الفصل الرابع

نحو التجريد

البرهان معبودٌ يُعذِّب الرياضيُّ نفسَه أمامه.

السير آرثر إدينجتون

بعد بحثِ إرنست كومر، بدَت الآمال بشأنِ إيجاد برهان للمبرهنة الأخيرة أضعفَ من أيِّ وقتٍ مضى. علاوةً على ذلك، كانت الرياضياتُ قد بدأَت تنتقلُ إلى مجالات مختلفةٍ من الدراسة، وكان ثَمة مجازفةٌ بأن يتجاهلَ الجيلُ الجديد من علماءِ الرياضيات ما كان يبدو أنه مشكلةٌ لا حلَّ لها. في بداية القرن العشرين، كانت المسألةُ لا تزال تحتلُّ مكانةً مميزة في قلوب علماءِ نظرية الأعداد، لكنهم كانوا ينظرون إلى مبرهنة فيرما الأخيرة، بالطريقة نفسِها التي ينظر بها الكيميائيُّون إلى علم الكيمياء القديمة. كلاهما حُلم رومانتيكيٌّ أحمقُ من زمن ماضٍ.

وفي العام ١٩٠٨، منحَ بول ولفسكيل، وهو رجلُ صناعةٍ ألماني من مدينة دارمشتات، المسألةَ فرصةً جديدة في الحياة. كانت عائلةُ ولفسكيل تشتهر بثَرائها ورعايتها للآدابِ والعلوم، ولم يكن بول استثناءً. كان قد درَس الرياضيات في الجامعة، وبالرغم من أنه كرَّس الجزءَ الأكبر من حياته لبناء إمبراطورية الأعمال الخاصة بالعائلة، فقد ظل على تواصلٍ مع علماء الرياضيات المحترفين، وظل يخوض بعضَ الشيء في نظرية الأعداد. لقد رفض ولفسكيل الاستسلامَ لمبرهنة فيرما الأخيرة تحديدًا.

لم يكن ولفسكيل عالمَ رياضياتٍ نابغًا بأيِّ حال من الأحوال، ولم يكن مقدَّرًا له أن يقومَ بإسهامٍ كبير في إيجاد برهانٍ لمبرهنة فيرما الأخيرة. بالرغم من ذلك، فبسببِ سلسلة غريبةٍ من الأحداث؛ أصبح مرتبطًا بمسألةِ فيرما إلى الأبد، وصار مصدرَ إلهامٍ للآلاف بأن يتصدَّوا للتحدي.

تبدأ القصة بافتتانِ ولفسكيل بامرأةٍ جميلة لم تتأكَّد هُويتها قط. ومن المؤسف أنَّ هذه المرأة الغامضة قد رفَضَته؛ فصار في حالةٍ من اليأس الشديد حتى إنه قرر الانتحار. لقد كان رجلًا شَغوفًا، لكنه لم يكن أرعنَ، وخطَّط لموته بأدقِّ التفاصيل. حدد تاريخًا لانتحارِه، وقرَّر أنه سيُطلق الرصاص على نفسه في الرأس عند دقةِ الساعة في منتصف الليل. في الأيام المتبقية له أرسى جميعَ شئون عمله الناجح، وفي اليوم الأخير كتب وصيته وكتب الرسائلَ لجميع أصدقائه المقربين وأفراد عائلته.

كان ولفسكيل على درجةٍ كبيرة من الكفاءة حتى إنه قد انتهى من كلِّ شيء قُبيل موعدِه النهائيِّ المحدَّد في منتصف الليل، ولكي يُسلِّي نفسه ريثما تنقضي الساعات ذهبَ إلى المكتبة وبدأ يستعرضُ المنشورات الرياضية. لم يَمضِ وقتٌ طويل حتى وجَد نفسه مُحدِّقًا في ورقةِ كومر الكلاسيكية التي تُفسِّر سبب فشلِ كوشي ولاميه. كانت تلك الورقة من أفضلِ العمليات الحسابية في العصر، ومادةً مناسبة للقراءة في اللحظات الأخيرة لعالمِ رياضياتٍ ذي نَزْعة انتحارية. قرأ ولفسكيل العمليةَ الحسابية سطرًا تِلو الآخر. وقد بُهِت فجأةً مما بدا له فجوةً منطقية: لقد ذكر كومر افتراضًا ولم يُقدِّم تسويغًا لإحدى الخطواتِ في حُجته المنطقيَّة. تساءل ولفسكيل عما إذا كان قد كشف عن عيبٍ خطير، أم أنَّ افتراضَ كومر له ما يُسوِّغه. إذا كان الاختيار الأول هو الصوابَ، فثمة احتمالٌ بأنْ يكون إثباتُ مبرهنة فيرما الأخيرة أسهلَ كثيرًا مما افترض الكثيرون.

جلس وأخذ يستكشفُ ذلك الجزء غير المناسب من البرهان، وانهمكَ للغاية في وضعِ برهانٍ مصغَّر كان سيُرسِّخ حُجَّة كومر أو يُثبت أنَّ افتراضه كان خاطئًا، وفي هذه الحالة سيصيرُ بحثُ كومر بأكملِه باطلًا. بحلول الفجر، كان قد انتهى من مهمته. أما الأخبار السيئة فيما يتعلَّق بالرياضيات فهي أنَّ برهان كومر قد أُصلِح، وظلَّت المبرهنة الأخيرة بعيدةَ المنال. أما الأخبار الجيدة فهي أنَّ الوقت المحدد للانتحار قد فات، وكان ولفسكيل فَخورًا للغاية بأنه اكتشف ثغرةً منطقيَّة في عمل العظيم إرنست كومر وصوَّبها، حتى إنَّ مشاعرَ اليأس والأسى قد تلاشَت. لقد جدَّدَت الرياضياتُ رغبته في الحياة.

مزَّق ولفسكيل خطاباتِ الوداع التي كتبَها، وأعاد كتابةَ وصيته على ضوءِ ما حدث في تلك الليلة. وعقب موته في العام ١٩٠٨ قُرِئَت الوصية الجديدة، وصُدِمت عائلةُ ولفسكيل إذ عرَفت أنَّ بول قد وهَب جزءًا كبيرًا من ثروته لتكونَ جائزة لِمَن يتمكنُ من إثبات مبرهنة فيرما الأخيرة. كانت الجائزة التي بلغت ١٠٠٠٠٠ مارك، أي ما يَزيد على ١٠٠٠٠٠٠ جنيه إسترليني في الوقت الحاليِّ، هي طريقته لردِّ الدَّين للأحجية التي أنقذَت حياته.

وُضِعت النقودُ تحت تصرُّف «الجمعية الملَكية للعلوم في جوتينجن» التي أعلنَت المنافسةَ على جائزة ولفسكيل في ذلك العام نفسِه:

بموجب السلطة التي منَحَنا إياها د. بول ولفسكيل، المتوفَّى في دارمشتات، فإننا نُقدِّم جائزة قدرها مائة ألف مارك تُمنَح لأولِ مَن يُثبت مبرهنة فيرما العظيمة.

ويجب اتباعُ القواعد التالية:

  • (١)

    تتمتع الجمعية الملكيةُ للعلوم في جوتينجن بالحرية المطلقة في إصدارِ القرار بشأن مَن يُمنَح الجائزة. سترفض الجمعية قَبولَ أيِّ مخطوطة كان الهدفُ الوحيد من كتابتها هو دخولَ المسابقة للحصول على الجائزة. ولن تنظر الجمعية بعين الاعتبار إلَّا إلى المذكرات الرياضيَّة التي ظهَرَت على هيئةِ أبحاثٍ في الدوريات، أو تلك التي تُطرَح للبيع في المكتبات. وتطلب الجمعية من مؤلِّفي مثل هذه المذكرات إرسالَ ما لا يقل عن خمسِ نسخٍ مطبوعة.

  • (٢)

    الأعمال المنشورة بلغةٍ لا يفهمها المتخصِّصون الأكاديميون المعيَّنون في لجنة التحكيم، سوف تُستبعَد من المسابقة. ويُسمَح لمؤلفي مثلِ هذه الأعمال بأن يستبدلوا بها ترجماتٍ يضمنون تطابُقَها.

  • (٣)

    الجمعية غير مسئولة عن فحص الأعمال التي لا تُقدَّم إليها، ولا عن الأخطاء التي قد تنشأ عن حقيقةِ جهل الجمعية بمؤلفِ عملٍ ما، أو جزءٍ من عمل.

  • (٤)

    تحتفظ الجمعية بحقِّ اتخاذ القرار في حالةِ أن يكون عدةُ أشخاص قد عالَجوا حلَّ المسألة، أو في حالة أن يكون الحل نتيجةَ جهودٍ مجمَّعة لعددٍ من الباحثين، لا سيما فيما يتعلَّق بتقسيم الجائزة.

  • (٥)

    لن تمنح الجمعيةُ الجائزةَ إلا بعد عامين من نشر المذكرة التي ستفوز. والهدف من هذه الفترة البينيَّة هو السماح لعلماءِ الرياضيات الألمانِ والأجانب بالتعبير عن آرائهم بشأنِ صحة الحلِّ المنشور.

  • (٦)

    فور أن تُحدِّد الجمعيةُ مَن ستمنحُه الجائزة، ستُخبِر الأمانةُ العامة الفائزَ نيابةً عن الجمعية، وسوف تُنشَر النتيجة أينما أُعلِنت الجائزة خلال العام السابق. ولن يكون قرارُ تخصيص الجائزة الذي اتخذَته الجمعية موضوعًا لأيِّ مناقشات تالية.

  • (٧)

    سيُقدَّم مبلغُ الجائزة إلى الفائز في الشهور الثلاثة التالية لإعلان الجائزة، عن طريق أمين الصندوق الملَكي لجامعة جوتينجن، أو في أي مكان يُحدده المتلقِّي، على أن يكون ذلك على مسئوليته الشخصية.

  • (٨)

    يجوز تقديمُ مبلغِ الجائزة مقابل إيصالٍ وفقًا لمشيئة الجمعية، ويمكن أن يكونَ ذلك نقدًا أو بتحويلِ القيمة المالية. وتُعتبَر عملية دفع مبلغِ الجائزة قد اكتملَت عند تحويلِ هذه القيمة المالية، حتى إن كانت القيمةُ الإجمالية لا تبلغ حينها ١٠٠٠٠٠ مارك.

  • (٩)

    إذا لم يَفُز أحدٌ بالجائزة حتى الثالث عشر من سبتمبر عام ٢٠٠٧، فلن تُقبَل أيُّ مطالَبةٍ بها بعد ذلك.

تبدأ المنافسة على جائزة ولفسكيل من اليوم، وفقًا للشروط السابقة.

جوتينجن، ٢٧ يونيو ١٩٠٨
الجمعية الملكية للعلوم

من الجدير بالذكر أنَّ اللجنة ستمنحُ ١٠٠٠٠٠ مارك لأول عالم رياضياتٍ يُثبت صحةَ مبرهنة فيرما الأخيرة، لكنها، لن تمنح بيفنجًا واحدًا لأيِّ شخص قد يُثبت خطَأَها.

أُعلِنت جائزةُ ولفسكيل في جميع دوريات الرياضيَّات، وراحَت أخبارُ المنافسة تنتشر سريعًا في جميع أنحاءِ أوروبا. وبالرغم من حملةِ الإعلان والحافز الإضافي المتمثِّل في الجائزة المالية الضخمة، فقد عجزت اللجنة عن إثارة قدرٍ كبير من الحماس لدى علماء الرياضيَّات الجادِّين. كان غالبية علماء الرياضيات المحترفين ينظرون إلى مبرهنة فيرما الأخيرة باعتبارها قضيةً خاسرة، وقرَّروا أنهم لا يملكون أن يُهدِروا حيواتِهم المهنيةَ في العمل على مَسعًى عقيم. بالرغم من ذلك، فقد نجحَت الجائزةُ في تقديم المعضِلة إلى جمهورٍ جديدٍ تمامًا، حشد من أصحاب العقول المتحمِّسة الذين كانوا على استعداد لتكريس أنفسِهم للأحجية الكبرى وأن يقتربوا منها من مسار البراءة التامة.

(١) عصر الألغاز والأحجيات والطلاسم

منذ عصر اليونانيِّين وعلماءُ الرياضيات يسعَوْن إلى إضافةِ طابَعٍ من الإثارة في كتبهم عن طريقِ صياغة البراهين والمبرهنات في صورة حلولٍ لألغاز الأعداد. وفي خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وجد هذا النهجُ الفُكاهي في معالجة الموضوع طريقَه إلى الصحافة الشعبية، وصارت ألغازُ الأعداد توجد بجوار ألعاب الكلمات المتقاطعة وإعادةِ ترتيب الأحرف. وفي التوقيتِ المناسب، بدأ جمهورُ الألغاز الرياضية يتزايد، بينما أخذ الهواة يتأمَّلون كل شيء، سواء أكان من أتفهِ الأحجيات أم من المعضلات الرياضيَّة العميقة، مثل مبرهنة فيرما الأخيرة.

وربما يكون أغزرُ مؤلِّفي الأحجيات إنتاجًا هو هنري دوديني الذي كان يكتب لعشرات الصحفِ والمجلات، ومنها «ذا ستراند» و«كاسلز» و«ذا كوين» و«تيت-بيتس» و«ذا ويكلي ديسباتش» و«بلايتلي». ومن مؤلفي الألغاز العظام في العصر الفيكتوري أيضًا، المبجَّل تشارلز دودجسون، الذي كان مُحاضِرًا للرياضيات في كنيسة كرايست بأوكسفورد، والذي يَشتهرُ باسم المؤلف لويس كارول. كرَّس دودجسون سنواتٍ عديدةً في تجميعِ مجموعة ضخمة من الألغاز تحت عنوان «كوريوسا ماثيماتيكا»، وبالرغم من أنَّ السلسلة لم تكتمل، فقد كتب منها عدةَ أجزاء، ومنها «مسائل الوسادة».

أما مؤلِّف الأحجيات الأعظمُ من بينهم جميعًا، فهو العبقريُّ الأمريكي سام لويد (١٨٤١–١٩١١)، الذي كان يُحقِّق رِبحًا كبيرًا في سنواتِ مراهقته بتأليف ألغازٍ جديدة، وإعادة ابتكارِ ألغازٍ قديمة. وقد ذكر في كتابه «سام لويد وألغازه: استعراضٌ للسيرة الذاتية» أنَّ بعضًا من ألغازه الأولى قد ابتُكِرت لمالكِ السيرك وصاحب الحيل: بي تي بارنَم:

قبل عدة سنوات، حين كان سيرك بارنَم هو «أعظم استعراضٍ على وجه الأرض» بحق، طلب مني صاحبُ الاستعراض الشهيرِ أن أُعِدَّ له سلسلةً من أحاجيِّ الجوائز لأغراض الدعاية. وقد أصبحَت تشتهر على نطاقٍ كبير باسم «أسئلة أبي الهَول»، بسبب الجوائزِ الضخمة التي كانت تُعرَض لمن يتمكَّنُ من حلها.

من الغريب أنَّ هذه السيرة الذاتية قد كُتِبت عام ١٩٢٨، أي بعد وفاة لويد بسبعةَ عشر عامًا. ورَّث سام دَهاءه لابنه الذي كان هو أيضًا يُدعى سام، وهو المؤلف الفِعْلي للكتاب؛ إذ كان يعرف تمامَ المعرفة أنَّ مَن يشتريه سيظنُّ عن طريق الخطأ أنَّ مؤلفه هو سام لويد الأب، الأكثرُ شهرة.

fig26
شكل ٤-١: رسم كرتوني يُعبِّر عن الهوس الذي سبَّبَته أحجيةُ سام لويد «١٤-١٥».
كانت أشهر الأحجيات التي ابتكَرها لويد، هي المعادلَ الفيكتوري لمكعب روبيك، الأحجية «١٤-١٥»، التي لا تزال توجد في متاجرِ الألعاب حتى اليوم. تتمثَّل هذه الأحجية في خمسَ عشرة بلاطةً تُرتَّب في شبكة مساحتها ٤ × ٤، والهدف هو زحلقة البلاط وإعادة ترتيبه على النحو الصحيح. كانت أحجية «١٤-١٥» التي ابتكرها لويد تُباع بالترتيبِ الموضَّح في الشكل ٤-١، وقد عرض جائزة قيِّمة لمن يتمكَّن من إكمال الأحجية بتبديلِ القطعتين «١٤» و«١٥» إلى موقعَيهما الصحيحَين من خلالِ أيِّ مجموعة من حركات زحلقة قطع البلاط. كتب ابن لويد عن الضجَّة التي أحدَثَتها هذه الأحجيةُ العملية وإن كانت أحجيةً رياضية في جوهرها:

فالجائزة التي تبلغ قيمتها ١٠٠٠ دولار، والتي عُرِضت لأولِ مَن يتمكن من تقديم الحلِّ الصحيح، لم تُؤخَذ قط، بالرغم من أنَّ آلافَ الأشخاص قالوا إنهم تمكَّنوا من تحقيقِ الحركة المطلوبة. صار الناسُ مهووسين بالأحجية، وثَمة حكاياتٌ هَزْلية عن أصحابِ متاجر قد غفَلوا عن فتحِ متاجرهم، وعن قَسٍّ شهيرٍ قد وقف تحت أحدِ مصابيح الشارع في ليلةٍ شتوية في محاولة لتذكُّرِ الطريقة التي نفَّذ بها الحركة. إنَّ السِّمَة المميزةَ لهذه الأحجية هو أنَّ أحدًا لا يستطيعُ على ما يبدو تذكُّرَ سلسلةِ الحركات التي يكونون على يقينٍ من أنهم قد نجَحوا في حلِّ الأحجية باستخدامها. يُحكى أنَّ طيَّارين قد حطموا طائراتهم، ومهندسين قد اندفَعوا بقطاراتهم بعد المحطة. ويحكي أحدُ محرِّري بالتيمور المشهورين كيف أنه قد ذهب لتناول غَدائه في فترة الظهيرة، ليجدَه طاقمُ عمله المهتاج بعد منتصف الليل، وهو يدفعُ قطعًا صغيرة من فطيرته على الطَّبق.

