زریاب شفشاون المتوحد في كلماته

«أصفى من الكلمات/التي في فم السوسنة» (الطبال)

(I) البدء

إنها لفرصةٌ نادرةٌ حقًّا اليوم أن يُتاحَ لمتكلمٍ الحديثُ عن الشعر. ومع شاعر هذا المحفل تبدو الفرصةُ ذهبيةً وأشدَّ ندرةً فوق كل تقدير؛ إذ علاوةً عن استحالة نسج أيِّ كلامٍ عن تعبيرٍ ما انفكَّ وحدَه يُلاحِق وَهْم كماله، هناك معلَم الإعجاز يقطَع الشك باليقين؛ حيث يسمو القولُ البليغُ ويتهافَتُ الهدرُ الركيكُ دونه، أسفلَ سافلين.

کنا نتحدث، في الماضي، عن القريض، عن الكلام الفخم والمصقول والمنضَّد المنسَّق في سبائك قوله وسلالم نظمه وأطوار تكوُّنه، سواء في أغراضه أو مراميه، ومدارج معناه المستدلَّة منه، الناهضة بالواحد المستقر على قاعدة الجمع، وما يتأتى في الأخير بيانًا سحرًا خاض عُباب المجاز، وما اقتَرض التشابيه وتلبَّس الاستعارة إلا ليتخلَّق متفردًا في نبوءة الرؤيا.

والآن، هذا الآن المتشابك والمفكك — رطانة تطن بعنوانها الزائف «المشهد الشعري» حيث لا تشاهد إلا أمشاج الحروف، وجثت كلماتٍ هي أطرافٌ مبتورة وسحناتٌ شائهة، هكذا وُلدَت شوهاءَ بلا حبل سُرة، لقيطًا؛ أي خارج أي زمن، ومسخَ قول لا تفرَّعَت عن نسَب ولا امتدَّت في عصَب، والنشاز الذي هو القبح، وانعدام أي صوت/إيقاع حتى الصَّمَم، وارتداء مُسوح الزهد عن المعنى فيما المشهدُ هو إذقاعٌ مطلَق.

كنا نتحدث، أمسِ، عن الشاعر «تخر له الجبابرُ ساجدينا» وذاك الذي أسمعَت كلماتُه من به صَمَم، الواقف عند مفترق طرق الحلم والبلاغة ينتقي أشهى ما عندها ويقطفُ أبهاها، فإذا قال أنجب وكان قد حمل، ومن قوله، نظمه، ينبثق جَزْلُ اللغات، وتتعدَّد متلونةً قطوفُ المعاني والصفات. الشاعر الذي يخصُّه شعره، نطقُه ذاتُه وحرقتُه صنو صوتِ عشيرته أو أمته، فهو لا بد يذودُ عن حماها، ومن أوصابها وخَرزِ أطيافها ينسكبُ بَوحُه، أو غضبًا يُدوِّي ثانيةً، شِعرُه.

وصرنا الساعة — حتى هذه الساعة تقريبًا — علينا أن نرى العالم مساحةً مقلوبةً من الدهاليز والسراديب، معمورةً بالأشباح، ونحن القُراءَ المفترضين نتعثَّر حيث نراوح مكاننا لنقبض على شبحٍ واقع أو على غبارٍ منفلت، وفي الحالَين أثقلَه العَياء رغم أنه ليس مصنوعًا سوى من كلماتٍ ممطَّطة حتى ولو ارتطمَت ببعضها تأسن أكثر فيها بحيرة السأم، لا يعرف البجع فيها كيف يطير ولا أين يُولِّي، فلا الشعر شعره، ولا الهمُّ همُّه، يبلع بلا أضراس. هكذا تسمع له قعقعة لكن … بلا طحين.

