الفصل الأول

الاستكشاف والكشف

محمد الذيب وقطيعه

نحن في ربيع السنة ١٩٤٧، عند شاطئ البحر الميت الغربي. وفي المكان الذي ينتهي أو يبدأ فيه وادي قمران، وعلى بعد كيلومترين ونصف الكيلومتر عن مياه البحر الميت، وأريحا ليست بعيدة عنا فهي إلى شمالينا، والمسافة بيننا وبينها لا تتجاوز الاثني عشر كيلومترًا.

وقد جاء شاب ينتمي إلى عشيرة التعامرة الضاربة بين البحر الميت وبيت لحم، اسمه محمد الذيب، يرعى قطيعًا من المعزى، والمعزى عندنا نفور كثير الحركة، يأبى الحبس في الزرائب، ويؤثر الانفراد في طلب الكلأ. وشردت ماعزة وتباعدت وتسلقت الصخور في طلب العُشب الرطب؛ فتأثَّرها ذيبنا خشية التطوُّح والهلاك، وتسلَّق الصخور لأجلها، ولهث إعياءً فجلس يستريح في ظل أحد الصخور الناتئة، والتفتَ يمنةً ويسرةً، فألفى فُوَّهة فوق رأسه، فالتقط حجرًا وقذف به إلى الداخل وأصغى، فإذا به يسمع خزفًا يتكسَّر! فلاح له أنه رِزق حسن يربحه بلا كدٍّ أو تعب، فأعاد الكَرَّة فسمع الصوت نفسه، فأمسك بحافة الفُوَّهة بأطراف أصابعه، وأطلَّ بنفسه إلى الداخل، فإذا هو أمام كهف مملوء جِرارًا!

ومالت الشمس نحو المغيب، فعاد الذيب والماعزة إلى القطيع، وعاد القطيع إلى الحظيرة، وعاد محمد في المساء إلى الأهل والخِلان، وتحدَّث إليهم عما شاهد في الكهف فلم يُصدِّقوه، وفي الصباح التالي جاء أحدهم يقول لمحمد: أرِني ما رأيتَ، فذهبا توًّا إلى الكهف ودخلا إليه، فوجدا عددًا من الجِرار سالمة، وعددًا كبيرًا منها مُكسَّرًا، فكشفا عن السالم منها، فإذا بعضه فارغ والبعض الآخر يحتوي على دروج من الرَّق، وبعض هذه مغلف بقماش من الكَتَّان قديم.١ والدرج قرطاس طويل يُكتب فيه ويُلف.

وأخذا بعض هذه الدروج، وصعدا بها إلى بيت لحم، وعرضاها على أحد أشياخها، فوجدها غير عربية، فأشار عليهما أن يعرضاها على المُعلم إسكندر خليل تاجر العاديات في بيت لحم، فابتاعها «كندو» منهما وأبقاها في حانوته زمنًا يسيرًا، ثم أخذها إلى القدس، وأطلع عليها أحد أفراد مِلَّته، مِلَّة السريان القدماء، المعلم جرجس شعيا. فأشار هذا بالاتِّصال بمطران الطائفة إثناسيوس يشوع صموئيل في دير مار مرقس في شارع النبي داود، والدير قائم، في عرف السريان، في المحل نفسه الذي قام فيه «بيت مريم أم يوحنا الملقب مرقس» حيث كان الرُّسل والمؤمنون يجتمعون؛ ليصلوا بعد القيامة.

حمل كندو درجًا كبيرًا، وذهب ورفيقه جرجس، وعرضه على المطران صموئيل، فألْفاه المطران مكتوبًا بالعبرية. وبعد أن أحرق قطعة صغيرة منه ثبت له أن الدرج مكتوب على رَق، فقال إنه يبتاع الدرج وغيره من نوعه. وفي السبت الأول من تموز عاد التعامرة إلى بيت لحم؛ ليبيعوا منتجات قُطعانهم، وعاد معهم أصحاب الدروج، فهتف كندو إلى المطران في دير ما مرقس يُنبئه بقدومهم وبوصول دروج جديدة، فأجاب المطران: «أرسلْهم»، فلما وصلوا إلى الدير لم يُسمح لهم بالدخول، فعادوا إلى بيت لحم، ومنها إلى مضاربهم. ويرى بعض رجال الاطِّلاع أن التعامرة باعوا دروجهم هذه أو بعضها، قبل خروجهم من بيت المقدس إلى تاجر عاديات يهودي، فاستقرت في الجامعة العبرية.

figure
المطران صموئيل ينشر دَرْجًا.
وبعد ذلك بمدة يسيرة عاد التعامرة إلى سوق السبت في بيت لحم، فاقتادهم كندو إلى بيت المقدس واتصل بجرجس، وذهب الجميع إلى الدير وقابلوا المطران، فابتاع منهم دروجًا خمسة بمبلغ يعادل مائة وخمسين دولارًا أميركيًّا. ونزل جرجس إلى وادي قمران وزار الكهف، ونزل بعده الأب يوسف أحد رهبان دير مار مرقس، وشاهد جَرَّة سليمة قائمة، ولكنه لم ينقلها إلى الدير نظرًا لوزنها وصعوبة المسلك وحرارة الجو. وشاور المطرانُ في أمر هذه الدروج من رأى فيهم الاستعداد للبتِّ في أمرها، فاعتبرها أحد موظفي دائرة الآثار الفلسطينية، أسطفان أسطفان، مزوَّرة لا قيمة لها، أما الأب فان در بلويغ Van der Ploeg الهولندي، فإنه رأى في أحد هذه الدروج نص نبوة أشعيا. وفي أوائل أيلول أخرج المطران الدروج إلى سورية، وأَمَّ حمص المقر البطريركي السرياني، فأشار عليه البطريرك بعرضها على أستاذ اللغات السامية في جامعة بيروت الأميركية، فاتجه المطران شطر بيروت، ولكن الدكتور أنيس فريحه كان لا يزال في مصيفه، فعاد المطران صموئيل إلى القدس، وعاد إليها من الولايات المتحدة الدكتور سوكينيك Sukenik أستاذ الآثار في الجامعة العبرية، وما كاد يعلم هذا بما جرى في أثناء غيابه حتى تيقظ للأمر، وعُرضت عليه بضعة دروج وجرَّتان، فابتاعهما للجامعة العبرية.