كان لويد واثقًا على الدوام من أنه لن يُضطرَّ أبدًا إلى دفع الألف دولار؛ لأنه كان يعرف استحالةَ تبديل قِطعتَين فقط دون تدميرِ الترتيب في أماكنَ أخرى في الأحجية. فبالطريقة نفسِها التي يستطيعُ الرياضيُّ أن يستخدمها لإثبات عدم وجود حلٍّ لمعادلة معيَّنة، استطاع لويد إثباتَ عدم وجود حلٍّ لأحجيته «١٤-١٥».

بدأ برهان لويد بتحديد كميةٍ تَقيس حجمَ الاضطراب في أحجيتِه، وهي مُعامل الاضطراب . يُعرَّف معامل الاضطرابِ في أيِّ شكل محدَّد بأنه عددُ أزواج البلاط الموجودة في الترتيب الخاطئ، ومثلما يتَّضح في الشكل ٤-٢(a)، فإنَّ ، بسبب عدم وجود أيٍّ من قِطَع البلاط في الترتيب الخاطئ.
إذا بدأنا بالأحجية المرتَّبة، ثم حرَّكْنا قطع البلاط من أماكنِها، فسوف يكون من السهلِ نِسبيًّا أن نَصِل إلى الترتيب الموضَّح في الشكل ٤-٢(b). نجد أنَّ قِطعَ البلاط في أماكنها الصحيحة إلى أن نصل إلى القطعة رقم ١١ والقطعة رقم ١٢. من الواضح أنَّ القطعة رقم ١١ يجب أن تأتيَ قبل القطعة رقم ١٢؛ ومِن ثَمَّ فإنَّ هذين الزوجين من البلاط موضوعان بالترتيبِ الخاطئ. والقائمة الكاملة لأزواج البلاط الموضوعِ بالترتيب الخاطئ هي كما يلي: (١٢، ١١) و(١٥، ١٣) و(١٥، ١٤) و(١٥، ١١) و(١٣، ١١) و(١٤، ١١). ونظرًا إلى وجود ستةِ أزواج من البلاط في الترتيب الخاطئ في هذا الشكل، فإنَّ . لاحظ أنَّ القطعتين ١٠ و١٢ متجاورتان، وهو غيرُ صحيح بالطبع، لكنهما ليستا في الترتيب الخاطئ. ولهذا؛ فإنَّ هذا الزوج من البلاط لا يدخل في معامل الاضطراب.
وبعد القليل من تحريكِ قطع البلاط، نصل إلى التوليفة الموضحة في الشكل ٤-٢(c). وإذا جمَعْنا قائمةً بأزواج البلاط الموجودة في الترتيب الخاطئ، فسوف نجد أنَّ . والأمر المهمُّ الذي ينبغي ملاحظتُه هو أنَّ قيمة معامل الاضطراب في جميع هذه الحالات (a) و(b) و(c)، عدد زوجي: (٠ و٦ و١٢). والحق أنَّك إذا بدأتَ بالتوليفة الصحيحة وواصلتَ إعادة ترتيبها، فسوف تجد أنَّ هذه العبارة صحيحة على الدوام. ما دام الحال ينتهي بالمربع الفارغِ في أسفل الركن الأيمن، فإنَّ أيَّ مقدار من تحريك قِطَع البلاط سيُنتج لنا على الدوام قيمةً زوجية ﻟ . والقيمة الزوجية لمعامل الاضطراب هي خاصية جوهرية لأيِّ توليفة مشتقَّة من التوليفة الأصلية الصحيحة. وفي الرياضيات، تُعرَف الخاصية التي تنطبق صحتها بصرف النظر عن أيِّ شيء قد يُجرى على الجسم، باسم «الثابت».
fig27
شكل ٤-٢: من خلال تحريك قطع البلاط، يمكن تشكيلُ العديد من التوليفات المضطربة. ويمكن قياسُ كمية الاضطراب في كل توليفة منها من خلال معامل الاضطراب .
بالرغم من ذلك، إذا تفحَّصْنا التوليفةَ التي كان لويد يبيعُها، والتي قد بُدِّلت فيها القطعتان ١٤ و١٥، فسوف نجد أنَّ معامل الاضطراب ، أي إنَّ الزوجَين الوحيدَين من قطع البلاط الذي يقعُ في غير ترتيبِه الصحيح هما الزوجان ١٤ و١٥. إنَّ قيمة مُعامل الاضطراب في توليفة لويد عدد فردي! غير أننا نعرف أنَّ قيمة معامل الاضطراب في أي توليفة مشتقَّة من التوليفة الصحيحة لا بد أن تكون عددًا زوجيًّا. نستنتج من ذلك أنَّ توليفةَ لويد ليست مشتقَّة من التوليفة الصحيحة، وفي المقابل، من المحال أن نُعيد توليفةَ لويد إلى الشكل الصحيح؛ لقد كانت الألف دولار التي أعلنَها لويد جائزة في أمان.

إنَّ أحجية لويد ومعامل الاضطراب يُوضِّحان فعالية الثابت. والثوابت تُوفِّر لعلماء الرياضيات استراتيجيةً مهمَّة لإثباتِ استحالة تحويل شيءٍ إلى شيء آخَر. فمن المجالات التي تسترعي كثيرًا من الاهتمام في الوقت الحاليِّ، دراسة العُقَد، ويهتمُّ مُنظِّرو العُقَد بالطبع بمحاولةِ إثبات ما إذا كان من الممكن تحويلُ عقدةٍ إلى عقدة أخرى من خلال الجَدْل أو تكوين الحلقات لكن دون القطع. ومن أجل الإجابة عن هذا السؤال، يُحاولون إيجادَ خاصية في العُقدة الأولى لا يمكن تدميرُها مهما زاد مقدار الجَدْل وتكوين الحلقات، أي ثابت العُقْدة. وبعد ذلك، يقومون بحساب قيمةِ هذه الخاصية نفسِها في العُقدة الثانية. إذا كانت هذه القيمة مختلفةً؛ فسوف يكون الاستنتاجُ هو استحالةَ الانتقال من العقدة الأولى إلى العقدة الثانية.

حتى ابتكار هذا الأسلوبِ في عشرينيَّات القرن العشرين على يد كيرت ريديمستر، لم يكن من الممكن إثباتُ استحالةِ تحويل عُقدة إلى أي عقدةٍ أخرى. ومعنى هذا أنه قبلَ اكتشاف ثوابتِ العقد، لم يكن من الممكن إثباتُ أنَّ العقدة المزدوجة سهلةُ الفكِّ تختلف اختلافًا جوهريًّا عن العقدة الشراعية أو عن النصف العقدة، أو حتى عن حَلْقة بسيطة ليس بها أيُّ عقدة على الإطلاق. إنَّ مفهوم الخاصية الثابتة مفهوم جوهريٌّ في العديد من البراهين الرياضية الأخرى، ومثلما سنرى في الفصل الخامس، فإنه سوف يُعيد مبرهنة فيرما الأخيرة إلى تيار الرياضيات مرةً أخرى.

بحلول نهاية القرن، صار هناك بسبب أمثالِ سام لويد وأحجيته «١٤-١٥»، الملايينُ من هُواة حلِّ المشكلات في جميع أنحاء أوروبا وأمريكا الذين يتطلَّعون بنهَمٍ إلى التحدِّيات الجديدة. وفورَ أن وصلَت أنباءُ إرثِ ولفسكيل إلى هؤلاء الرياضيِّين الناشئين، صارت مبرهنة فيرما الأخيرةُ هي أشهرَ معضلاتِ العالم من جديد. لقد كانت المبرهنةُ الأخيرة أكثرَ تعقيدًا من أصعب أحجيات لويد على نحوٍ لا نهائي، لكنَّ الجائزة كانت أعظمَ كثيرًا. كان الهُواة يحلمون بأن يتمكَّنوا من التوصل إلى خدعةٍ سهلة تكون قد غَفَل عنها أساتذة الماضي العظام. كان هواةُ القرن العشرين يتعادلون مع بيير دو فيرما إلى حدٍّ كبير فيما يتعلق بالمعرفة بالأساليب الرياضية. غير أنَّ التحديَ كان يتمثَّل في مُجاراة البراعة التي استخدم بها فيرما أساليبَه.

في غضونِ أسابيعَ قليلةٍ من إعلان جائزة ولفسكيل، انهال على جامعة جوتينجن سيلٌ من المشاركات. ولا غَرْو أنَّ جميعَ البراهينِ كانت مغلوطةً. وبالرغم من أنَّ جميعَ المشاركين في المسابقة كانوا مقتنِعين بأنهم حلُّوا هذه المعضلةَ التي يعود تاريخها لقرون، فقد ارتكَبوا جميعًا في حُججِهم المنطقية، أخطاءً خفيَّة أو غيرَ خفية في بعض الأحيان. إنَّ فن نظرية الأعداد يتسم بدرجة كبيرة من التجريد، حتى إنَّه من السهل للغايةِ أن ينحرفَ المرءُ عن المسار المنطقي دون أن يعيَ انحرافه ذاك على الإطلاق. ويوضِّح الملحقُ ٧ أمثلة على الأخطاء الكلاسيكية التي يسهل على الهواةِ المتحمِّسين أن يغفلوا عنها.

وبصرفِ النظر عن هُويَّة مُرسِل البرهان، كان يجب مراجعة كلٍّ منها بدقة، تحسبًا لأن يكون أحدُ الهواة المجهولين قد توصَّل إلى البرهان الأكثر طلبًا في الرياضيات. كان رئيس قسم الرياضيات في جامعة جوتينجن في المدَّة بين ١٩٠٩ و١٩٣٤ هو البروفيسور إدموند لاندو، وكان فحص المشاركات في جائزة ولفسكيل من مسئولياته. وجَد لاندو أنَّ أبحاثه تُقاطَع باستمرار لاضطراره إلى فحص العشرات من البراهينِ المغلوطة التي تصل إلى مكتبه كلَّ شهر. وللتكيُّف مع هذا الوضع، ابتكر البروفيسور وسيلةً بارعة للتخفيف من عبء هذا العمل. لقد طبع مئات البطاقات التي ورَد فيها ما يلي:

العزيز …

شكرًا على مخطوطتك بشأنِ برهان مبرهنة فيرما الأخيرة.

الخطأ الأول يَرِد في:

الصفحة … السطر …

وهذا يُبطِل البرهان.

البروفيسور إي إم لاندو

كان لاندو بعد ذلك يُعطي كلَّ مشاركة جديدة مع بطاقة إلى أحد طلابه ويطلب منه أن يملأَ الفراغات.

تتابعت المشاركاتُ بلا انقطاعٍ على مدى سنوات، حتى بعد الانخفاضِ الكبير لقيمةِ جائزة ولفسكيل نتيجةً للتضخم المفرِط الذي تلا الحربَ العالمية الأولى. ثَمَّة شائعاتٌ تقول بأنَّ مَن يفوز في المنافسة اليوم، لن تَكفيَه نقودُ الجائزة إلا في شراء كوبٍ من القهوة، غير أنَّ هذه المزاعم تُبالغ بعضَ الشيء. فثمة خطابٌ قد كتبه د. إف شليكتينج الذي كان مسئولًا عن التعامل مع المشاركات في سبعينيَّات القرن العشرين، يشرح أنَّ قيمة الجائزة في ذلك الوقت كانت لا تزال تبلغ ما يَزيد على ١٠٠٠٠ مارك. وهذا الخطاب الذي كان قد كُتِب إلى باولو ريبينبويم، ونُشِر في كتابه «ثلاثَ عشْرةَ محاضرةً عن مبرهنة فيرما الأخيرة»، يُقدِّم رؤية فريدة بشأن عمل لجنة ولفسكيل:

سيدي العزيز

لم يُحْصَ العدد الإجمالي ﻟ «الحلول» المقدَّمة حتى الآن. في العام الأول (١٩٠٧-١٩٠٨) سُجِّل ٦٢١ حلًّا في ملفَّات الأكاديمية، واليوم قد خزنوا ما يقرب من ثلاثة أمتار من المراسلات بشأنِ معضلة فيرما. في العقود الأخيرة، كان التعاملُ معها يَجري على النحوِ التالي: تقسم الأكاديمية المخطوطات الواردة إلى ما يلي:
  • (١)

    هُراء مطلق يُرَدُّ إلى المرسِل على الفور.

  • (٢)

    محتوى يبدو شبيهًا بالرياضيات.

يُعطى الجزء الثاني إلى قسم الرياضيات، وهناك تُحال مهمةُ القراءة والكشف عن الأخطاء والإجابة إلى أحدِ المساعدين العلميِّين (وهؤلاء في الجامعات الألمانية، هم خرِّيجون يعملون لنيلِ درجة الدكتوراه) وأنا هذه الضحيةُ في الوقت الحاليِّ. ثَمة ثلاثُ رسائلَ أو أربعٌ للردِّ عليها كلَّ شهر، وهي تحوي الكثيرَ من المواد الطريفة والغريبة، منها على سبيل المثال ذلك الشخصُ الذي أرسل النصفَ الأول من حلِّه ووعَد بالنصف الآخر إذا دفعنا له ١٠٠٠ مارك ألمانيٍّ مقدمًا، أو ذلك الآخر الذي وعدَني بمقدار ١٪ من أرباحه من المنشورات واللقاءات الإذاعية والتليفزيونية بعد أن يشتهر، على شرطِ أن أدعمَه الآن، وإلا، فقد هدَّد هو بإرساله إلى أحد أقسام الرياضيات الروسية لِيَحرمنا من مَجْدِ اكتشافِه. وبين الحين والآخر، يحضر شخصٌ إلى جوتينجن ويُصِرُّ على المناقشة بصفة شخصية.

إنَّ «الحلول» كلَّها تقريبًا مكتوبةٌ بمستوًى بُدائي للغاية (باستخدام مفاهيمَ رياضيةٍ في مستوى المدارس الثانوية، وربما بعض الأوراق البحثية في نظرية الأعداد التي قُرِئَت ولم تُفهَم)، غير أنها مع ذلك يمكن أن تستعصيَ على الفَهْم. من الناحية الاجتماعية، غالبًا ما يكون المرسلون أشخاصًا قد تلقَّوا تعليمًا فنيًّا لكنهم فَشِلوا في بناءِ حياةٍ مِهْنية، ويحاولون تحقيقَ النجاح ببرهانٍ لمعضلة فيرما. لقد عُرِضت بعض المخطوطات على أطباء شخَّصوا كاتبوها بحالة متقدمة من الفصام.

لقد كان أحدُ الشروط في وصيةِ ولفسكيل الأخيرة أن تنشر الأكاديمية إعلانَ الجائزة سنويًّا في دوريات الرياضيات الأساسية. غير أنَّ الدوريات قد صارت ترفض نشرَ الإعلان بعد السنوات الأولى؛ إذ كانت تنهالُ عليها الرسائل المجنونة والمخطوطات.

أرجو أن تكون هذه المعلوماتُ مفيدةً لك.

المخلص لك
إف شليكتينج

ومثلما يذكر د. شليكتينج، فإنَّ المتسابقين لم يكتَفوا بإرسال «حلولهم» إلى الأكاديميَّة. بل إنَّ جميعَ أقسام الرياضيات في جميع أنحاء العالم تحوي على الأرجح خِزانةً من البراهين المزعومة التي أرسلَها الهواة. وبينما تتجاهل معظمُ هذه المؤسساتِ براهينَ الهواة، فإنَّ بعض متلقِّيها قد تعامَلوا معها بطرقٍ أكثرَ ابتكارًا. فيذكر الكاتبُ في مجال الرياضيات، مارتن جاردنر، أنَّ صديقًا له كان يردُّ على الخطاب برسالةٍ يشرح فيها أنه ليس أهلًا لمراجعةِ البرهان. ولهذا؛ فإنه يُقدِّم له اسمًا وعُنوانًا لخبيرٍ في المجال يستطيع مساعدتَه، ويُرسل له بياناتِ آخرَ هاوٍ قد أرسلَ له برهانًا. ويذكر أنَّ صديقًا آخرَ كان يكتب: «لديَّ تفنيدٌ رائع لمحاولتك هذه في البرهان، لكن مِن سوء الحظ أنَّ هذه الصفحة ليست كبيرةً بالقدر الذي يتسعُ له.»

وبالرغم من أنَّ هُواةَ الرِّياضيات في جميع أنحاء العالم قضَوْا هذا القرنَ في محاولات فاشلةٍ لإثباتِ مبرهنة فيرما الأخيرة والفوزِ بجائزة ولفسكيل، فإنَّ المحترفين قد استمرُّوا إلى حدٍّ بعيد في تجاهُلِ المعضلة. وبدلًا من البناء على أعمالِ كومر وغيرِه من علماء الأعداد في القرن التاسع عشر، بدأ علماءُ الرياضيات في دراسة أساسات العلم من أجل معالجة بعضِ الأسئلة الأكثرِ جوهريةً بشأن الأعداد. وقد حاول بعضٌ من أعظم الشخصيات في القرن العشرين، ومنهم برتراند راسل وديفيد هيلبت وكورت جودل، فَهْمَ بعض الخصائص الأكثرِ جوهريةً للأعداد، وذلك من أجل فَهمِ معناها الحقيقيِّ ومعرفةِ الأسئلة التي تستطيع نظريةُ الأعداد الإجابةَ عنها، والأهم من ذلك تلك التي لا تستطيع الإجابةَ عنها. وقد أدَّت أعمالهم إلى زعزعة أساسات الرياضيات، وكان لها بالطبع في نهاية المطاف انعكاساتٌ على مبرهنة فيرما الأخيرة.

