الفصل الثاني

التعرف بالمكان وتعيين الزمان

خرائب قمران

والأفضل أن يُقال: خرائب قمران لا خربة قمران؛ لأن ما تبقَّى من بنيان فيها يعود إلى عصرين مختلفين؛ فالمداميك السفلى من الزاوية الشمالية الغربية من البناء الرئيسي تختلف في حجم حجارتها وسماكة بنائها عن سائر ما تبقَّى من جدران قائمة. وهذا الطراز من البناء هو طراز القرون الثامن إلى السادس قبل الميلاد، وهو يتفق وما تبقَّى من آثار هذه القرون في وادي البقيعة فوق قمران. وعُثر على هذا النوع من البناء أيضًا في الجناح الغربي حوالي الصهريج المستدير، ومما يُؤيِّد هذا الرأي أيضًا وجود قطع من الخزف تعود هي أيضًا إلى القرون الثامن إلى السادس قبل الميلاد.

ويجوز القول والحالة هذه أن القديم القديم من خرائب قمران هو بقية باقية من «مدينة الملح» التي يرد ذكرها في سفر يشوع (١٥ : ٦٢)؛ فقد امتحن الأب ميليك والدكتور كروس، في صيف السنتين ١٩٥٤ و١٩٥٥، ما تبقَّى من آثار في سهل البقيعة إلى الشمال الغربي من قمران، فوجدا أن هذه الآثار تعود هي أيضًا إلى القرون الثامن إلى السادس قبل الميلاد، ورأيا فيها البقية الباقية من مدين وسَكاكة ونِبْشان المدن الثلاث الأخرى الواردة في الفصل نفسه من سِفر يشوع (١٥ : ٦١)، ورأيا أيضًا أن تكون هذه المدن هي الأبراج ومدن الخزن التي أمر يوشافاط بإنشائها في يهوذا عندما تقدَّم وعظم أمره، كما جاء في سِفر أخبار الأيام الثاني (١٧ : ٢ ١)، وأن تكون هي نفسها المُشار إليها في الفصل السادس والعشرين من هذا السِّفر نفسه «الأبراج التي بناها عُزيا في البرية؛ لأنه كان محبًّا لأعمال الأرض».١ وقد ارتأى مرتينوس نوث أن يكون وادي البقيعة هو وادي عكور الذي رُجم فيه عاكان وبنوه وبناته وحميره وغنمه وأُحرقوا بالنار، (يشوع ٧ : ٢٤).٢

ويجدُّ العلماء المنقِّبون في التفتيش عن النقود في الآثار الباقية، لعلهم يهتدون بواسطتها إلى تحديد الزمن الذي تعود إليه هذه الآثار. وقد وجد المنقِّبون في خرائب قمران عددًا كبيرًا من النقود. وقد جاءَ في تقرير لهم عن أعمالهم، في أثناء السنة ١٩٥٣، أنهم وجدوا ثلاث قطع من النقود الفضية التي سكَّها أنطيوخوس السابع في السنوات ١٣٦ و١٣٠ و١٢٩ قبل الميلاد، ووجدوا أيضًا أربع عشرة قطعة من مسكوكات يوحنا هيركانوس (١٣٥–١٠٤) قبل الميلاد، وثمانيًا وثلاثين قطعة من مسكوكات ألكسنذروس بن يوحانان (١٠٣–٧٦) قبل الميلاد، وخمس عشرة قطعة حشمونية، واثنتين من إصدار أنتيغونوس متتياس (٤٠–٣٧) قبل الميلاد، وقطعة فضية واحدة من مسكوكات صور في السنة ٢٩ قبل الميلاد، وست قطع من إصدار أرخيلاوس (٤ق.م.–٦ب.م.) وثلاثين قطعة رومانية من مسكوكات أوغوسطوس وطيباريوس وكلوديوس ونيرون (٦–٦٧) بعد الميلاد، وإحدى عشرة قطعة تعود إلى السنة الثانية من الثورة الأولى (٦٧-٦٨) بعد الميلاد، وقطعتين تعودان إلى السنوات (٦٧–٧٣) بعد الميلاد، وثلاثًا تعود إلى زمن الثورة الثانية (١٣٢–١٣٥) بعد الميلاد، وخمس قطع بيزنطية عربية وُجدت على وجه الأرض. ثم جاءت أعمال التنقيب في السنوات ١٩٥٤ إلى ١٩٥٦ تُؤيد هذه النسبة نفسها في القلة والكثرة من مسكوكات هذه العصور نفسها.

figure
دير قمران كما يظهره الترميم.

