الفصل الرابع

المكشوف على ضوء المعروف

خرائب أخوية منظمة

وليست خرائب قمران خرائب قرية فلسطينية عادية تتألَّف من عدد كبير أو قليل من المساكن العائلية والأبنية العمومية والأسواق والباحات والأزقَّة، وإنما هي بقايا مؤسسة جماعية لها شبكة مياه متعددة الفروع، ولكنها منسقة مرتبة ومعدَّة لتأمين المياه لعدد كبير من الأفراد في وقت واحد. فهنالك الخزانات والصهاريج والأقنية والأحواض والأجران المختلفة، وجميعها مربوط بعضه ببعض مُعدٌّ لعمل مشترك. وهنالك المشاغل لصنع الأواني وإعداد ما يلزم لجماعة من الناس منكفئة على نفسها منعزلة عن الغير، مواخير ومصانع لتطريق النحاس وللحدادة، ومطاحن وأفران ومخازن للإعاشة. وهنالك المغاسل المشتركة والمطبخ وغرفة الطعام وغرفة الكتابة وقاعات الاجتماع. وفي المقبرة ما يؤيد هذه الحياة الأخوية المشتركة، فهي تختلف عن سائر مقابر هذه الفترة، وفيها ما يدل على اتباع خطة معيَّنة في التكفين والتوجيه والدفن.

وفي موقع هذه الخرائب ما يتفق كل الاتِّفاق مع ما جاء في كلام بلينيوس الأكبر عن جماعة من الحاسيين أقاموا في هذا المحل نفسه في عصر بلينيوس؛ أي: في القرن الأول بعد الميلاد. فما يقوله عن هؤلاء لا ينطبق إلا على أخوية قمران. فليست هنالك أية خرائب أخرى بين عين جدي وأريحا تصح عنها ملاحظاته سوى خرائب قمران. وقد أوردنا ما قاله في فصل سابق فليراجع في محله.

الكهوف مساكن ومخابئ

وليس في خرائب قمران مساكن أو غرف للنوم، فلا بُدَّ والحالة هذه من مساكن وغُرف يأوي إليها أفراد هذه الأخوية. وقد تبيَّن مما تبقى في الكهوف المجاورة من أدوات ما يدل على أنها كانت في زمن الأخوية مساكن يلجأ إليها هؤلاء النُّسَّاك، ولا يمنع هذا القول وجود خيام أو أنواع أخرى من المساكن بالإضافة إلى الكهوف.

ولا يرى رجال الاختصاص رأي سوكينيك العالم اليهودي، فلا يعتبرون هذه الكهوف «جنازات» حُفظ فيها ما أهمل من الأسفار؛ فإن ما وُجد فيها كثير جدًّا يفوق عدده ما يُهمل فيُحفظ. وفيها أيضًا من المخطوطات ما لا علاقة له بالأسفار، وما لا يستوجب الإهمال والاستيداع والتجنيز. وهم يُرجحون أن الدروج والمخطوطات حُملت إلى هذه الكهوف، وخُبِّئت بها لدى خروج اليهود على الرومان وإعلان ثورتهم الكبرى في السنة ٦٦ بعد الميلاد.

دروج التوراة

ورُبع ما وُجد من المخطوط كتابيٌّ يتضمن الأسفار التي اعتبرها يهود فلسطين مقدسة قانونية منذ القرن الأول بعد الميلاد، ولا ينقصها سوى سِفر أستير. وهنالك نُسخ متعددة من نبوَّة أشعيا والمزامير والأنبياء الصِّغار وتثنية الاشتراع تُربِي على العشرة. وبعض ما وُجد من هذه النُّسخ قريب في عمره من النُّسخ الأم كدرج دانيال (ق٤) الذي يعود إلى نصف قرن فقط بعد ظهور السفر (١٦٤ق.م.). وما وُجد من سِفر الجامعة في (ق٤) لا يبعد من حيث تاريخ نسخه أكثر من مائة سنة عن زمن ظهور هذا السِّفر. وهذا التقارُب في العهد بين ما وجد من نُسخ وبين الأمهات التي نُقلت عنها أمر نادر بعيد الوقوع حتى في برديات مصر.

ومما يلفت النظر ويُثلج الصدر، ولا سيما صدر القديس الفيلسوف يوستينوس النابلسي، عثور المنقِّبين على مقاطع من نصوص الأسفار الخمسة، تُؤيد يوستينوس في محاورته الشهيرة مع تريفون اليهودي في منتصف القرن الثاني بعد الميلاد؛ فقد عثر المنقِّبون في كهف قمران الرابع على نص من سِفر الخروج يقرب كثيرًا من النص السبعيني؛ فالنفوس الخارجة من صُلب يعقوب في مصر في هذا النص خمس وسبعون، لا سبعون فقط كما في توراة اليهود «المسوَّرة»، وهي خمس وسبعون في خِطاب أسطفانوس الشهيد الأول (أعمال ٧ : ١٤). وما لا نجده من نشيد موسى، في العدد الثالث والأربعين من الفصل الثاني والثلاثين، من سِفر تثنية الاشتراع مما جاء في النص السبعيني نجد معظمه في نص من نصوص التثنية الذي وجد في كهف قمران الرابع.١

أسفار النبوَّات الأولى

وما وُجد من أسفار يشوع والقضاة وصموئيل وأخبار الملوك في كهوف قمران الأول والرابع والخامس والسادس، مستمد جميعه من أصل تحدَّرت منه الترجمة السبعينية أيضًا، ومما تجدر إليه الإشارة هنا هو أن نص سِفر صموئيل الذي وُجد في كهف قمران الرابع، الذي يُشار إليه ﺑ (ق٤ صموئيل ب)، الذي يُعتبر في نظر الثِّقات أقدم نصوص العهد القديم خطًّا، هو أيضًا أقرب بكثير إلى نص الترجمة السبعينية منه إلى نص التوراة المسوَّر.٢

أسفار النبوَّات المتأخرة

ونبوَّات أشعيا وأرميا وحزقيال والاثني عشر ممثلة جميعها تمثيلًا حسنًا في كهوف قمران، فقد وجد المنقَّبون درجين كاملين لنبوَّة أشعيا. وبينما نرى نصَّ الدرج الثاني (١ق ١ش ب) يمت بصِلة قوية إلى النص المسوَّر، وكذلك نصوص المقاطع الاثني عشر التي وُجدت في الكهف الرابع القمراني نجد نصَّ الدرج الأول (١ق ١ش ١) يختلف عن النص المسوَّر في أمور؛ أهمها: سهولة قراءته وفروقات في التهجئة، وتركيب الجمل وترتيب النص وتنظيمه. وأهم من هذه وتلك فرقٌ واضح بين نص قديم ونص متأخر يظهر بفراغ من الكتابة عند الانتهاء من الفصل الثالث والثلاثين، وباستعمال رق جديد لما يلي من الفصل الرابع والثلاثين وغيره.٣ ويظهر أثر النص السبعيني في بعض قطع من نبوَّة أرميا عُنِي بها العلَّامة الدكتور كروس.