(٢) أسس المعرفة

على مدى مئاتِ الأعوام، ظلَّ علماء الرياضيات منشغِلين باستخدام البرهان المنطقيِّ لاستنتاج المجهول من المعلوم. وقد كان التقدمُ مذهلًا مع كلِّ جيل جديد من علماء الرياضيات الذين يتوسَّعون في بنائهم العظيم ويبتكرون مفاهيمَ عدديةً وهندسية جديدة. غيرَ أنه مع اقترابِ نهاية القرن التاسع عشر، بدأ علماء المنطق الرياضي ينصرفون عن التطلُّع إلى الأمام، وراحوا بدلًا من ذلك يُراجعون أسسَ الرياضيات التي بُني عليها كل شيء. لقد كانوا يرغبون في التحقُّق من مبادئ الرياضيات وأن يُعيدوا بناءَ كلِّ شيء من المبادئ الأولى بصرامةٍ شديدة، كي يتأكَّدوا بأنفسهم أنَّ تلك المبادئَ الأولى جديرةٌ بالثقة.

يشتهر علماءُ الرياضيات بسُمعتهم السيئةِ في التمسُّك الشديدِ بالحصول على برهانٍ مطلَق قبل قَبول أيِّ ادِّعاء. ويُعبر أيان ستيوارت عن هذه السمعة بوضوحٍ في قصةٍ تردُ في كتابه «مفاهيم الرياضيات الحديثة».

يُقال إنَّ عالم فلَكٍ وعالم فيزياء وعالم رياضيَّات كانوا يقضون عطلة في اسكتلندا. وحين أطلُّوا من نافذة القطار، رأَوا خروفًا أسودَ. فقال عالم الفلك: «يا له من أمر مثيرٍ للاهتمام أن تكون جميعُ الخراف الاسكتلندية سوداءَ!» فأجاب عليه عالمُ الفيزياء قائلًا: «كلا، كلا! «بعض» الخِراف الاسكتلندية سوداء!» أما عالم الرياضيَّات، فقد نظرَ نحو السماء في تضرُّعٍ ثم قال مترنمًا: «يوجد في اسكتلندا حقلٌ واحد على الأقل، وبه خروف واحد على الأقل، «وأحد جانبَيه على الأقل أسودُ اللون».»

والأكثرُ صرامةً من علماء الرياضيَّات العاديين، هم علماء الرياضيات الذين يتخصَّصون في دراسة المنطق الرِّياضي. وقد بدأ علماء المنطق الرياضيِّ في التشكيك في الأفكار التي اتخذَها غيرُهم من علماء الرياضيات من المسلَّمات على مدى قرون. فعلى سبيل المثال، ينصُّ قانون الانقسام الثلاثيِّ على أنَّ الأعداد جميعَها إما سالبةٌ أو موجبة أو صِفْر. يبدو هذا واضحًا، وقد افترض علماءُ الرياضيات ضِمنيًّا أنه صحيح، لكنَّ أحدًا لم يعبَأْ قط بإثبات أنَّ ذلك هو الصحيحُ فِعليًّا. وقد أدرك علماءُ المنطق أنَّ قانون الانقسام الثلاثي قد يكون خاطئًا إلى أن يتوفَّر برهانٌ على صحته، وإن اتضحَ أنه خاطئٌ بالفعل، فسوف ينهار صرحٌ كامل من المعرفة، وسينهار كلُّ شيء قد بُني على هذا القانون. من حسن حظِّ علماء الرياضيات أنَّ قانون الانقسام الثلاثيِّ قد أُثبِتَت صحته في نهاية القرن الماضي.

منذ عصر اليونانيِّين القدماءِ والرياضياتُ تُراكِمُ المزيدَ والمزيد من المبرهنات والحقائق، وبالرغم من أنَّ معظمها قد أُثبِت بدقَّة، كان علماء الرياضيَّات قلقينَ من أن يكون بعضُها قد تسلَّل دون أن يخضعَ للفحص الدقيق. فبعضُ الأفكار أصبحَت جزءًا من الثقافة الشعبية، ولا أحدَ متيقِّنٌ في حقيقة الأمر من الكيفيةِ التي أُثبِتَت بها في الأصل، هذا إن كانت قد أُثبِتت بالفعل؛ ومِن ثَمَّ قرَّر علماءُ المنطق إثباتَ جميع المبرهنات من المبادئِ الأولى. بالرغم من ذلك، فقد كان لا بد من استنتاج هذه الحقائق من حقائقَ أخرى. وكان ينبغي إثباتُ تلك الحقائقِ بدَورها من حقائقَ أخرى أكثرَ جوهريةً، وهكذا دواليك. وفي نهاية المطاف، وجد علماءُ المنطق أنهم يتعاملون مع بضعةٍ من الادِّعاءات الأساسية التي كانت جوهريةً للغاية، حتى إنه لم يكن من الممكنِ إثباتُها. وهذه الافتراضات الجوهرية هي مُسلَّمات الرياضيات.

ومن أمثلة هذه المسلَّمات «قانون الإبدال في الجمع»، الذي ينصُّ على أنه في حالة أيِّ عددين m وn:

تُعَد هذه المسلَّمة وذلك العددُ القليل من المسلَّمات الأخرى أمورًا بديهية، ويمكن اختبارها عن طريق تطبيقها على أعدادٍ محدَّدة. وقد اجتازت المسلَّمات حتى الآن جميعَ الاختبارات، وقُبِلت بصفتها الأساسَ للرياضيات. وتُمثل التحدِّيَ الكامن أمام علماءِ المنطق في إعادة بناء الرياضيَّات من هذه المسلَّمات. وفي الملحق ٨، نُوضِّح مجموعة المسلَّمات الحسابية، ونُقدِّم نبذة عن الطريقة التي بدأ بها علماء المنطق في مهمَّة إعادة بناء بقية الرياضيات.

شارك فيلقٌ من علماءِ المنطق في العمَليَّة البطيئة الشاقَّة المتمثلةِ في إعادة بناءِ هيكل المعرفة الرِّياضية شديدِ التعقيد باستخدامِ الحد الأدنى من المسلَّمات. وكان الهدف من ذلك هو ترسيخَ ما كان علماء الرِّياضيات يعتقدون أنهم يعرفونه بالفعل باستخدام معاييرِ المنطق شديدةِ الصرامة فحسب. لخَّص عالمُ الرياضيات الألمانيُّ، هيرمان فايل، المِزاجَ السائد في هذا العصر بقوله: «المنطق هو عاداتُ النظافة الشخصية التي يُمارسها عالم الرياضياتِ للحفاظ على أفكاره قويةً وفي صحةٍ جيدة.» وإضافةً إلى تطهير ما كان معروفًا، كان ثَمة أمَلٌ بأن يُلقِيَ هذا النهجُ المعنيُّ بالأصول، بعضَ الضوء على المعضلات التي لم تُحَلَّ بعد، ومنها مبرهنة فيرما الأخيرة.

لقد تصدَّر هذا البرنامجُ أبرزَ شخصيَّات ذلك العصر، ديفيد هيلبرت. كان هيلبرت يعتقد أنه يُمكن إثباتُ كلِّ شيء في الرياضيات بِناءً على هذه المسلَّمات الأساسية، وأنَّ هذا هو ما ينبغي فِعلُه. وسينتجُ عن هذا إثبات العُنصرَين الأهمِّ في النظام الرياضي على نحوٍ حاسم. أول هذَين العنصرين هو أنَّ الرياضيات ينبغي أن تكون قادرةً على الإجابة عن جميعِ الأسئلة دون استثناء، وإن كان ذلك نظريًّا على الأقل، وذلك هو سَمْت الاكتمالِ نفسِه الذي استلزَم في الماضي ابتكارَ أعدادٍ جديدة كالأعداد السالبة والأعداد التخيُّلية. وثاني هذين العنصرَين هو أنَّ الرياضيات يجب أن تكون خاليةً من أيِّ تضارب، أي إنه إذا أُثبِتت صحةُ إحدى العبارات بطريقةٍ ما، فلا يمكن إثباتُ خطأ العبارة نفسِها باستخدام طريقةٍ أخرى. لقد كان هيلبرت مقتنعًا بأنَّ افتراضَ عددٍ قليل فقط من المسلَّمات سيُتيح إمكانية الإجابة عن أيِّ سؤالٍ رياضي يمكن تخيُّله دون خشية التناقض.

وفي الثامن من أغسطس عام ١٩٠٠، ألقى هيلبرت خُطبةً تاريخية في المؤتمر الدولي لعلماء الرياضيات في باريس. طرَح هيلبرت ثلاثًا وعشرين مسألةً رياضية لم تُحَل بعدُ كان يعتقد أنها ذاتُ أهمية بالغة. كان بعضُ هذه المسائل يتعلقُ بمجالاتٍ عامة في الرياضيات، لكنَّ أغلبَها كان يُركز على الأسس المنطقية للعلم. كان الهدف من هذه المسائل هو تركيزَ انتباهِ عالم الرياضيات عليها وتوفيرَ برنامَجٍ للبحث. كان هيلبرت يرغب في تحفيزِ المجتمعِ الرياضيِّ على مساعدته في تحقيقِ رؤيته لتأسيس نظامٍ رياضي خالٍ من الشكِّ والتضارب، وهو الطموحُ الذي عبَّر عنه بنقشٍ على شاهد قبرَه، يقول:

Wir müssen wissen,
Wir werden wissen.

أي: لا بدَّ أن نعرف،

وسوف نعرف.

بالرغم من أنَّ جوتلوب فريجه كان منافسًا لَدودًا لهيلبرت في بعضِ الأحيان، فقد كان أحدَ المنارات الرائدة فيما يُدْعى ببرنامَج هيلبرت. لقد كرَّس فريجه حياتَه على مدى أكثرَ من عقد من الزمان لاشتقاق المئات من المبرهنات من المسلَّمات البسيطة، وقد قادَه نجاحُه إلى الاعتقادِ بأنه في طريقِه إلى إكمال جزءٍ كبير من حُلم هيلبرت. ومن الإنجازاتِ المهمَّة التي حقَّقها فريجه وضعُ تعريفٍ للعدد. فما الذي نَعْنيه تحديدًا بالعدد ٣ على سبيل المثال؟ وقد اتضَح أنَّه من أجلِ تعريف العدد ٣، كان على فريجه أن يُعرِّف «الثلاثية» أولًا.

و«الثلاثية» هي السِّمَة المجرَّدة التي تُعزى إلى التوليفات أو المجموعات التي تضمُّ ثلاثةَ أشياء. فيُمكن أن تُستخدَم «الثلاثية» لوصفِ مجموعة الفئران العمياءِ المذكورة في أُغنية الروضة الشهيرة على سبيل المثال، وهي مُلائمة بالقدرِ نفسِه لوصف مجموعة الأضلاع الثلاثةِ الموجودة في المثلَّث. لاحظ فريجه وجودَ العديد من المجموعات التي تتَّسِم بصفةِ «الثلاثية»، واستخدمَ فكرةَ المجموعات لوصفِ العدد «٣» نفسِه. لقد ابتكر مجموعةً جديدة وضمَّ إليها جميعَ المجموعات التي تتَّسمُ بصفةِ «الثلاثية»، وأطلقَ على هذه المجموعة الجديدة التي تضمُّ المجموعات «٣». ومِن ثَمَّ؛ فإنَّ المجموعةَ تحتوي على ثلاثةِ أعداد في حالة واحدة فقط، وهي أن تقع ضِمن المجموعة «٣».

fig28
شكل ٤-٣: ديفيد هيلبرت.

وقد يبدو هذا التعريفُ معقَّدًا للغاية لأنْ يكونَ تعريفًا لمفهومٍ نستخدمه كلَّ يوم، لكنَّ تعريفَ فريجه للعدد «٣» دقيقٌ ويقيني، وهو ضروري تمامًا لبرنامج هيلبرت الصارم.

في عام ١٩٠٢، بدا أنَّ معاناةَ فريجه في طريقها إلى الانتهاء؛ إذ راح يُعِدُّ لنشرِ «القوانين الأساسية لعلم الحساب»، وهو كتابٌ ضخم ثقةٌ يتألف من جُزأين كان الهدف منه هو وضْعَ معيارٍ جديد لليقينِ في الرياضيات. وفي الوقت نفسِه، توصَّل عالمُ المنطق الإنجليزي، برتراند راسل، الذي كان يُسهِم هو أيضًا في مشروع هيلبرت العظيم، إلى اكتشافٍ مدمِّر. فبالرغم من اتِّباع بروتوكول هيلبرت الصارم، فإنه قد صادف حالةً من التضارب. وقد ذكر راسل ردَّةَ فعله تجاه ذلك الإدراكِ المروِّع بأنَّ الرياضيات قد تكون متناقضةً في جوهرها:

لقد ظننتُ في بادئِ الأمر أنني سأتمكَّن من التغلُّبِ على التناقضِ بسهولة، وأنَّ ثَمة خطأً تافهًا في التبرير المنطقيِّ على الأرجح. بالرغم من ذلك، فقد اتضحَ تدريجيًّا أنَّ ذلك ليس صحيحًا … على مدى النصف الثاني من العام ١٩٠١، كنت أفترضُ أنَّ الحلَّ سيكونُ سهلًا، لكنني توصلتُ بنهايةِ ذلك الوقتِ إلى أنَّه سيكون مهمةً صعبة … صار من عاداتي أن أتفكَّر فيما هو شائعٌ كلَّ ليلة من الحادية عشرة إلى الواحدة، وبحلول ذلك الوقتِ تمكَّنتُ من معرفةِ الأصواتِ الثلاثة التي تُصدِرها طيورُ السبد. (معظم الناس لا يعرفون إلا واحدًا.) كنت أُحاول بجِدٍّ لحلِّ التناقض. كنتُ أجلس كلَّ صباح أمام صفحةٍ خالية من الورَق. وأُحدِّق في هذه الورقة على مدى اليوم بأكملِه إلا من مدةٍ قصيرة للغداء. وغالبًا ما كانت تظلَّ فارغة بحلول المساء.

لم يكن ثَمَّةَ مَهْربٌ من التناقض. وقد تسبَّب عملُ راسل في ضررٍ كبير لحلم تأسيس نظامٍ رياضي خالٍ من الشكِّ والتضارب والمفارقات. بعث بخطابٍ إلى فريجه الذي كانت مخطوطة كتابه لدى الناشرِ بالفعل. وقد جعَل هذا الخطابُ من العمل الذي أنفقَ فيه فريجه حياته، عملًا عديمَ القيمة في حقيقة الأمر، لكنه نشَر كتابه «القوانين الأساسية لعلم الحساب» بالرغم من تلك الضَّربةِ القاضية، واكتفى بإضافة تذييلٍ في الجزء الثاني: «ليس أبغضَ على العالِم من أن ينقُضَ الأساسَ فور أن ينتهيَ من العمل. وقد وجدتُ نفسي في هذا الوضعِ إذ تلقَّيتُ خطابًا من السيد برتراند راسل، بعد أن كان الكتابُ قد أوشك على الخروج من المطبعة.»

ومن المفارَقات أنَّ تناقُضَ راسل ظهر من المجموعات أو التشكيلات الأحَبِّ لدى فريجه. لقد ذكر بعد سنواتٍ عديدة في كتابه «تطوُّري الفلسفي»، الأفكارَ التي أوعزَت إليه بالتشكُّك في عملِ فريجه: «لقد بدا لي أنَّ الفئةَ تكون عضوًا في نفسِها في بعض الأحيان، ولا تكون كذلك في أحيانٍ أخرى. ففئةُ ملاعق الشاي على سبيل المثال، ليست ملعقةَ شايٍ أخرى، لكنَّ فئةَ الأشياء التي هي ليست بملاعقِ شاي، من الأشياء التي هي ليست بملاعقِ شاي.» كانت تلك الملاحظة الغريبة التي تبدو غيرَ مؤذيةٍ في ظاهرها، هي التي أدَّت إلى تلك المفارقة الكارثية.

غالبًا ما تُشرَح مفارقة راسل باستخدام حكايةِ أمين المكتبة شديد التدقيق. وهي أنَّ أمين المكتبة قد اكتشف في أحدِ الأيام بينما كان يتجوَّل بين الأرفف، مجموعةً من الفهارس. وهي فهارسُ منفصلةٌ للرِّوايات والمراجع والشعر وغير ذلك. ويُلاحِظ أمينُ المكتبة أنَّ بعض الفهارس تُورِد نفسَها، أما البعضُ الآخر فلا يورد نفسَه.

fig29
شكل ٤-٤: برتراند راسل.

ومن أجل تبسيطِ النظام، يضع أمينُ المكتبة فِهرِسَين آخَرَين، أحدهما يورد جميع الفهارس التي تورد نفسَها، والأكثرُ إثارةً للاهتمام أنَّ الآخرَ يورد جميعَ الفهارس التي لا تورد نفسَها. وبعد إكمال المهمة، يواجهُ أمينُ المكتبة مشكلةً: هل ينبغي أن يورد الفِهرسُ الذي يورد جميعَ الفهارس التي لا تورد نفسَها، نفسَه؟ إذا أوردَ نفسَه، فلا ينبغي أن يُورَد وَفْقًا للتعريف. أما إذا لم يُورِد نفسَه، فسوف ينبغي أن يُورَد وفقًا للتعريف. إنَّ أمين المكتبة في موقفٍ لا يُمكن أن يربحَ فيه.