وفُوجئ المنقِّبون والعمال والتعامرة، في مطلع السنة ١٩٥٥، بكنزٍ مدفون حوى خمسمائة وخمسين قطعة من الفضة من مسكوكات مدينة صور الصادرة عنها في القرن الأول قبل الميلاد قبل السنة التاسعة، وكان قد دُفن في جرَّات ثلاث في أرض غرفة صغيرة من غرف أحد الأجنحة، فعُنيت به إدارة المتحف في بيت المقدس، ونُظِّفت القطع مما علاها من الصدأ، وعرضتها كما عُثر عليها، فضة برَّاقة تتدفق من جرَّات قديمة.

وهكذا فإن قطع الدراهم التي وُجدت في خرائب قمران عديدة ومتنوعة. ولولا كثرتها وتنوعها لما تمكنا من الاستعانة بها لتعيين الزمان الذي قامت فيه هذه الأخربة آهلة بالسكان؛ فمجرد العثور على ليرة ذهبية عثمانية في خربة ما في لبنان مثلًا لا يدل دلالة منطقية سليمة على أن الخربة قامت آهلة بالسكان في الزمان الذي سُكت فيه هذه الليرة؛ فإننا لا نزال في لبنان نتداول الليرات العثمانية الذهبية التي سُكت في عهد عبد الحميد ومحمد رشاد حتى ساعتنا هذه، وبعد مرور نصف قرن على صدورها وعلى خروج الأتراك من ربوعنا. ولكن العثور على كثرة من النقود الواحدة في خربة معينة تدل على أن سكان هذه الخربة عاشوا في العصر الذي كثُرت فيه هذه النقود وكثُر التداول بها.

ولما كانت النقود التي سُكت في عهد الإسكندر بن يوحانان Alexander Jannaeus الحشموني كثيرة في خرائب قمران، وكان هذا الإسكندر قد حكم من السنة ١٠٣ حتى السنة ٧٦ قبل الميلاد، جاز القول: إن خرائب قمران كانت قائمة آهلة بالسكان في هذه الحقبة من تاريخ فلسطين.
وإذا استثنينا أمر الكنز الذي وُجد مدفونًا في إحدى الغرف، جاز لنا القول: إن الخرائب خلت من نقود تعود إلى عهد هيرودوس الكبير (٣٧–٤) قبل الميلاد. ولعلها خلت من السكان أيضًا؛ لأن الجدران والسلالم والصهاريج لا تزال تحمل آثار زلزال كبير حَلَّ بها في عهد هيرودوس نفسه في السنة ٣١ قبل الميلاد؛ فالدرجات التي تؤدي إلى أحد الصهاريج مشقوقة من أسفلها حتى أعلاها. وقد انخسف أحد شقيها مقدار ثلاثين سنتيمترًا عن الآخر. وجدران البرج الكبير مُشقَّقة أيضًا، وعتبة من أعتاب غرفه مكسورة، وكذلك جدران بعض الأبنية الأخرى. ونحن نعلم نقلًا عن يوسيفوس أن أرض فلسطين زُلزلت في عهد هيرودوس في السنة ٣١، وأنه كان، وقت الإرجاف، على رأس جيشه في أريحا بالقرب من قمران، وأن جنوده تطايروا فزعًا، ولكنه وُفِّق إلى جمعهم والسير بهم عبر الأردن لمقابلة عدوه.٣

ولا تتكاثر النقود قبل عهد الأباطرة الرومانيين الأولين (٦–٦٧) بعد الميلاد. وقد يكون السبب في ذلك أن سكان قمران لم يجرءوا على العودة إليها، ولم يذهب خوفهم من الزلزال إلا بعد مرور ربع قرن عليه. فإنهم لم يُرتقوا الشقوق ولم يدعموا الجدران، ولم يحفروا الصهاريج الجديدة إلا في النصف الأول من القرن الأول بعد الميلاد.