وفي ذلك اليوم نفسه اتخذت هيئة الأمم المتحدة قرارها بتقسيم فلسطين، فاضطرب حبل الأمن في البلاد، وتطورت الأحوال من سيئ إلى أسوأ، وبدأت المواصلات تتعذر في القدس نفسها، فاحتار المطران في أمره، ولكن سريانيًّا آخر، كيراز، هبَّ لمعونة المطران، فأطلع الدكتور سوكينيك على درج نبوَّة أشعيا، وكان سوكينيك آنئذٍ واحدًا من شِرذمة ضئيلة من العلماء الذين يُرجع إليهم في الكتابات العبرية القديمة، وكان قد عُني مدة من الزمن في درس أسماء الموتى التي وردت على توابيت اليهود في أوائل النصرانية في فلسطين، وما إن اطَّلع على خط الدروج المكشوفة حتى تيقن أنها تعود إلى حوالي بدء التاريخ المسيحي، ولكن اكتشافه هذا جاء في أثناء الاضطرابات الدامية، فلم يجدِ نفعًا من حيث التيقظ والسعي لإنقاذ هذه الآثار من يد العابثين.

وفي شهر شباط من السنة ١٩٤٨ حاول المطران صموئيل الاتِّصال برجال المدرسة الأميركية للبحث والتنقيب في القدس؛ ليأخذ رأيهم فيما لديه من المخطوطات، وكان مديرها العام لتلك السنة الأستاذ ميلر بوروز Miller Burrows غائبًا في بغداد، فنظر في أمر الدروج المعروضة أحد المُقيمين المساعدين — الدكتور يوحنا تريفر John Trever — وكان لحسن الحظ حديث العهد في البحث والتنقيب، فلم يعبه شك الخبراء المتقدمين في السن، وكان لديه نُسخ فوتوغرافية عن بردية ناش Nassh أقدم الآثار الخطية العبرية التي يعود عهدها إلى القرنين الأخيرين قبل الميلاد، فلمس تشابهًا شديدًا في الخط بين دروج المطران وبين هذه البردية! فصوَّر بعض مقاطع من درج نبوَّة أشعيا، وأرسلها إلى الدكتور وليم أولبرايت Albright أحد رجال الاختصاص في آثار فلسطين في الولايات المتحدة، فأجاب أولبرايت، في الخامس عشر من آذار السنة نفسها، أن ما شاهد من الدروج هو أقدم من بردية ناش، فدخل بذلك درس هذه الدروج في دور جديد.

مطاردة في اليهودية

وتنسَّمت مديرية الآثار الفلسطينية وقائع هذه الدروج، وعلمت بما قاله فيها سوكونيك وآلبرايت، فراحت تسعى بدورها للتعرف بالمكان الذي وُجدت فيه الدروج، وبالأشخاص الذين عثروا عليها واتَّجروا بها، وكانت الأزمة السياسية وما رافقها من اضطرابات تشتد وتتحرَّج. وانسحب البريطانيون من البلاد وأنهوا الانتداب عليها، فضاعت هيبة الحكم، وقلَّ نفوذ مديرية الآثار، وكاد معينها ينضب، وبالرغم من هذا كله فإن المدير الإنكليزي جورج هاردنغ Harding الذي كان لا يزال في منصبه، بذل مع معاونيه جهودًا جبارة للقيام بالواجب الإداري والعلمي، وفي أوائل السنة ١٩٤٩ تعرفوا «بكندو» في بيت لحم، وابتاعوا منه ما تبقى لديه من فتات الدروج بمعدل ليرة إنكليزية عن كل سنتيمتر مربع، فقبض كندو في صفقة واحدة ألف ليرة إنكليزية، وشاع آنئذٍ أن المطران صموئيل الذي كان قد حمل الدروج إلى الولايات المتحدة يتطلب مليونًا من الدولارات مقابل ما حمل!
figure
السمسار كندو.
وأوفدت هيئة الأمم المتحدة لجنة لمراقبة سير الأمور في فلسطين، فكان بين أعضائها نقيب بلجيكي اسمه فيليب ليبنس Lippens، وكان هذا النقيب قد درس في معهد العلوم الشرقية في جامعة لوفان قبل التحاقه بالجيش، فصمَّم أن يغتنم فرصة وجوده في فلسطين؛ ليخدم العلم في قضية مخطوطات البحر الميت، فاتَّصل باللواء أشتون في جيش الأردن، واستعان بالأنفار البدو وغيرهم للتعرف بالضبط بالمكان الذي وجد فيه محمد الذيب دروجه، فتمَّ له ذلك في أيام معدودة، وتيسَّر لمديرية الآثار وللعلماء الوقوف على تفاصيل الكشف عن هذا المخبأ، والتثبت من صِحة قِدَمه.
وقامت في شهر كانون الثاني من السنة ١٩٤٩ لجنة رسمية مؤلفة من مدير الآثار، ومن رئيس معهد أبحاث الكتاب المقدس الدومينيكي في القدس، الأب دي فو R. de Vaux، وغيرهما، وما إن أطلُّوا على الكهف حتى أسِفوا لما شاهدوه من آثار العبث والتخريب اللذين قام بهما التعامرة، ورسل المطران وعملاؤه! فإن هؤلاء كانوا قد شقُّوا مدخلًا جديدًا للكهف، ونشروا ترابه في كل مكان، وألقوا إلى الخارج بكل ما نبذوا! وأكبَّ العلماء على التفتيش عما تبقى، فجمعوا ألف فُتيْتة من الرَّق والبردي وكميات من فتائت الخزف، وسِراجًا رومانيًّا، و«لفَّافة» سجاير، وقطعًا من الكَتَّان الذي كان قد استُعمل في لف الدروج لوقايتها، وتبيَّن بعدئذٍ أن لفافة السجاير كانت لجبرا أحد رجال المطران، فتيقن العلماء أن دروج المطران تمتُّ بصلة إلى هذا الكهف عينه.

