الاختراع

السفينة في طريقها إلى المشرق والمعري وصاحبه على مقدمها يستقبلان الهواء، والمذياع يغني الأنشودة المشهورة على لسان امرأة لاهية تقول بالفرنسية:

عندما تضمني بين ذراعيك، أنا أعلم الكلمة التي ستقولها. ستقول إني أحبك! وهي كلمة كاذبة ولا شك، ولكني مع هذا أحب أن أسمع صوتك …

والفيلسوف يسأل: ماذا تقول هذه المرأة؟ والتلميذ يترجم الأنشودة ويتخابث في سؤال الشيخ عن رأيه في هذه المناجاة العصرية، على لسان امرأة تخاطب رجلًا، أو على لسان النساء يخاطبن الرجال.

والشيخ يتأمل باسمًا ويجيب تلميذه راضيًا رضى القانطين المستسلمين: «هو الغرب كله يا بني ماثل في هذه الأنشودة اللاهية: هو الغرب الذي يأخذ من الحياة ما تعطيه، ويطلب السرور، ثم لا يسوم دنياه طلب الوفاء والكمال، هو الغرب الذي يأخذ كل شيء بقيمته وكل شيء على حقيقته، ثم يصقله ويحببه إلى نفسه ليستسيغه ويستمرئ مذاقه، هو الغرب ذو النفس الناطقة التي لا تقول كلمة في جدِّها ولا لهوها إلا جمعت فيها خلاصة ما عندها من حضارة وأخلاق وفلسفة وشعور.»

قال التلميذ: أوليست كل النفوس ناطقة؟ ألا تفصح كل نفس عن دخيلتها في غنائها ومناجاتها؟

قال الشيخ: بلى، ولكن شتان تعبير اللسان الذي يقول فيجمع حياته فيما يقول، وتعبير الثمرة التي ترى قشرتها فترى من لونها وتشم من رائحتها أنها ناضرة أو ذاوية، وصحيحة أو معطوبة: ذلك تعبيرُ الفضل كله فيه للقائل، وهذا تعبير الفضل كله فيه للناظر، وكلاهما تعبير ولكن المسافة بينهما كالمسافة بين الحياة والجمود، والحركة والركود.

فصاح التلميذ: اليوم سيدي الشيخ عربي وهو يفارق الغرب إلى الشرق! فهلا كان غريبًا وهو في بلاد القوم مستريح؟ أم كتب على الإنسان أن يحب ما يفارق ولا يزال ساخطًا على ما هو فيه؟

فصمت الشيخ هنيهة، ثم راح يمضغ بين شفتيه:

يا ماء دجلة ما أراك تلذ لي
شوقًا كماء معرة النعمان

اطمئن يا بني. ما أنا إلى الغرب ولا أنا إلى الشرق. أنا إلى معرة النعمان فهلا آن الأوان؟

•••

فأراد التلميذ أن يطاوله ويصرفه عمَّا ورد على نفسه في تلك اللحظة من الحنين إلى وطنه، وعاد يحاوره وكأنما يتحداه ليستثيره ويجنِّبه غاشية السوداء التي هو مقبل عليها: أفي المعرة مثل هذه السفينة ومثل هذا المذياع ومثل هذا الصوت الجميل ومثل هذه الأعاجيب!

وكان المعري قد ركب السفائن والطائرات، وعرف مطايا الكهرباء ومطايا البخار، وقال في كل منها قولة عارضة وهو يركبها أو يترجل منها. إلا أنها رحلة العودة ففيها خلاصة المقال ونهاية المآل، فيما رأى من هذه الصنوف والأشكال، فقال: وما حاجة المعرة إلى سفائن البحار فيها السيارة وتحوم على فضائها الطيارة؟ ولو كان فيها بحر لكان فيها مثل هذه السفينة ومثل هذه الضوضاء.

قال التلميذ: وكلها من صنع الغرب الذي ما أدري أيبرم به الأستاذ أم هو مشوق إليه؟

قال المعري: الآن فهمت ما تريد، فهلا أنبأتني يا بني ماذا صنع الغرب من هذه الآلات يوم كُنَّا نعيش حياتنا الدنيا في المعرة؟ لعمرك يا بني ما صنعوها اليوم إلا لأنهم قد احتاجوا إليها، وإلا لأنهم قد بنوا على أساس ما سبقها وهيَّأ أسبابها من صناعات القرون الأولى. يا بني لا تهولنك المظاهر ولا تعجبك كثرة الأعداد، فلعل مبتدع الشراع والدولاب أحذق من مبتدع البخار والكهرباء، ولعل القوس والسهم أبرع في اختراعهما من المدفع والقذيفة، ولعلهم كانوا يعيشون على عهد الشراع خيرًا من هذه العيشة، ولعلهم كانوا يموتون على عهد القسي والسهام أكرم من هذه الميتة! ولعل متعة الحالم بالطيران أحب إليه من متعة الطائر بالجثمان.

