآراء، ولكنه مع ذلك خطوة خَطَتْها الفلسفة إلى الأمام؛ إذ نلمح فيه انتقالًا من المادية اليونية إلى محاولة التفكير المجرد الذي لا يقوم على الحس والمادة.

ويجب أن ننبه هنا إلى شيء هام، وهو أنا إذا قلنا الفلسفة الفيثاغورية فليس معنى ذلك أن كل ما فيها من آراء قال بها فيثاغورس نفسه، وإنما قالت بها جمعيته؛ إذ لم يتسنَّ العلم بما كان من فيثاغورس نفسه وما كان من تلاميذه.

قال الفيثاغوريون: «إن سبيل معرفة الأشياء أوصافها.» ولكن أكثر الأوصاف ليست عامة في الأشياء، فهذه ورقة خضراء، ولكن ليس كل الورق أخضر، بل بعض الأشياء لا لون له، وهذا الشيء حلو، ولكن ليس كل شيء حلوًا، وهكذا الشأن في المشمومات والمسموعات والمرئيات وغيرها، إنما هناك صفة واحدة عامة في كل شيء هو العدد، فكل شيء جسماني أو غير جسماني له صفة العدد، وبعبارة أخرى: «لا يمتاز شيء عن شيء إلا بالعدد، فالعدد هو جوهر الوجود وحقيقته.» هكذا ارتأى الفيثاغوريون، ولهم في ذلك منطق مستقيم إلى حدٍّ ما؛ لأنك إن أنعمت النظر في الأشياء جميعًا وجدتها تتميز عن بعضها بصفات معينة: فللوردة مثلًا خواص تُعرف بها، وللنار خواص بعينها وهكذا قل في كل شيء، ولكن تلك الصفات أعراض قد تكون وقد لا تكون، أي إنك تستطيع أن تتخيل في غير عسير كونًا يخلو من اللون والطعم والرائحة، ولكن ثمت حقيقة لا يمكن أن نتخيل الأشياء بدونها، وهي العدد، خذ مثلًا عشر برتقالات، فلا يشق عليك أن تتصور لونها أحمر أو أخضر أو بلا لون، ولا يشق عليك أن تتصورها حلوة أو مرة أو ملحة أو بلا طعم، وإذن فهذه الصفات ليست جوهرًا يدوم ما دامت البرتقالات، ولكنه يستحيل عليك أن تتصورها غير قابلة للعدد؛ وعلى ذلك تكون قابلية العدد صفة لازمة لا تزول إلا بزوال الأشياء نفسها.

فكرْ في كل شيء تَرَ العدد له أساسًا، فنسبة الأشياء بعضها إلى بعض عبارة عن عدد، فإن قلت إن هذه الشجرة أطول من تلك كان معنى ذلك أن الوحدات الطولية في الشجرة الأولى أكثر عددًا من وحدات الشجرة الثانية، وهذا النظام الذي يشمل الكون هو في حقيقته عدد أيضًا؛ لأنك حين تقول إن صفوف الجند مرتبة منظمة، فإنما تعني قولك إن الجنود على أبعاد متساوية، يفصل كل جندي عن الآخر عدد من الوحدات القياسية مساوٍ للذي يليه وهكذا، ثم استمع إلى نغمات الموسيقى وفكر في أمرها تجدها عددًا كذلك؛ لأنها ليست في الواقع إلا موجات صوتية واهتزازات وترية تُقاس بوحدات معروفة في علم الصوت، ويقارن بعضها ببعض بعدد تلك الوحدات.

لم تتردد المدرسة الفيثاغورية بعد ذلك في اعتبار العدد أساسًا للكون وأصلًا لمادته، فكل ما تقع عليه عيناك مركب من أعداد، أي إن العدد هنا كالماء عند طاليس والهواء عند أَنَكْسِمِينِس، فهذه الأرض وذلك القمر والهواء والماء والقلم والمحبرة وما إليها مصنوعة من أعداد، ولعل ما دفع الفيثاغوريين إلى هذا الرأي العجيب خلطهم بين وحدة الحاسب ووحدة الهندسة واعتبارهما شيئًا واحدًا، فنحن اليوم نفرق بين الواحد الحسابي الذي هو وحدة العدد والنقطة التي هي وحدة الهندسة، فالمائة من الكتب مثلًا مكونة من آحاد ولكل واحد منها وجود حقيقي، أما الخط المستقيم فمكون من نقط وليس للنقطة وجود حقيقي، بل هي مفروضة فقط، ولكن الفيثاغوريين ظنوا أولًا أن الواحد والنقطة شيء واحد، ثم رتبوا على ذلك الظن كل هذه النتائج الغريبة،٢ فبناءً على نظريتهم هذه يكون الخط المستقيم مكونًا من نقط معلوم عددها (كما أن العدد مكون من آحاد معلوم عددها)، ولما كان السطح عبارة عن خطوط مستقيمة متجاورة، والحجم عبارة عن سطوح متلاصقة، إذن فكل كتلة مادية ذات حجم هي عبارة عن مجموعة من النقط يمكن حسابها، وبعبارة أخرى هي مجموعة من الآحاد، أي إنها مركبة من الأعداد.