أيوب ودانيال والمزامير

وقد وُجد سفر أيوب في نسختين إحداهما بالخط المربع المتأخر، والأخرى بالخط العبري القديم. وإذا كانت النسخ الأمهات قد كُتبت بهذا الخط القديم، فإنه سيسهل عندئذٍ حل بعض مشاكل النص المسوَّر. وقد وُجدت أَيضًا نسختان من سفر دانيال في كهف قمران الأول، وأربع في الكهف الرابع، وواحدة في الكهف السادس، وجميعها يقارب النص المسوَّر، ولكنها تظهر أيضًا أثر النص القديم الذي تحدر منه النص السبعيني. وهنالك بقايا نسخ أخرى يظهر فيها الانتقال من النص العبري إلى الآرامي، ومن الآرامي إلى العبري. وهنالك أيضًا بقايا دروج عشرة من المزامير، وليس في معظمها سوى نص المزمور المائة والتاسع عشر. وهنالك درج واحد جاءت المزامير فيه بترتيب يختلف عن الترتيب المسوَّر.٤

كتب التلاوة

تسمى أيضًا الكتب القانونية الثانية Deuterocanoniques، ويعتبرها اليهود دخيلة. إن يهود قمران عرفوا هذه الكتب واقتنوها ورجعوا إليها. ودليلنا على ذلك ما نجده منها بين محتويات الكهوف؛ فهنالك ثلاث نسخ من سفر طوبيا: اثنتان منها بالعبرية، وواحدة بالآرامية يُعنى بها الآن الأب ميليك. وهي أقرب في نصوصها إلى الفيتوس اللاتينية Vetus Latina منها إلى النص السينائي Codex Sinaïticus، ويميل الأب ميليك إلى الاعتقاد بأن بعضها جاء أولًا بالآرامية.٥ ويُعنى الأب بالي Baillet ببعض قطع من الدروج وُجدت في كهف قمران الرابع، وهو يرى أن بعضها يعود إلى الفصل السادس من سفر يشوع بن سيراخ، ويرى أن هذا البعض يتفق مع ما وُجد من نوعه في جنازة القاهرة، ويضاف إلى هذا كله بعض مقاطع من رسالة أرميا جاءت باليونانية، ووُجدت في كهف قمران السابع.٦ وقد وردت في السبعينية مضافة إلى كتاب باروك.

الأسفار المنتحلة الدخيلة

ورجع يهود قمران إلى أسفار نُسبت إلى غير مؤلفيها الحقيقيين، فأمست عند اليهود فيما بعد وعند الآباء المسيحيين Pseudepigrapha أي: منسوبة إلى غير مؤلفيها الحقيقيين، وبالتالي أبوكريفية apocrypha أي: من النوع الذي تجب تخبئته. ولا يخفى أن الانتحال في اللغة هو في الأصل عكس ما تقدم. نقول: انتحل فلان شعرًا إذا ادعاه لنفسه وهو لغيره، وقولنا: إن هذه الأسفار منتحلة هو في حد ذاته توسُّع تدفعنا إليه الحاجة إلى اصطلاح يؤدي معنى اﻟ Pseudepigrapha. وعند القول: إن سِفرًا من الأسفار هو من نوع الأبوكريفة نحكم بوجوب إبعاده وعدم الرجوع إليه. ومن هنا قولنا: إنه سِفر دخيل أي: غير أصيل.
وأهم الأسفار الدخيلة على العهد القديم، في عُرف الآباء المسيحيين من شرقيين وغربيين وفي عُرف أحبار اليهود، هي سِفر اليوبيلات وسِفر أخنوخ ورسائل البطاركة، وكتاب اليوبيلات أو «سِفر التكوين الصغير» الذي عرفناه فيما مضى بالحبشية واللاتينية نعرفه اليوم بفضل أعمال الكشف في قمران باللغة العبرية، وهو ما يتَّفق مع النص الحبشي، وبالتالي فإنه خالٍ من أي دس مسيحي عليه. وقد وجد المنقِّبون قطعًا من نُسخ متعددة منه في كهوف قمران الأول والثاني والرابع.٧ وهو يبحث في أصل «الشعب المختار» منذ البدء حتى الظهور في سيناء، ويجيء في تسع وأربعين حِقبة، تشمل كل واحدة منها أخبار تسع وأربعين سنة، فيصبح يوبيل اليوبيلات نسجًا على ما جاء في سِفر الأحبار (٢٥ : ١١)، وهو يهدف إلى تبيان قدسية الناموس وقدم عهده ورجوعه إلى عهد البطاركة الأولين، لا بل إلى الأزل في القِدم إلى الله في السموات. ويرى رجال البحث أنه من تصنيف يهودي مُحافظ من أعيان القرن الثاني قبل الميلاد.٨
وعاد يهود قمران أيضًا إلى سِفر أخنوخ؛ فقد عثر المنقِّبون في كهف قمران الرابع على حوالي عشر قطع مختلفة من هذا المُصنَّف. وقد جاءت بالآرامية. وسِفر أخنوخ كما عرفناه قبلًا بالحبشية كشكول من الرؤى يعود إلى القرنين الأخيرين قبل الميلاد، ويبحث في أصل الشر والفساد. وفي الملائكة والشياطين، وفي جهنم والنعيم. وقد قسَّمه العلَّامة شارل إلى خمسة أقسام مختلفة، فرأى في فصوله الستة والثلاثين الأولى مادة مأخوذة من سِفر نوح، وجعل من فصوله السابع والثلاثين حتى الحادي والسبعين قسم الأمثال والتشبيهات، ومن فصوله الثاني والسبعين حتى الثاني والثمانين كتاب الكواكب، ومن فصوله الثالث والثمانين حتى التسعين رُؤى الأحلام، ومن فصوله الحادي والتسعين حتى المائة والرابع رؤيا الأسابيع.٩ وهنالك أشياء من القسمين الأول والرابع في خمس قطع من مخلفات الكهف الرابع. وقد جاءت نصوصها الآرامية أضبط مما جاء في قطع أربع أُخرى تضمنت أخبار الكواكب، والقطعة العاشرة لا تزال قائمة بذاتها؛ لضآلة ما تبقَّى منها، ويرى الأب ميليك أن عدم وجود أي أثر من آثار الأمثال والتشبيهات يوجب القول إن واضعه من المسيحيين اليهود من أعيان القرن الثاني بعد الميلاد.١٠ ويرى الأب مارتن Martin الكاثوليكي والأستاذ لودز Lods الإنجيلي والبحاثة الإسكندينافي موفينكل Mowinckel أن سفر أخنوخ هو من نتاج اليهود وحدهم.١١ ونحن نرى أنه ليس من العلم بشيء أن نتسرَّع في الاستنتاج، فنحكم بشيء قبل تناصر الأدلة عليه، والواقع أن الدليل في الحالتين ضئيل يُوجب إرجاء البتِّ.
وتوقَّع العلماء الباحثون، لدى بدء العمل في قمران، أن يعثروا على نص «عهود البطاركة» بالعبرية أو الآرامية نظرًا لما لمسوه في النص اليوناني من آثار الحاسيين، وترقَّبوا وانتظروا فلم يجدوا شيئًا مما صوَّره لهم الظن. وجل ما عثروا عليه حتى الآن هو بعض مراجع يمكن أن يكون واضع «هذه العهود» قد اعتمدها. فهنالك قطعة من مخلفات الكهف الأول، وبعض قِطع من مكتشفات الكهف الرابع كتبت بالآرامية ونُسبت إلى لاوي. وهذه القِطع تتَّفق مع ما كان قد وُجد في جنازة القاهرة قبل نصف قرن، ومما عُثر عليه أيضًا شيء من صلاة نُسبت إلى يعقوب، وبعض التعليمات في تقديم الذبائح، ونص عبري نُسب إلى نفتالي.١٢
والبطاركة هم أولاد يعقوب الاثنا عشر. والعهود هي ما أوصوا به أولادهم وأحفادهم قبل وفاتهم كما فعل يعقوب نفسه، وعلى غِرار ما جاء من كلامه في الفصل التاسع والأربعين من سِفر التكوين. وكانت هذه العهود قد حُفظت باليونانية وبالأرمينية والسلافية. وكان روبرتوس أسقف لنكولن Lincoln، في القرن الثالث عشر عُني بهذه العهود بلغتها اليونانية، وأعدَّ نصًّا لاتينيًّا لاقى ترحيبًا في الأوساط المسيحية آنئذٍ، ثم تُرجم هذا النص إلى الإفرنسية في السنة ١٥٥٥ ونُشر في باريز. وعاد غرابي Grabe في القرن السابع عشر إلى النص اليوناني، فنشره في السنة ١٦٩٨، وقال عنه إنه نصٌّ يهودي يعود إلى ما قبل الميلاد، ولكنه يحمل أثر دسٍّ مسيحي.١٣ ثم جاء الأب مين Migne في السنة ١٨٥٦، فقال في معجم الأبوكريفه إنه يتراءى له أن هذا النص يعود إلى القرن الأول أو أوائل القرن الثاني بعد الميلاد، وإن واضعه هو يهودي دخل في النصرانية فجعل أبناء يعقوب يقولون ما يؤيد ظهور المسيح. وعالج هذا الموضوع نفسه العلَّامة الإنكليزي روبرت شارل في أوائل القرن العشرين، فأيد يهودية هذا السِّفر وحصر الدس المسيحي فيه ببعض العبارات الخريستولوجية.
وظهر في السنة ١٩٥٣ كتاب يونغ Jonge الهولندي، وجاء مؤيدًا لما كان قد ذهب إليه الأب مين وناقض شارل، فقال بأن عهود البطاركة من آثار يهودي متنصر اعتمد نصوصًا يهودية قديمة، فجعل منها سِفرًا جديدًا يؤيد به دينه الجديد.١٤ ورأى الأب ميليك رأيه، فقال: إن صاحب عهود البطاركة كصاحب سفر أخنوخ اعتمد عهد لاوي أو عهد نفتالي أو ما شابههما، فصنَّف عهود البطاركة، وهو مؤلف واحد للعهود جميعها كما نعرفها في نصها اليوناني بدليل وحدة التخطيط. فلكل عهد من هذه العهود مقدمة تاريخية، وبابٌ فيه حضٌّ على الفضيلة، وخلاصة تتوقع مجيء مسيح واحد «لا مسيحين» وتتضمن رؤيا.١٥
ويؤثر دوبون صومر Dupont-Sommer — الأستاذ الفرنسي — القول بأن هذه العهود هي من آثار الحاسيين لوجود ما يماثلها في كهوف قمران، وفي وثيقتَي دمشق ولا سيما وأن في هاتين الوثيقتين ما يُشابه عددًا كبيرًا من سائر عهود البطاركة كزبلون ودان ويوسف وبنيامين.١٦ ولكنه لا ينكر إمكانية دس مسيحي متأخر.١٧