وجاءت الثورة الأولى في السنة ٦٦ بعد الميلاد، فعمَّت فلسطين بكاملها، وشملت قمران، واضطرت رومة أن تقمعها، فأطل فيسباسيانوس بجنوده على أريحا وسهولها. ولعله لقي شيئًا من المقاومة في قمران فأحرقها؛ فإن رءوس النبال الرومانية لا تزال منثورة في طبقة من الرماد وغيره من آثار النار. ولمس الرومان أهمية قمران من الناحية الاستراتيجية لنشر الأمن في البلاد، فحوَّلوا برج قمران وبعض مبانيها القريبة من البرج إلى ثكنة عسكرية، وما فتئوا مقيمين فيها حتى نهاية القرن الأول، وعند خروجهم منها أمست خالية من السكان، ولم يعد أحد إليها قبل الثورة الثانية (١٣٢–١٣٥)، وما إن خمدت هذه حتى عادت قمران إلى سابق وحشتها، وما فتئت حتى يومنا هذا.٤

الآثار المخطوطة

وتعيين الزمن الذي تعود إليه الآثار المخطوطة التي وُجدت في كهوف قمران، ووادي المربعات وخربة المرد يوجب تبيان الزمن الذي وُضعت فيه الآثار في كهوفها، وتحديد الزمن الذي كتبت فيه، وتعيين زمن تأليفها. ويُلاحظ هنا أن اهتمام الجماهير لهذه المخطوطات وإقدام الجرائد والمجلات على نشر أخبارها بدون تبصر أو روية، وما نجم عن ذلك من اختلاف في الرأي وحماس في الجدل، اضطرَّ بعض العلماء إلى إبداء رأيهم قبل اكتمال البحث، فزادوا بذلك الطين بِلة. ويلاحظ أيضًا أن بعض دور النشر في أميركة وأوروبة لا تزال تنظر إلى أمر هذه المخطوطات من الناحية التجارية فقط، فتدفع إلى واجهات المخازن بكل ما من شأنه أن يثير الخواطر، ويستفز النفوس ليزداد البيع وتتكادس الأرباح.

دَرْج الدروج

والنظر في الزمن الذي دُرجت فيه هذه الدروج في كهوفها يستوجب الإجابة عن السؤال: لماذا وضعت هذه الدروج في هذه الكهوف؟ وقد تخالف العلماء في هذا الأمر، فأصرَّ سوكينيك العالم اليهودي على أن الكهوف «جنازات» سُترت فيها كل نسخة وجب إهمالها، وأشار لهذه المناسبة إلى درج نبوَّة أشعيا الذي وُجد في كهف قمران الأول وإلى الفوارق بين نصوصه والنصوص المألوفة، ووجوب إهماله ووضعه في جنازة. وأضاف أنه لا بُدَّ من جنازة أو جنازتين لكل كنيس تُحفظ فيهما الأسفار المهملة، وتُدفن بكل وقار واحترام بعد تكاثرها. والجنازة في العبرية والعربية واحدة؛ فهي مشتقة من الثلاثي جنز، ومعناه جمع وستر، ولا يخفى أن الجنز في العربية هو البيت الصغير من الطين، وأن أصل المعنى في هذه المادة كلها هو الإخفاء والكنز.