وقد نقدهم الفلاسفة بعدُ نقدًا شديدًا أدى الفيثاغوريين إلى تعديل بعض آرائهم.

فالأعداد إذن عندهم مادة الكون مهما اختلفت أشياؤه وصوره، ولما كانت الأعداد كلها متفرعة عن الواحد لأنها مهما بلغت من الكثرة فهي واحد متكرر، كان الواحد أصل الوجود عنه نشأ وتكون.

ولكن الأعداد تنقسم إلى فردية وزوجية، وهذا علة انشطار الكون إلى محدود ولا محدود، فالفردي اللامحدود، والزوجي المحدود، ولكن كيف ارتبط الفردي باللامحدود والزوجي بالمحدود؟ محل نظر وغموض.

وقد وضعوا قائمة بعشر أضداد هي عماد الكون وهي: (١) الفردي والزوجي. (٢) المحدود واللامحدود. (٣) الواحد والكثير. (٤) اليمين واليسار. (٥) الذكر والأنثى. (٦) المستقيم والمعوج. (٧) السكون والحركة. (٨) النور والظلمة. (٩) الخير والشر. (١٠) المربع والمستطيل.

وقد غلوا في نظرياتهم العددية حتى خرجوا بها عن المعقول، وأبعدوا في الوهم والخيال، فيقولون — مثلًا — ١ نقطة و٢ خط و٣ سطح و٤ صلب جامد و٥ صفات طبيعية و٦ حياة ونشاط و٧ عقل وصحة وحب وحكمة، وهذا لا يُعقل إلا أن يكون رمزًا، وقد اشتهروا بالرمز حتى في أقوالهم الحكمية.٣
ويقدسون عدد ١٠؛ لأنَّه مجموع الأرقام الأربعة الأولى: ١ + ٢ + ٣ + ٤، ويحلفون به ويضعونه في صورة الهرم هكذا: وهذا كما ترى: إغراقٌ في الوهم.

ويطبقون المعنويات على نظريتهم في العدد، فيقولون مثلًا: إن العدل هو رد المثل إلى مثله، فإذا أساء أحد إلى إنسان أنزل به مثل ما أساء، وشطحوا في ذلك فجعلوا العدالة عددًا مربعًا؛ لأنه حاصل ضرب عدد متساويَيْن: واختاروا لذلك عدد أربعة؛ لأنه يساوي ٢ × ٢.

وهكذا ذهبت المدرسة الفيثاغورية إلى أن جوهر الكون أعداد رياضية تتركز كلها في الواحد، وأنت ترى من ذلك أنهم خطوا بالفلسفة خطوة جديدة نحو التفكير المجرد، فبدأت الفلسفة منذ ذلك الحين تتحلل بعض الشيء من تلك النزعة الطبيعية (الفيزيقية) التي سادت عند فلاسفة يونيا لتستقبل صبغة جديدة — هي صبغة الفلسفة في أصح معانيها — أعني التفكير المحض فيما وراء الطبيعة وظواهرها، ولئن كان مجهود المدرسة الفيثاغورية في ذلك الانتقال ضئيلًا مملوءًا بالأوهام فإن الفلسفة مدينة لهم بالمحاولة الأولى في ذلك على كل حال.

وللفيثاغوريين آراء فلكية قيمة، منها: نقضهم للفكرة السائدة في ذلك الحين من أن الأرض مركز الكون؛ إذ قرروا أن الأرض كوكب من الكواكب التي تدور حول النار المركزية، وليست هذه النار المركزية هي الشمس؛ لأن الشمس نفسها تدور حولها، وقد كانوا بذلك أول من اتجه بالنظر الفلكي هذا الاتجاه الصحيح، الذي أدركه كوبرنيكس وسار به نحو الدقة العلمية شوطًا بعيدًا.

١  سماها الشهرستاني «ساميا» وابن أبي أصيبعة «ساموس».
٢  مما لاحظه بعضهم أن كلمة Figure في اللغة الإنجليزية معناها شكل أو عدد، وأن كلمة «صفر» في اللغة العربية تدل على الخلاء أو انعدام العدد، وفي هذا ما يدل على ما كان من خلط بين المعنيين.
٣  روى ابن أبي أصيبعة بحق أن فيثاغورس كان يرمز حكمته ويسترها، فمن ألغازه: «لا تَعْتَدِ في الميزان.» أي اجتنب الإفراط، و«لا تُحَرِّك النار بالسكين؛ لأنها قد حَمِيَتْ فيه مرة.» أي اجتنب الكلام المحرض للغَضوب، و«لا تضع تماثيل الملائكة على فصوص الخواتم.» أي لا تجهر بديانتك وأسرار العلوم الإلهية عند الجهال … إلخ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