أسفار مُنتحلة أخرى

ومن مُخلَّفات كهف قمران الأول درج آرامي محزوم ضاعت فصوله الأربعة الأولى، وهو فيما يظهر توسُّع في الفصول الخمسة عشر الأولى من سِفر التكوين. ومن هنا تعريفه بالتكوين المُنتحل. وقد عُني به أفيغاد Avigad ويادين Yadin، فنشرا ما تيسَّر منه في العبرية والإنكليزية في السنة ١٩٥٦.١٨
ومن الأسفار القمرانية المُنتحلة سِفر يُنسب إلى أرميا تبقَّت منه بقايا مختلفة، ولا يمكن ربطه لا بأرميا نفسه ونبوَّته، ولا بأمين سِره باروك. وهنالك أيضًا بقايا من سِفر يُدعى ترانيم يشوع وسِفر آخر يُعرف برؤيا عمران أبي موسي وهارون، ولا تزال هذه جميعها قيد الدرس والبحث يُعنى بها الأبوان ميليك وستاركي.١٩ ومن هذه الأسفار القمرانية المُنتحلة أيضًا صلاة نبونيدوس:
كلمات الصلاة التي صلاها نبونيدوس الملك العظيم ملك أشور وبابل عندما أصيب بأمر الله بورمٍ شديد، وهو في مدينة تيماء: أصبتُ سبع سنوات، وأُبعدت عن الناس، ولكن لما اعترفت بآثامي وخطاياي أرسل الله إليَّ نبيًّا يهوديًّا ممن أُبعدوا إلى بابل، ففسَّر وكتب أن يُمجد اسم الله العلي، وكتب هكذا: «لما أصبتُ بورم شديد بأمر العلي في مدينة تيماء صليتُ سبع سنوات إلى الآلهة المصنوعة من الفضة والذهب والبرونز والخشب والحديد والحجر والطين … من الآلهة …»٢٠
وفي هذا كله شيء من التشابه مع ما ورد في سِفر دانيال عن المرض الذي ألمَّ بنبوخذنصر.٢١

مخطوطة دمشق

لقد سبقت الإشارة إلى هذه المخطوطة، وهي بدون أي ريب من مخلَّفات جماعة قمران؛ فقد عثر المنقِّبون في الكهوف القمرانية، الرابع والخامس والسادس على قِطع يتَّفق نَصُّها وما جاء في الوُريقات «ألف» من مخطوطة دمشق، وفيها أيضًا ما يُكمل نصوص هذه الوريقات. وقد تبيَّن أيضًا من درس النصوص القمرانية أن المُصنَّف الذي بقيت عنه هذه القِطع جاءَ في جزئين أولهما يبيِّن خطة الخلاص الإلهية (الفصول ١–٨)، والثاني يُظهر النُّظُم التي وجب اتباعها على الإخوان، وهكذا فإنه لم يبقَ أي مجال للقول إن الجزأين يُمثلان مُصنَّفين مُختلفين.٢٢