والفهارس الواردة في هذا المثال شديدةُ الشبَهِ بالمجموعات أو الفئات التي استخدمها فريجه لتكونَ التعريفَ الجوهريَّ للأعداد. ومِن ثَمَّ فإنَّ التضارب الذي يُزعج أمينَ المكتبة، سيُسبِّب المشكلاتِ فيما يُفترَض أن يكون بِناءً منطقيًّا للرياضيات. إنَّ الرياضيات لا يمكن أن تتسامحَ مع التضارب أو المفارقات أو التناقض. فأداةُ البرهان بالتناقض الفعَّالةُ على سبيل المثال، تعتمد على خُلوِّ الرياضيات من المفارقات. يذكر هذا البرهان أنه إذا أدَّى أحدُ الافتراضات إلى نتيجةٍ غيرِ منطقية، فلا بد أن يكون هذا الافتراضُ خاطئًا، أما راسل، فهو يرى أنَّه حتى المسلَّمات يُمكن أن تُؤدِّيَ إلى نتائجَ غيرِ منطقية. ومِن ثَمَّ؛ فمن الممكن أن يوضِّح البرهان بالتناقض أنَّ إحدى المسلَّمات خاطئة، غير أنَّ المسلَّماتِ هي أسسُ الرياضياتِ ومعترَفٌ بصحتها.

تشكَّك العديد من المفكرين في عملِ راسل بزعمهم أنَّ الرياضيات مَسعًى ناجحٌ بلا شكٍّ ولا تشوبُه شائبة. وقد أجاب هو عن ذلك بشرحِ أهمية عملِه بالطريقة التالية:

«بالرغم من ذلك»، قد تقول: «كل ذلك لا يُزعزع اعتقادي بأنَّ ٢ زائد ٢ يساوي ٤.» وأنت مُحِق في هذا إلا في حالاتٍ ضئيلة، وحالات ضئيلة فقط هي التي تشكُّ فيها بشأن ما إذا كان حيوانٌ معينٌ كلبًا أم لا، أو ما إذا كان طولٌ محدد أقلَّ من المتر أم لا. لا بد أن يكون العددُ اثنَين، اثنين من شيءٍ محدَّد، وسيكون الافتراضُ القائل بأنَّ «٢ زائد ٢ يساوي ٤» عديمَ الفائدة ما لم يكن من الممكنِ تطبيقُه. فاثنان من الكلاب زائد اثنين من الكلابِ على سبيل المثال، يُساوي أربعةً من الكلاب بالتأكيد، لكن ثمةَ حالاتٍ تظهر لا تكون متأكدًا فيها مما إذا كان اثنان منهما من الكلاب أم لا. وقد تقول: «حسنًا، ثَمة أربعةُ حيوانات على أي حال.» غير أنَّ بعضَ الكائنات الدقيقة ما من يقينٍ بشأن ما إذا كانت من النباتات أم من الحيوانات. وسوف تقول: «حسنًا، هي مِن الكائنات الحية إذن.» غير أنَّ بعضَ الأشياء ليس من المؤكَّد ما إذا كانت حيةً أم لا. وسوف يدفعُك هذا إلى القول: «حسنًا، كِيانان وكِيانان يُساوي أربعةَ كيانات.» وحين تُخبرني بما تعنيه بلفظة «كِيان»، سنُواصل الجدال.

لقد زعزع عملُ راسل أسسَ الرياضيات، ودفع بدراسةِ المنطق الرياضيِّ إلى حالةٍ من الفوضى. كان علماءُ المنطق يُدركون أنَّ وجود مفارقةٍ تترصَّد في أسسِ الرياضيات قد يُؤدي عاجلًا أم آجلًا إلى أن تُطِل برأسِها غير المنطقي وتتسبَّب في مشكلاتٍ عميقة. فبدأَ راسل مع هيلبرت وغيرِهما من علماء المنطق في مُحاولةِ علاج هذا الموقف وإعادةِ التعقُّل إلى الرياضيات.

لقد جاء هذا التضاربُ نتيجةً مباشرة للتعامل مع مُسلَّمات الرياضيات، التي كان من المفترض حتى ذلك الوقتِ أنها بديهيَّة وكافيةٌ لتعريف بقيةِ الرياضيات. وكان من النهج المقترَح ابتكارُ مُسلَّمةٍ إضافية تمنع أن تكون الفئةُ عضوًا في نفسِها. وسيمنعُ هذا من حدوثِ مفارقة راسل بالاستغناء عن السؤال بشأنِ إيراد فِهرس الفهارِس التي لا تُورِد نفسَها من عدمه.

قضى راسل العقد التالي في التفكيرِ في مُسلَّمات الرياضيَّات، وهي جوهرُ العلم نفسِه. وفي العام ١٩١٠، وبالتعاون مع ألفريد نورث وايتهيد، نشَر الجزء الأول من كتاب «مبادئ الرياضيات» المكوَّن من ثلاثة أجزاء، الذي كان فيما يبدو محاولةً ناجحة لتقديمِ معالجةٍ جزئية للمعضِلة التي خلَّفَتها مُفارقتُه. على مدى العقدَين التاليَين، استخدمَ آخَرون «مبادئ الرياضيات» دليلًا لتأسيسِ صرحٍ رياضي لا تشوبُه شائبة، وبحلول الوقت الذي تقاعدَ فيه هيلبرت في العام ١٩٣٠، كان واثقًا من أنَّ الرياضياتِ تسير جيدًا في طريقها نحوَ التعافي. كان يبدو أنَّ حلمه بوضعِ أساسٍ منطقي متَّسقٍ وفعَّال بالدرجة التي تكفي للإجابة عن جميع الأسئلة، في طريقه لأن يصبحَ حقيقةً.

وبعد ذلك في العام ١٩٣١، نشر رياضيٌّ مجهول يبلغ من العمر خمسةً وعشرين عامًا، ورقةً حطَّمَت آمالَ هيلبرت إلى الأبد. لقد أجبر كورت جودل علماءَ الرياضيات على تقبُّل أنَّ الرياضياتِ لا يمكن أن تكون مثاليةً من الناحية المنطقية، تضمَّنَت أعمالُه فكرةَ أنَّ معضلات كمبرهنة فيرما الأخيرة قد يكون حلُّها أمرًا مستحيلًا.

وُلِد كورت جودل في الثامن والعشرين من أبريل عام ١٩٠٦ في مورافيا التي كانت في ذلك الوقت جزءًا من الإمبراطورية النمساويَّة المجَرية، وصارت الآن جزءًا من جمهورية التشيك. عانى من أمراضٍ خطيرة منذ الصِّغَر، وكان أكثرُها خطورةً نوبةً من الحمَّى الروماتيزمية في سنِّ السادسة. وقد تسبَّب هذا اللقاءُ المبكر مع الموت في إصابة جودل بمرض الوسواس الذي لازمه طَوالَ حياته. فبعد أن قرأ كتابًا دراسيًّا في الطبِّ وهو في سنِّ الثامنة، صار مقتنعًا بأنَّ قلبَه ضعيف، بالرغم من أنَّ أطباءَه لم يجدوا دليلًا على ذلك. وبعد ذلك في نهاية حياته، اعتقد خطأً أنه يتعرَّض للتسمُّم ورفض أن يتناولَ الطعام حتى كاد أن يموت جوعًا.

حين كان جودل طفلًا، ظهرَت موهبتُه في العلوم والرياضيَّات، ودفعَت طبيعتُه المُحِبة للاستطلاع عائلتَه لأن يُطلِقوا عليه لقبَ «دير هير فاروم» أي (السيد لماذا). التحقَ بجامعة فيينا وهو لا يَدْري أيَّ تخصصٍ في الرياضيات أو الفيزياء، غير أنَّ محاضرةً ملهِمة تمتلئُ بالشغف في مقرَّرٍ دراسيٍّ عن نظرية الأعداد ألقاها البروفيسور بي فورتوانجلر، قد أقنعَت جودل بأن يُكرِّس حياته للأعداد. وقد زاد من الطبيعةِ الاستثنائية للمحاضرات أنَّ فورتوانجلر كان يُعاني من الشلل بدايةً من الرقبة إلى أسفل جسده؛ لذا كان مُضطرًّا إلى إلقاء المحاضرات من كرسيِّه المتحرك دون ملاحَظات، بينما كان مساعدُه يكتب على السبورة.

في أوائل العشرينيَّات من عمره، كان جودل قد أثبتَ نفسَه في قسم الرياضيات، لكنه كان يتجوَّل مع زملائه أحيانًا في الرَّدْهة لحضور اجتماعات «الدائرة الفينيسية»، وهي مجموعةٌ من الفلاسفة كانوا يجتمعون لمناقشة كُبرى الأسئلة المنطقية في العصر. وكانت هذه المدَّة هي التي طوَّر فيها جودل الأفكارَ التي حطمَت أسس الرياضيات.

في العام ١٩٣١، نشر جودل كتابه «عن قضايا صوريَّة غير مكتمِلة في «مبادئ الرياضيات» والنُّظم ذاتِ الصِّلة»، الذي كان يتضمَّن مبرهناته التي تُدعى باسم مبرهنات عدم الاكتمال. فورَ أن وصلَت أنباءُ المبرهنات إلى أمريكا، ألغى عالمُ الرياضيات العظيم جون فون نيومان، سلسلةَ محاضرات كان يُلقيها عن برنامَج هيلبرت، واستبدل بالجزء المتبقِّي من السلسلة مناقشةً لعمل جودل الثوري.

fig30
شكل ٤-٥: كورت جودل.

لقد أثبت جودل أنَّ محاولةَ وضع نظام رياضيٍّ مكتمل ومتَّسِق مهمةٌ مستحيلة. ويُمكن تجسيدُ أفكاره في عبارتين:

المبرهنة الأولى لعدم الاكتمال

إذا كانت نظريةُ مجموعةِ المسلَّمات متسقةً، فسوف توجد حَدْسياتٌ لا يُمكن إثباتُها ولا نفيُها.

المبرهنة الثانية لعدم الاكتمال

ما من إجراءٍ بَنَّاء سيُثبت اتساقَ نظرية مجموعة المسلَّمات.

إنَّ ما تقوله مبرهنة جودل الأولى في الأساس هو أنَّه ستظلُّ هناك أسئلةٌ لا تستطيع الرياضياتُ الإجابةَ عنها، أيًّا كانت مجموعةُ المسلَّمات المستخدَمة: أي إنَّ الاكتمالَ لا يُمكن أن يتحقَّق أبدًا. والأسوأ من ذلك أنَّ المبرهنة الثانية تقول إنَّ علماء الرياضيات لا يُمكن أبدًا أن يتيقَّنوا من أنَّ المسلَّمات التي اختاروها لن تُؤدِّيَ إلى تضارُب: أي إنَّ إثباتَ الاتساق غيرُ ممكنٍ أبدًا. لقد أوضح جودل أنَّ برنامج هيلبرت كان مهمةً مستحيلة.

بعد ذلك بعقود، ذكَر برتراند راسل في كتابه «صور من الذاكرة»، رِدَّةَ فِعله بشأن اكتشاف جودل:

كنتُ أريد اليقينَ على النحو الذي يُريده الناسُ في الإيمان الدِّيني. وقد ظننتُ أنَّ اليقينَ سيوجد في الرياضيات أكثرَ مما يوجد في أيِّ مجالٍ آخَر. غير أنني اكتشفتُ أنَّ العديد من البراهين الرياضية التي كان المعلِّمون يتوقَّعون مني أن أتقبَّلها، مليئةٌ بالمغالَطات، وأنه إذا كان من الممكن اكتشافُ اليقين في الرياضيات بالفعل، فسوف يكون ذلك في مجالٍ جديد في الرياضيات يتمتَّع بأساساتٍ أكثرَ رسوخًا من تلك التي كان يُعتقَد حتى ذلك الوقتِ أنها ثابتة. بالرغم من ذلك، فمع مواصَلة العمل، كنت أتذكَّر حكايةَ الفيل والسلحفاة باستمرار. فبعد أن صمَّمت فيلًا يُمكن للعالَم الرياضيِّ أن يستقرَّ عليه وجدت الفيل يترنَّح، وبدأتُ في تصميم سُلَحفاة لكي تمنعَ الفيل من السقوط. غير أنَّ السلحفاة لم تكن أكثرَ ثباتًا من الفيل، وبعد حوالي عِشرين عامًا من العمل الشاقِّ، توصلتُ إلى استنتاجِ أنه ما من شيءٍ آخرَ يُمكنني القيامُ به في سبيل جعلِ المعرفة الرياضية يقينيَّة.

وبالرغم من أنَّ مبرهنة جودل الثانيةَ تقول باستحالةِ إثبات اتِّساق المسلَّمات، فإنَّ هذا لا يَعني بالضرورة أنها متضاربة. فقد كان العديدُ من علماء الرياضيات لا يزالون يعتقدون في صميمِ قلوبهم أنَّ الرياضيَّات ستظلُّ متسقةً، لكنهم لم يستطيعوا إثباتَ ذلك عقليًّا. لقد كان عالِمُ نظرية الأعداد العظيمُ أندريه ويل يقول: «الإله موجودٌ لأنَّ الرياضيات متسقة، والشيطان موجود لأننا لا نستطيع إثباتَ ذلك.»

إنَّ برهان مبرهنتَي جودل لعدمِ الاكتمال معقَّدٌ للغاية، والحقُّ أنَّ التعبير الأدقَّ عن المبرهنة الأولى يجب أن يكون على النحو التالي:

في أيِّ نظام صوريٍّ متسقٍ يمكن إجراءُ قدرٍ معيَّن من العمليات الحسابية في إطاره، توجد صيغٌ رياضية للنظام لا يُمكن إثباتها أو نفيها من داخل النظام نفسِه.

ومن حسنِ الحظ أنه، مثلما هي الحالُ مع مفارقة راسل وحكايةِ أمين المكتبة، يمكنُ توضيحُ مبرهنة جودل الأولى عن طريق قياسٍ منطقي آخرَ بفضل إيبيمينيداس، وتُعرَف أيضًا بمفارقة الكريتي أو مفارقة الكاذب. كان إيبيمينيداس رجلَ كريتي قد صاح:

أنا كاذب!

وتنشأ المفارقة حين نُحاول أن نُحدد ما إذا كانت هذه العبارةُ صحيحةً أم خاطئة. فلْنرَ أولًا ما يحدثُ حين نفترض أنَّ العبارة صحيحة. إذا كانت العبارة صحيحة، فإنَّ هذا يعني أنَّ إيبيمينيداس كاذبٌ، لكننا افترضنا في البداية أنه قد صرَّح بعبارةٍ صحيحة؛ إذن فهو ليس بكاذب، وبهذا تكونُ لدينا حالةٌ من التضارُب. ولنرَ الآن ما يحدث حين نفترضُ أنَّ العبارة خاطئة. إذا كانت العبارة خاطئة، فإنَّ هذا يعني أنَّ إيبيمينيداس ليس بكاذب، لكننا قد افترَضْنا في البداية أنه قد صرَّح بعبارةٍ خاطئة؛ إذن فهو كاذب، وبهذا تكون لدينا حالةٌ أخرى من التضارب. سواء افترضنا أنَّ العبارة صحيحة أو افترضنا أنها خاطئة، ينتهي بنا الأمرُ إلى حالةٍ من التضارب؛ ومِن ثَمَّ، فإنَّ العبارة ليست بالصحيحة ولا بالخاطئة.

أعاد جودل تأويلَ مفارقة الكاذب وطرحَ مفهوم البرهان. وقد تمثَّلَت النتيجةُ في عبارة على غِرار:

ما من برهانٍ على هذه العبارة.

إذا كانت العبارةُ خاطئة لأمكنَ إثباتُها، لكنَّ هذا يُعارض العبارة. ومِن ثَمَّ؛ فلا بد أن تكون العبارةُ صحيحةً لتفادي التضارب. ومع ذلك، بالرغم من أنَّ العبارة صحيحة، فإنه لا يُمكن إثباتها؛ لأنَّ هذه العبارةَ (التي نعرف الآن أنها صحيحة) تقول ذلك.

ونظرًا إلى أنَّ جودل قد تمكنَ من ترجمة العبارة سابقةِ الذِّكْر إلى ترميزٍ رياضي، فقد تمكنَ من إثبات وجود عباراتٍ صحيحة في الرياضيَّات لكن لا يمكن إثباتُ صحَّتها، وهي العبارات التي تُسمَّى بالعبارات غيرِ القابلة للحسم. وقد كانت تلك هي الضربةَ القاضية لبرنامج هيلبرت.

لقد توازَى عمل جودل مع اكتشافات مشابِهة تُجرى في مجالِ فيزياء الكمِّ. فقبل أربعِ سنوات فقط من نشر عمل جودل، كان الفيزيائيُّ الألماني فرنر هيزنبرج قد اكتشفَ مبدأ اللايقين. فمثلما أنَّ ثَمة حدًّا لما يستطيع علماءُ رياضيات المبرهنات إثباتَه، أوضح هيزنبرج أنَّ ثَمة حدًّا لما يستطيعُ علماء فيزياءِ الخواصِّ قياسَه. إذا أرادوا على سبيل المثال قياسَ الموقع المحدَّد لجسمٍ ما، فإنهم لا يستطيعون قياس سرعتِه المتجِهة إلا بدقةٍ ضعيفة نسبيًّا. ويعود السبب في هذا إلى أنَّ قياس موقع الجسم، يُحتِّم إضاءته بفوتونات من الضوء، ومن أجل تحديدِ موقعه الدقيق، لا بد من أن تكون طاقةُ الفوتونات الضوئية ضخمةً. غير أنه إذا أُطلِقَت على الجسم فوتونات ضوئيةٌ تتمتَّع بطاقةٍ عالية، فإنَّ ذلك سيُؤثر في سرعته المتجهة ويجعلها غيرَ يقينية على نحوٍ جوهري. ومِن ثَمَّ، فمن أجل معرفة موقع الجسم، سيُضطَر الفيزيائيون إلى التخلِّي عن درجةٍ من الدقة بشأنِ معرفة سرعته المتجهة.

