علامات الخلود

ثلاث علامات من اجتمعن له كان من عظماء الرجال، وكان له حق في الخلود:

فرض الإعجاب من محبيه ومريديه، وفرط الحقد من حاسديه والمنكرين عليه، وجوٌّ من الأسرار والألغاز يحيط به كأنه من خوارق الخلق الذين يحار فيهم الواصفون ويستكثرون قدرتهم على الأدمية، فيردون تلك القدرة تارة إلى الإعجاز الإلهي، وتارة إلى السحر والكهانة، وتارة إلى فلتات الطبيعة إن كانوا لا يؤمنون بما وراءها.

وهذه العلامات الثلاث مجتمعاتٌ لأبي العلاء على نحو نادر في تاريخ الثقافة العربية، لا يشركه فيه إلا قليل من الحكماء والشعراء؛ فهو في ضمان الخلود منذ أحبَّه مَن أحب، وكرهه من كره، وتحدث عنه من تحدث كأنه بعض الخوارق والأعاجيب.

•••

بلغ من منزلته بين مريديه أن وقف على قبره نيف وثمانون شاعرًا يرثونه بُعَيْدَ وفاته، فكان بلاغ قولهم مطلع قصيدة لأحدهم — أبي الفتح الحسن بن عبد الله بن حصينة — حيث يقول:

العلم بعد أبي العلاء مضيَّع
والأرض خالية الجوانب بلقع

وهو مثل من أمثلة الإعجاب الذي اتفق عليه أولئك الشعراء، وكانوا فيه ترجمانًا لمئات، أو ألوف من المعجبين، لم ينظموا الرثاء ولم يقفوا على ثراه.

وبلغ من إنكار حساده والجاهلين به أنهم جعلوه من أهل الجحيم، وألحقوه بأحقر ما يُسب من الحيوان، واستجهلوه غاية الجهل، واتهموه في فهمه وذكائه!

قال رجل وقد عثر به: من هذا الكلب؟ فقال أبو العلاء: الكلب من لا يعرف للكلب سبعين اسمًا!

وذكر ياقوت بعض كلامه في معجمه ثم قال: «كان المعري حمارًا لا يفقه شيئًا، وإلا فالمراد بهذا بيِّن!»

وسئل عنه علي بن الحسن المعروف بشُميم وهو من نُحاة القرن السادس، فغضب وقال لسائله ناهرًا: «ويلك! كم تسيء الأدب بين يدي؟ من ذاك الكلب الأعمى حتى يُذكر بين يديَّ في مجلسي؟!»

•••

وهناك أناس استعظموه ولكنهم لم يفهموه ولا حقدوا عليه! وحسبوا أن قدرة الإنسان لا ترتقي هذا المرتقى، وأن سر بني آدم لا يخفى هذا الخفاء، فألحقوه بعالم المجهول ووصلوا بينه وبين سيطرة الفلك وقضاء الأقدار.

قالوا إن محمود بن صالح صاحب حلب اتهمه بالزندقة، فأمر بحمله إليه من المعرة، وبعث خمسين فارسًا ليحملوه، فدخل عليه عمه مسلم بن سليمان وقال: يا ابن أخي! قد نزلت بنا هذه الحادثة، فإن منعناك عجزنا، وإن أسلمناك كان عارًا علينا عند ذوي الذمام، ويركب تنوخ الذل والعار. فقال أبو العلاء: هوِّن عليك يا عم! ولا بأس عليك، فلي سلطان يذب عني. ثم قام فاغتسل وصلى إلى نصف الليل، ثم قال لغلامه: انظر إلى المريخ أين هو؟ فقال في منزلة كذا وكذا … فقال: زنه واضرب تحته وتدًا، وشدَّ في رجلي خيطًا واربطه إلى الوتد. ففعل غلامه ذلك، وسمعوه وهو يقول: يا قديم الأزل! يا علة العلل! يا صانع المخلوقات وموجد الموجودات. أنا في عزك الذي لا يُرامُ، وكنفك الذي لا يضام … الضيوف الضيوف! الوزير الوزير! ثم ذكر كلمات لا تفهم … وإذا بهدَّة عظيمة! فسأل أبو العلاء عنها فقيل: وقعت الدار على الضيوف الذين كانوا بها فقتلت الخمسين … وعند طلوع الشمس وقعت بطاقة من حلب على جناح طائر: لا تزعجوا الشيخ فقد وقع الحِمام على الوزير.