قانون الجماعة

هو ما أسماه بعضهم قانون الانضباط.٢٣ وقد وُجدت منه نسخة تكاد تكون كاملة في كهف قمران الأول وتسع قِطع من نُسخ أخرى في كهف قمران الرابع. ونَص هذه أصح من نَص النسخة الكاملة وأوضح وأسلم. وقد تُعين كثيرًا في تحرِّي النص الأصلي والمجيء بلفظه كما أخرجه واضعه «معلم الصلاح». وبعد العنوان والمقدمة يأتي وصف طقس الانتماء إلى الجماعة، ثم الكلام عن «أمير النور» و«ملاك الظلام»، فقوانين الجماعة، فمزمور الختام.٢٤

قانون الجهاد

ومن مُخلَّفات كهف قمران الأول درج جهاد أبناء النور ضد أبناء الظلام. وقد بقي منه تسعة عشر عمودًا وجميع هذه العواميد محزومة عند أسفلها، وهي لا تُمثل سوى القسم الأول من قانون الجهاد.٢٥ وسنعود إلى محتويات هذا الدرج عند الكلام على انتظام الجماعة وعقائدهم.

مزامير الشكر

هي الحديات كما جاء في العبرية. وحدا يحدو في العربية رفع صوته بالحداء. وحدى القارئ يحدي تردد إلى قُدَّام وخلف وهو يقرأ جالسًا، ودرج «الحديات» من دروج كهف قمران الأول. وقد جاء محزومًا في أماكن عديدة، ولم يبقَ منه سوى ثمانية عشر عمودًا وعدد كبير من القطع الصغيرة يربو عددها على الستين، وعدد المزامير المحفوظة عشرون. ولعلها كانت أكثر بكثير من هذا العدد.٢٦ وتبدأ هذه المزامير بالعبارة: «إني أُقدِّم لك الشكر يا الله.» ومن هنا القول: إنها مزامير الشُّكر.
وناظم هذه المزامير بموجب نصوصها هو «المعلم الذي يعلم، والأب الذي يعتني، ومصدر المياه الحية، مُشيِّد بُنيان الجماعة، وبُستاني البستان الأبدي»، ومن أجدر بهذا كله من «معلم الصلاح» نفسه.٢٧

قانون الأخلاق

وهنالك قِطع كثيرة من مخلفات الكهف القمراني الرابع تتضمن نُتَفًا من قانون الأخلاق الذي يرتكز إلى نصوص الأسفار الخمسة. وهو يوجب درجة من الانضباط أشد وأضيق مما ينص عليه قانون السلوك عند الفريسيين.٢٨

تفسير الأسفار

figure
الدرج الكامل لسفر أشعيا (ص٣٣ و٣٤).
والتفسير عند أئمة قمران هو التأويل على ضوء ظروف الجماعة. فهو ليس مجرد التعبير عن شيء بلفظ أسهل وأيسر من لفظ الأصل، وإنما هو رجوع إلى الأسفار لتأييد العقيدة، وفهم الماضي والحاضر على ضوئها. وهكذا فإن ما تبقَّى من تفاسيرهم هو واحد من ثلاثة: إما تفسير على ضوء ما تأتَّى للجماعة في الماضي كتفسير حبقوق وميخا والمزامير، وإما تفسير على ضوء علاقة الجماعة بشعب مُعيَّن معاصر كتفسير نحوم، وإما تفسير يتعلق بانقضاء العالم وواجب الجماعة كتفسير أشعيا.٢٩

معلم الصدق

وتكثر الإشارة في أدب الجماعة إلى شخصين لهما علاقة وثيقة فيما يظهر بتأسيس الجماعة، فهنالك معلم الصدق أو معلم «الوَحدة» أي: الجماعة. وهنالك الكاهن الراسع أي: الفاسد، ويُدعى أحيانًا الكاهن الكاذب. وقد تسرَّع بعضهم وتترعوا فرأوا في مخلفات قمران إشارة إلى عذاب أليم أُنزل بمعلم الصدق كآلام يسوع. وبين النصوص التي يستشهد بها هؤلاء لتأييد استنتاجاتهم هذه تعليق قمراني على قول حبقوق: «ويلٌ لمن يسقي صاحبه»، هذا نصه: «هذا يُشير إلى الكاهن الكاذب الذي تعقَّب مفسر الناموس الصادق حتى مكان عزلته ليشوِّش عليه أموره بالتظاهر بالغضب الشديد الذي عاد فظهر بينهم، لمناسبة يوم الكَفَّارة، بأُبَّهة كاملة ليختلط عليهم أمرهم، ويسقطوا في زِلة يوم الصوم يوم الراحة السابع.»٣٠ وليس في هذا كله أي تعذيب حل بمعلم الصدق على غرار صلب السيد المسيح، وإن هي إلا إشارة إلى زيارة رسمية قام بها كاهن أوروشليم الأعظم إلى قمران مقر معلم الصدق؛ ليُحرج بها المعلم وتلاميذه وجماعته.٣١ وفي الأناجيل من أخبار الفريسيين والصدوقيين وأحاديثهم مع يوحنا السابق، ومع السيد نفسه ما يدل دلالة واضحة على لجوء أولئك إلى مثل هذه المناورات.
وليس في النصوص الأخرى التي يتذرَّع بها القائلون بالتشابه بين معلم الصدق القمراني، وبين السيد المُخلِّص ما يزيد ما يذهبون إليه؛ فالتعليق القمراني على الآية: «ألا يقوم بغتةً من يعضونك» (حبقوق ٢ : ٧) هو ما يلي بالضبط: «إن معنى هذه الكلمات يُشير إلى الكاهن الذي عصى وخالف تعاليم الله، فسلَّمه الله إلى أيادي أعدائه، وأذلَّه هؤلاء، وأذاقوه عذابًا مرًّا لما اقترف من طغيان ونفاق، وأنزلوا به عناءً مخيفًا منتقمين منه بجسده.»٣٢ ولما كان القسم الأول من هذا الكلام يشير بصورة واضحة إلى الكاهن الكاذب، فإنه لم يبقَ أي مجال للقول بأن ما يتبع يشير إلى معلم الصدق، ولا سيما وأن عددًا من النصوص الأخرى تنطق بغضب الله على هذا الكاهن الفاسد.٣٣ وأن معلم الصدق بموجب التعليقات القمرانية هو الوارد ذكره في المزمور السابع والثلاثين الذي: «لا يتركه الرب في يده ولا يُؤثمه في قضائه». والواقع أنه ليس هنالك أي نص قمراني يثبت قتل معلم الصدق قتلًا أو صلبه صلبًا، وفي مخطوط دمشق ما يُشير إلى وفاته وفاةً طبيعية، فإنه «ينضم إلى قومه»٣٤ انضمامًا كما انضم إبراهيم من قبله وإسحاق وغيرهما من البطاركة.٣٥
ولا تزال أخبار معلم الصدق غامضة ضئيلة، وجُلُّ ما يمكننا أن نقوله اليوم هو أنه كان كاهنًا ومؤسسًا لمنظمة قمران.٣٦ وأن هذه المنظمة تفرعت عن الحسيديين «ذوي البأس في إسرائيل» الذين خرجوا مع يهوذا المكابي، وأنزلوا نقمتهم بالقوم الذين خذلوهم الذين أيدوا ألكيموس صديق أنطيوخوس أبيفانس.٣٧ وإذا صحَّ الافتراض أن كتاب الترانيم «المزامير» الذي وُجد في كهوف قمران٣٨ هو من مُخلَّفات معلم الصدق تمكَّنَّا من القول: إن الله خصَّ هذا المعلم منذ نعومة أظفاره بنعمه، وحلَّ محل والديه.٣٩ وأن المعلم لبَّى هذه الدعوة فأصبح مُعلمًا لمن حوله.٤٠ وأن الله أنار سبيله فأبصر السر الإلهي.٤١ ووهب غيره مما أخذ رغم ما حلَّ به من اضطهاد دل على نقيض هذه المقدرة:
لقد أنرتَ بواسطتي كثيرين، وأظهرتَ قوتكَ التي لا قياس لها، وهيَّأتَ لي أن أعرف أسراركَ الغامضة، وأن تتمجد بي إتمامًا لتدبير لا يُدرك.٤٢
وأُبعد المعلم ولكن الله أسكن العاصفة وخلَّص نفسه.٤٣ فعاد بخبرته أبًا للأتقياء.٤٤
ويُستدَل مما جاء في عهود البطاركة الاثني عشر، ومما جاء في عهد لاوي في نصه اليوناني.٤٥ ومن التعليق على نبوة حبقوق.٤٦ أن السبب الذي أدَّى إلى انفصال جماعة قمران كان خروج الكهنة على الناموس والتقليد بالجشع والتنعم ومماشاة المتهلِّنين، وأن معلم الصدق هدف إلى إنشاء شعب إسرائيلي جديد يسلك سبيل الخلاص الذي أعده الله وأعلنه بواسطة الأنبياء، وأنه أوجب على من اختاره الله؛ ليكون في عِداد الشعب الجديد العودة، إلى طُرُق الآباء الذين قضوا في الصحراء أربعين عامًا قبل دخولهم أرض الميعاد، كما أوجب الابتعاد عن العالم والتعاون معًا في عيشة مشتركة مقدسة تقوِّي النفوس في مقاومة الشر، وتجعلها تتذوق الحياة الملائكية منذ انقضاء الدهر، وأنذر أن لا بد من دخول قوى النور في حرب طاحنة ضد قوى الظلام.٤٧

