الفصل السادس

الجماعة والنصارى

إرنست رينان والمسيح

ولا نُريد أن نعرِّف بكتاب أرنست رينان «حياة يسوع». فرينان أمعن في التيه حتى عُميت عليه وجوه الرُّشد، ولم يعد يُقام لكتابه وزنٌ ولا يُشغَل به فكر. وإنما نرغب في ذكر من اقتدى برينان وائتمَّ بهديه وذهب مذهبه، نُريد أن نلفت النظر إلى تسرُّع عالم فرنسي كبير له مكانته في الأوساط العلمية الفرنسية والعالمية، إلى موقف أندره دوبون صومر André Dupont-Sommer من أعمال الكشف والاستكشاف في قمران وضواحيها، وإلى كيفية ابتساره لأخبارها واعتسار الكلام فيها اعتسارًا.
فإنه ما كاد يطَّلع على «بعض» النصوص، كما ظهرت في السنة ١٩٤٩، حتى اختضرها اختضارًا، فأكَّد شدة التشابه بين أخبار مُعلم الصدق فيها وأخبار السيد المسيح، ورأى هذا التشابه من النوع الذي يفقد الرُّشد.١ وتناقلت رأيه الجرائد وأذاعته محطات الإذاعة، فأثار عاصفة من الاحتجاج في الأوساط الكاثوليكية الفرنسية، وانبرى من ناقشه الحساب فأصبح التشابه، في ترجمة كتابه إلى الإنكليزية في السنة ١٩٥٢، من النوع الذي «يؤثِّر في الذهن كثيرًا».٢ ولكنه لا يزال يتنبَّل برينان ويُوائمه ويُحاكيه فيعجب، في كتابه الأخير «آثار الحاسيين الخطية» الذي ظهر في العام الفائت ١٩٥٩، بسلامة استنتاج رينان في قوله، منذ مائة عام: «إن النصرانية حاسية نجحت نجاحًا كبيرًا»!٣

النيويوركي والمسيح

واهتمت إدارة جريدة النيويوركي New Yorker لما نشرته باريز وأذاعته، فأوفدت أحد كبار المُخبرين لديها، السيد إدموند ويلسون، إلى شاطئ البحر الميت لينقل لقرائها الخبر اليقين، فجاء ويلسون إلى فلسطين، واتَّصل بأهم الرجال ثم تحدَّث إلى الأستاذ دوبون صومر، فأثَّر في نفسه فنقل رسالة الأستاذ الفرنسي عبر المحيط إلى العالم الجديد، ونشر في أيَّار السنة ١٩٥٥ مقالًا ضافيًا في موضوع المخطوطات أَبانَ فيه أن ما تميزت به النصرانية نشأ في أوساط يهودية حاسية بين جدران خرائب قمران، وتطوَّر فأخذ شكله المعروف في الأناجيل والرسائل.
وأضاف ويلسون أن الاكتشافات التي تمت في ساحل البحر الميت أقضَّت مضجع الإكليريكيين الكاثوليكيين وقساوسة البروتستانت وأحبار اليهود في آنٍ واحد؛ فإنها أبانت للمسيحيين مِن هؤلاء أن ما اعتقدوه مُنزَّلًا هو في الواقع يهودية متطوِّرة، وأوضحت لليهود منهم أن النصرانية ليست في حدِّ ذاتها خروجًا على دين الآباء وإنما هي مذهب من مذاهبهم! وخلُص إلى القول بأن مَن لا دين له أقرب إلى معالجة هذه المخطوطات وأهميتها ممن يقول بدين مُعيَّن، وأن أفضل رجال العصر للبتِّ في هذه الأمور هو أندره دوبون صومر. ولم يعلم ويلسون، على ما يظهر أن أستاذ السوربون نشأ كاهنًا ثم جحد فأنكر.٤