لذلك هي فرصةٌ نادرةٌ وثمينةٌ تُتاح لنا مع عبد الكريم الطبال لنتحدث عن الشعر الخالص: النضيد وهو مكتنز ومُفحِم؛ الصافي وهو صميمٌ ومعتصر؛ القشيب وهو رافل ومقتصد؛ العاشق الولهان وهو حسير الطرف؛ الحالم دومًا وأهدابه تمشي على تخوم الصحو؛ الصادح المغرِّد وأذنه إلى عجيج الأرض؛ الناظم المحنَّك إن شاء والعزفُ على وتَر الصمت هواه ومجتناه؛ الطائع المتبتل في عشب الله وهو الوردةُ الفيحاءُ في حديقة روحه؛ الصاعق إن غضب لكن بالكلم الأليف المقتضب؛ الساهي في شرود الصور والواقف فوق عينَيه يرتشف الحجر؛ حيثُ لا أقل ولا أكثر المبنى والمعنى، جدل الحدْس، مانوية لكن بثنائية الأنا وآخره، العالم رأسُه جبل وقدماه رذاذ، شموخ في الأقل وهيولى في الأكثر … لهذه القياسات والعِبَر نحتاج إلى عبد الكريم الطبال، وينبغي أن نعتبرَها سانحةً لشدَّما برَّح بنا الشوقُ للقياها، نجدِّد بها الوصالَ مع الشعر، ونُحيي فيها الرحم مع هذا الشاعر … سليل عبقر الشعراء.

يلي هذا فرصةٌ نادرةٌ ثانيةٌ تنقاد لها المناسبة وتتعزَّز المكانة؛ إذ تفتح الباب على مصراعَيه لدخول هذا الشاعر الفحل، الجدير بأجداده، إلى رحاب الشِّعر الفسيحة، غير المرقَّمة بحدود أو قيود، يقف فيها الطبال وقفةً ماردةً بين أقران وأنداد ومن هم في حكم الأسياد في ساحِ الشعر العربي وخارجها، وهذا بالموهبة وحدها. ثم المجالَدة والمكابَدة.

لنقُل صراحة، إننا نحن معشر المغاربة، الذين قُيِّض لنا أن نُحافِظ على الدين الحنيف ونسكُب أرواحَنا في لغة القرآن المُعجِز، القاطنين في أقصى بلاد العرب والإسلام من جهة الغرب؛ لنقل إننا ضَجرنا ضجرًا شديدًا من تلك النظراتِ والتقويماتِ والتصنيفاتِ ذات الطبيعة الاعتباطية، من غير اطلاعٍ ولا فحص، التي ترى الشعرَ والإبداعَ العربي كله مشرقًا ومشرقًا، وترى ضد قانون التطوُّر وتبدُّل الاذواق والأزمنة الذي يلحق الشعوب والآداب جميعًا أنها مستريحةٌ في تأبيد ذلك الحكم الذي ألقاه الصاحب بن عباد ذاتَ زمنٍ في ظروفٍ خصوصيةٍ ومعلومة.

في المقابل نعتبر أن تجربة الشعر الجديد في المشرق العربي في نهاية الأربعينيات وصعدًا نحو الخمسينيات من القرن المنصرم وجدَت لها تبَعد لَأْي صداها كما لاحت تباشيرُها في المغرب الأقصى بوسائطَ مختلفةٍ منها الصحيفة والكتاب والبعثات العلمية، ومنها الاتصال مباشرةً بمصادر التجربة لمن أوتوا حظ الإقامة في المشرق للدراسة كأحمد المجاطي (الشام). ومحمد السرغيني (العراق). ولا شك، أيضًا، أن تبَنِّي الشعراء المغاربة لتجربةِ الشعرِ الجديد بما حملَت من دَفقٍ فكريٍّ وإبداعي ليُعَد من سماتِ القصيدةِ العربيةِ المغربيةِ في العقدَين الستيني والسبعيني الماضيَين، تلك القصيدة التي تكفَّل بصياغتها وأدائها على الوجه الفني الناضج والمائز روَّادُها في المغرب، في طليعتهم المجاطي والسرغيني ومحمد الخمار الكنوني وعبد الكريم الطبال.