•••

قال التلميذ: ولا أحسبني مع هذا مخطئًا إذا قلت إنني لمحت دلائل الدهشة على وجه الأستاذ يوم ركبنا الهواء أول ما ركبناه.

قال أبو العلاء: تلك دهشة تغني عن دهشات.

فسأل التلميذ: أيحب مولاي أن أفهم من هذا أن الكهرباء والبخار وما صنع الإنسان منهما لا تستحق دهشة الحكيم كما يستحقها الإنسان الطائر في الهواء؟

قال أبو العلاء: لا أحب أن تفهم هذا ولا أكرهه، ولكنني دهشت لمعنى ما رأيت حين رأيته أول لمحة، ثم أغناني ذلك عن دهشتي للمصنوعات المكررة والظواهر المختلفة، أتحسب أن من يدهش للطيران في الهواء خليق أن يدهش لكل متحرك بالبخار والكهرباء؟ أفمن شهد الشراع مرة خليق أن يدهش له مرات كلما حركته ريح شمال أو ريح جنوب؟ ذلك معنى واحد في ألفاظ شتى، أو ذلك جسد واحد في مختلف الثياب، وحسبك أن تعلم أن تسخير القوى التي يسمونها بالقوى الطبيعية مستطاع لتزول عنك الدهشة من كل ما يستطاع من هذا الطراز.

فاندفع التلميذ سائلًا: أفكل هذه الآلات إذن ليست بالفتح الجديد؟ أليس فيها ما يستوقف الحكماء من تاريخ بني الإنسان فيما يرى سيدي الأستاذ؟

فلم يمهله أبو العلاء هنيهة، وأجاب: لا فتح ولا إقفال!

وربما فتحت هذه الآلات لإنسانك يا بني فتحًا جديدًا لو أنه سخر الآلات ثم أطلق نفسه من العقال، أو لو أنه ملك نفسه يوم ملك آلات الأرض والهواء، ولكنه سخر الآلات المصنوعة ليصبح شبيهًا بها، ثم ازداد في التسخير ليزداد في الشبه. فهو أسير ما صنع ورهين ما ابتدع، فإن سمَّيت هذا فتحًا فالله يفتح عليك.

•••

ولم تخفَ لذعة السخر والمرارة في كلمة الشيخ الأخيرة على فطنة تلميذه الملحاح، فقال وهو لا يتعمد الإطالة في الحوار: أخال إنسان اليوم على جميع حالاته أطلق من آبائنا الأولين!

فتمتم أبو العلاء هامسًا: أكذاك؟

ثم انثنى يقول: لأمرٍ ما كان الأوائل يروضون الحيوان وكنتم في زمانكم هذا تروضون الجماد: كلٌّ قريبٌ إلى ما يروِّض! وما أحسبكم تفلحون في رياضة حيوان واحد بعد الذي راضه آباؤكم المتقدمون، ولكنكم كلما قاربتم الآلات خرجتم من رياضتها في كل يوم بجديد.

•••

وتعمد التلميذ المناوأة الخفية فقال: ومع هذا يغبط مولاي الجماد ويسبِّح الله الذي أعفاه من الطعام والكساء ومن الرحلة والشقاء.

ولم يرفض أبو العلاء هذه المناوأة بل جرى في مجراها فقال متمنيًا أو متهكمًا على حدٍّ سواء: لو عوفيتم كما عوفي الجماد!

فأنس التلميذ إلى هذا التهكم الرقيق وراح يسأل: وهل عوفي الأقدمون؟

قال أبو العلاء: كلا. على هذا مضيتم ومضى السلف، إلا أنهم صبروا حيث تضجرون، وطلبوا من الدنيا دون ما تطلبون، فإذا كانوا مثلكم في الشقاء فلقد كانوا أقل منكم في الشكاة، وإذا كان نصيبهم كنصيبكم من الخير فالذي يطلب الألف ويجد المائة محروم، والذي يطلب العشرة ويجد الخمسين مجدود لا تحسبه من أهل الحرمان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