ومن لم يكن عندهم ساحرًا أو قديسًا من ذوي الكرامات كان خارقة من خوارق التكوين أو طرفة من طرف الزمان.

•••

رووا عن تلميذه أبي زكريا التبريزي أنه كان قاعدًا في مسجده بمعرة النعمان بين يدي الأستاذ يقرأ عليه شيئًا من تصانيفه، وكان قد أقام عنده سنين لم ير أحدًا من أهل بلده، فدخل المسجد بعض جيرانه فرآه وعرفه فتغير من الفرح وأحس أبو العلاء بشيء فسأله: أيش أصابك؟ فحكى له ما رآه.

قال أبو زكريا فيما رووا عنه: فقال لي أبو العلاء: قم وكلمه! فقلت: حتى أتمم السياق. فقال: قم. أنا أنتظر لك. فقمت وكلمته بلسان الأذربية — أهل أذربيجان — شيئًا كثيرًا، إلى أن سألت عن كل ما أردت. فلما رجعت وقعدت بين يديه قال لي: أي لسان هذا؟ قلت: هذا لسان أهل أذربيجان، فقال لي: ما عرفت اللسان ولا فهمته. غير أني حفظت ما قلتما. ثم أعاد عليَّ اللفظ بعينه، من غير أن ينقص عنه أو يزيد عليه في جميع ما قلت. فتعجبت غاية التعجب! كيف حفظ ما لم يفهم؟

وحدث أبو الحسن الدلفي المصيصي الشاعر، قال: لقيت بمعرة النعمان عجبًا من العجب. رأيت شاعرًا ظريفًا يلعب بالشطرنج والنرد ويدخل في كل فن من الجد والهزل، يكنَّى أبا العلاء، وسمعته يقول: أنا أحمد الله على العمى كما يحمده غيري على البصر.

تلك هي العلامات الثلاث مجتمعات لأبي العلاء: إطناب في الإعجاب، ونهاية في الزراية، وحيرة في كلام واصفيه كحيرة المتحدثين عن خوارق الغيب وعجائب الأساطير.

وإذا بلغ من تعدد الجوانب برجل واحد أن يقول قوم إنه فخر بني الإنسان، ويقول قوم إنه كلب وحمار، ويسلكه أناس في زمرة الشيطان ويحسبه أناس وليًّا مستجاب الصلاة، ويخيل إلى فريق أنه ساحر وإلى فريق أنه طرفة من الطرف وأسطورة من الأساطير؛ فذاك هو الأفق الواسع، وتلك هي العظمة الباقية … ومن شهده في زمانه فلا حاجة به أن ينتظر ألف عام ليعلم أنه باقٍ إلى ألف عام، وأنه محتَفَل به بعد ألف عام، أو ينبئ الدنيا بامتداد خبره ما بقي لعصره خبر بين سجلات العصور.

•••

وها قد مضى اليوم ألف سنة هجرية على اليوم الذي وُلِدَ فيه أبو العلاء لثلاث بقين من شهر ربيع الأول سنة ثلاثمائة وثلاث وستين. ولد كثيرون في هذه السنين الطوال كما ولد، ومات كثيرون كما مات، وتكررت الولادة والوفاة في الأمم العربية مئات الملايين من المرات، ولكن ذلك المولد النادر لم يتكرر قط في هذه السنين، ولم يزل مولد ذلك الوليد حادثًا فردًا بين ثمرات الأصلاب والبطون، يستحق أن يعاد إليه من سنة إلى سنة، ومن جيل إلى جيل، ومن ألف عام إلى ألف عام.

وبين الذين كررتهم الدنيا ألوف من أمثال ذلك المسكين المغرور الذي أغضبه السؤال عن أبي العلاء بين يديه، ورأى من سوء الأدب في مجلسه أن يعاد له اسم على مسمع منه، ولكن التاريخ الذي كررهم كثيرًا ومل من تَكرارهم طويلًا لم يدركه الملال من ترديد اسم أبي العلاء المغضوب عليه وعلى من سأل عنه. ولم يَرَ من سوء الأدب أن يصبح ويمسي بتمجيده، وأن يحصي الأحقاب بعد الأحقاب لملاقاته في يوم عيده. بل رأى من سوء الأدب أن تمضي ألف سنة ولا يستوقف الزمن الماضي محتفلًا بذكراه، مستعيدًا لميلاده، مشيرًا إلى مطلعه كما يشار إلى ظواهر الكون التي تُستعاد، لأنها قلما تعود.