إنَّ مبدأ اللايقين الذي اكتشفه هيزنبرج لا يتضحُ إلا على المستويات الذرِّية حين تُصبح القياسات عاليةُ الدقةِ أمرًا شائكًا. ولهذا؛ فقد أمكن للجزءِ الأكبر من الفيزياء أن يستمرَّ على أيِّ حال، بينما انشغل علماء فيزياء الكم بأسئلة عميقة عن حدود المعرفة. وقد كان الأمر نفسُه يحدث في عالم الرياضيات. فبينما انشغل علماء المنطق بجدال حصريٍّ للغاية عن عدم قابلية الحسم، استمرَّ بقيةُ المجتمع الرياضي في العمل على أي حال. فبالرغم من أنَّ جودل قد أثبتَ وجود بعضِ العبارات التي لا يُمكن إثباتها، كان ثَمة الكثيرُ من العبارات التي يُمكن إثباتها ولم يؤدِّ اكتشافُه إلى إبطالِ صحة أيِّ شيء قد أُثبِتَ في الماضي. وعلاوةً على ذلك، فقد كان العديدُ من علماء الرياضيات يرَون أنَّ عبارات جودل التي لا يُمكن حسمُها لا توجد إلا في مجالات الرياضيات الأكثرِ غموضًا وتطرفًا؛ ومِن ثَمَّ فقد لا يُصادفونها على الإطلاق. فبالرغم من كل شيء، لم يَقُل جودل شيئًا سِوى أنَّ هذه العبارات موجودةٌ، لكنه لم يتمكَّن في واقع الأمر من الإشارة إلى أيٍّ منها. غير أنه في العام ١٩٦٣، أصبح كابوس جودل النظري واقعًا متأصلًا.

ذلك أنَّ بول كوهين، وهو عالم رياضيات في جامعة ستانفورد يبلغ من العمر تسعةً وعشرين عامًا، قد ابتكرَ تقنية لاختبارِ ما إذا كان أحدُ الأسئلة قابلًا للحسم أم لا. لا تنطبق هذه التقنية إلا في حالاتٍ قليلة خاصَّة للغاية، لكنه بالرغم من ذلك كان أول مَن يكتشف أسئلةً محدَّدة لم تكن قابلةً للحسم بالفعل. وبعد أن توصل إلى اكتشافِه، سافر فورًا إلى برينستون وبرهانه في يدِه ليُصدِّق جودل بنفسِه على صحته. كان جودل قد وصل في هذه المرحلة من حياته إلى طَور الجنون الوهامي، ففتح البابَ قليلًا وخطف الأوراق، ثم أوصدَه. بعد ذلك بيومين، تلقَّى كوهين دعوة لتناول الشاي في منزل جودل، وهي علامةٌ على أنَّ الأستاذ قد صدَّق على البرهان بخَتمِ سُلطته. وما كان مُثيرًا على وجهِ التحديد أنَّ بعضَ هذه الأسئلة غيرِ القابلة للحسم من الأسئلة الجوهرية في الرياضيَّات. ومن المفارقات أنَّ كوهين قد أثبتَ أنَّ أحد الأسئلةِ التي ضمَّها هيلبرت إلى قائمة الأسئلة الثلاثة والعشرين الأهمِّ في الرياضيات، وهو فرضية الاستمرارية، من الأسئلة غيرِ القابلة للحسم.

لقد أرسَل عمل جودل بعد أن أكمَلَته عبارات كوهين غيرُ القابلة للحسم رسالةً مزعجةً إلى جميع أولئك المهتمِّين بالرياضيات، المحترِفين منهم والهُواة، الذين كانوا يُثابرون في محاولاتهم لإثباتِ مبرهنة فيرما الأخيرة؛ فربما كانت مبرهنة فيرما الأخيرةُ من الأسئلةِ التي لا يُمكن حسمُها! ماذا لو أنَّ بيير دو فيرما قد ارتكبَ خطأً حين زعم أنه قد توصَّل إلى برهان؟ إذا كانت الحال كذلك، فثَمة احتمالٌ أن تكون المبرهنة الأخيرةُ غيرَ قابلة للحسم. قد يكون إثباتُ مبرهنة فيرما الأخيرةِ أكثرَ من مجرد مهمة صعبة؛ قد يكون مهمةً مستحيلة. إذا كانت مبرهنة فيرما الأخيرةُ غيرَ قابلة للحسم؛ إذن فقد أهدر علماءُ الرياضيات قُرونًا في البحث عن برهانٍ لا وجود له.

من الغريب أنه إذا اتضحَ أنَّ مبرهنة فيرما الأخيرةَ غيرُ قابلة للحسم، فإنَّ هذا يعني أنها لا بد أن تكون صحيحة. ويتمثَّل السببُ فيما يلي. تنص مبرهنة فيرما الأخيرة على أنه لا توجد حلولٌ بأعداد صحيحة للمعادلة:

، حيث n أكبر من ٢.

وإذا كانت المبرهنة الأخيرة خاطئةً في واقع الأمر، فسوف يكون من الممكنِ إثباتُ ذلك بتحديد حلٍّ لها (مثال مضاد). ومِن ثَمَّ؛ فسوف تكون المبرهنة الأخيرة قابلةً للحسم. إنَّ كونها خاطئةً يتعارضُ مع كونِها غيرَ قابلة للحسم. أما إذا كانت المبرهنة الأخيرة صحيحة، فليس من المؤكَّد أن تكونَ هناك طريقةٌ جليَّة لإثباتِ ذلك، أي إنها قد تكون غيرَ قابلةٍ للحسم. موجز القول إنَّ مبرهنة فيرما الأخيرةَ قد تكون صحيحةً، لكن ربما لا توجد طريقةٌ لإثباتها.

(٣) القوة القهريَّة للفضول

لقد أدَّت الملاحظات السريعة التي تركَها بيير دو فيرما في كتاب «أريثميتيكا»، إلى الأحجيةِ الأكثرِ إغاظةً في التاريخ. وبالرغم من مرور ثلاثة قرونٍ من الفشل الذريع، واقتراحِ جودل أنَّ علماءَ الرياضيات ربما يبحثون عن برهانٍ لا وجود له، ظلَّ بعضُ علماء الرياضيات ينجذبون للمسألة. لقد كانت المبرهنة الأخيرةُ غانيةً تغوي إليها العباقرةَ، لتُحطِّم آمالهم فحسب. كان أيُّ رياضي ينخرط في مبرهنة فيرما الأخيرة يُخاطر بإهدارِ حياته المِهْنية، لكنَّ مَن يتمكَّن من تحقيقِ الإنجاز الأساسي سيُذكَر في التاريخ أنه قد حلَّ أصعبَ مسألة في العالم.

لقد ظلَّت أجيالٌ من علماء الرياضياتِ مهووسةً بمبرهنة فيرما الأخيرةِ لسببَين. أولهما هو إحساس المنافسة العنيف. لقد كانت مبرهنةُ فيرما الأخيرة هي الاختبارَ الأصعب، ومَن يتمكَّنُ من إثباتها، يكون قد نجحَ فيما فشل فيه كوشي وأويلر وكومر والكثيرون جدًّا غيرهم. فمثلما كان فيرما نفسُه يستمتعُ كثيرًا بحلِّ المسائل التي كانت تُحير معاصِريه، كان من يتمكَّن من إثبات المبرهنة الأخيرة سيستمتعُ بحقيقة أنه حلَّ مسألةً قد حيرَت المجتمع الرياضيَّ بأكملِه على مدى مئات الأعوام. وثاني هذه الأسباب أنَّه أيًّا مَن كان سيتغلَّب على تحدي فيرما، فإنه سيستمتعُ بشعورِ الرضا البريء الذي ينبعُ من حلِّ أحجية. إنَّ البهجة المستمَدَّة من حلِّ الأسئلة ذاتِ الطبيعة الغامضة في نظرية الأعداد، لا يختلف كثيرًا عن شعور الفرحة البسيطة المستمَدِّ من حلِّ أحاجي سام لويد التافهة. لقد قال لي أحدُ علماء الرياضيات ذاتَ مرة، إنَّ السرور الذي كان يستمدُّه من حلِّ المسائل الرياضية، شبيهٌ بذلك الذي يشعر به مُدمِنو حلِّ الكلمات المتقاطعة. إنَّ التوصل إلى التلميح الأخيرِ في أحد أحاجي الكلمات المتقاطعة الصعبة، دائمًا ما يُولِّد لدى المرء شعورًا بالرِّضا، فما بالك بشعور الإنجاز الذي يشعر به المرءُ بعد قضاء سنواتٍ في حلِّ أحجية لم يتمكَّن أحدٌ سِواه في العالم على الإطلاقِ من حلِّها، والتوصُّل بعد ذلك إلى الحل.

وهذان السببان هما ما جعَلا أندرو وايلز مولعًا بفيرما: «إنَّ علماءَ الرياضيات البحتة يُحبُّون التحدياتِ فحسب. فهم يُحبون المسائلَ التي لم يتوصل أحدٌ إلى حلها. وممارسة الرياضيات تمنح المرءَ مثلَ تلك المشاعر الرائعة. ففي بداية الأمر، تجدُ مسألةً تُثير حيرتَك. لا تفهمها بسببِ تعقيدها البالغ، ولا تستطيع أن تفهمَ منها أيَّ شيء على الإطلاق. غير أنك حين تتمكَّن من حلها أخيرًا، يعتريك هذا الشعورُ المذهل بمدى جمالِها وتناسُقِها معًا بأناقةٍ شديدة. أما المسائل الأكثر خداعًا فهي تلك التي تبدو سهلةً، ثم يتَّضح أنها شديدةُ التعقيد. ومبرهنة فيرما هي أجملُ مثال على ذلك. لقد كانت تبدو أنَّ لها حلًّا بالتأكيد، ومما يَزيد من تميُّزِها أنَّ فيرما قال إنه قد توصل إلى الحل.»

للرياضيات تطبيقاتُها في العلوم والتكنولوجيا، لكنَّ ذلك ليس هو ما يُحفِّز علماء الرياضيات. فما يُلهمهم هو بهجة الاكتشاف. لقد حاول جي إتش هاردي أن يُقدِّم تفسيرًا وتبريرًا لحياته المِهْنية في كتابٍ بعنوان «اعتذار عالم رياضيات»، وقد ساقه فيما يلي:

لن أقولَ إلا أنه إذا كانت معضلة الشِّطْرنج «عديمة الجدوى» بالمعنى البُدائي، فإنَّ الأمر نفسَه ينطبق على الجزء الأكبر من الرياضيات … إنني لم أقُم بشيءٍ «مُجْدٍ» قط. ما من اكتشافٍ توصلتُ إليه كان له أيُّ تأثير طفيفٍ مباشر أو غيرِ مباشر، بالإيجاب أو بالسَّلب على مَرافق العالم، وليس من المحتمل أيضًا أن يكون له. وفقًا لجميعِ المعايير العَملية، فإنَّ قيمة حياتي الرياضياتيَّة تُساوي صِفرًا، وهي تافهة على أي حال فيما لا يتعلَّق بالرياضيات. وليس لي من مهربٍ من الحكم بالتفاهة التامَّة إلا أن يُرى أنني قد ابتكرتُ شيئًا يستحقُّ الابتكار. ولا شك بأنني قد ابتكرت شيئًا، لكنَّ التساؤل يتعلَّق بقيمته.

إنَّ الرغبة الكامنة وراء إيجادِ حلٍّ لإحدى المسائلِ الرياضيَّة، غالبًا ما تكون مدفوعةً بحبِّ الاستطلاع، وصحيحٌ أنَّ الجائزة بسيطة، لكنَّ ثَمة شعورًا هائلًا بالرِّضا ينبع من حلِّ أيِّ أحجية. لقد قال عالم الرياضيات إي سي تيتشمارش ذات مرة: «ربما لا توجد أيُّ فائدة عملية لمعرفتنا أنَّ π عددٌ غيرُ نسبي، لكننا إذ عرَفنا، فسوف يكون عدمُ المعرفة أمرًا لا يُحتمَل دون شك.»

وفي حالة مبرهنة فيرما الأخيرة، لم يكن هناك مِن نقصٍ في حبِّ الاستطلاع. لقد أضاف عملُ جودل في موضوع عدم قابليةِ الحسم، عنصرًا من الشكِّ بشأن ما إذا كانت المسألةُ قابلةً للحل أم لا، غير أنَّ ذلك لم يكن كافيًا لإحباطِ مَهْووسي فيرما الحقيقيِّين. ما كان أكثرَ إحباطًا هو أنه بحلولِ ثلاثينيَّات القرن العشرين، كان علماءُ الرياضيَّات قد استنفَدوا جميعَ الأساليب، ولم يَعُد في جَعبتِهم سوى القليلِ للغاية. كانت الحاجةُ تتمثل في وجود أداةٍ جديدة، شيءٍ لرفعِ الروح المعنوية الرياضيَّة. وقد كانت الحربُ العالمية الثانية هي ما لبَّى تلك الحاجةَ تمامًا، القفزة الكُبرى في فعالية الحساب منذ اختراع المِسطَرة الحاسبة.

(٤) نهج القوة الغاشمة

حين أعلن إتش جي هاردي عام ١٩٤٠ أنَّ أفضلَ الرياضيات غالبًا ما تكون عديمةَ الجدوى، أسرعَ بإضافةِ أنَّ ذلك ليس أمرًا سيِّئًا بالضرورة: «ليس للرياضيَّات الحقيقية أيُّ تأثيرٍ على الحرب. فلم يكتشف أحدٌ حتى الآن أغراضًا تتعلَّق بالحرب يُمكن تلبيتُها من خلال نظرية الأعداد.» وسرعان ما ثبَت أنَّ هاردي كان مخطئًا.

في العام ١٩٤٤، شارك جون فون نيومان في كتابة كتاب «نظرية الألعاب والسلوك الاقتصادي»، الذي صكَّ فيه مصطلحَ «نظرية الألعاب». كانت نظريةُ الألعاب محاوَلةً من نيومان لاستخدام الرياضيات في وصفِ هيكل الألعاب والكيفيَّة التي يلعبُها بها البشر. وقد بدأ بدراسة الشِّطْرنج والبوكر، ثم توجَّه إلى نَمْذَجة بعض الألعاب الأكثرِ تعقيدًا مثل الممارَسات الاقتصادية. بعد الحرب العالمية الثانية، أدركَت مؤسسة «راند» أهميةَ أفكار نيومان ووظَّفَته للعمل على تطويرِ استراتيجيات الحرب الباردة. ومنذ هذه المرحلة حتى وقتِنا هذا، أصبحَت نظرية الألعاب الرياضية أداةً أساسية يستخدمُها قادة الجيوش لاختبار استراتيجياتِهم العسكرية بالتعامُل مع المعارك على أنها مُبارَيات معقَّدة من الشِّطرنج. ومن الأمثلة البسيطةِ التي تُوضِّح تطبيقَ نظرية الألعاب في المعارك، قصة «المبارزة الثلاثية».

والمبارَزة الثلاثية تُشبه المبارزةَ المعتادة، غير أنَّها تتضمَّن ثلاثةَ مشاركين لا اثنين فحَسْب. ذات صباح، يُقرِّر السيد بلاك والسيد جراي والسيد وايت تسويةَ نزاعٍ من خلال الاشتراكِ في مبارزةٍ ثلاثية بالمسدسات إلى أن ينجوَ أحدُهم. السيد بلاك هو أسوأُهم في إطلاقِ الرَّصاص؛ إذ يصيبُ هدفَه بمعدلِ مرة واحدة كل ثلاث مرات. والسيد جراي أفضلُ منه إذ يُصيب هدفَه بمعدلِ مرتين كل ثلاث مرات. أما السيد وايت، فهو الأفضلُ على الإطلاق إذ يُصيب هدفَه كل مرة. ولكي تكون المبارزةُ الثلاثية أكثرَ إنصافًا، يُسمَح للسيد بلاك بإطلاق الرَّصاص أولًا، ويليه السيد جراي (إذا كان لا يزال حيًّا)، ويليه السيد وايت (إذا كان لا يزال حيًّا)، ويتكرَّر الترتيب نفسُه مجددًا إلى أن يظلَّ واحدٌ منهم فقط حيًّا. والسؤال هو: أين يجب أن يوجِّه السيد بلاك ضربتَه الأولى؟ ربما ترغب في التخمين وَفقًا للحَدْس، أو وفقًا لنظرية الألعاب وهو الأفضل. ترِدُ الإجابة في الملحق ٩.

والأكثر تأثيرًا في زمن الحرب من نظرية الألعاب، الرياضيات المتعلقة بفكِّ التشفير. فخلال الحرب العالمية الثانية، أدركَ الحلفاء أنَّه يُمكن من الناحية النظرية، استخدامُ المنطق الرياضي لفكِّ تشفير الرسائل الألمانية، إذا أُجرِيَت الحسابات بالسرعة الكافية. وقد كان التحدِّي هو إيجادَ طريقة لِمَيْكنة الرياضيات كي تتمكَّنَ آلةٌ من إجراء الحسابات، وقد كان الإنجليزيُّ الذي أسهم بالدرجة الكُبرى في جهودِ فك التشفير هو آلان تورينج.