وبينما كان رجال العلم يسعون للتثبُّت مما جرى كان التعامرة يفتِّشون عن كهوف أخرى لعلهم يغنمون بشيء جديد، وكانوا يعرفون «برِّية اليهودية» معرفة تامة؛ لانتشارهم في وديانها ومنعطفاتها يومًا بعد يوم في طلب الكلأ للماشية، فكشفوا مخبأً في خربة المرد في وادي المربَّعات بعيدًا عن الكهف الأول إلى الجنوب، ثم كشفوا كهفًا آخر بالقرب من الكهف الأول، وظل التعامرة سبَّاقين في غالب الأحيان، وظل العلماء مدة من الزمن لاحقين متأخرين متهافتين، يشترون ما يجده التعامرة، ولكنهم ثابروا على التفتيش، وساروا به سيرًا علميًّا منتظمًا، فكشفوا بدورهم كهوفًا أخرى، وعند السنة ١٩٥٦ بلغ عدد كهوف المخطوطات المكشوفة في ساحل خربة قمران وحدها أحد عشر كهفًا، وغير واحد في وادي المربَّعات، وخربة المِرد.

figure
نموذج من الجرار التي وُجدت فيها الدروج.

كهوف قمران ومحتوياتها

وقد رقَّم العلماء هذه الكهوف تسهيلًا لتعيينها؛ فالكهفان الأول والثاني يقعان في الصخور بين وادي الدبابير ووادي غوفات زبين. وقد وُجد في الكهف الأول درج كامل لنبوَّة أشعيا، وشرح على حبقوق ونظام جماعة قمران. وقد عُني بنشرها جميعها، بين السنة ١٩٥٠ و١٩٥١، أساتذة المعهد الأميركي للأبحاث الشرقية.٢ ووُجد أيضًا في هذا الكهف نفسه درج نظام الحرب المعروفة بحرب أبناء النور ضد أبناء الظُّلمة، ومجموعة من الترانيم، وشيءٍ من نبوَّة أشعيا. وقد أعدَّها جميعها للنشر الدكتور سوكنيك Sukenik الأستاذ في الجامعة العبرية، فنُشرت بعد وفاته في السنة ١٩٥٥.٣ ومن محفوظات هذا الكهف أيضًا شرح بالآرامية لفصول سفر التكوين الخمس عشرة الأولى، وهو مخروم بالٍ. وقد بدأ بنشره الأستاذان أفيجاد Avigad ويادين Yadin بالعبرية والإنكليزية في السنة ١٩٥٦.٤ أما الفتائت التي وُجدت منثورة هنا وهنالك في هذا الكهف الأول، فإنها تعد بالمئات. وقد عُني بها الأبوان «برتلماوس وميليك»، ونشراها مع غيرها من شتى الآثار في المجلد الأول من سلسلة أوكسفورد في السنة ١٩٥٥.٥
وكشف التعامرة الكهف الثاني في شباط السنة ١٩٥٢ بالقرب من الكهف الأول، ولحقهم العلماء إليه، فلم يجدوا فيه سوى فتائت منثورة من نوع ما وُجد في الكهف الأول.٦
figure
سلسلة الصخور التي تقع فيها الكهوف.
وحزَّ سبق التعامرة في صدور العلماء، فقاموا بين العاشر والثاني والعشرين من آذار سنة ١٩٥٢ بحملة منظمة اشتركت فيها مدرسة الأبحاث الكتابية Ecole Biblique الفرنسية، ومدرسة الأبحاث الأميركية، وإدارة المتحف الفلسطيني، فمشَّط العلماء جميع الصخور المطلة على البحر في جبهة طولها ثمانية كيلومترات امتدت من رأس الفشخة في الجنوب حتى حجر السباع في الشمال، وأسفر هذا الجهد المُضني عن كشف عشرين كهفًا قديمًا مشحونة بالخزف خالية من المخطوطات، ولم يوفَّق العلماء إلا إلى كهف واحد في أقصى الشمال هو ذو الرقم الثالث، فيه درجان من النحاس مخطوطان بالحروف العبرية المربعة.٧ والدرجان النحاسيان يحملان تعليمات عن كنوز مُعينة خُبئت في زمن مجهول في أماكن معينة؛ فقد جاء في العمود الأول وفي السطر ٦–٨ أنه يوجد في الصهريج الكبير في وسط الدار الخارجية ٩٠٠ مثقال، ويُوجد في الصهريج عند أسفل الحصن، في الجهة الشرقية، في مكان محفور في الصخر ٦٠٠ سبيكة من الفضة (ع٢س–١٠–١٢)، ويوجد تحت زاوية الرواق الجنوبية عند قبر صدوق وتحت الفلستر آنية بخور من خشب الصنوبر، وآنية بخور من خشب الأكاسية (ع١١ س١–٤)، ولو أحصينا جميع كميات الذهب والفضة الواردة في هذين الدرجين النحاسيين لبلغلت مئتي طن.٨ ويشك العلماء في هل تُنبئ هذه المعلومات بأخبار كنوز حقيقية أو لا.