figure
الدرج النحاسي.
وأيد هنري دل ماديكو Del Medico البندقي القسطنطيني رأي زميله سوكينيك، فقال: إن الأقمشة التي لُفَّت بها هذه الدروج إنما هي أكفانها، وإن الدروج أُلبست هذه الأكفان؛ لأنها اعتبرت كتبًا ميتة. وأضاف أن التقليد قضى بدرج الأسفار المشوَّهة والكتب المُنتحَلة في جنازات من نوع ما تقدَّم. وأشار إلى اهتمام المعلم سمعان بن غملائيل في القرن الأول بعد الميلاد لجمع رسائل الأنبياء الكذبة الذين حرضوا اليهود على الثورة الأولى ضد رومة، ولدرجها في مخابئ بعيدة عن متناول القوم، وقال: إن المعلم غملائيل الثاني (٩٢–١٠٠) بعد الميلاد أمر بمثل ما تقدم ذكره بعد سقوط أوروشليم وخراب الهيكل. وارتأى دل ماديكو أن تكون هذه هي الظروف التي أدت إلى درج الدروج في كهوف قمران.٥
ورأى معظم العلماء غير ما رآه سوكينيك ودل ماديكو، فقالوا: إن هذه الدروج إنما دُرجت في كهوفها ضنًّا بكرامتها وحرصًا عليها، وإنها لا بد أن تكون قد خُبئت في ظرف عصيب حلَّ بأصحابها كحربٍ كاسحة أو اضطهادٍ شديد. ثم اتسعت أعمال الحفر والتنقيب فاتسع أُفق العلماء معها، وتبيَّن أن هذه الكهوف حوت مئات المخطوطات، وأن بعضها كالدَّرْجين النحاسيين، كانا من نوع لا يجب تحذير الرجوع إليه. وعثر المنقبون في السنة ١٩٥١ في خرائب قمران على جِرار من الفخار تتفق كل الاتفاق مع الجِرار التي وُجدت في الكهوف من حيث الشكل والصنع. ووجد العلماء مع هذه الجِرار نقودًا تعود إلى أواخر القرن الأول قبل الميلاد وإلى النصف الأول من القرن الأول بعد الميلاد. ودقَّق الدكتور أولبرايت Albright الأميركي في طينة الجرار فوجدها رومانية. فاضطر العلماء الباحثون أن يعتبروا الجِرار التي وُجدت فيها الدروج من النوع الذي كان يصنع في فلسطين في القرن الأول بعد الميلاد، واضطر من كان يقول بهلينية الجِرار وأنها تعود إلى القرن الثاني قبل الميلاد إلى التراجع عما ذهب إليه.
وأخذ الدكتور كلسو Kelso، مدير المدرسة الأميركية للأبحاث الشرقية، قطعة من القماش الذي لُفَّت به الدروج إلى الولايات المتحدة، ووضعها تحت تصرف العالم النووي الدكتور لبِّي Libby، الأستاذ في جامعة شيكاغو، وطلب إليه أن يحللها تحليلًا كيماويًّا نوويًّا للتعرف بعمرها. فجاء جواب هذا العالِم أن هذه القطعة من الكتاب تعود إلى مدة حدها الأقصى ١٦٧ قبل الميلاد، وحدها الأدنى ٢٣٣ بعد الميلاد؛ وتعليل ذلك أن هنالك نوعًا من الكاربون وزنه الذري ١٤ بدلًا من ١٢، وأن هذا الكاربون ذا الرقم ١٤ يتولَّد باستمرار في أعلى طبقات جو الأرض من جرَّاء تعرض ذرة النيتروجين ذي الرقم ١٤ إلى أشعة كونية. ويختلط الكاربون ذو الرقم ١٤ بالأوكسوجين فيُولِّد نوعًا خصوصيًّا من أكسيد الكاربون يختلف عن أكسيد الكاربون العادي، ولكنه يمتزج فيه. وهكذا فإن جميع النباتات الحية والحيوانات تتنشق الكاربون ١٤ فيبقى فيها بنسبة معينة. وهذه النسبة هي واحد على تريليون من الكاربون ١٤ فيبقى فيها بنسبة معينة. وهذه النسبة هي واحد على تريليون من الكاربون ١٤ في الغرام الواحد إلى غرام واحد من الكاربون ١٢، وعند الوفاة ينقطع دخول الكاربون ١٤ إلى الأجسام والنباتات، ويبدأ انحلال الموجود منه فيها. ويتم هذا الانحلال ببطء، ولكن بمعدل لا يتغير، ونصف مدة الكاربون ١٤ هذه تساوي ٥٥٠٠ سنة. وهكذا فيصبح الغرام الواحد منه نصف غرام بعد مرور ٥٥٠٠ سنة على موت الحي، ويصبح أيضًا ربع غرام في اﻟ ٥٥٠٠ سنة التالية. وهكذا دواليك.
ويتضح مما تقدم أنه إذا تمكنا من معرفة الكاربون ١٤ الباقية في جسم لفظ أنفاسه عرفنا الزمن الذي مر على هذا الجسم بعد انقطاعه عن الحياة. ويُحرق عندئذٍ نموذج منه حتى يُمسي كربونًا نقيًّا. ويصار إلى تحديد كمية الكاربون ١٤ الباقية بمقياس إشعاعي حساس جدًّا على مثال عداد غيغر Geiger. وتُعيَّن النتيجة بعدد انحلالات الكاربون ١٤ في الدقيقة الواحدة والغرام الواحد. وهذه النتيجة تكون ٣، ١٥ في مادة الجسم المعاصر، وتكون ٦٥، ٧ في جسم انقطع عن التنفس منذ ٥٥٠٨ سنوات، وتكون ٨٣، ٣ لنموذج انقطع عن التنفس منذ ١١٦٣ سنة، ويحسب رجال الاختصاص في هذا العمل الدقيق حساب الخطأ، فيفسحون مجالًا له يقدرونه بخمسة إلى عشرة في المائة.

