توطئة

يختص هذا الكتاب بقراءة في السرد، وتحليل للنقد. مرةً يعكُف على أعمالٍ روائيةٍ معتبرة، فيرسمُ الخصائصَ الجماليةَ المكوِّنة لمبناها، ويعيِّن دلالتَها الناهضةَ بمعناها؛ ومرةً يدرس مسائل وقضايا نقدية تمثِّل تصوراتِنا ونظراتِنا في فهم الأدب وبناء أنساقه، كما نستخلصها من نصوصٍ مؤسِّسة ومفاهيمَ محدَّدة، ومواقفَ رائدة.

في الحالتَين كلتَيهما يقوم هذا الكتاب، بدراساته وأوراقه التحليلية والنقدية، الممتدة، في أفقٍ نصِّي وزمنيٍّ متواشِج ومتسلسِل، بوضع لبنةٍ إضافيةٍ في بناية الدراسة الفاحصة والمتأملة للأدب العربي في المغرب الحديث والمعاصر لنا. أدب ما فتئ يرقى في سُلَّم التطور، ويُواصِل نحتَ الملامحِ المشخِّصة لإهابه الفني، والمعبِّرة عن مَنازِعه الواقعية والإنسانية، من منظورات وبمقارباتٍ ذاهبة جلُّها في منحَى توكيدِ فاعلية القول الأدبي، وإبراز الخصوصية النوعية لصياغاته، وذلك عَبْر الأجناس التي التمسَها أدبُنا الحديثُ وصارت لسانَه ومُجتَلى خطابه.

ومن نحوٍ آخر، نعتبر عملَنا هذا بمثابة تكملةٍ وامتدادٍ لما قمنا به سابقًا في حقل الدراسة السردية والنقدية، سواء ما هو جامعيٌّ مخصوص، أو الحُر المنفتِح على الذوق الذاتي وتعدُّد المناهج، وتجدُّد أدواتِ ومَضَانِّ القراءة. ونرى أن المقترب الشخصي (أي الوضع الذي يستقل به الكاتب، المسمَّى مبدعًا) قادرٌ أن يُغنيَ المعالجةَ المنهجيةَ الصِّرف (أي وضع الدارس المنزَّه عن كل ميل، جدلًا) يتفاعلان كما يتبادلان الأدوار، صانعَين مساحةً استثنائية هي النصُّ الثالثُ المُنجَز بين الإبداع والنقد.

هذا النص نقترحُه موزعًا بين النثر؛ أي السرد الروائي الذي قطع فيه أدبُنا شوطًا لا بأس به تكوينًا وتخييلًا وأساليب، من خلال نصوصٍ متفوِّقة، وازنة. والشعر، عَبْر عملَين ينبضُ شعرهما بأفخم القيم التعبيرية والتصويرية والدلالية. والتأمل النقدي بالوقوف عند مكوِّناتٍ جمالية ونظرية وسياقية في حركة إبداعنا الحديث.

وما هو في الحقيقة إلا التوزيع الذي تقتضيه طبيعةُ الأنواع ومقتضياتُ درسها، وإلا فإن عملَنا متنٌ واحدٌ مشدود الأَزْر برؤيةٍ موحَّدةٍ ومركَّبة، ملفوظُها انتخابُ الخطاب الأدبي، وتنضيدُ أنساقه بعد فَرزِها، وإعادة الاعتبار إلى مكوِّناته، الشيء الذي يستدعي أو يفترض تجديد أدوات القراءة وزوايا النظر وإواليات التلقي، لكي يُعاد صوغ هذا الخطاب من نواحيه وفي تجلياته المختلفة.

ولنا أن نزعُم في خاتمة هذه التوطئة بأن الأدبَ العربيَّ الحديث والمعاصر في الديار المغربية، كان وما يزال في حاجةٍ إلى قراءةٍ تتجاوز التأريخ والتصنيف والتقويم، وهي مستوياتٌ هامة من غير شك، إلى أخرى تُبرِز مياسم تأصيله وبحثه والهواجس العميقة لمبدعيه، تنتخبُها وتُجوهِرها، وهي منقولةٌ من الإحساس إلى المقولة، ومن غَمرة الوجدان إلى ضوابط الاتزان، خطط الدرس الأدبي-النقدي، الباحث دومًا عن الجمال الدفين، والمهتدي في بحثه بعُدَّة العلم الأدبي السديد.

هذا ما يفضي بنا في الأخير إلى الدراسة الأولى من هذا العمل الكلي، نعتبرها المقدمة الفعلية تقدِّم للقارئ الأطروحةَ المركزيةَ التي على أساسها ينهَض بحثنا، ونأمُل أن نكتشفَ من وراء صَوغِها والبرهنة عليها القيمةَ الموجودة في إبداعنا ودَرسِ أدبنا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