وفي أواخر صيف السنة ١٩٥٢ التف لفيف من التعامرة حول أحد شيوخهم يتسامرون، ويتبادلون أطراف الحديث حول هذه الآثار القديمة التي درَّت عليهم أرباحًا بغير حساب، فذكر الشيخ أنه منذ زمن بعيد حين كان لا يزال في مُقتبل العمر اتفق له أن طارد حجلًا جريحًا، ففرَّ من أمامه، واختفى فجأةً في ثقبٍ في الصخر لا يبعد كثيرًا عن خربة قمران، وأنه تأثَّره فوجد بعد جهد جهيد أن الثقب مدخل لكهف قديم، فالتقط الحجل وحمل معه سراجًا قديمًا مصنوعًا من الخزف، وتلقى الشبان التعامرة هذا الحديث بلهفة وشوق زائدين، ولحظوا بدقة الأماكن التي أشار إليها الشيخ في حديثه، ثم تحركوا آخذين معهم كيسًا من القنب وحبالًا ومشاعل قاصدين قمران، وما إن وصلوا إلى الهدف حتى تدلَّوا بالحبال ودخلوا الكهف وبدءوا يحفرون أرضه، وما إن أزاحوا عدة أمتار مكعبة من التراب الذي تراكم في أرض الكهف حتى عثروا على ألوف من فتائت المخطوطات، وبدأ التعامرة بعد ذلك يتوافدون على المؤسسات العلمية في المدينة المقدسة يعرضون ما وجدوا، ويضللون فيما أبدوا من معلومات عن الأماكن التي وجدوا فيها بضاعتهم الجديدة.

ولكن أعين زملائهم كانت قد تفتَّحت، وكان الحسد قد أخذ من هؤلاء كل مأخذ، فعلم العلماء أين وُجدت البضاعة بالضبط. وفي الثاني والعشرين من أيلول سنة ١٩٥٢ زار الأبوان دي في وميليك كهف الحجل فأطلقا عليه الرقم أربعة، وأمسى الكهف الرابع، وهو لا يبعد كثيرًا عن خربة قمران، بل يطلُّ عليها من الصخور الجنوبية الغربية، وعمل العالمان في أرضه زهاء أسبوع كامل بالتعاون مع مديرية الآثار والمتحف، فعثروا على بضع مئات من الفتائت، ثم أدى التفتيش في الصخور المجاورة إلى الكشف عن كهف جديد دُعي الكهف الخامس، وإلى العثور على اثنتي عشرة مخطوطة جديدة، وكُشف أيضًا عن كهف جديد في أسفل المضيق نفسه دُعي الكهف السادس، وعُثر فيه على وسقة جديدة من الفتائت.

واستمسك التعامرة بما وجدوا في الكهف الرابع، وضنُّوا به طالبين أسعارًا مرتفعة غير عارضين للبيع سوى بعض ما وجدوا بين آونة وأخرى. واستمر العرض حتى صيف السنة ١٩٥٦، واشتدت المساومة، وشعر العلماء المحليون أنه لا بد من الاستعانة بأموال من الخارج لإرضاء التعامرة، فناشدوا المؤسسات العلمية في العالم أجمع وطلبوا المعونة المالية منها بعد اعترافهم بفضل الحكومة الأردنية، وإنفاقها الذي كان أكثر مما تسمح به ظروفها، فلبَّت النداء كلٌّ من جامعة ماغيل McGill الكندية وجامعة مانشستر البريطانية وجامعة هيدلبرغ الألمانية وكلية ماكورميك McCormik اللاهوتية في شيكاغو ومكتبة الفاتيكان، فوُجد المال المطلوب، وباع التعامرة البضاعة، فتجمعت كلها في متحف فلسطين في بيت المقدس.
وكان لا بد من التعاون العلمي الفني أيضًا لإظهار ما حوته هذه الآثار الجديدة، فتألَّف فريق علمي جديد من الأسقف سكيهان Skehan الأستاذ في جامعة واشنطون الكاثوليكية، والدكتور كروس Cross الأستاذ في كلية ماكورميك اللاهوتية، والدكتور أليغرو Allegro الأستاذ المساعد في جامعة مانشستر، والأب ستاركي Starcky من مركز الأبحاث العلمية في باريز، والأستاذ ستروغنل Strugnell من كلية يسوع في جامعة أوكسفورد، والأستاذ هونزنغر Hunzinger مندوب جامعة غوتنغن Gottengen، والأب ميليك من مركز الأبحاث العلمية في باريز، وأُسند إلى كل من هؤلاء عمل يقوم به ليتم النشر على أكمل وجه. وستظهر أبحاثهم جميعًا في سلسلة من الدراسات تُدعى اكتشافات في برية اليهودية Discoveries in the Judaean Desert تُعنى بها مطبعة جامعة أوكسفورد.
وفي ربيع السنة ١٩٥٥ اهتدى العلماء الباحثون المُنقِّبون إلى كهوف أربعة أخرى (السابع حتى العاشر) وذلك في الصخور المُطلَّة على خربة قمران، ولكنهم لم يجدوا فيها سوى بعض فُتات من الخزف تحمل بعض الألفاظ ونزر يسير من فتائت المخطوطات. وفي مطلع السنة ١٩٥٦ عثر التعامرة على كهف في أقصى الشمال هو الحادي عشر، يُوازي في أهمية محتوياته الكهفين الأول والرابع؛ فقد ظهر فيه درج صغير جميل يحتوي على جزء من كتاب اللَّاويين، ومقطوعاتٍ كبيرة من رؤيا أوروشليم الجديدة، ودرجٍ من المزامير ونص لسفر أيوب بالآرامية.٩