من هو معلم الصدق؟

ولا ندري من هو معلم الصدق، فمُخلَّفات قمران خالية من ذكر اسمه، وكذلك مخطوط دمشق والأدب المعاصر. ولا يجوز والحالة هذه القطع بشيء من أمر هويته. وقد استسرَّت على العلماء معرفته، فذهبوا في تعيين شخصه مذاهب لا فائدة من استعراضها جميعها، ويكفي ذكر أهمها وأقربها إلى قواعد المنطق وحدود الاجتهاد.

فالأب ميليك يبدأ بالتعرُّف بشخصية الكاهن الكاذب لعله يستدل بذلك على شخصية معلم الصدق، فيقول: «إن نصوص قمران تذكر بوضوح أن الكاهن الكاذب سُجن ولاقى عذابًا أليمًا على يد أعدائه؛ لأنه تظلَّم معلم الصدق وجماعته، فأذلَّه أعداؤه حتى الموت.٤٨ وأنه أضلَّ كثيرين فشيَّد مدينة بالدم وأنشأ جماعة بالنفاق.»٤٩ وتذكر هذه النصوص أيضًا أن الكاهن الكاذب اشتُهر أولًا بالصدق، فلما تولَّى الحكم في إسرائيل تجبَّر وابتعد عن الله وأخلف، فخان عهد الله طامعًا في المال، فجمعه كالأشرار فصادر أملاك الشعب مُكدِّسًا فوق رأسه جزاءَ الذنوب.٥٠ وهكذا فإن هذا الكاهن الكاذب يبدو في نصوص قمران كاهنًا حاكمًا مُحاربًا مصادرًا مشيدًا يقع في النهاية في يد أعدائه، فيلقى عذابًا أليمًا ويموت موتًا. وهي أخبار لا تنطبق على سيرة شخص بقدر ما تتفق مع أخبار يوناثان المكابي (١٦٠–١٤٢) خامس أبناء متتيا وخلف يهوذا، فإن يوناثان خرج من المحنة التي حلت باليهود بعد موقعة بير زيت حيث لقي يهوذا حتفه وتمكَّن بغزواته في شرق الأردن. وفي البِقاع من جمع مقادير من الأموال، ثم قضت ظروف ديمتريوس الملك الهليني بأن يتقرَّب من يوناثان، فأذن له أن يجمع جيوشًا ويتسلَّح بالأسلحة، فأقام يوناثان في أوروشليم، وطفق يبني ويجدد المدينة.
وسمع الإسكندر بن بالاس خصم ديمتريوس بالمواعيد التي عرضها ديمتريوس على يوناثان، فكتب إلى يوناثان يُقيمه كاهنًا أعظم في أمَّته، وأرسل إليه أرجوانًا وتاجًا من ذهب (١٥٢)، ثم قائدًا وشريكًا (١٥٠–١٤٩).٥١ وهكذا فإن يوناثان ظل حتى السنة ١٥٠ قبل الميلاد متَّبعًا سياسة والده وأخيه مُحافظًا على استقلال إسرائيل، ساعيًا لإقامة الحق وتطبيق الناموس وإعادة الملك لله، ثم غرَّر بنفسه فتدخل في سياسة الدولة السلوقية المجاورة، وطمع في استغلال ظروفها الداخلية الحرجة، فقَبِل رئاسة الكهنوت من يد ديمتريوس الملك الوثني، وحاكمية سورية من يد أنطيوخوس السادس، فأمسى في نظر المُقدسين المتزمتين من اليهود خارجًا على التعاليم السماوية، مُتخليًا عن الإله العلي، جاحدًا. ووجد يوناثان من أيَّده في سياسته الزمنية غير الدينية التي أفسد بها الهدف المقدس، فهبَّ الأتقياء المقدسون يقاومون خُدَّام الدنيا وأباطيلها وأعمال الخداع والخيانة.٥٢ وتزعَّم هذا الاستياء الشديد جماعة من الكهنة أغاظهم تحول الكاهن الأعظم إلى قائد مأجور، وقام أحدهم «معلم الصدق» يوجب مقاطعة الخونة، ويؤكد أن تحقيق الهدف الرباني لا يمكن أن يتم إلا بالابتعاد والانفصال عن الجاحدين الأثمة، وعندئذٍ تمَّ الخروج الذي ورد ذكره في مخطوط دمشق، واستقر «المعلم» وأتباعه في قمران معتزلين متنسكين، واهتم يوناثان لهذا التصدع في الصفوف وهذه المقاومة السلبية، فنزل هو نفسه إلى قمران لتسوية الأمور ولمِّ الشعث. ولعله هدَّد وتوعَّد ولكنه لم يُفلح. وفي السنة ١٤٣ قبل الميلاد تمكَّن تريفون القائد، يمين ألكسندروس بالاس ومؤيد ابنه أنطيوخوس السادس، من القبض على يوناثان في عكة ونقله إلى أنطاكية حيث أُمر به فقُتل.٥٣
ويرى هذا الرأي نفسه الأب فرمس Vermès، ولكنه يجعل من سمعان خلف يوناثان كاهنًا كاذبًا يزور قمران.٥٤ وقد يكون وقد لا يكون، ولكن الإشارة الرابعة في العهود Testimonia قد تكون إلى يوناثان وإلى سمعان معًا.٥٥ وقد جاء في سفر المكابيين الأول (١٠ : ١٠) أن يوناثان: «أقام في أوروشليم، وطفق يبني ويجددها»، وجاء أيضًا (١٤ : ٣٧) أن سمعان: «أسكن فيها رجالًا من اليهود وحصَّنها لصيانة البلاد والمدينة، ورفع أسوار أوروشليم.»