ومع أن الكاربون ١٤ موجود في جميع الأجسام التي تتنفس، فإن بعضها أقرب لهذه المعالجة العلمية الإشعاعية من غيره. وهذا البعض هو النباتات على أنواعها، ومنها كتان الأقمصة التي لُفَّت بها دروج البحر الميت، والفحم والأصداف والقشور، وقرون الحيوان والعظم المحروق والزبل والجذور.

وقد أُجريت تجارب من هذا النوع على آثار مادية تاريخية معينة، فجاءت النتائج مدهشة، فقد أُحرقت قطعة من خشب سقف بيت وزير فرعوني، يعود، في عُرف علماء الآثار، إلى ما بين السنة ٣١٠٠ والسنة ٢٨٠٠ قبل الميلاد، فجاءت نتيجة امتحان الكاربون ١٤ تدل على أن هذا الخشب قُطع في السنة ٢٩٣٣ قبل الميلاد، مع إمكانية خطأ يقدر بمائتي سنة قبل هذا الرقم أو بعده. وامتحن علماء الإشعاع خشب قارب يُنسب إلى الفرعون سيسوسترس الثالث الذي تُوفي في السنة ١٨٤٩ قبل الميلاد بموجب تقدير علماء الآثار، فجاءت نتيجة الامتحان تُحدد سنة قطع هذا الخشب بالرقم نفسه تقريبًا. وهكذا فإنه بإمكاننا أن نقول بشيء كثير من الضبط العلمي أن الكَتَّان الذي صُنعت منه أقمصة الدروج في كهوف قمران قُطع وامتنع عن التنفس بين السنة ١٦٧ قبل الميلاد والسنة ٢٣٣ بعد الميلاد.٦
وهكذا فإنه لم يبقَ مجال للتردد؛ فالدروج دُرجت في الكهوف عند خراب قمران بين السنة ٦٦ والسنة ٧٠ بعد الميلاد حرصًا عليها، وضنًّا بكرامتها وقدسيتها. هذا ما يقول جمهرة العلماء، ولا سيما الأب دي فو والدكتور باروز.٧

نسخ الدروج

وإذا كان استنساخ أحدث الدروج عهدًا تمَّ قبل السنة ٧٠ بعد الميلاد، سنة درْج الدروج في كهوفها، فما هو الزمن الذي تمَّ فيه استنساخها بالضبط؟