كهوف المربعات

ولم ينفرد وادي قمران بالكهوف التاريخية؛ فقد عثر العلماء على عدد منها في وادي المربعات أيضًا. ووادي أو «درجة» المربعات يقع على بُعد خمسة وعشرين كيلومترًا عن أوروشليم، إلى الجنوب منها، وعلى بُعد خمسة عشر كيلومترًا عن خربة قمران وواديها، إلى الجنوب الغربي منهما، وهو ينفتح على وادي التعامرة وينفذ معها إلى البحر في مضيق من الصخر كوادي قمران ووادي النار. وكان التعامرة قد حملوا إلى المؤسسات العلمية في بيت المقدس، في صيف السنة ١٩٥١، شيئًا من المخطوطات من كهف في وادي المربعات، فأعدَّ العلماء العُدَّة لحملة علمية صغيرة، وقاموا إلى وادي المربعات في مطلع السنة ١٩٥٢، فإذا بهم هذه المرة يُنقِّبون في مجموعة من الكهوف تعلو سطح البحر الميت، وتعلو أيضًا كهوف قمران، وتوازي بارتفاعها سطح البحر المتوسط، وهي تطل على وادٍ سحيق ينخفض تحتها إلى عمق مائتين وخمسين مترًا. وكهف المربعات الرئيسي وعر المسلك لما تساقط من سقفه وتهدَّم من جوانبه، طوله ستون أو سبعون مترًا، وعرضه ثلاثة أو أربعة أمتار، وارتفاع سقفه ثلاثة أمتار، وأدى تساقط الصخور من سقف الكهف الثاني إلى سد مدخله، وقل الأمر نفسه عن الثالث وغيره.

وأشرف على أعمال هذه البعثة العلمية كل من المستر جيرالد هاردنغ Gerald Harding مدير العاديات آنئذٍ في شرق الأردن، والأب رولان دي فو رئيس مدرسة الأبحاث الكتابية الفرنسية في بيت المقدس، وأول ما لفت الأنظار من الناحية الأثرية صهريج للماء عند مدخل الكهف الأول يعود إلى العهد الروماني، ولكن أعمال الحفر في رُكام هذا الكهف أظهرت بوضوح أنه آوى الإنسان منذ العصر الحجري الخالكوليثي؛ أي: منذ الألف الرابع قبل الميلاد (٤٠٠٠–٣٠٠٠ق.م.). فقد عثر المنقِّبون على فئوس وسكاكين ومكاشط وسهام حجرية، ومثاقب عظمية، وما هو أهم من هذه وتلك، على أدوات خشبية قلما تبقَّى شيء منها من هذا العصر البعيد في أي مكان آخر، وأهم هذه الأدوات الخشبية مسَّاس حمار قد يظنه الناظر إليه لأول وهلة أنه أُعدَّ بالأمس، ومقبض مقشر لا يزال خشبه لماعًا، ولا تزال سيوره الجلدية التي كانت تشد نصله الحجري محفوظة مرتبطة به، وعثر المنقِّبون في الكهف الثاني على إبرتين برونزيتين، وعل قارورة من الألَبَصْطر الشفاف، وعلى خنفسة من الحجر الثمين تحمل زخرف عصر الرعاة؛ أي: زخرف القرنين الثامن عشر والسابع عشر قبل الميلاد.
figure
مقبض المقشر وسيوره.

وكشفت أعمال الحفر في كهوف المربعات الأول والثاني والثالث عن آثار تعود إلى العصر الحديدي في القرنين الثامن والسابع قبل الميلاد مما يدل على استمرار لجوء الإنسان إليها حتى ذلك العصر. ودلَّت كثرة الآثار الرومانية الباقية في هذه الكهوف على أن سكانها، في عهد الرومان، كانوا أكثر عددًا من ذي قبل، وأنهم استمروا في الإقامة فيها مدة طويلة، فكسرات الفخار والخزف الرومانية كثيرة جدًّا، والسرُج الباقية تعود بوضوح إلى أواخر القرن الثاني بعد الميلاد، والأدوات والأواني المعدنية كثيرة أيضًا، بينها رءوس ومعاول ورماح برونزية، ورءوس حِراب حديدية، إحداها بشكل ورق الغار، وعدد كثير منها مثلث الحدود، وبين الأدوات سكاكين ومِنجل ومِبسط ومسامير وإبر عديدة ومفتاح متعدد الزوايا، وتنوعت الآثار الخشبية: فهنالك الكئوس والصحون والأمشاط والأزرار والملاعق، ومما عثر عليه في هذه الكهوف بقايا أقمشة مُزركشة بدقة وخِفاف من النعل، ووُجدت في هذه الطبقة عينها مجموعة من النقود يعود معظمها إلى زمن ثورة اليهود الثانية (١٣٢–١٣٥) بعد الميلاد.

ومعظم آثار المربعات الخطية وُجد في كهفها الثاني. وقد سَلِم بعض هذه الآثار، ولكن معظمها عبثت به حيوانات الكهف ولا سيما جرذانه؛ فإن هذه لم تعبأ بقدسية الدروج ولا بفائدتها العلمية، فراحت تُبطِّن وكورها بقطع من رقوق المخطوطات وبرديها. وأمست أعمال الكشف في دور من أدوارها تفتيشًا وتنقيبًا عن وكور هذه الجرذان لاستعادة ما نقل إليها على مر العصور من أجزاء المخطوطات. وكانت قد تراكمت في أرض هذا الكهف الثاني كميات من سماد الطيور والحيوانات الصغيرة، فنقلها التعامرة إلى الأسواق المجاورة لبيعها، ولا يُستبعد أن يكون اليهود قد سمَّدوا بيَّاراتهم في ضواحي بيت لحم بمخطوطات عظيمة الأهمية لهم قبل غيرهم، فجاءت زراعتهم خاسرة.