بناءً على هذا التفاعُل والتسلسُل ينبغي أن يُعلَن اسم الطبَّال في قائمة الأسماء التي تتصدَّر الشعرَ العربيَّ الحديث، والتي بعطاءِ بمواهبِها قامت إنجازاتُ هذه التجربةِ في نصٍّ ضخم هو اليوم تراثٌ أدبيٌّ جليٌّ لنا، ليس لانتسابه إلى الماضي وحسب، بل لأن هذا النص بات بمقدوره أن يتحوَّل إلى تراث، وكل إبداعٍ لا يملك مقدرةَ التحوُّل هذه لا يستحق اسمَه وجزافًا انتسابه إلى شجرة الأدب؛ فإن التعبير الشعري المغربي، والحالة هذه، وعلى ضوء المحصلة المتأتية من تراكمٍ حي ومن اختبارٍ نقديٍّ دقيقٍ ومتنوِّع، لهو أحدُ المتونِ الأساسِ في تشكيل مادة شعرنا الحديث، من جهة، وفي نحتِ الخصائصِ النوعيةِ التي تكسبُه مياسم الجدَّة، من جهةٍ ثانية، وتحديدًا فيما يتصل بتعبيرِ الشاعرِ عن رؤيةٍ متفردةٍ للوجود وللزمن، ونقلِه ذلك بالوسائط والقرائن اللغوية والبلاغية المخصوصة للأدب. ولعَمْري فإن عبد الكريم الطبَّال، وقد سلخَ نصفَ قرنٍ من الإبداع شعرًا، تقريبًا، ولم ينكسِر ظهرُه الشعريُّ قط، يقع بمُنجَزه الفذِّ في قلب المُنجَز الشعري الحديث والمعاصر لبلاد مراكش، يمثِّلها فصيحًا وبها يتمثل، فيسند عمادها ورأي كل دارسٍ ومتذوقٍ منشد إلى الذائقة الأدبية الحصيفة، مثلنا، حين يعتبرُ عطاءَ أبنائها أصيلًا، ومؤصَّلًا، ومحدثًا ومتجاوزًا لما هو فيه نحو ما ينسخُه، ربما شكلًا، مُبقِيًا ومُحذِّرًا فيه النسخ العميق الذي به يتناسخ — أعني الآن شعر الطبال على الخصوص — متكاثفًا ومتآزرًا مع أولئك الكبار الذين إليهم ينتسب، وما أظن الشعر يُولَد إلا كبيرًا، وسوى ذلك سقَط المتاع. وهو رأى منذ النظرة الأولى شعرًا، وكلما كبرَ كبرَت الرؤية، واتسع الحُلم، وراح ينضو عنه قشرةَ الدنيا يستبدلها بكسوة الحَدْسِ واللونِ والضوءِ والأنداد، وفيما يُرى محلقًا في الآفاق مع السرب الغادي، له وَكْر مأواه في جبل شفشاون؛ مَرْحَى فهنا ملتقى الأطيار والأسرار.

(II) … والتكوين

الدنيا هي الأقدام تمشي فوق الأرض طورًا والجسد يُسامِت السماء طورًا آخر، وما بينهما موهوبٌ للإنسان الموهوب وهو في طَور التكوين؛ لذلك لا عجَب تكون عناصر الطبيعة هي أبجديةُ القول الأولى وزادُ المسافر. سُمِّي الاحتفال بالعناصر رومانسيةً لأنه اصطفى اللبلاب فوق الجذع، وتمثل من قَطْر الندى بعد سمِّ الوردة والطبيعة طبع، وهذا تلك، تراهما يتلاقحان فيخصبان فطرة الإنسان، فطرة الشاعر، وكذلك بدأ الطبال … كيف لا وقد قدَّ من واحدةٍ من جِنان الأرض، وجبلٍ من أديمها وبياضها: شفشاون، يسميها أهلها الشاون: «شفشاون الخضراء، أرض العطر والأن/غام، قيثار السواقي والحمام/عش البلابل، معبد الشعراء، مو/جات الظلال الخضر في صيف السآم/نجواي أنت فأينما ولَّيتُ وجهي لا أرى إلَّاك في زهو القوام» ديوان «… الأشياء المنكسرة» (أعمال كاملة (أ. ك)، م وزارة الثقافة، ٢٠٠٠م، ص٢٥). مذ هذه النجوى ستندلق العناصرُ جداولَ من بين أصابع الشاعر ولسانه «قصائد الأوتار، الألحان، الغابات الخضر، الكهف العميق، الأطلال، زورق الأحلام، الخمائل …» من يُولَد في الشاون مغرِّد بالفطرة، فكيف إذا تعلم منه الطير والسر والغناء، فإن سأله الفرقد ليهتدي به: عجبًا من أنت، ابتدا: «أنا من فصيل السَّرو في أرض الطلاسم في جبال الجن مسحور الشباب/في قلبه بحر من الرؤيا من الأحلام مسحور الشواطئ والعُباب» (أ. ك، ص٥٩). كل هذا والطبيعة المسمَّاة رومانسية تُثمِر غلالها ويرنُّ جرسُ غنائها في الأسماع بين «الأعشاش، والرعد المدمدم، والعندليب الحائر، والبوم، والخراب» ثم لا بد لها أن تعود إلى النبع لتستسقي ماءها، فإن طفَت الحصاةُ على شفاه الماء وسألَته ثانية: من أنت؟ أجابها في «كلمات طفل»: «فأنا لهيبٌ للجمار أنا صدًى للصوت تحرقني الحروف النارية/فأنا رشاش الجرح في كلمات طفل سادر عبر الخيام النائية …» (أ. ك، ص٨٤).