يُلاحظ في الإجابة عن هذا السؤال أن الكشف عن آثار قمران دلَّ على أن سكان هذه الخرائب كانوا يُعنون باستنساخ الأسفار المقدسة وغيرها، وأنهم أفرزوا لهذه الغاية قاعة معينة فأقاموا فيها الموائد والمقاعد للكتابة، وأنشئوا المغاسل للتطهير قبل البدء بالعمل نظرًا لقدسية ما يفعلون. ويُلاحظ أيضًا أن بعض محابرهم لا تزال باقية حتى يومنا هذا، وأن حبرها لا يزال راسبًا في قعورها، وأن هذا الحبر هو من نوع الحبر الذي كُتبت به الدروج، وهو مزيج من الكاربون التجاري غير النقي ومن شيء من الماء ومادة صمغية، خالٍ من المواد المعدنية كما أبان ذلك الدكتور مارولد بلندر لايت Plenderleith العالم الخبير في المتحف البريطاني. وهكذا فإنه يجوز القول: إن بعض الدروج استُنسخ في قمران نفسها، يوم كانت آهلة بالمتزهِّدين المتعبِّدين؛ أي: بين أواخر القرن الثاني قبل الميلاد والسنة ٧٠ بعد الميلاد.٨
وإذا كان بعض هذه الدروج قد استُنسخ في قمران في الزمن الذي ذكرنا، فمتى تمَّ استنساخ البعض الآخر؟ ولا بُدَّ من أخذ هذه الإمكانية بعين الاعتبار؛ لأنه ليس هنالك ما يُثبت أن زُهَّاد قمران امتنعوا عن ادخار ما لم يستنسخوا في قمران نفسها. وفي الإجابة عن هذا السؤال لا بُدَّ من التدقيق في هذه الدروج من ناحيتها الفنية الخطِّية؛ أي: من الناحية الباليوغرافية Paléographic. ورُبَّ معترض يقول: وهل لدى العلماء عدد كافٍ من نماذج الخطوط العبرية في العصور القديمة يخوِّلهم سلامة الاستنتاج في تعيين زمن الكتابة؟ فنُجيب: إنه ليس هنالك ما يكفي لتحديد زمن الكتابة بالضبط، ولكن هنالك ما يكفي للقول بأن كتابة ما قد تمت في أثناء قرن معين أو نصف قرن معين. وقد يكون هنالك ما يكفي للقول: إن كتابةً ما تمت في أثناء خمس وعشرين سنة محددة.
وليس لدينا مخطوطات «مؤرخة» تعود إلى القرن الأول بعد الميلاد أو إلى القرن الأول قبل الميلاد، فتصلح للمقابلة مع خطوط هذه الدروج لتعيين تأريخها بالضبط، ولكن هنالك نقوشًا كتابية تعود إلى النصف الأول من القرن الأول بعد الميلاد، ونقوشًا أخرى تعود إلى القرن الأول قبل الميلاد يمكن اعتمادها واتخاذها مدارًا للتطبيق. وبعض هذه النقوش من النوع الغرافيتي الذي لا يختلف كثيرًا عن الكتابة بالحبر على رَق أو ورق بردي. والإشارة هنا إلى أسماء الأموات التي خُطت بسرعة بزاوية إزميل على النواويس الحجرية لدى درج الجثث فيها. ومعظم هذه النقوش الغرافيتية يعود إلى النصف الأول من القرن الأول بعد الميلاد.٩ ولدينا من نقوش تل الجزر ما يفيدنا عن ميزات الخط العبري في القرن الأول قبل الميلاد، ومن نقوش حصن طوبيا في شرق الأردن ما يُمثِّل خط القرن الثاني قبل الميلاد. وهنالك بردية ناش Nash التي تعود في الراجح الأرجح إلى هذا القرن نفسه.١٠ وأقدم من هذه وتلك برديات إدفو وأَسوان. وإليك الآن نموذجًا يبين تطور حرف الميم في شكليه المتوسط والنهائي:

ويلاحظ من رجال الاختصاص في تطور الخط العبري أمورًا أخرى تفيدهم في تعيين زمن الكتابة، منها محاولة ربط الحروف بعضها ببعض التي راجت في بعض الحقب دون سواها أو بين جماعات دون سواهم، ثم انقرضت في أثناء القرن الأول بعد الميلاد. ومنها أيضًا صِلة الألفاظ المكتوبة بخط أفقي يقع تحتها أو فوقها، فتأتي الحروف إما مُرتكزة إليه إذا كان تحتها وإما متعلقة به إذا كان فوقها.