والمدهش بين آثار المربعات الخطية هو بردية حملت كتابتين عبريتين، إحداهما تعود إلى القرن الثامن قبل الميلاد؛ أي: إلى مائتي سنة قبل الكتابة على كسرة لاخش Lachish، وعلى الرغم من محاولة إزالة هذه الكتابة القديمة لترقيم بعض الأسماء المُستحدَثة، فإن بعض الكلمات القديمة لا تزال مقرية، تدل على أنها تحية من رسائل القرن الثامن! وعثر المنقِّبون على عدد من الكتابات الوجيزة بالعبرية أو اليونانية على كِسْرات من الخزف، كما وجدوا على برديتين يونانيتين عقد زواج، ومُصالحة بين زوجين هما «إلياس» و«صالومة». وقد جاءت هذه المصالحة مُؤرَّخة في السنة السابعة لحكم أدريانوس؛ أي: في السنة ١٢٤ بعد الميلاد. وهنالك أيضًا سند دَين ناقص يعود إلى عهد الإمبراطور كومودوس (١٨٠–١٩٢)، ومما وُجد في هذا الكهف عينة تسجيلات مدنية وعسكرية مكتوبة على الرَّقِّ تتضمن أسماء يهودية شائعة آنئذٍ «كيوسيفوس ويشوع وشاوول وسمعان» تقابلها أرقام وعلامات معينة.
ويظهر من كيفية تأريخ بعض الرسائل التي وُجدت في هذا الكهف وغيره من كهوف وادي المربعات الظرف الذي أدَّى لسكنى هذه الكهوف في القرن الثاني بعد الميلاد: فبعض هذه الرسائل مُؤرَّخ في «زمن خلاص إسرائيل بخدمات سمعان بن كذبة أمير إسرائيل»، والإشارة هنا، هي بلا ريب، إلى ثورة اليهود الثانية في السنوات ١٣٢ إلى ١٣٥ بعد الميلاد، وسمعان بن كذبة نفسه أصدر اثنتين من هذه الرسائل، فقال في إحداهما: «سمعان بن كذبة إلى يشوع بن جلجلة والرجال الذين بمعيتك، سلام، لتشهد السموات على أنه إذا قام أحد من الجليليين الذين تحمي بما يزعج، فإني سأُقيِّد قدميك كما قيدت ابن أفلول» (سمعان بن كذبة).١٠
ونصوص الأسفار التي وُجدت في المربعات جميعها مسوَّر Massoretic أي: مضبوط بالشكل العبري المعروف. وقد آثرنا هذا اللفظ العربي للتدليل على معنى اللفظ العبري «مسوَّرة»، ولعل الأصل واحد في الحالتين: فالسُّور عندنا هو اللفظ الدال في القضية المنطقية على كمية أفراد الموضوع، والقضية المسوَّرة هي عندنا عكس القضية المهملة. وورود هذه النصوص مسوَّرة يدل على أن تسوير النصوص العبرية على هذا الشكل كان قد أصبح متفقًا عليه معمولًا به عند السنة ١٣٢ بعد الميلاد. وأكمل هذه النصوص درج يتضمن النبوات الاثنتي عشرة. وقد أثرت فيه الرطوبة طوال العصور، فاسودَّ وأمسى لا يُقرأ إلا على ضوء الأشعة دون الحمراء.
وعثر المنقِّبون أيضًا على مقاطع من أسفار التكوين والخروج والتثنية ونبوة أشعيا، وكانت هذه جميعها مَرمية في زاوية مُهمَلة من زوايا الكهف الثاني. وهنالك شُقة صغيرة تحمل الآيات الرابعة إلى التاسعة من الفصل السادس من سفر التثنية، وكانت تُكتب وحدها بهذا الشكل لتصبح حِجابًا أو تعويذة. وهنالك أيضًا مخطوطات أخرى متأخرة بينها بعض رسائل عربية كتبت على ورق قطني، تعود إلى القرن العاشر بعد الميلاد.١١ وحمل التعامرة من هذه المنطقة نفسها، منطقة وادي المربعات، إلى بيت المقدس في منتصف تموز في السنة ١٩٥٢ مخطوطات أخرى لا يمكن تعيين المكان الذي وُجِدت فيه بالضبط، وتضمنت هذه المجموعة رسائل تجارية وشرعية بالعبرية والنبطية.١٢ تعود إلى أيام الثورة الثانية أيضًا، ١٣٥ بعد الميلاد، وهاك تعريب إحداها بالضبط:

في العشرين من أيَّار في السنة الثالثة لتحرير إسرائيل في كفر ببايو، قال هدر بن يهوذا الكفربباي إلى أليعازر بن أليعازر الساكن معه في المكان نفسه: لقد بِعتك اليوم بإرادتي بيتي الذي يتصل من الشمال بداري؛ لتتمكن من جعله يتصل ببيتك، وليس لك أي حق عليَّ في الدار المذكورة. وقد بعتك بمبلغ قدره ثمانية دنانير تُوازي تتزا دراخمتين هما كامل الثمن؛ ولأليعازر كل الحق في شراء هذا البيت حجارته وخشبه وأثاثه وكل ما فيه … وأرضه. وحدود هذا البيت الذي تشتريه يا أليعازر هي شرقًا ملك يوناتان، وشمالًا الدار، وغربًا وجنوبًا ملك البائع. وليس لك أي حق عليَّ في داري وأنا هدر لا أدخل ولا أخرج منذ اليوم أبدًا.