ولقد وقف على قبره — يوم وفاته — ثمانون شاعرًا أو يزيدون، وتقف على قبره اليوم أمم العروبة جمعاء، وأمم شتى من جميع الأقطار والأنحاء، مئين أو فوق المئين، ينوب منها الشاهدون عن الغائبين.

وإذا عدل الزمان، فهذا الوفاء هو سواء الميزان، بين أناس وسموه بعزة القدر، وأناس وصموه بخسة الحيوان.

•••

تسلَّفت هذه الذكرى قبل ست سنوات.

وكانت الصحف السورية قد نقلت إلينا في ذلك الحين أن حكومتها فرغت من مراجعة رسم التابوت الذي أزمعت إقامته في المعرة على قبر أبي العلاء، وأنها تعد العدة للاحتفال بانقضاء ألف سنة هجرية على وفاة الشيخ، والصواب على مولده كما هو ظاهر، وكما نشير إليه بعد سطور.

فخطر لنا أن أبا العلاء قد دعي من حظيرة الخلود إلى شهود ذكراه، وأن الأمد لا يزال فسيحًا بيننا وبين ذلك اليوم المشهود؛ ففي ذلك الأمد متسع لرحلة علائية حول الكرة الأرضية، يرى فيها ما يعنينا أن يراه، ويقول فيها ما ينبغي أن يقول، أو نقول نحن على لسانه ما يشبه مقاله في أوانه، قياسًا على ما صنع هو في السماء حين حدَّثنا في رسالة الغفران بلسان الأدباء والشعراء، وجعل لهم من كلامهم وأخبارهم دليلًا له في كلامه وأخباره.

فكتبنا يومئذٍ سلسلة هذه الفصول التي سميناها «رجعة أبي العلاء»، وعرضنا فيها حوادث الدنيا كما تتمثل له ولمن ينظرون إلى أمور العصر الحاضر مثل نظرته في سائر الأمور. ونحسب أننا أتينا بصفوة الآراء التي توافقه وتستخلص من جملة تفكيره، ما لم يكن قد تغير نظره بعد موته، وهو مستحيل!

ونحسب كذلك أننا لم ننحله رأيًا ينكره لو أنه عاد إلى هذه الحياة الدنيا في زماننا هذا، لأننا شفعنا آراءه الحاضرة بأقواله المحفوظة فيما عرض له من خطوب زمانه، فتشابهت الأقوال وتقاربت الأحكام، وبقي على من يخالفنا أن يزعم أن هذه الآراء غريبة عن منحى أبي العلاء في تفكيره، ويثبت ذلك بكلامه وآرائه في مثل ما نحلناه. ويومئذٍ يظهر أن الإنكار هو الدعوى التي تفتقر إلى الشواهد والبينات.

•••

وقد مضى الآن زهاء ست سنوات منذ كتبنا هذه الفصول، دارت فيها الأيام دورتها واضطربت فيها الحوادث اضطرابها. فلا شك أننا حين وصفنا الحوادث كما وصفناها واستطلعنا العواقب كما استطلعناها، لم نقحم على حكيم المعرة رأيًا كذَّبه الواقع وأنكره الحق الصادع، ولم ننحله قولًا يزري بصائب فهمه أو يقدح في صادق حكمه. فإن كنا وافقناه فقد أرضيناه، وإن كنا خالفناه فما أخجلناه.

ومن محاسن الاتفاق أن تحتفل الأمم العربية بتمجيد أبي العلاء وهي تتطلع إلى استقلال كريم يرضي الحكيم العربي الصميم، وتنهض إلى مجد طريف يستجد لها معالم المجد القديم، وأن تعاد «رجعة أبي العلاء» في طبعتها الثانية والدعوة إلى الاحتفال جارية إلى مجراها، ووفود الحجيج المعري مستبقة إلى ملتقاها، فهي تحية في الأوان، وقربان على ذلك المحراب … مزاجه الشكر والعرفان.

عباس محمود العقاد

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