ويستبعد أن يكون هيركانوس الثاني هو الكاهن الكاذب، فإنه على الرغم من وقوعه في يد الفرت أسيرًا في السنة ٤٠ قبل الميلاد، وعلى الرغم من شنقه بأمر هيرودوس في السنة ٣٠ قبل الميلاد، فإنه لم يعد صالحًا للكهنوت بعد شرم أذنيه!

وقد اختلف العلماء في تعيين الكاهن الكاذب ومعلم الصدق وتشعبت آراؤهم. ولعل السبب في هذا التباين أن مُخلَّفات قمران محدودة، وأن نصوصها التي تتعلق بهذا الموضوع مبهمة غامضة ومخرومة ناقصة، وأن المراجع التاريخية المعاصرة قليلة في عددها، عمومية في مواضيعها، خالية من التفاصيل الدقيقة اللازمة لأجل البت في أمر الكاهن والمعلم. ومن أهم أسباب هذا الاضطراب والشقاق أن معظم الباحثين في هذا الموضوع هم لُغويون لا مؤرخون، ولم يسبق لهم أن تدرَّبوا في النقد التاريخي وسلامة الاستنتاج، وجميع ما يقع تحت علم المصطلح. ومما يلفت النظر أن هؤلاء الباحثين يصرفون معظم وقتهم في تهديم ما يقوله غيرهم، ولا ينتقلون من النقد السلبي إلى العمل الإيجابي. فتتعارض أهواؤهم قبل تباين آرائهم. ومن هنا اعتمادنا أبحاث الأبوين دي فو وميليك والأستاذ بوروز وتقديم آرائهم على افتراضات غيرهم.