وأنا صالومة بنت سمعان وزوجة هدر لا أعترض على بيع البيت المذكور أبدًا، وأنَّ ما نملكه اليوم وفي المستقبل سيكون ضمانًا لك.

مرة واحدة، وهؤلاء هم الموقعون: كتبه هدر بن يهوذا. كتبته صالومة بنت سمعان، أليعازر بن متائيا، سمعان بن يوسف شاهد، أليعازر بن يوسف شاهد، يهوذا بن يهوذا شاهد.١٣
والدرج اليوناني الذي يتضمن أجزاء من النبوات الاثنتي عشرة المُشار إليه أعلاه ذو أهمية كبرى لتاريخ الترجمة السبعينية، وموقف اليهود والنصارى منها ولا سيما وأن هذا الدرج يعود، بدليل نوع خَطِّه، إلى نهاية القرن الأول بعد الميلاد، وهو يتضمن أشياء من نبوَّات ميخا ويونان ونحوم وحبقوق وصفنيا وزكريا. وقد عُنِي بهذا الدرج الأب برتلماوس، فقابله بالنصوص السبعينية مقابلة دقيقة كاملة، وأعاد درسه على ضوء المحاورة بين القديس يوستينوس وتريفون اليهودي التي تعود إلى القرن الثاني بعد الميلاد، فتبيَّن له أن يوستينوس كان على حق فيما ذهب إليه من أن اليهود أهملوا السبعينية بعد أن أخذ بها النصارى، وأن السبعينية كما عرفتها الكنيسة كانت في القرن الأول لا تزال محترمة في الأوساط اليهودية.١٤

خربة المرد

وسبق التعامرة العلماء إلى خربة المرد أيضًا، فتسربوا في صيف السنة ١٩٥٢ إلى كهف تحت الأرض في خربة المرد، وحملوا منه مخطوطات عرضوها للبيع في بيت المقدس، وخربة المرد هذه هي مردة Marda الروم وقسطلهم Kastellion، ومردة بالآرامية هي القسطل باليونانية أو القلعة، وهي هيركنيون Hyrcanion الآشمونيين، وقلعتهم الشهيرة لا تبعد أكثر من خمسة كيلومترات عن دير مار سابا.
وكان النقيب البلجيكي فيليب ليبنس الذي اشترك في أعمال الاستكشاف في السنة ١٩٤٩ قد عاد إلى وطنه، وتولى التدريس في جامعة لوفان، وكان لا يزال يتابع أخبار قمران ومخطوطاتها، فأقنع إدارة جامعته، وأطل في السنة ١٩٥٣ وزميله الأب دي لانغ de Langhe، فتولَّيا أمر التنقيب في خربة المرد، فتبيَّن لهما أن هذه الخربة حوت ركام دير مسيحي قام على أطلال قلعة هيركانية في القرن الخامس، واستمر عامرًا حتى القرن التاسع بعد الميلاد، فهنالك أرض كنيسة غُشيت بالفسيفساء، وآثار عدد من الصوامع وقبور الرهبان. أما الأسفار الخطية التي وُجدت في هذه الخربة فإنها جاءت باليونانية وبلهجة آرامية تُعرف باللهجة الفلسطينية المسيحية. وهي أجزاء من سِفر يُشوع وإنجيلَي متى ولوقا وسِفر الأعمال، ورسالة بولس إلى أهل كولوسي. وهذه هي المرة الأولى التي ترِد فيها بعض هذه الأسفار بالآرامية. وهنالك رسائل عادية بالآرامية والعربية إحداها لشخص يُدعى جبرائيل وجَّهها في القرن السابع إلى رئيس هذا الدير والأسياد والآباء فيه، وإليك تعريبها:
من المبارك بالرب والخاطئ جبرائيل إلى رئيس دير أسيادنا وآبائنا: إني أرجو أن ترفع الصلوات لأجلي؛ لأنجو من العشيرة التي يرتجف منها قلبي. سلام لكم من الآب والابن والروح القدس، آمين.١٥

خربة قمران

وكان من الطبيعي أن يربط العلماء بين الكهوف التي كشفوا في صخور قمران وبين رُكام قديم قام في السهل عند أسفل هذه الكهوف على بعد ٧٥٠ مترًا عنها، فعادوا يستقصون أخبار هذه الخربة، وينظرون فيما قاله فيها العلماء الباحثون، فوجدوا أن دي ساسي الذي زارها في السنة ١٨٥١ اعتبرها آثار عامورة، وأن كليرمون غافو الذي أطلَّ عليها في السنة ١٨٧٣ رآها رومانية، وكذلك دالمان في السنة ١٩٢٠، ثم اعتبرها مرتينوس نوث مدينة الملح التي ورد ذكرها في سفر يشوع (١٥ : ٦٢)، وكانت قبورها العديدة التي اتجهت شمالًا قد استرعت نظر كليرمون غانيو، فأكد أنها تقدمت ظهور الإسلام، فرأى هاردينغ ودي فو في السنة ١٩٤٩ أن يكشفا عن بعض هذه القبور، فوجداها بسيطة جدًّا خالية من أي زخرف أو مجوهرات، ووجدا الهياكل ملقاة على الظهر متجهة نحو الشمال مُصلَّبة الأيدي، فافترضا أن سكان هذه الخربة كانوا من أهل الزهد مرتبطين بقوانين وتقاليد معينة.

figure
محبرة من الخزف.
وألح عدد من العلماء على الكشف عن هذه الأخربة؛ لاستيضاح أمر المخطوطات في الكهوف المجاورة، فعاد هاردنغ ودي فو إلى الحفر والتنقيب في خريف السنة ١٩٥١، وشرعا في عمل علمي فني منظم استغرق مدة من الزمن، واستوجب متابعة العمل أربعة فصول متتالية بين السنة ١٩٥٣ والسنة ١٩٥٦، وأدَّى أيضًا إلى الكشف عن خريبة أخرى تقع إلى الجنوب من قمران بالقرب من عين الفشخة.١٦