في العام ١٩٣٨، عاد تورينج إلى كامبريدج بعد أن أكملَ مدَّة من العمل في جامعة برينستون. كان قد شهد بنفسِه الفوضى التي نتَجَت عن مبرهنَتَي جودل لعدم الاكتمال، وصار منخرِطًا في محاولة لملمةِ شتاتِ حلم هيلبرت. كان يرغب على وجه التحديد في معرفةِ ما إذا كانت توجد طريقةٌ لمعرفة أي الأسئلة قابلة للحسم وأيها غير قابل للحسم، وحاولَ وضع طريقة منهجية للإجابة عن هذا السؤال. في ذلك الوقت، كانت الأجهزةُ الحاسبة بُدائيةً للغاية وعديمةَ الجدوى فِعليًّا حين كان الأمرُ يتعلَّق بجوانبَ جادةٍ من الرياضيَّات؛ لذا فقد بَنى تورينج أفكارَه على مفهوم آلةٍ تخيُّلية قادرةٍ على عددٍ لا نهائي من العملياتِ الحسابية. وهذه الآلة الافتراضية التي استهلَكَت كميةً لا نهائية من شريطِ المبرِّقة التخيُّلي، وكانت تستطيع إجراءَ الحسابات إلى الأبد، كانت هي كلَّ ما احتاج إليه لاستكشافِ أسئلته المجرَّدة المتعلقةِ بالمنطق. ما كان تورينج يجهلُه هو أنَّ طريقتَه التخيُّلية في ميكنة الأسئلةِ الافتراضية كانت ستُؤدِّي في نهاية المطاف إلى تحقيقِ تقدمٍ كبير في إجراء الحسابات الحقيقيَّة على آلاتٍ حقيقية.

بالرغم من اندلاعِ الحرب، واصلَ تورينج أبحاثَه وهو عضوٌ في كلية «كينجز كوليدج» حتى الرابع من سبتمبر عام ١٩٣٩، حين انتهت حياتُه السعيدة بصفتِه مدرسًا في جامعة كامبريدج على غفلة. فقد جنَّدَته المدرسة الحكومية للترميز والتشفير، التي كانت مهمتُها فكَّ رموزِ رسائل العدوِّ المشفَّرة. قبل الحرب، كان الألمانُ قد كرَّسوا مجهوداتٍ كبيرةً لتطوير نظامٍ فائق للتشفير، كان ذلك مصدرَ قلقٍ بالغٍ للمخابرات البريطانية التي كانت قادرةً في الماضي على فكِّ شفرات مراسَلات العدوِّ بسهولة نسبيَّة. يصفُ التاريخ الرسميُّ للحرب الصادرُ عن مكتب مطبوعات صاحبةِ الجلالة «المخابرات البريطانية في الحرب العالمية الثانية»، الحالةَ الراهنة في ثلاثينيَّات القرن العشرين على النحو التالي:

بحلول العام ١٩٣٧، ترسَّخ أنَّه على خلافِ نُظرائه اليابانيِّين والإيطاليين، يستخدم الجيش الألمانيُّ والأسطولُ الألماني والقواتُ الجوية الألمانية أيضًا على الأرجح، إضافةً إلى بعض مؤسسات الدولة الأخرى مثل السكك الحديدية وقوات «شوتوشتافل»، في جميع المراسلات عدا المراسلات التكتيكية؛ نُسَخًا مختلفةً من نظام التشفير نفسِه: الآلة «إنيجما» التي طُرِحت في السوق في عشرينيَّات القرن العشرين، التي زاد الألمانُ من تأمينها بإجراءِ تعديلاتٍ تقدُّمية. وفي العام ١٩٣٧، اختَرقَت المدرسةُ الحكومية للترميز والتشفير، النموذجَ الأقلَّ تعديلًا والأقلَّ أمنًا من هذه الآلة، الذي كانت تستخدمُه القوات الألمانية والإيطالية والقواتُ القومية الإسبانية. أمَّا بخلاف ذلك، فقد ظلت «إنيجما» تُقاوم الهجوم، وكان يبدو أنها ستستمرُّ في ذلك على الأرجح.

fig31
شكل ٤-٦: آلان تورينج.
كانت الآلة «إنيجما» تتألَّف من لوحة مفاتيح تتصلُ بوَحدةٍ لفكِّ الشفرات. وتتألف وحدةُ فكِّ التشفير من ثلاثةِ أقراص دوَّارة منفصِلة تُحدِّد مواقعُها طريقةَ تشفير كلِّ حرف على لوحة المفاتيح. وما جعل من فكِّ شفرة «إنيجما» أمرًا في غاية الصعوبة هو ضَخامة عددِ الطرق التي يُمكن إعدادُ الآلة بها. فأولًا كانت الأقراصُ الدوَّارة الثلاثةُ مختارةً من خمسة، وكان من الممكن تغييرُها وتبديلُها لتشويش مُخترقي الشفرات. وثانيًا، كان يُمكن وضعُ كلِّ قرص بطريقة واحدة من ستٍّ وعشرين طريقةً مختلفة. ومعنى هذا أنَّ الآلة كان يُمكن أن تُعَدَّ بأكثر من مليون طريقة مختلفة. وإضافةً إلى التباديل التي تُوفِّرها الأقراصُ الدوَّارة، كان يُمكن تغييرُ توصيلاتِ لوحة التَّوصيل الموجودة في ظهر الآلة يدويًّا، لتوفيرِ ما يَزيد عن ١٥٠ مليون مليون مليون طريقةٍ مختلفة من الإعدادات. ولتوفير درجةٍ أعلى من الأمان، كانت الأقراصُ الدوَّارة الثلاثة تُغيِّر من اتجاهها على الدوام، كي يتغيرَ إعدادُ الآلة بعد إرسال كلِّ حرف؛ فتتغيَّر طريقة تشفير الحرف التالي تِباعًا. وبهذه الطريقة، عند كتابة DODO، تتولد الرسالة FGTB؛ فالحرف D والحرف O قد أُرسِلا مرَّتَين، لكنَّ طريقةَ التشفير قد اختلفَت في كل مرة.

قُدِّمت آلات «إنيجما» إلى الجيش الألماني، والأسطول الألماني والقوات الجويَّة الألمانية وحتى السِّكك الحديدية وغيرها من الإدارات الحكومية الألمانية. ومِثلَما هي الحال في جميعِ أنظمة التشفير المستخدَمة في تلك الفترة، كان من نِقاط ضعفِ «إنيجما» أنَّ المستقبِلَ كان لا بد أن يعرف إعداد «إنيجما» الذي يستخدمه المرسِل. ولضمانِ الأمان، كان لا بد من تغييرِ إعدادات «إنيجما» بصفةٍ يوميَّة. ومن الطرق التي كان يستخدمها المرسِلون لتغييرِ الإعدادات وإبلاغ المستقبِلين بها هي نشرُ الإعداداتِ اليومية في كتابٍ سرِّي للشفرة. ومن مَخاطر هذه الطريقةِ احتماليةُ أن يقبضَ البريطانيون على إحدى الغوَّاصات الحربية الألمانية ويَحصلوا على الإعدادات اليومية للشهر التالي بأكملِه. أما الطريقة البديلة، التي استُخدِمَت على مدى الجزء الأكبر من الحرب، فهي إرسالُ الإعدادات اليومية في ديباجة الرسالة الفِعلية مع تشفيرها باستخدامِ إعدادات اليوم السابق.

في بداية الحرب، كانت الغالبيَّةُ العظمى من العامِلين في المدرسة البريطانية للتشفير، من علماءِ الكلاسيكيات واللُّغويات. غير أنَّ وزارة الخارجية سرعان ما أدركَت أنَّ علماءَ نظرية الأعداد لديهم فرصةٌ أفضلُ في إيجاد الطريق لفكِّ الشفرات التي يستخدمُها الألمان، وللبدء في ذلك، جُمِع تسعةٌ من أبرع علماء نظريات الأعداد في بريطانيا في المقرِّ الجديد لمدرسة التشفير في حديقة بليتشلي في قصرٍ من العصر الفيكتوري في بليتشلي بمقاطعة باكينجهامشير. اضطُرَّ تورينج إلى التخلِّي عن آلته الافتراضية ذاتِ شريط التيكرز اللانهائي والمعالجة اللانهائية، وتَقبُّلِ التعامل مع مشكلة عمَلية ذاتِ مواردَ محدودةٍ وموعدٍ نهائي جِدِّي للغاية.

إنَّ التشفيرَ هو معركةٌ فِكرية بين صانعِ الشفرة ومحطِّمها. يتمثَّل التحدِّي لصانع الشفرة في إخفاء رسالة صادرةٍ وتعمِيَتِها إلى الحدِّ الذي يجعلُها طِلَّسْمًا عويصًا على الفَهْم إذا استقبَلها العدو. بالرغم من ذلك، فثَمَّة حدٌّ لمقدارِ المعالجة الرياضية التي يمكن تنفيذُها بسبب الحاجة إلى إرسالِ الرسائل بسرعةٍ وكفاءة. وقد كان مَكْمنُ القوةِ في شفرة الآلة إنيجما الألمانيةِ هي أنَّ الرسائلَ المشفَّرة كانت تمرُّ بمستوياتٍ عدة من التشفير وبسرعةٍ كبيرة للغاية. وكان التحدِّي لمحطِّمي الشفرة يتمثَّل في معالجة إحدى الرسائلِ المستقبَلة وفكِّ شفرتها، بينما لا تزال لمحتوياتِ الرسالة أهمِّية. فرِسالةٌ ألمانية تأمر بتحطيمِ سفينة بريطانية كان يجب أن تُفَكَّ شفرتها قبل غرق السفينة.

قاد تورينج فريقًا من علماء الرياضيات الذين كانوا يُحاولون بِناءَ نُسَخ مطابِقة للآلة إنيجما. ودمَج تورينج أفكارَه المجرَّدة من وقتِ ما قبلَ الحرب في هذه الأجهزة التي كان يُمكنها من الناحية النظرية أن تُراجع جميعَ الإعدادات الممكِنة للآلة إنيجما بطريقةٍ منهجية، حتى فك الشفرة. كانت الآلات البريطانية التي بلَغَت من الطول ما يَزيد عن مِترَين ومن العرض المقدارَ نفسَه، تستخدم مُرحِّلاتٍ كهروميكانيكية لمراجعة جميع إعداداتِ إنيجما المحتملة. وبسببِ صوت الطقطقة المستمرِّ الذي كان يَصدُر عن هذه المرحِّلات، فقد أُطِلق عليها لقب «القنابل». وبالرغم من سرعتِها، كان من المحال أن تستطيعَ القنابلُ مراجعةَ جميعِ الإعدادات المحتملة للآلة إنيجما التي يبلغ عددها ١٥٠ مليون مليون مليون إعداد، في مدَّة زمنية مناسبة؛ ولهذا فقد اضطُرَّ فريق تورينج إلى إيجاد طريقةٍ لتقليل عدد التباديل على نحوٍ بارز، وذلك من خلالِ جمعِ أي معلوماتٍ يستطيعون الحصولَ عليها من الرسائل المرسَلة.

ومن أعظمِ الإنجازات التي حقَّقها البريطانيون هي أنهم قد أدرَكوا أنَّ الآلة إنيجما لا يُمكن أبدًا أن تُشفِّر الحرف بنفسه، أي إنه إذا نقر المُرسِل على الحرف R؛ فيمكن أن تُرسل الآلة أيَّ حرفٍ بناءً على إعدادِ الآلة، فيما عدا الحرفَ R. وهذه الحقيقة التي تَبْدو تافهةً كانت هي كلَّ ما يلزم لتقليلِ الوقت الذي تستغرقه عمليةُ فكِّ تشفير رسالةٍ بدرجة كبيرة. وقد قاومَ الألمان بالحدِّ من طول الرسائل التي كانوا يُرسلونها. كانت جميعُ الرسائل تنطوي على تلميحات لفريق فكِّ الشفرات بالطبع، وكلما زاد طولُ الرسالة، تضمَّنَت عددًا أكبرَ من التلميحات. كان الألمان يأمُلون في أن يؤديَ تقليل طول الرسائل إلى ٢٥٠ حرفًا بحدٍّ أقصى، إلى التعويض عن حقيقةِ أنَّ إنيجما لا تُشفِّر الحرف بنفسه.

من أجل أن يتمكَّن تورينج من فكِّ الشفرات، كان غالبًا ما يُحاول تخمينَ الكلمات المِفْتاحية في الرسائل. وإذا كان تخمينُه صحيحًا، فإنَّ ذلك كان يَزيد من سرعةِ فك بقيةِ الشفرة بدرجةٍ هائلة. إذا شكَّ مُحطِّمو الشفرة في أنَّ رسالةً ما تتضمَّن تقريرًا عن الطقس على سبيل المثال، وهو من الأنواع الشائعة في التقارير المشفَّرة، فإنهم سيُخمِّنون أنَّ الرسالة تتضمَّن كلماتٍ مثل «ضباب» أو «سرعة الرياح». وإذا كان تخمينُهم صحيحًا، فإنَّ ذلك سيُمكِّنهم من فكِّ شفرةِ تلك الرسالة بسرعة، ومِن ثَمَّ يستنتجون إعداداتِ إنيجما لذلك اليوم. ومِن ثَمَّ، يُمكن فكُّ شفرات رسائلَ أخرى أهمَّ في بقية اليوم بسهولة.

وحين كان البريطانيون يفشلون في تخمينِ كلمات الطقس، كانوا يُحاولون أن يُفكِّروا مثلما قد يُفكر مُشغِّلو إنيجما ليُخمنوا كلماتٍ دلاليةً أخرى. فقد يُخطئ مشغِّل إنيجما ويُخاطب المستقبِلَ باسمِه الأول أو ربما يُطوِّر سمةً خاصة تكون معروفةً بالنسبة إلى فريق فكِّ الشفرة. وحين كانت تفشل جميعُ المحاولات وتتدفَّق الرسائل الألمانية دون أن يتمكَّنَ الفريق من فك شفرتها، يُقال إنَّ مدرسة التشفير البريطانية كانت تلجأ إلى القوات الجويَّة الملَكية لتطلبَ منها تلغيمَ ميناءٍ ألمانيٍّ محدَّد. وعندها سوف يُرسل مسئولُ الميناء الألماني على الفور رسالةً مشفَّرة سيستقبلها البريطانيون. وحينها، يُصبح مَن يفكُّون الشفرات واثقين من أنَّ الرسالة تتضمَّن كلماتٍ مثل «تلغيم» أو «تجنب» أو «مرجع الخريطة». وبعد فك شفرة هذه الرسالة، سيكون تورينج قد توصَّل إلى إعدادات إنيجما لذلك اليوم، وتصير جميع الرسائل الألمانية التالية في ذلك اليوم عُرضةً لفك شفرتها بسرعة.

في الأول من فبراير عام ١٩٤٢، أضاف الألمانُ عجَلةً رابعةً لآلاتِ إنيجما التي كانت تُستخدَم لإرسال المعلومات شديدةِ السرِّية. وقد كان ذلك أكبرَ تصعيد في مستوى التشفير خلالَ وقت الحرب، لكنَّ فريق تورينج تمكَّن من المقاومة رغمَ ذلك عن طريق زيادةِ كَفاءة القنابل. وبفضلِ مدرسة التشفير، تمكَّن الحلفاءُ من معرفة الكثير عن أعدائهم بأكثرَ مما كان الألمانُ يظنُّون بدرجةٍ كبيرة. قلَّ تأثيرُ الغوَّاصات الحربية الألمانية في المحيطِ الأطلنطي بدرجةٍ كبيرة، وتمكَّن البريطانيون من تقديم التحذيرات بشأن هجمات سلاح الجوِّ الألماني. وقد تمكَّن مُحطِّمو الشفرات أيضًا من استقبالِ الرسائل بشأنِ المواقع المحدَّدة لسفنِ الإمدادات الألمانية وفكِّ شفرتها؛ مما أتاح إرسالَ المدمِّرات البريطانية لإغراقها.

وقد كان على قواتِ الحلفاء أن تَحرص دائمًا على ألَّا تشيَ إجراءاتُ المراوغة التي تتخذها بقدرتِها على فكِّ شفرة المراسلات الألمانية. ذلك أنَّ الألمانَ إذا شكَّوا بأنَّ شفرة إنيجما قد اختُرِقَت، كانوا سيَزيدون من مستوى التشفير، وقد يعود البريطانيون إلى مربَّع الصفر من جديد. ولهذا السبب، فقد كان يحدث في بعض الأحيان أن تُخبر مدرسةُ التشفير قواتِ الحلفاء بهجمةٍ وشيكة، وتختارَ قواتُ الحلفاء ألا تتخذَ إجراءاتٍ مضادةً متطرِّفة. علاوةً على ذلك، فثَمَّة شائعات تقول بأنَّ تشرشل عرَف أنَّ مدينة كوفنتري كانت ستتعرَّض لغارةٍ جائحة، لكنه اختارَ ألَّا يتخذَ احتياطاتٍ خاصةً لئلا يرتابَ الألمان. غير أنَّ ستيوارت ميلنر-باري الذي كان يعمل مع تورينج، يُنكر هذه الشائعةَ ويقول إنَّ شفرة الرسالة المتعلقة بكوفنتري لم تُفكَّ إلا بعد فوات الأوان.

لقد أتى تقييدُ استخدام المعلومات التي جرى فكُّ شفرتها بثماره على النحوِ الأمثل. فحتى حين كانت القواتُ البريطانية تستخدم المراسلاتِ التي تلَقَّتها لتُكبِّد العدوَّ خسائرَ فادحة، لم يشكَّ الألمان بأنَّ شفرةَ إنيجما قد اختُرِقت. لقد كانوا يعتقدون أنَّ مستوى التشفير الذي يستخدمونه متقدمٌ للغاية حتى إنه ليَستحيلُ فكُّ شفرته. وبدلًا من ذلك، كانوا يعوزون أيَّ خسائرَ فادحةٍ إلى تسلُّل جهازِ الاستخبارات البريطانية بين قياداتهم.