وتتآلف الأدلة الباليوغرافية من جميع هذه الأنواع التي ذكرنا، فتدل على أن دروج قمران كُتبت بين السنة ٣٠٠ قبل الميلاد والسنة ٦٨ أو ٧٠ بعد الميلاد.١١ وكما تتآلف الألحان فتُشكِّل مجموعًا موسيقيًّا شائقًا كذلك الأدلة التاريخية الفنية، فإنها إذا ما عبرت عن الحقيقة الراهنة تتآلف بعضها مع بعض، فتتناصر على البطل وتلمع لمعان الحق.
ولا يجوز الأخذ بفروقات النصوص بين ما وُجد في قمران وبين ما يعتبر النص المسوَّر لتعيين زمن كتابة الدروج، كما لا يجوز اعتبار الاتفاق بين هذه النصوص جميعها دليلًا على الزمن الذي استُنسخت فيه دروج قمران. فمجرد الاتفاق في النص بين الدروج وبين المسوَّر لا يدل في حد ذاته على أن الدروج نُسخت بعد تسوير النص. فالنص المسوَّر لم يكن في استنباط المسوَّرين. وكذلك الفروقات بين نصوص الدروج والنص المسوَّر ليست دليلًا في حد ذاتها على أن نصوص الدروج سابقة للنص المسوَّر.١٢

ولكن هنالك فرقًا في اللغة بين نص بعض هذه الدروج وبين النص المسوَّر. فالنص المسوَّر الذي سُوِّر ما بين القرن الرابع والقرن العاشر بعد الميلاد جاء أوروشليميًّا في اللهجة، بينما نص نبوَّة أشعيا في درج دير القديس مرقس جاء بلهجة عبرية أخرى تختلف عن النص المسوَّر في قواعد اللغة وفي التهجئة. وقد تكون بعض المخالفات في التهجئة في درج القديس مرقس ناشئة عن جهل الكاتب أو عن قلة اعتنائه وتيقظه. وقد تكون ناشئة عن انتماء النص بكامله إلى عصر غير العصر المُمثَّل في النص المُسوَّر. وأهم الاختلافات في التهجئة ناشئ عن محاولة قام بها كاتب نص الدرج لضبط لفظ الألفاظ بحروف العلة. وهنا يصحُّ التساؤل: هل كانت هذه المحاولة سابقة لضبط النص المسوَّر بالشكل أم لاحقة له؟ وقد ذهب بعض العلماء إلى أن مثل هذا الضبط بحروف العلة يعود إلى زمن أمست فيه اللغة العبرية لغة كلاسيكية غير مَحكِية، وأنها لو كانت لا تزال مَحكِية لما شعر القُرَّاء بحاجة إلى هذا النوع من الضبط.