وليس لنا أن نذكر هنا جميع هذه الافتراضات والآراء، ولو فعلنا لاضطررنا أن نفرد لها كتابًا خصوصيًّا. وقد يكفي أن نلخص بعضها لتبيان تباينها. فهنالك من يجعل الظرف التاريخي الذي ظهر فيه الكاهن الكاذب ومعلم الصدق سابقًا لعهد المكابيين، فيرى معلم الصدق في شخص أوقيا الثالث الكاهن الأعظم معاصر أنطيوخوس الرابع أبيفانس (١٧٥–١٦٤)، ويرى الكاهن الكاذب في شخص منلاوس، وبعض من يقول هذا القول يفرق بين صاحب الكذب وبين الكاهن الفاسد، فيرى الأول في شخص أنطيوخوس، والثاني في شخص منلاوس. وأضعف ما في هذا القول كله أنه ليس فيما نعلم عن أونيا ما يخوِّل جعله مُعلم الصدق، وأنه ليس في نصوص قمران ما يخوِّلنا التفريق بين صاحب الكذب والكاهن الفاسد.٥٦
وهنالك من يجعل الظرف الذي ظهر فيه معلم الصدق ظرف الثورة المكابية، وهؤلاء يرون في الألفاظ العبرية التي تشير إلى معلم الصدق معنًى غير معنى «المعلم». فهذا المؤسس هو الموجه لا المعلم، وعندئذٍ يصبح القول في نظرهم بأن هذا الموجه هو إما متتيا المكابي أو ابنه يهوذا، والكاهن الكاذب الفاسد هو في نظر هؤلاء ألكيموس، الذي طمع أن يصير كاهنًا أعظم، فأمسى كافرًا، في نظر المقدسيين من إسرائيل.٥٧ ويكون المعلم الصادق، والحالة هذه، أحد أولئك الحسيديين الذين أوقع ألكيموس بهم.٥٨
وعلى الرغم من أن أرسطوبولس الأول (١٠٤-١٠٣) أظهر التكبُّر والتجبُّر، واستصغر تاج الكهنوت ومات ميتةً شنيعة، فإن أحدًا من العلماء الباحثين لم يربط بينه وبين الكاهن الكاذب، ولكن عددًا منهم يرون في شخص أخيه ألكسندروس ينايوس (١٠٣–٧٦) ما يتَّفق وشخصية الكاهن الكاذب، فهو الطامح الطامع الداعر الفاسق الذي نكَّل بالفريسيين وقتل وجوههم واعتلَّ بحُمَّى الربع، فدامت عليه ثلاث سنوات ونهكت جسمه. ويرى هؤلاء أن معلم الصدق هو إما أليعازر أو يهوذا الذي أنَّب يوحنا هيركانوس، واستهدف غضب ألكسندروس ينايوس.٥٩
وذهب دوبون صومر Dupont-Sommer وغيره إلى أن أرسطوبولوس الثاني (٦٨–٦٣) هو الكاهن الكاذب، وأن أونيا الصدِّيق الذي أمر به أرسطوبولوس في السنة ٦٥ قبل الميلاد، فقُتل هو المعلم الصادق، وأن الظرف الذي تمت فيه هذه الحوادث هو ظرف الفتح الروماني على يد بومبيوس. ويُشير هؤلاء العلماء إلى الذُّل الذي حلَّ بأرسطوبولوس عندما حمله بومبيوس معه مُقيَّدًا إلى رومة كما يشيرون إلى وفاته مسمومًا في بلد من بلدان سورية، كما جاء في حروب اليهود ليوسيفوس، وأغرب ما في موقف دوبون صومر مداعبته لأحد النصوص في التعليق على حبقوق؛ ليخلُص إلى أن معلم الصدق «ظهر لجماعته بعد قتله ككائن إلهي»!٦٠ فليس في اللفظ الوارد ما يُوجب هذا الاستنتاج؛ أي القول بظهور إلهي. وقد يكون الشخص الذي ظهر لهذه المناسبة الكاهن الكاذب لا معلم الصدق!٦١
وعثر تيخر Teicher، الأستاذ في جامعة كايمبردج الإنكليزية، على اللفظ «أبيونيم» في التعاليق القمرانية، واطَّلع على ما كتبه مرغوليوث منذ خمسين عامًا عن مخطوط دمشق.٦٢ وعلى ما ذهب إليه زيتلن الألماني٦٣ فقال: إن جماعة قمران كانوا من الآبنيين Ebionites المسيحيين الأولين الذين استمسكوا بالناموس، فعارضوا بولس وغيره ممن أحب أن تكون الرسالة عالمية لا يهودية فقط!
والواقع أن الثلاثي العبري «أَبَنَ» هو كالثلاثي العربي نفسه، يدل على مجرد الافتقار والزهد. وليس كل زاهد فقير آبني! ثم إن القول بآبنية قمران يستوجب القول مع الأستاذ تيخر بأن مُخلَّفات قمران تعود إلى ما بعد القرن الأول بعد الميلاد، وأن أزمة العنف التي أدَّت إلى درج الدروج في الكهوف هي عاصفة الاضطهاد الشديد التي أثارها الإمبراطور ذيوقليتيانوس في السنة ٣٠٣ بعد الميلاد، وهي أقوال لا تتفق مع مُعطيات أعمال التنقيب الفنية في خرائب قمران والكهوف المجاورة. والقول مع تيخر بآبنية الدروج وغيرها من المُخلَّفات يقضي بالقول معه بأن «المعلم» هو السيد المسيح، وبأن الكاهن الكاذب هو بولس الرسول! وهو قول مردود في أساسه للفارق الكبير بين تعاليم السيد المخلص وتعاليم معلم الصدق كما سنرى؛ ولأنه يضطرنا إلى القول بأن بولس كان كاهنًا يهوديًّا وهو لم يكن.٦٤
ورأى روث Roth — الأستاذ في جامعة أوكسفورد — في السنة ١٩٥٧ أن القمرانيين كانوا من «الغيورين» الجليليين الذين قاوموا رومة في السنة ٦٦ بعد الميلاد، فمهَّدوا بثورتهم إلى خراب المدينة المقدسة في السنة ٧٠، وأن الكاهن الكاذب هو أليعازر بن حنانيا، وأن معلم الصدق هو مناحيم بن يهوذا الذي قُتِل في تلك السنة نفسها على قلة عوفل.٦٥ ثم رأى الأستاذ روث أن النصوص القمرانية لا تُجيز الاستنتاج بأن «المعلم» قُتل، فاقترح في رسالة أخرى أن يكون المعلم الصادق أليعازر نسيب مناحيم وخلفه في قيادة الغيورين، ووافقه في هذا زميله الدكتور درايفر Driver.٦٦
ويلاحظ في الرد على الأستاذين الإكسفورديين أن مخلفات قمران، ولا سيما التعليق على المزمور السابع والثلاثين، تجعل من «المعلم» كاهنًا، أما مناحيم فإنه بموجب شهادة يوسيفوس بن يهوذا الجليلي مؤسس حركة الغيورين في حوالي السنة ٦ بعد الميلاد، ولا إشارة البتة إلى علاقته بالكهنوت أو انتسابه إلى عائلة كهنة. ثم إن أخبار الغيورين تدل على أنهم أرادوا أن يلجئوا إلى العنف والاغتيال لتحرير إسرائيل. هم الإسخريطيون أصحاب الخنازير. هم جماعة من الإرهابيين الذين رأوا في الإرهاب وسيلة للوصول إلى هدف أسمى. أما القمرانيون فإنهم جماعة من التائبين الزاهدين المتواضعين المحبين الذين آثروا أن يبتعدوا عن العالم ليعدوا طريق الخلاص، والحرب عندهم بين أبناء النور وأبناء الظلام هي حرب انقضاء الدهر لا حرب قريبة الوقوع ضد رومة وعمالها. والدرج الذي يحمل أخبار هذه الحرب هو درج سابق لظهور الغيورين، هو أثر من آثار القرن الأول قبل الميلاد.٦٧
وفي السنة ١٩٥٧ أصدر حاييم ربين، الأستاذ في الجامعة العبرية، كتابه «الأبحاث».٦٨ فرأى في جماعة قمران «حابورة» من حابورات الفريسيين التي شاع نظامها في القرن الأول قبل الميلاد. والحابورة في العربية هي «مقعد اليهود في مجامعهم»، ويرى حاييم أن حابورات القرن الأول التي انتظمت لتطبيق الناموس تطبيقًا تامًّا، ولتطهير الجسد والنفس كانت أكثر استمساكًا وأشد انضباطًا من حابورات العهد الربوني المتأخر، وأن حابورة قمران تعود إلى عصر الانتقال من العهد الفريسي القديم إلى العهد الربوني المتأخر؛ أي: إلى منتصف القرن الأول بعد الميلاد.
وأول ما يؤخذ على حاييم أن استنتاجه لا يتفق من حيث الزمن مع معطيات التنقيب في خرائب قمران، ثم ليس هنالك في أي مرجع من المراجع ما يدل على أي خِصام بين الحابورات الفريسية القديمة والحابورات الربونية المتأخرة، وكذلك فإن التقويم القمراني يختلف كل الاختلاف عن التقويم الفريسي.٦٩