وتشغل أخربة قمران بمجموعها مساحة من الأرض تقدر على وجه التقريب بثمانين مترًا في ثمانين، وهي تتألَّف من بناء رئيسي وأجنحة ومقابر، والبناء الرئيسي يتألف من صحنٍ مفتوحة من أعلاها تحيط بها من جهاتها الأربع أبنية متفاوتة الشكل والارتفاع. وأول ما يلفت النظر من هذه برج ذو دورين يقوم عند الزاوية الشمالية الغربية، ويتصل به من الجنوب، ويشغل ما تبقى من الضلع الغربي من البناء الرئيسي قاعة كبيرة بمقاعد ملاصقة لجدرانها، ويتصل بهذه القاعة من الشرق قاعة أخرى طولها ثلاثة عشر مترًا وعرضها أربعة، أهم ما فيها موائد للكتابة مصنوعة من الآجرِّ ومطلية بالجصِّ. وهنالك موائد أخرى تحمل مغاسل لغسل الأيدي قبل البدء بالكتابة. وقد وُجد على موائد الكتابة محابر من البرونز والخزف لا تزال تحفظ في قعرها بقايا ناشفة من الحبر الأسود.

ويلاصق البرج من الشرق بناءٌ خُصِّص للمطابخ، وفيه المواقد وغيرها مما يلزم لإعداد الطعام. أما مغاسل الثياب ونحوها والمصابغ فإنها تقع في أبنية قائمة في الضلع الشرقي من هذا البناء الرئيسي، بالقرب من صهريج كبير؛ بل بين صهريجين كبيرين، أحدهما في الضلع الشرقي والآخر في الضلع الجنوبي. ويقوم إلى الجنوب من الصهريج الجنوبي بناءٌ طوله اثنان وعشرون مترًا، وعرضه أربعة أمتار ونصف المتر. وهو في نظر رجال الاختصاص قاعة الاجتماع تُتلى فيها النصوص المقدسة والشروح عليها، وتقام الأدعية والصلوات وتقدم وجبة الطعام المقدسة. وقد عُثر في زاوية هذه القاعة الجنوبية الغربية على صحون مُكسَّرة استُعملت قُبيل الخراب، ووُجد أيضًا في غرفة ملاصقة أكثر من ألف صحن محفوظة للاستعمال عند الحاجة.

وأهم ما في الأجنحة التابعة لهذا البناء الرئيسي الصهاريج التي كانت تحفظ ما يتدفق من مياه الشتاء لاستعماله في أيام القيظ. وهنالك أيضًا مصانع ومشاغل كان لا بد من الاعتناء بها.١٧
١  Brownlee, W. H.: Muhammad ed-Deeb's Story of His Own Discovery, J.N.E.S, 1957, 236–239.
٢  Burrows, M.: With the Assistance of Trever. J. C. and Brownlee, W. H.: The Dead sea Scrolls of St. Mark's Monastery, 2 Vols, New Haven, 1950-1951.
٣  Sukenik, E: The Dead Sea Scrolls of the Hebrew University. Jerusalem. 1955.
٤  Avigad, N., and Yadin, Y.: A. Genisis Apocryphon, Jerusalem, 1956.
٥  Barthelemy, D., and Milik, J. T.: Discoveries in the Judean Desert, Oxford Univ. Press, 1955.
٦  Milik, J. T.: Dix ans de découvertes, (1957), 17.
٧  Allegro, J. M.: The Dead Sea Scrolls, 181–185; Dupont-Sommer, A: Les Rouleaux de Cuivre trouvés à Qumran, Rev. Hist. Rel, 1957, 22–36.
٨  Burrows, M.: More Light on the Dead Sea Scrolls, 8–10; A.
٩  Burrows, M.: New Light on the Dead Sea Scrolls, (1958). 13-14, 30, 35.
١٠  Allegro, J. M.: The Dead Sea Scrolls, (1958). 173.
١١  Vaux, R. de: Les Grottes de Murabbaat, Rev. Bib. 1953, 245–267; Quel-ques Textes Hébreux de Murabbaat, Rev. Bib, 1953, 268–275; Lehmann, O. H.: A Legal certificate from Bar Cochba's Days, Vetus Testamentum. 1953, 391–396; Cross, F. M.: La Lettre de Simon ben Kosba, Rev. Bib, 1956, 45–48.
١٢  Starcky, J.: Un Contrat Nabatéen sur Papyrus, Rev. Bib, 1954, 161–181.
١٣  Allegro, J. M.: The Dead Sea Scrolls, 176–177: Rabinowitz, J. J.: Some Notes on an Aramaic Contract, Bull. Amer. Sch. Or. Res, 1954, 15-16; Abramson, S., and Ginsberg, H. L.: On the Aramaic Deed of Sale of the Third Year of the Second Jewish Revolt, Bull. Am. Sch. Or. Res, 1954, 17 ff.
١٤  Barthelemy, D.: Redécouverte d'un chaînon manquant de l'Hist. de la Septante, Rev. Bib, 1953, 18–29; Allegro, J. M.: Dead Sea Scrolls, 177–179.
١٥  Milik, J. T.: Une Inscription et une letter en Araméen Christopalestinien, Rev. Bib, 1953, 526–539; Burrows, M.: More Light, 33-34.
١٦  Vaux, R. de: Compte-Rendu, Rev. Bib, 1953, 83–106, 540–561: 1954, 206–236; 1956, 533–577.
١٧  Milik, J. T.: Dix ans de découvertes, 41–44; Ploeg, J. van der: The excavations at Qumran, (1958), 63–67.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