بسبب السرِّية المحيطة بالعمل الذي كان يُجريه تورينج وفريقُه في بليتشلي، لم يكن من الممكن الاعترافُ بإسهاماتِهم الضخمة في جهودِ الحرب بشكلٍ علَني، حتى بعد الحرب بسنواتٍ طويلة. لقد كان يُقال إنَّ الحرب العالميةَ الأولى هي حربُ علماء الكيمياء، والحرب العالمية الثانية هي حربُ علماء الفيزياء. والواقع أنه بِناءً على المعلومات التي كُشِفَت في العقود الأخيرة، سيكون من الصواب على الأرجح القولُ بأنَّ الحرب العالمية الثانيةَ كانت حربَ علماءِ الرياضيات أيضًا، وسوف تكون إسهاماتهم أكثرَ أهميةً حتى من ذلك في حالة وقوعِ حربٍ عالمية ثالثة.

على مدى المدَّة التي قضاها تورينج في العمل على فكِّ الشفرات، لم يغفل أبدًا عن أهدافه المتعلِّقة بالرياضيات. لقد استُبدِلت بالآلات الافتراضية أخرى حقيقيةٌ، غير أنَّ الأسئلةَ العويصة قد ظلَّت. بنهاية الحرب، كان تورينج قد أسهَم في بناء «كولوسس»، وهي آلة إلكترونيةٌ بالكامل تتكوَّن من ١٥٠٠ صمام كانت أسرعَ كثيرًا من المرحِّلات الكهروميكانيكية التي استُخدِمت في القنابل. لقد كانت الآلة «كولوسس» جهازَ كمبيوتر بالمعنى الحديثِ للكلمة، ونظرًا إلى سرعتها الإضافية وتعقيدِها، بدأ تورينج يُفكِّر فيها على أنها دماغٌ بُدائي: لقد كانت تتمتَّع بذاكرة، وكانت تستطيع معالجةَ المعلومات والحالات داخلَ نطاقِ حالات الكمبيوتر الشبيهةِ بالحالات الذهنية. لقد حوَّل تورينج آلتَه التخيُّلية إلى أولِ جهاز كمبيوتر فِعْلي.

حين انتهَت الحرب، استمرَّ تورينج في بِناء آلاتٍ متزايدة التعقيد، مثل «مُحرِّك الحوسَبة التِّلقائي» (ACE). وفي العام ١٩٤٨، انتقل إلى جامعة مانشستر وأنشأ أولَ جهاز كمبيوتر في العالم يعمل ببرنامَجٍ مُخزَّن إلكترونيًّا. لقد قدَّم تورينج لبريطانيا أجهزةَ الكمبيوتر الأكثرَ تطورًا في العالم، لكنه لم يَعِش طويلًا ليرى حساباتِها المذهلة.

في السنوات التي تلَتِ الحرب، كان تورينج يخضعُ للمراقبة من أفرادِ جهاز المخابَرات البريطانية الذين كانوا على علمٍ بأنه يُمارس المِثلية الجنسيَّة. كانوا يخشَون أن يكون الرجل الذي كان يعرف عن شفرات الأمان التي تستخدمها بريطانيا أكثرَ من أي شخصٍ آخر، عُرضةً للابتزاز وقرَّروا أن يُراقبوا جميع تحرُّكاته. كان تورينج قد تَقبَّل فكرةَ وجود مَن يُراقبه على الدوام بدرجةٍ كبيرة، لكنه اعتُقِل في العام ١٩٥٢ بتهمة انتهاك قوانينِ المثلية الجنسية البريطانية. وقد جعل هذا الإذلالُ الحياةَ لا تُطاق بالنسبة إلى تورينج. ويصف أندرو هودجز، كاتبُ السيرة الذاتية لتورينج، الأحداثَ التي أدَّت إلى وفاته على النحو التالي:

لقد جاء موتُ آلان تورينج صدمةً لجميعِ مَن كانوا يعرفونه … لم يكن يَخْفى على أحد أنه كان تعيسًا متوتِّرَ الأعصاب، وأنه كان يستشيرُ طبيبًا نفسيًّا، وأنه قد تلقَّى ضربةً كانت لِتُودِيَ بالكثيرين من الأشخاص. غير أنَّ المحاكمة كانت قد انتهت قبلَ عامين، وانتهى العلاجُ الهرموني قبل عام، وبدا أنه قد تجاوز كلَّ ذلك.

أثبت التحقيقُ الذي أُجري في العاشر من يونيو عام ١٩٥٤ أنه مات منتحرًا. عُثِر عليه مستلقيًا في فِراشه بعناية. كان ثَمةَ رُغْوة حولَ فمه وقد استطاع اختصاصيُّ علم الأمراض الذي أجرى تشريحَ الجثة أن يُحدد بسهولةٍ سببَ الوفاة على أنه التسمُّم بالسيانيد … كان يوجد في المنزل وِعاءٌ من سيانيد البوتاسيوم ووعاءٌ من محلول السيانيد أيضًا. وعلى جانب الفراش، كانت توجد نصفُ تفاحة قُضِمت منها بِضع قضمات. لم يُحللوا التفاحة؛ ولهذا فلم يَثبُت أبدًا على النحوِ الملائم، أنَّ التفاحة قد غُمِست في السيانيد، وهو ما كان جَليًّا للغاية.

لقد تمثَّل إرث تورينج في آلةٍ كانت تستطيع إجراءَ عملياتٍ حسابية ستستغرقُ طويلًا للغاية إذا أجراها إنسانٌ، لكنها تُنهيها في ساعاتٍ معدودة. إنَّ أجهزة الكمبيوتر في العصر الحاليِّ تستطيع إجراءَ مجموعة من العمليات الحسابية في جزءٍ من الثانية أكثرَ مما قد أجراه فيرما على مدى حياته المِهْنية بأكملِها. وقد بدأ علماءُ الرياضيات الذين ظلُّوا يُواجهون صعوبةً مع مبرهنة فيرما الأخيرةِ في استخدام أجهزةِ الكمبيوتر لمعالجة المسألة بالاستنادِ إلى نسخةٍ مُحوسَبةٍ من النهج الذي ابتكَره كومر في القرن التاسع عشر.

بعد أن اكتشف كومر عيبًا في عملِ كوشي ولاميه، أوضح أنَّ المشكلة البارزة في إثباتِ مبرهنة فيرما الأخيرة تتلخَّص في الحالات التي يكون فيها n مساويًا لأحد الأعداد الأوَّلية غيرِ المنتظِمة: أي إنه في حالات قِيَم n حتى العدد ١٠٠، لا توجد سوى ثلاثة أعداد أوَّلية غيرِ منتظمة هي ٣٧ و٥٩ و٦٧. وفي الوقت نفسِه، أوضحَ كومر أنه من الممكنِ نظريًّا التعاملُ مع الأعداد الأولية غيرِ المنتظمة كلٍّ على حِدَة، والمشكلة الوحيدة هي أنَّ كلًّا منها سيستلزم قدرًا ضخمًا من العمليات الحسابيَّة. ومن أجل إثباتِ وجهة نظرِه؛ أمضى كومر وزميله ديمتري ميريمانوف عدةَ أسابيع في الحسابات اللازمة للانتهاء من أمر الأعداد الأوَّلية غيرِ المنتظمة الثلاثة الأقلِّ من ١٠٠. بالرغم من ذلك، فلم يكونا هُما ولا غيرهما من علماء الرياضيات جاهزين للبدء في حسابات المجموعة التالية من الأعداد الأولية غيرِ المنتظمة فيما بين ١٠٠ و١٠٠٠.
وبعد ذلك بعدةِ عقود، بدأَت مشكلة الحسابات الضخمة في التلاشي. فمع ظهور أجهزة الكمبيوتر، صار من الممكنِ إجراءُ الحسابات المتعلِّقة بالحالات الغريبة من مبرهنةِ فيرما الأخيرة بسرعةٍ عالية، وبعد الحرب العالمية الثانية، أثبتَت فِرَق من علماء الكمبيوتر وعلماء الرياضيات، مبرهنة فيرما الأخيرة لجميع قيم n حتى العدد ٥٠٠، ثم ١٠٠٠، ثم ١٠٠٠٠. وفي ثمانينيَّات القرن العشرين، رفع صامويل إس واجستاف من جامعة إلينوي، هذا الحدَّ إلى العدد ٢٥٠٠٠، وبعد ذلك تمكَّن علماء الرياضيات من الزعمِ بصحة مبرهنة فيرما الأخيرة لجميع قيم n حتى العدد ٤ ملايين.
وبالرغم من أنَّ غيرَ المتخصصين في الرياضيات قد شعَروا بأنَّ التكنولوجيا الحديثة ستتمكَّن أخيرًا من التغلُّب على المبرهنة الأخيرة، كان المجتمع الرياضي يُدرك أنَّ نجاحَهم ظاهريٌّ فحَسْب. فحتى إذا قضت أجهزة الكمبيوتر الفائقةُ عقودًا تُثبت إحدى قيم n تِلْو الأخرى، فلن يُمكن أبدًا أن تُثبت جميع قيم n إلى ما لا نهاية؛ ومِن ثَمَّ فلا يُمكن أبدًا الزعمُ بأنها قد أثبتَت النظريةَ بأكملها. حتى إذا أُثبِتت صحةُ النظرية حتى العدد مليار، فما من سبب يدعو إلى تصديق صحتها في حالة العدد مليار وواحد. وحتى إذا أُثبِتَت صحةُ النظرية حتى العددِ تريليون فما من سببٍ يدعو إلى تصديقِ صحتها في حالة العدد تريليون وواحد، وهكذا إلى ما لا نهاية. إنَّ اللانهائية أمرٌ لا يُمكن تحقيقُه بالقوةِ الغاشمة لسحقِ الأعدادِ المحوسَب.

يُقدِّم ديفيد لودج في كتابه «رواد السينما»، وصفًا جميلًا للأبَديَّة، ينطبق أيضًا على المفهوم الموازي المتمثِّل في اللانهائية: «تخيَّل كرةً من الفولاذ بحجم العالم، وتحطُّ عليها ذبابةٌ مرةً كلَّ مليون عام. حين تتحرك كرةُ الفولاذ بعيدًا بفعلِ الاحتكاك، لن تكونَ الأبدية قد بدأَت حتى.»

إنَّ كل ما تمكَّنَت أجهزةُ الكمبيوتر من تقديمه هو دليلٌ في صالحِ مبرهنة فيرما الأخيرة. قد يبدو الدليلُ قاطعًا للملاحِظ العابر، غير أنه ما من مقدارٍ من الأدلة يُمكن أن يُرضيَ علماءَ الرياضيات، وهم جماعة من المتشكِّكين الذين لا يَقبلون بأيِّ شيء سوى البُرهان المطلَق. إنَّ استقراءَ نظريَّةٍ تشمل مقدارًا لا نهائيًّا من الأعداد، بِناءً على أدلةٍ مستمَدة من بضعةِ أعداد فقط، هو مجازَفة ومقامرة (غير مقبولة).

ثَمة تسلسلٌ محدَّد من الأعداد الأولية يُوضِّح أنَّ الاستقراء الخارجيَّ ركيزةٌ من الخطر الاستنادُ إليها. ففي القرن السابع عشر، أوضح علماء الرياضيات بالفحص التفصيليِّ أنَّ الأعداد التاليةَ جميعها من الأعداد الأولية:

31; 331; 3331; 33331; 333331; 3333331; 33333331.

إنَّ الأعداد التالية في السلسلة تزدادُ ضخامة، وكان التحقُّق مما إذا كانَت من الأعداد الأولية أم لا، سيستلزمُ مجهوداتٍ كبيرةً. في ذلك الوقتِ، شعر بعضُ علماء الرياضيات بإغراءِ الاستناد إلى الاستقراءِ الخارجيِّ من هذا النمط، وافتراضِ أنَّ جميعَ الأعداد التي تتخذُ هذه الصورةَ أعدادٌ أولية. بالرغم من ذلك، فقد اتضحَ أنَّ العدد التاليَ في هذا التسلسل، وهو ٣٣٣٣٣٣٣٣١، ليس عددًا أوليًّا:

133333333 = 17 × 19607843.

ومن الأمثلةِ الجيدةِ الأخرى التي تُوضِّح السببَ في رفض علماء الرياضيات الاقتناعَ بأدلة أجهزة الكمبيوتر، حالةُ حَدْسية أويلر. فقد زعَم أويلر أنه ما مِن حلولٍ لمعادلة شبيهة بمعادلة فيرما:

وعلى مدى مائتي عام، لم يتَمكَّن أحدٌ من إثبات حدسية أويلر، لكنَّ أحدًا لم يتمكَّن أيضًا من دحضِها عن طريقِ إيجاد مثالٍ مضاد. عجزَت أساليبُ البحث اليدويِّ في البداية، وعجزَت غربلةُ أجهزة الكمبيوتر من بعدِها، عن إيجاد حلٍّ. لقد كان الافتقارُ إلى وجودِ مثالٍ مضادٍّ دليلًا قويًّا يُؤيِّد الحَدْسية. غير أنه في العام ١٩٨٨، اكتشف نعوم إلكيز من جامعة هارفارد، الحلَّ التاليَ:

26824404 + 153656394 + 187967604 = 206156734.

فبالرغم من كل الأدلة، اتضح أنَّ حدسية أويلر خاطئة. والواقع أنَّ إلكيز أثبتَ وجودَ عددٍ كبير للغاية من الحلول لهذه المعادلة. والعِبْرة هنا أنه لا يُمكن استخدام الدليل المستمَدِّ من أول مليون عددٍ لإثبات حَدْسيةٍ تضم كلَّ الأعداد.

بالرغم من ذلك، فالطبيعة الخادعة التي تتَّسمُ بها حَدْسيةُ أويلر، لا تُعَد شيئًا إذا ما قُورِنَت بحَدْسية الأعداد الأولية «المبالَغ في تقديرها». فعند البحث في أنظمةٍ أكبرَ وأكبرَ من الأعداد، يتَّضح أنَّ العثورَ على الأعداد الأولية يزداد صعوبة. فبين العدد ٠ والعدد ١٠٠ على سبيل المثال، يوجد ٢٥ من الأعداد الأولية، أما بين العدد ١٠٠٠٠٠٠٠ والعدد ١٠٠٠٠١٠٠، فلا يوجد سوى عددَيْن أوَّليَّين. في العام ١٧٩١، حين كان كارل جاوس في الرابعة عشرة من عمره فحَسْب، تنبَّأ على نحوٍ تقريبيٍّ بالأسلوبِ الذي سيستمرُّ به تواترُ الأعدادِ الأولية بين الأعداد الأخرى في التضاؤل. وكانت الصيغةُ دقيقةً إلى درجةٍ مناسبة، لكن بدا دائمًا أنها تُبالغ قليلًا في تقديرِ توزيع الأعداد الأولية بين الأعداد. فعند اختبارِ الصيغة على الأعداد الأولية حتى المليون أو المليار أو التريليون، يتضحُ دائمًا أنَّ صيغةَ جاوس تُبالغ بدرجةٍ طفيفة، وكان علماء الرياضيات يَميلون ميلًا شديدًا إلى افتراضِ أنَّ ذلك سينطبقُ على جميع الأعداد إلى ما لا نهاية، ومِن ثَمَّ؛ فقد وُلِدت حَدْسية الأعداد الأولية المبالَغ في تقديرها.

وبعد ذلك، في العام ١٩١٤، أثبتَ جيه إي ليتلوود، وهو شريكُ جي إتش هاردي في العمل بجامعة كامبريدج، أنَّ صيغةَ جاوس «تُقلِّل من تقدير» عدد الأعداد الأوَّلية، حين يكونُ النظام كبيرًا بالدرجةِ الكافية. وأوضحَ إس سكيوز عام ١٩٥٥ أنَّ انخفاضَ التقدير سيَحدث قبلَ بلوغ العدد:

101010000000000000000000000000000000000.
إنَّ هذا العدد يتجاوز قدراتِ الخيال ويتجاوز أيَّ تطبيقٍ عمَلي. لقد قال هاردي عن عدد سكيوز إنه «أكبرُ عددٍ على الإطلاق يُقدِّم أيَّ فائدةٍ محدَّدة في الرياضيات.» لقد أجرى عمليةً حسابية تُفيد بأنه إذا لعب المرءُ الشِّطْرنجَ بجميع الجُسَيمات الموجودة في الكون (١٠٨٧)، وكانت الحركةُ هي التبديلَ فقط بين أيِّ جُسَيمَين، فسوف يكونُ عددُ المباريات الممكنةِ هو عددَ سكيوز تقريبًا.

لم يكن ثَمة سببٌ يمنع من أن تكون مبرهنة فيرما الأخيرةُ قاسيةً وخادعة كحَدْسية أويلر أو كحدسيةِ الأعداد الأوَّلية المبالَغ في تقديرها.

(٥) طالب الدراسات العليا

في عام ١٩٧٥، بدأ أندرو وايلز حياتَه المِهْنية بعد أن تخرَّج في جامعة كامبريدج. وعلى مدى السنوات الثلاثِ التالية، كان يعملُ في رسالة الدكتوراه؛ ويتلقَّى بتلك الطريقةِ تدريبَه الرياضيَّاتي. كان لكلِّ طالبٍ مُشرِفٌ يُرشده ويرعاه، وكان ذلك المشرفُ في حالة وايلز هو الأستراليَّ جون كوتس، البروفيسور بكلية إيمانويل، وهو في الأصل مِن بوسَم براش في نيو ساوث ويلز.

لا يزال كوتس يتذكَّر ما أدى به إلى تبنِّي وايلز: «أتذكَّر أنَّ زميلًا أخبرَني أنَّ لديه طالبًا ممتازًا كان يُنهي للتوِّ الجزء الثالث من امتحاناتِ درجة الشرف في الرياضيَّات، وحثَّني على أن أكونَ مشرفًا عليه. وقد حالفَني الحظُّ في أن أكون مشرفًا على طالبٍ مثل أندرو. ذلك أنه كان يأتي بأفكارٍ عميقة للغاية، حتى وهو لا يزال طالبًا باحثًا، وبدا جليًّا أنه عالمُ رياضياتٍ سيقوم بأعمالٍ عظيمة. لم يكن من الواردِ في تلك المرحلة بالطبعِ أن يبدأ طالبٌ باحث بالعمل على مبرهنة فيرما الأخيرة مباشَرة. فهي مسألةٌ شديدة الصعوبة حتى على علماء الرياضيات المحنَّكين.»