سد الثُّلمة

وأسفرت أعمال التنقيب في خرائب قمران عن ظهور ثُلمة في تاريخ هذه الخرائب تمتد من السنة ٣١ قبل الميلاد حتى السنة ٤ قبل الميلاد. فليس هنالك ما يدل على سكنى هذه الخرائب في هذه الفترة، فكيف نفسِّر هذه الظاهرة الأثرية على ضوء الماضي المعروف من المصادر التاريخية الأخرى؟ والجواب العلمي هو أنه ليس لدينا أي دليل راهن يمكننا الاسترشاد به؛ فقد يكون السبب في ذلك أن الزلزال الذي حلَّ بقمران في السنة ٣١ قبل الميلاد أفزع الإخوان فأبعدهم. وقد يكون السبب قحطًا حلَّ بالمنطقة، فأدَّى إلى الجوع فالرحيل. وقد يكون عطف هيرودوس الكبير على الحاسيين وشعور هؤلاء بأنه لم يبقَ من موجب لاستمرار العزلة أو الإقامة في قمران. وقد يكون السبب وَهَنًا حلَّ بصبر بعض الإخوان، فسئموا الانتظار فخرجوا.٧٠ ويرى البعض أن الإخوان نزحوا إلى دمشق في هذه الفترة، وأنهم لم يعودوا إلى قمران قبل عهد أرخيلاوس خلف هيرودوس.
والواقع أنه ليس لدينا من المعلومات التاريخية الثابتة الراهنة ما يمكِّننا من الأخذ بهذا الرأي أو ذاك، وأن هذا هو السبب الأساسي في تفرق رجال الاختصاص في الرأي في أمر هذه المخطوطات. ولو تجرَّدوا وعادوا إلى العقل والمنطق لاضطروا أن يقولوا: «لا ندري»، وأن يقفوا عند هذا الحد منتظرين أدلة جديدة وأُفقًا أوسع. وقد يفيد القارئ أن يطَّلع على حجج هؤلاء في تباين آرائهم حول مخطوط دمشق، ووجود جماعة في دمشق وعلاقة هذه الجماعة بقمران وما إلى ذلك.٧١
١  Milik, J. T., Dix Ans, 24.
٢  Cross, F. M., A Manuscript of Samuel in an Archaic Jewisk Bookhand from Qumran: 4 Q Sam, Jour. Bib. Lit., 1955, 165–172.
٣  Burrows, Trever, and Brownlee, The Isiah Manuscript and the Habbakuk Commentary, (1950).
٤  Cross. F. M., et Skehan. P., Textes Bibliques de la Grotte 4, Rev. Bib., 1956, 56–60.
٥  Milik, J. T., Dix Ans, 29.
٦  Rev. Bib., 1956, 572.
٧  Qumran Cave I. 17, 18.
٨  Charles, R. H., Apocrypha and Pseudepigrapha, (1913), II, 1-82; Tisserant E, Rev. Bib., 1921, 55–86; Milik, J. T., Dix Ans, 29-30.
٩  Charles, R. H., Op. Cit., II, 163–277.
١٠  Milik, J. T., Dix Ans, 31.
١١  Martin, F, Le Livre d'Henoch, (1906): Lods, A., Hist. de la Lit. Hebraïque et Juive, (1950), 880–882; Mowinckel, S., He That Cometh, (1956), 354 f.
١٢  Qumran, Cave I, 21, Rev. Bib., 1955, 398–406, 1956, 66.
١٣  Spicilegium Patrum, (Oxford) I, 145–253.
١٤  Jonge, M. de, The Testaments of the Twelve Patriarchs. A study of Their Text, Composition and Origin, (Assen, 1953).
١٥  Rev. Bib., 1955, 297-298. Dix Ans, 31-32.
١٦  Rabin, Ch., The Zadokite Documents, 83.
١٧  Dupont-Sommer, A., Les Ecrits Esseniens, (1959), 316–318.
١٨  Avigad. N., and Yadin, Y., A Genesis Apocryphon. A Scroll from the Wilderness of Judaea; Milik, J. T., Dix Ans, 33, n. 1.
١٩  Milik, J. T., Dix Ans, 33.
٢٠  Burrows, M., More Light, 400.
٢١  Rev. Bib., 1956, 401–415.
٢٢  Dupont-Sommer, A., Les Ecrits Esseniens, 129–178.
٢٣  Burrows, M.: Dead Sea Scrolls, 24–26.
٢٤  Ibid., 371–389; Dupont-Sommer, A., Op. Cit., 83–127.
٢٥  Gaster, T. H., Scriptures of Dead Sea Sect, (1957), 260–284; Sukenik, E., Dead Sea Scrolls of the Hebrew University, (1955), Pl. 16–34, 47.
٢٦  Sukenik, E., Op. Cit., Pl. 35–48; Qumran, Cave I, 35; Dupont-Sommer, A., Op. Cit., 213–266; Gaster, T., Op. Cit., 131–197.
٢٧  Milik, J. T., Dix Ans, 36.
٢٨  Ibid., 36.
٢٩  Gaster, Th., Scriptures of the Dead Sea, 221–254; Dupont-Sommer, A., Ecrits Esseniens, 267–290.
٣٠  Gaster, Th., Op. Cit., 240-241.
٣١  Talmon, M. S., Biblica, 1951, 549–563.
٣٢  Milik, J. T., Dix Ans, 49; Gaster, Th., Op. Cit., 239.
٣٣  Gaster, Th., Op. Cit., 238–241.
٣٤  C D 8, 21; 19, 35; 20, 14.
٣٥  تكوين ٢٥ : ٨; ٣٥ : ٢٩.
٣٦  I Q P. Hab, II, 55.
٣٧  ١ مكابيين ٣ : ٤٢، ٧ : ١٣ وما يليه.
٣٨  I Q H.
٣٩  I Q H III, 29–32, 34–36.
٤٠  I Q H, XIV, 17–19.
٤١  I Q H, IV, 53.
٤٢  I Q H, IV, 27 f.
٤٣  I Q H, V, 16–18.
٤٤  I Q H, VII, 19–23, 25.
٤٥  T L, XIV,.
٤٦  I Q P Hab, IX, 4 f.
٤٧  Milik, J. J., Dix Ans, 54-55.
٤٨  I Q H, IX, 9–12.
٤٩  I Q H, X, I, 9–13.
٥٠  I Q H, VIII, 8–13.
٥١  سِفر المكابيين الأول، الفصل العاشر.
٥٢  I Q H, X, 11 f.
٥٣  Milik, J. T., Dix Ans, 55–57.
٥٤  Vermès, G., Cahiers Sioniens, 1953, 71–74; Les Manuscrits de Juda, 92–100.
٥٥  Journ. Bib. Lit., 1956, 185.
٥٦  Burrows, M., Dead Sea Scrolls, 162–168.
٥٧  ١ مكابيين ٧، ٥ وما بعده.
٥٨  Burrows, M., Op. Cit., 168–171.
٥٩  Burrows, M., Op. Cit., 174–179.
٦٠  Dupont-Sommer, A., Ecrits Des Esseniens, Habacuc, 278, n. 6.
٦١  Burrows, M., Op. Cit., 156-157.
٦٢  Margoliouth, G., The Saducean Christians of Damascus, The Expositor, 1911, 499–517, 1912, 213–235.
٦٣  Zeitlin, S., A Commentary on the book of Habbakuk, Jewish Quarterly, 1949, 235–247, and several other articles.
٦٤  Teicher, J. L., The Dead Sea Scrolls — Documents of the Jewish Christian Sect of Ebionites, Journ. of Jewish Studies, (1951), 67–99, 115–143, (1952), 53–55, 87-88, 111–118, 128–132, 139–150, (1953), 1–13, 49–58, 93–103, 139–153, (1954), 38, 93–99, etc..
٦٥  Roth, C., Le Point de vue de vue de I'historien sur les manuscrits de la Mer Morte, Evidences, (1957), 37–43, (1958), 13–18.
٦٦  Roth, C., The Historical Background of the Dead Sea Scrolls, (1958).
٦٧  Dupont–Sommer, A., Ecrits, 409–415.
٦٨  Rabin, Ch., Qumran Studies, Oxford, 1957.
٦٩  Baumgartren, J. M., “Qumran Studies”, Journ. of Bil. Lit., 1958, 249–257.
٧٠  I Q H, VII, 7 f and 10–14.
٧١  Burrows, More Lights, 219–227.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