كل الشعراء غَرفوا من هذا النَّبع، وتلاعبوا بالقوافي التي في مجراه، ولا يصبح الشاعر علمًا بذاته إلا حين يختَط لنفسه مجراه. والطبال في الفعل الأول إنما كان ابن بيئةٍ شعريةٍ ذات أعرافٍ ونواميسَ سائدةٍ في الشمال المغربي، ومتجاوبةٍ مع الشمال الأندلسي، ومتصاديةٍ مع النفوس الجريحة والأرواح الشاردة في أدب المهاجر العربية، محمد الصباغ، مثلًا، فيها شيخ ومريد، وهو لن يسلوَها أبدأ، وردًا ولغةً ونسقًا؛ لأنها فيه طبيعةٌ متأصلةٌ لا مجلوبة، سيُسيِّدها في نثرٍ فنيٍّ شعريٍّ خالص. وفي الفعل الثاني، نعني به حَفْر المجرى الخاص، سيُخفِّف تدريجيًّا من عبء تراثٍ بتشذيبه وتوجيهه في رسم جغرافية المكان الذي قرَّر أن يسكُن فيه ويؤثِّتُه في مدى عمر شعرٍ مديدٍ وثريٍّ أيَّما ثراء.

إنه المكان الشعري طبعًا الذي سينهض موسيقيًّا على التشطير العمودي، ومنه يتجه إلى التقطيع التفعيلي تارة، والشعر الحر المُرسَل تارةً أخرى، ليستقر أخيرًا في تفاعيلَ متواترةٍ ومتعالقة، بين المتدارك والمتقارب والكامل، ولا يتعدَّى البيت الواحد التفعلة أو التفعلتَين، وهو ما يتناسبُ مع النظام الذي أراد أن يُخضِعَ له الشاعرُ كتابته، لو جاز لنا أن نُسمِّيه لقلنا إنه «نظام القَبْس والتَّوْليف». وهو لا يتحمَّل التمطيط؛ أي ميوعة العبارة والنغم، ولا ترجيع الصبوات واستدعاء الذكريات، ولا تعدُّد الصُّور وتناسُل الاستعارات، فضلًا عزوفه عن تنافُر المفردات وتضارُب الإيقاعات، ولا القبض على أي خاطرٍ واردٍ أو معنًى شارد؛ لأن هذا النظام الذي هو ذاتٌ شاعرة؛ أي متلفظة بما تقتبسُه من خارجٍ انشَدَّ إلى جاذبيتها وعادت فأرسلَته قبسًا آخر إلى طبيعةٍ مطلَقةٍ لا تنفكُّ تتفاعل معها، هي الوجود حولها وفيها لها أسماء: السنبلة/المطر/ المزن/ الرباب/ الفردوس/ الماء/ الطين/ الظل/ الدوَّح/ السوسنة الغيم/ الرذاذ/ العبير/ الزنابق/ النهر/ الحباب/ الفراس/ النجم/ الجبل/ الجليد …