على مدى العقد الماضي، كان كلُّ ما قام به وايلز موجَّهًا لإعداده للتصدِّي لتحدِّي فيرما، لكنَّه وقد انضمَّ الآن إلى مصافِّ علماء الرياضيات المحترفين، كان عليه أن يتحلَّى بقدرٍ أكبرَ من العمَلية. وهو يتذكر كيف أنه اضطُرَّ إلى التنازل عن حُلمه لبعض الوقت: «لقد نَحَّيتُ مبرهنةَ فيرما بالفعل حين ذهبتُ إلى كامبريدج. وليس ذلك لأنني نسيتُ أمرها، بل كان حاضرًا على الدوام، لكنني أدركتُ أنَّ الأساليب التي نملكها لمعالجتها موجودةٌ منذ ١٣٠ عامًا. وبدا أنَّ هذه الأساليبَ لم تكن تصل إلى جذورِ المسألة. ومشكلةُ العمل على مبرهنة فيرما هي أنك قد تقضي أعوامًا دون أن تصلَ إلى أيِّ شيء. لا بأس في العمل على أيِّ مسألة رياضيةٍ ما دامت تُنتج معرفةً رياضية مثيرة للاهتمام، حتى إن لم تتمكَّن من حلِّها في نهاية المطاف. إنَّ تعريفَ المسألة الرياضية الجيدةِ هو ما تُنتجه من معارفَ رياضيَّة، لا المسألةُ نفسُها.»

fig32
شكل ٤-٧: أندرو وايلز في سنوات الكلية.

وقد كانت المسئولية تقع على جون كوتس في أن يجدَ لأندرو هوَسًا جديدًا يشغَلُ أبحاثَه على مدى السنوات الثلاث التالية على الأقل. «أعتقد أنَّ كل ما يُمكن لمشرفٍ بحثيٍّ أن يقوم به تجاه طالبه هو أن يُحاول دفعَه في اتجاهٍ مثمر. من المحال بالطبع أن نكون متيقِّنين بشأن ماهيَّة الاتجاهات المثمِرة فيما يتعلق بمجال البحث، لكن ربما يكون أحدُ الأمور التي يستطيع الرياضيُّ الأكبرُ القيامَ بها هو استخدامَ فطرته السليمة وحَدْسه بشأنِ أي المجالات سيكون جيدًا، ثم يَئُول القرار إلى الطالب بعد ذلك بشأن المسافة التي يستطيعُ قطعَها في ذلك الاتجاه.» في نهاية المطاف، قرر كوتس أنَّ وايلز ينبغي أن يَدرُس مجالًا في الرياضيات يُعرَف باسم «المنحنيات الإهليلجية». وسيُثبت أنَّ ذلك القرارَ سيُصبح نقطةَ تحولٍ في مسار وايلز المهني، وسيُزوِّده بالأساليب التي سيحتاج إليها لتبنِّي نهجٍ جديد في معالجة مبرهنة فيرما الأخيرة.

إنَّ اسم «المنحنيات الإهليلجية» مضلِّلٌ بعضَ الشيء في حقيقة الأمر؛ إذ إنها ليست إهليلجيةً ولا هي حتى بالمنحنيات بالمعنى المعتادِ للكلمة. وإنما هي في حقيقة الأمر أيُّ معادلةٍ تتخذُ الصورةَ:

، حيث a وb وc أي عدد من الأعداد الصحيحة.

وقد اتخذَت ذلك الاسمَ لأنها كانت تُستخدَم في الماضي لقياس محيطاتِ الأشكال الإهليلجية لمداراتِ الكواكب، وأطوالِها، لكنَّني سأُشير إليها باسم «المعادلات الإهليلجية» لا المنحنيات الإهليلجية؛ سعيًا إلى الوضوح.

والتحدِّي في المعادلات الإهليلجية هو نفسُه التحدي في مبرهنة فيرما الأخيرة، وهو يتمثَّل في معرفةِ ما إذا كانت توجد لها حلولٌ بأعدادٍ صحيحة أو لا، وما هو عددُ هذه الحلول إن وُجِدت. فالمعادلةُ الإهليلجية التالية على سبيل المثال:

، حيث ، ، .

لها مجموعةُ حلٍّ واحدة بأعدادٍ صحيحة وهي كما يلي:

25 = 27 − 2 أو 52 = 33 − 2.
وإثباتُ أنَّ هذه المعادلةَ الإهليلجية ليس لها سِوى مجموعةِ حلٍّ واحدة بأعدادٍ صحيحة، مهمةٌ في غاية الصعوبة، والواقع أنَّ بيير دو فيرما هو مَن اكتشف البرهانَ. لعلك تتذكَّر مِن الفصل الثاني أنَّ بيير دو فيرما هو مَن اكتشفَ أنَّ العدد ٢٦، هو العددُ الوحيد في الكون الذي يقعُ بين عددٍ مربَّع وعدد مكعَّب. وهذا مكافئٌ لإثبات أنَّ المعادلة الإهليلجية السابقة ليس لها سِوى حلٍّ واحد فقط، أي إنَّ ٥٢ و٣٣ هما المربَّع والمكعَّب الوحيدان اللذان نجد أنَّ الفارقَ بينهما يُساوي ٢؛ ومِن ثَمَّ، فالعدد ٢٦ هو العدد الوحيد الذي يُمكن أن يقعَ بين مثلِ هذَين العددَين.
إنَّ ما يجعل المعادلاتِ الإهليلجيةَ ساحرةً على نحوٍ خاص هو أنها تَشغَلُ قِطاعًا مثيرًا للفضول، فيما بينَ غيرِها من المعادلات الأبسطِ التي تكادُ تكونَ تافهةً، وغيرها من المعادلات الأكثرِ تعقيدًا التي يكاد يكون من المحال حلُّها. فمن خلالِ تغييرٍ بسيط يتمثَّل في تغيير قيم a وb وc في المعادلة الإهليلجية العامة، يُمكن لعلماء الرياضيات إنتاجُ تشكيلةٍ لا نهائية من المعادلات، لكلٍّ منها سِماتُها الخاصة، لكنها تقع جميعًا في نطاق القابلية للحل.
fig33
شكل ٤-٨: ظلَّ جون كوتس، المشرف على وايلز في سبعينيَّات القرن العشرين، على تواصلٍ مع تلميذه السابق.

دُرِست المعادلات الإهليلجية في الأصل على يدِ علماء الرياضيات من اليونانيين القدماء، ومنهم ديوفانتوس الذي خصَّص أجزاءً كبيرةً من كتابه «أريثميتيكا» لاستكشاف خواصِّها. فيرما أيضًا قد تصدَّى لتحدي المعادلات الإهليلجية، وكان ديوفانتوس هو مصدرَ إلهامِه بذلك على الأرجح، ولأنَّ بطلَه قد درَسَها، رحَّب وايلز بالتوسُّعِ في دراستها. وحتى بعد مرورِ ألفَيْ عام، ظلَّت المعادلاتُ الإهليلجية تُنتج مسائلَ تستعصي على طلابٍ مثل وايلز: «إنها أبعدُ ما يكون عن أن تكون مفهومةً على نحوٍ تام. فيُمكنني أن أطرح بشأن المعادلات الإهليلجية، الكثيرَ من الأسئلة التي تبدو بسيطة، لكنها لم تزَلْ عالقة. حتى بعض الأسئلة التي تناولَها فيرما نفسُه بالتفكير، لم تزَل عالقة. إنَّ جميع المعارف الرياضية التي عالجتها، يمكن تتبُّع أصولِها إلى فيرما، إن لم يكن إلى مبرهنةِ فيرما الأخيرة.»

في المعادلات التي درَسها وايلز بعد التخرُّج، كان تحديدُ العددِ الدقيق للحلول أمرًا صعبًا للغاية؛ حتى إنَّ الطريقة الوحيدةَ لتحقيق أي تقدُّمٍ تمثَّلَت في تبسيط المسألة. فمِن المحال مثلًا معالجةُ المعادلة الإهليلجية التالية مباشرة:

ويَكْمُن التحدِّي في معرفةِ عددِ ما يوجد للمعادلة من حلولٍ بأعداد صحيحة، ومن الحلول التافهة نِسبيًّا، و:
03 − 02 = 02 + 0.
وأحدُ الحلول المثيرة للاهتمام بعض الشيء، و:
13 − 12 = 02 + 0.

ربما تكون هناك حلولٌ أخرى، لكنَّ وجودَ كميةٍ لا نهائية من الأعداد الصحيحة التي يجب البحثُ فيها، يجعل مِن إيراد قائمةٍ كاملة بحلول هذه المعادلة المحددة مهمةً مستحيلة. غير أنَّ ثَمة مهمةً أبسطَ تتمثل في البحث عن حلولٍ في فضاء محدَّد من الأعداد، وهو ما يُطلَق عليه اسم الحساب الساعاتي.

رأينا سابقًا كيف أنه يُمكن تخيُّلُ الأعداد علاماتٍ على خطِّ الأعداد الذي يمتدُّ إلى ما لا نهاية، مِثلما يرِدُ في الشكل ٤-٩. ومن أجلِ جعل فضاءِ الأعداد محدودًا، ينطوي الحسابُ الساعاتيُّ على بَتْر الخط ولفِّه على نفسِه لتكوين حَلْقةٍ عددية بدلًا من خطٍّ عددي. يوضِّح الشكل ٤-١٠ حسابَ الساعة الخامسة، حيث اقتُطِعَ الخطُّ عند العدد ٥، وعُقِد على نفسِه عند الصفر. يختفي العدد ٥ ويُصبح مكافئًا للصفر؛ ومِن ثَمَّ فالأعداد التي توجد في حساب الساعة الخامسة هي ٠ و١ و٢ و٣ و٤ فحسب.
fig34
شكل ٤-٩: يُمكن تخيُّلُ الحسابِ التقليدي في صورةِ حركات تقدمًا ورجوعًا على خط الأعداد.

في الحساب العادي، يُمكننا تخيُّل الإضافةِ على أنها حركةٌ على طول الخط لعدد محدد من المسافات. فحين نقول ٤ + ٢ = ٦ على سبيل المثال، هو نفسُه قولنا: ابدأ عند ٤ وتحرَّك على خط الأعداد لمسافتين، وتوقَّفْ عند ٦.

أما في حساب الساعة الخامسة:

4 + 2 = 1.

ذلك أننا إذا بدَأْنا عند ٤ وتحرَّكْنا على مدارِ الدائرة لمسافتين؛ فإننا نعود مجددًا إلى ١. قد يبدو حسابُ الساعة غيرَ مألوف، لكنه يُستخدَم يوميًّا في حقيقة الأمر حين يُناقش الناسُ الوقت، مثلَما يوحي بذلك اسمُه. فأربع ساعات بعد الحادية عشرة على سبيل المثال (أي ١١ + ٤)، لا تُدْعَى عادةً بالساعة الخامسة عشرة، بل الساعة الثالثة. وهذا هو حساب الساعة الثانية عشرة.

وإضافةً إلى الجمع، يُمكن إجراءُ جميع العمليات الحسابيَّة المعتادة كالضرب. ففي حساب الساعة الثانية عشرة، ٥ × ٧ = ١١. ويُمكن تخيُّلُ عملية الضرب هذه على النحوِ التالي: إذا بدأتَ عند الصفر، ثم تحركتَ على مدار خمسِ مجموعات تتكوَّن الواحدةُ منها من سبعِ مسافات، فإنك ستَصلُ في النهاية إلى ١١. وبالرغم من أنَّ هذه الطريقةَ هي إحدى الطُّرق التي يُمكن الاستعانةُ بها لتخيُّلِ الضرب في حساب الساعة؛ فثَمَّة طرقٌ مختصرة تَزيد من سرعة العمليات الحسابية. فمن أجلِ حساب ٥ × ٧ في حساب الساعة الثانية عشرة على سبيل المثال، يُمكننا أن نبدأَ بإيجاد النتيجة المعتادة، وهي ٣٥. بعد ذلك، نَقسِم ٣٥ على ١٢، ونوجد باقيَ القسمة، وهو ما سيكون إجابةَ السؤال الأصلي. إذن؛ لا يمكن قسمةُ ١٢ على ٣٥ إلا لمرتين فقط، ويكون باقي القسمة ١١، وبالفعل فإنَّ ٥ × ٧ في حساب الساعة الثانية عشرة يُساوي ١١. وهذا يُماثل تخيُّلَ الدورانِ بالساعة مرتين، مع تبقِّي ١١ مسافةً ينبغي قطعُها.

fig35
شكل ٤-١٠: في حساب الساعة الخامسة، يُبتَرُ خط الأعداد عند العدد ٥، ويُعقَد على نفسِه. يتطابق العدد ٥ مع الصفر؛ ولهذا يُستبدَل به.

ونظرًا إلى أنَّ حساب الساعةِ لا يتعامل إلا مع فضاءٍ محدَّد من الأعداد؛ فمن السهل نِسبيًّا إيجادُ جميعِ الحلول الممكِنة لمعادلةٍ إهليلجية في حساب ساعةٍ محددة. فمن خلال العمل في نطاقِ حساب الساعة الخامسة على سبيل المثال، يُمكن إيجادُ جميع الحلول الممكنة للمعادلة الإهليلجية:

والحلول هي:

بالرغم من أنَّ بعض هذه الحلولِ لن يَكون صالحًا في الحسابِ المعتاد، فإنها يُقبَل بها في حسابِ الساعة الخامسة. فالحلُّ الرابع على سبيل المثال (، )، يجري على النحو التالي:

لكن تذكر أنَّ ٢٠ تُكافئ ٠ في حساب الساعة الخامسة؛ لأنَّ ٥ سوف تُقسَم على ٢٠، وباقي القسمة هو ٠.

ونظرًا إلى أنَّ علماء الرياضيات، ومنهم وايلز، لم يتمَكَّنوا من ذِكر جميع الحلول الممكنة لأيِّ معادلة إهليلجية عند التعامل في فضاء لا نهائي، فقد استقرُّوا على إيجادِ عدد الحلول في جميع حسابات الساعة المختلفة. فالمعادلة الإهليلجية سابقةُ الذِّكر على سبيل المثال، لها أربعةُ حلول في حساب الساعة الخامسة؛ لذا يقول علماءُ الرياضيات . ويُمكن أيضًا حسابُ عددِ الحلول في حسابات ساعةٍ مختلفة. ففي حساب الساعة السابعة على سبيل المثال، عدد الحلول ٩؛ لذا فإن .
ومن أجلِ تلخيص نتائجِهم، يَذكر علماءُ الرياضيات عددَ الحلول في كل حسابٍ ساعاتيٍّ ويُطلِقون على هذه القائمة اسمَ السلسلة L للمعادلة الإهليلجية. إنَّ ما يرمز إليه الحرف L صار في طيِّ النسيان منذ مدَّة طويلة، لكنَّ البعضَ قد اقترحوا أنَّ المقصودَ به هو حرف L الواردُ في اسم جوستاف لوجون-ديركليه، الذي عمل على المعادلات الإهليلجية. وبهدف الوضوحِ سوف أستخدمُ مصطلح السلسلة E، أي السلسلة المشتقَّة من معادلةٍ إهليلجية. وفي المثال الذي ذكرناه سابقًا، نجد أنَّ السلسلة E هي كما يلي:
المعادلة الإهليلجية:
السلسلة E:
ولأنَّ علماء الرياضيات لا يستطيعون تحديدَ عددِ الحلول لبعض المعادلات الإهليلجية في فضاء الأعداد المعتاد الذي يمتدُّ إلى ما لا نهاية؛ يبدو أنَّ السلسلة E هي أفضلُ اختيار بعد ذلك. والواقع أنَّ السلسلة E تُجسِّد قدرًا كبيرًا من المعلومات عن المعادلة الإهليلجية التي تصفها. فمثلما يحمل شريطُ الحمض النوويِّ الريبوزي منقوص الأكسجين، جميعَ المعلومات اللازمة لتشكيل كائنٍ حي، تحمل السلسلةُ E، جوهرَ المعادلة الإهليلجية. وقد كان علماء الرياضيات يأملون في أن تُمكِّنَهم دراسةُ السلسلة E، هذا الحمض النووي الرياضي، من حساب كلِّ ما يرغبون في معرفته عن إحدى المعادلات الإهليلجية.
fig36
شكل ٤-١١: يوتاكا تانياما.
في أثناء عملِه مع جون كوتس، سرعان ما اكتسبَ وايلز سُمعة بكونه رياضيًّا بارعًا في نظرية الأعداد، ويتمتع بفَهمٍ عميق للمعادلات الإهليلجية والسلسلة E. وبينما كان وايلز يتوصَّل إلى نتائجَ جديدةٍ وينشر أوراقًا بحثيَّة، فإنه لم يكن يُدرك أنه كان يجمع الخبرات التي ستُقرِّبه بعد سنواتٍ عديدة من التوصل إلى برهانٍ لمبرهنة فيرما الأخيرة.

وبالرغم من أن أحدًا لم يكن على وعيٍ بذلك وقتَها، كان رياضيُّو اليابان في مرحلة ما بعدَ الحرب، قد بدَءُوا بالفعل سلسلةً من الأحداث ربَطَت المعادلات الإهليلجية بمبرهنةِ فيرما الأخيرة على نحوٍ لا يَنفصِم. فبتشجيعِ وايلز على دراسة المعادلات الإهليلجية، أمَدَّه كوتس بالأدوات التي مكَّنَته لاحقًا من العمل على حلمه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