ويرى آخرون أن حصر التهجئة بالحروف الساكنة الصحيحة وعدم ضبطها بالشكل أو بحروف العلة يُحيِّر القارئ، ولو كان من أبناء اللغة التي يقرأ، وأن اللجوء إلى ضبط النصوص بأحرف العلة سابق لضبطها بالشكل كما جاءت في النص المسوَّر. وهكذا فإن ظاهرة الاختلاف في تهجئة الكلمات لا تُعين الباحث على تعيين الزمن الذي كُتبت فيه هذه الدروج. وهنالك اختلافات في مدِّ حروف العلة، واختلافات تحريك أواخر الضمائر تُومئ إلى عصر سابق لعصر النص المسوَّر. ولكنه لا يجوز البتُّ في شيء من هذا قبل التثبُّت من إحصاء كل ما لدينا من نوعه.١٣
وليس بإمكاننا أن نُحدد الزمان الذي صُنِّفت فيه بعض الدروج؛ لأنه ليس في أخبارها المروية ما يُعيننا على ذلك، وليس في مقدماتها أو خواتمها ما ينص على شيء من هذا. فلو أخذنا درج التعليق على حبقوق، وهو ذو صبغة قمرانية هامة، لوجدناه خاليًا من الإشارة إلى المُعلِّق وخلوًا من أي تاريخ معين، وأخباره المروية جاءت خالية من الإشارة إلى وقائع معينة أو أسماء معروفة يمكن التعويل عليها في تحديد زمن التصنيف؛ فهي من نوع إشارة دانيال (١١) إلى «ملك الجنوب» و«ملك الشمال». ولعل المُعلِّق تعمَّد الإبهام لينجو بذلك من المراقبة والاضطهاد. وأوضح الإشارات في درج حبقوق ذكر أعمال شعب مُعين هو شعب «كتيم». ولكن ما جاء عن هذا الشعب لا يُفسح المجال لأي استنتاج منطقي سليم؛ فشعب كتيم «سريعون أشداء في الحرب» وهم «لا يؤمنون بشرائع إله إسرائيل، يُحيكون الشر وينفِّذون الخطط بدهاءٍ وغشٍّ، يدوسون الأرض بخيولهم وحيواناتهم، يأتون من أماكن بعيدة من شواطئ البحر؛ ليلتهموا الشعوب كالطيور الجوارح.» وليس في مثل هذا القول كله ما يُعين المؤرخ على التحديد والتعيين. وأوضح ما جاء عن شعب كتيم أنهم يقدمون الذبائح لأعلامهم، ويسجدون لأسلحتهم، وليس في هذا أيضًا ما يُعيننا على سلامة الاستنتاج وطمأنينة العقل.١٤
١  Milik, J. T., et Cross, F. M: Rev. Bib, 1956, 74–76, Bull. Amer. Sch. Or. Res, 1956, 5–17; Burrows M.: More Light, 20-21.
٢  Noth, M.: Der Alttestamentliche Name der Siedlung auf Khirbet Qumran, Zeit. Palest. Ver, 1955, 111–123.
٣  Fritsch, C. T.: Herod the Great and the Qumran Community, Journ. Bib. Lit, 1955, 173–181.
٤  Kelso, J. L.: The Archeology of Qumran, Journ. Bib. Lit, 1955, 141–146; North, R.: Qumran and Its Archeology, Cath. Bib. Quart, 1954, 426–437; Allegro, J. M.: Dead Sea Scrolls, 82–90; Ploeg, J. van der: The Excavations at Qumran, 66–69, 80–87; Fritsch, C. T., The Qumran Community, 1–25.
٥  Del Medico, H. E.: L'Enigme Des Manusctits de la Mer Morte, (1957). 23–27; Burrows, M.: Dead Sea Scrolls, 75-76.
٦  Collier, D.: New Radiocarbon Method for Dating the past, Biblical Archaeologist, 1951, 25–28; Guindon. W. G.: Radio-active Carbon and the Dead Sea Scrolls, Cath. Bib. Quart., 1951, 268–275; Sellers, O. R.: Date of Cloth from the Scrolls Cave, Bib. Arch., 1951, 29; Bull. Am. Sch. Or. Res., 1951, 24–26; Wright, G. E.: Some Radio-carbon Dates, Bib. Arch., 1951, 31 f.
٧  Burrows, M.: Dead Sea Scrolls, 82.
٨  Burrows, M.: Dead Sea Scrolls, 37-38, 82, 101; Allegro, J. M.: Dead Sea Scrolls, 82.
٩  Burrows, M.: Dead Sea Scrolls, 87–89; Trever, J. C.: Bull. Am. Sch. Or. Res., 1949, 22.
١٠  Kenyon, Sir Fredrick: The Bible and Archaeology, 228-229; Albright, W. P.: The Nash Papyrus, Journ. Bib. Lit., 1937, 145–176.
١١  Burrows, M.: Dead Sea Scrolls, 101.
١٢  Ibid., 102–109.
١٣  Burrows, M.: Dead Sea Scrolls, 102–116; Kahle, P.: Die Textkritische Bedeutung der Jesaia-Rolle. Theologische Literaturzeitung. 1949, 91–94, 1950, 537–542, 1951, 161–166, 1952, 401–412.
١٤  Burrows, M.: Dead Sea Scrolls, 123–142; Brownlee, W. H.: The Hist. Allusions of the Dead Sea Habakkuk Midrash. Bull. Am. Sch. Or. Res., 1952. 10–20: Delcor, M.: Essai sur le Midrash de Habacue, (1951); Detaye, C.: Le Cadre Hist. du Midrash d'Habacuc, Eph. Theol, Lovanienses. 1954, 323–343: Elliger, K.: Studien zum Habakuk Kommentar, Beit. Zur Hist. Theol, 1953; Stauffer E: Zur Fruhdatierung des Habakukmidrasch. Theol. Lit. Zeit, 1951, 667–674.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