وهو نظام بحكم أن القَبْس إنما يزيد ضرامًا ما هو مشتعلٌ في النفس يتعيَّن به الشعر ويكون مبعثه، وما العنوان الذي يُوَضع للقصيدة إلا صدفة تسميته، كما تُسمَّى، مثلًا، تكعيبات بيكاسو (التي هي سياقٌ متصلٌ من التكوينات ينجُم عنها نسَق التركيب أو التوليف النهائي (اللانهائي أيضًا). ويتوفَّر النظامُ أيضًا حين يستطيع الشاعر أن يصنَع الصُّور الشعرية، المتعيِّنة للقول أو المعنى وضمنه الإحساس، من مواد وأثاث المكان الذي اختار الإقامة فيه (المكان الشعري) ذكرنا بعضها سابقًا ونضيف إليها: القرنفل/ الطير/ السحاب/ اللؤلؤ/ الياقوت/ المساء/ العنادل/ النهر/ النوارس/ الموج/ الضَّباب … ويجعلنا ننساها لأنه صنع منها فضاءً هو وحده أهم ما يتذكَّره، وإيقاعًا نسمعُه ونتحسَّسه، وفي الوقت نفسه ينقلب تجريدًا، وكل ما لا يبلُغ مبلغَ التجريد؛ أي اللامدرك ليس فنًّا؛ أي شعرًا.

أما التَّوليف فهو أعقدُ وأصفى من الكيمياء التي تُمزَج، باعتباره يُصطفِّي ويُركِّب من العناصر، ومن الجوارح، ومن المشاعر ما من شأنه أن يصُوغَ الأبهى والأنقى، كما يفعل صائغُ الذهب من المعدن الخام، وقد تَشكَّل على يديه خواتمَ وعقودًا ومضمَّاتٍ وأقراطًا وأسورةً، وعنده هو دمالجُ من نسيم، وزيتٌ من زيتون «الطور» ولبنٌ من «بئر زمزم» و«توليفة/ إذا جرعتَ منها قطرة/ لم تغترب» (أ. ك. ج. ٢، ص١٤٢). والتوليف هو جماعُ ما في الطبيعة والوجود، وما قد يتعزَّز به الآخرون في وَهْم امتلاك.. ثم أخيرًا يتنزَّل قصيدةً فوق راحة الشاعر، لكي يصل عبد الكريم الطبال إلى هذه المنزلة فقد احترف الغناء أولًا، وارتحل مع الغجَر، يُنادِم القيان وكأس الحب والقمر عازفًا على أوتار:

«قيثارة مجنونة تنوحُ كيفما تشاء،
تختصرُ البكاءَ كلَّه،
في آهةٍ مديدة،
في نقرةٍ واحدةٍ
يجتمع العصفورُ والحمامُ والحجَل،
والبحرُ والمطر،
تسمع فيها أوَّلَ الغناء في الصباح،
وآخر النَّحيب في المساء.»
(أ. ك، ج١، ص٢٤٥)

ليخرج جسد زرياب من اللحن أخيرًا أصفى من الكلمات التي في فَم السوسنة (أ. ك. ن. ص٢٤٧)، وليس آخرًا، فهو بعد ذلك سينضُو عنه ثوب الدنيا ويتحوَّل إلى ذلك العاشق، وليس الشاعر فقط، الذي في خَطوه وهَجسِه شعر، فلا الأغراض وهي كثيرة، ولا المعاني، بوَفْرتها، ولا شُهب البلاغة وهي مشتعلة، ولا قدْحُ أشكال من التجارب ببعضها، ما يُعوِزه. ما أكثَر ذلك كلَّه، ولكنه قرَّر الذهاب إلى نهاياتِ ما يمكن أن تصل إليه القصيدة من نَقْر، ونَخْل، وتصفية حتى تبدوَ كأنها هيولى للشعر الذي سيبدأ مرةً أخرى دورةَ ولادةٍ جديدة، وقد تعلَّم صاحبُه وكبر وغنَّى وأطربَ وأزهرَ وفاح، ليس في شعر المغاربة وشعر العرب وحدهم بل وفي غابة الشعر الداغلة؛ حيث مقامُ الأبد العاشق (للطبال) مثل كل متصوِّفة القريض، سماتُه أنه:

«متوحدٌ،
نهِمٌ،
شطَب الهوامشَ،
كي يرى صُلبَ النشيد،
بلا كلام.»
(أ. ك، ج٢، ص٢٤٤)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