أليغرو والمسيح

ويوحنا بن مرقس بن ألِّغرو Allegro إنكليزي لا يزال في السادسة والثلاثين من العمر، بدأ علومه الجامعية في السنة ١٩٥١، وتخصَّص في اللغات الشرقية في جامعة مانشستر ثم في أوكسفورد، وما كاد ينال شهادة البكالوريوس حتى أُلحق في السنة ١٩٥٢ بجماعة المشتغلين في دروج البحر الميت، ثم عاد بعد سنة واحدة ليشغل كرسي اللغات السامية في جامعة مانشستر. وأدَّى هذا التقدم السريع، فيما يظهر، إلى شيء من الغرور في النفس والتسرُّع في الحُكم. فإنه في الثالث والعشرين من كانون الثاني سنة ١٩٥٦ أذاع من محطة لندن أن بعض نصوص قمران التي لم تُنشر أظهرت أن «معلم الصدق» صُلب على عهد ألكسندروس ينَّايوس، وأن جسده أُنزل عن الصليب ودُفن، وأن تلاميذه انتظروا قيامته ومجيئه الثاني، وأن يسوع الناصري لم يكن أول من صُلِب ودُفِن وقام!

وما كاد زملاء أليغرو في مدينة القدس يسمعون ما أذاعه أصغرهم سنًّا، وأحدثهم عهدًا حتى بادروا إلى تسطير رسالة مشتركة وجَّهوها إلى جريدة التايمس الإنكليزية، في السادس عشر من آذار سنة ١٩٥٦، وأكَّدوا فيها أنهم عادوا إلى جميع ما وُجد من نصوص في كهوف قمران وغيرها، فلم يجدوا فيها ما يُؤيِّد قول أليغرو. وأضافوا أن أليغرو لا بُدَّ أن يكون إمَّا قد أساء فهم بعض النصوص، وإمَّا قد بنى استنتاجه في إذاعته على سلسلة من الافتراضات التي لا تُؤيِّدها النصوص.

ونقلت موجات الأثير خطاب أليغرو عبر المحيط إلى الولايات المتحدة؛ فالتقطته الصحف والمجلات، واتجرت به، فأحدث ضجةً ليس بعدها ضجة، وظن البعض أن دروج البحر الميت هزَّت أركان النصرانية هزًّا! ولم تعبأ بعض دور النشر الشهيرة بالصفعة التي تلقَّاها أليغرو من زملائه العلماء، فطلبوا إليه إعداد أشياء للنشر ففعل، فجاءت مضللة.٥

داود المُوحِّد

ورأت دار كتاب المنتور Mentor Book أن تُلقي بدلوها؛ فطلبت إلى بول دافيز Powell Davies، قسيس شيعة الموحدين في واشنطون، أن يكتب في هذا الموضوع الدقيق، فصنف كتابًا أسماه «معنى دروج البحر الميت.»٦ وضمَّنه تهجمًا شديدًا على علماء اللاهوت في الولايات المتحدة، فاتَّهمهم بالمُداهنة والخِداع والتضليل، وقال إنهم يستعملون مصطلحات تعني أشياء مُعيَّنة عندهم وأشياء أخرى في صفوف المؤمنين العاديين، ثم قال متحديًا: «إن نصوص قمران تُوجب إعادة النظر في جذور المسيحية، وإن رجال اللاهوت لا يجرءون على شيء من هذا!» ومن هنا العبارة على غِلاف الكتاب: «إن في دروج البحر الميت أعظم اعتراض على صحة العقيدة المسيحية منذ أن أعلن دروين نظريته في النشوء والارتقاء!»٧ والموحدون في بريطانيا والولايات المتحدة لا يعترفون بأُلوهية السيد المسيح.

والواقع إن رجال اللاهوت كانوا ولا يزالون في طليعة من عُنِي بهذه الدروج منذ اللحظة الأولى التي أصبحت فيها هذه الدروج في مُتناول رجال البحث، وأنهم لا يزالون سبَّاقين إلى الحقيقة العلمية في هذا الموضوع لا يُجارَون ولا يُبارَون. وهم يعترفون بأهمية هذه الدروج لفهم الجوِّ اليهودي الذي نشأت فيه نصرانيتهم، ولكنهم لا يزالون يرَون فروقًا جذرية هامة جدًّا بين تعاليم قمران وتعاليم الإنجيل.

الراعي الصالح ومُعلِّم الصلاح

وراعينا الصالح الجالس عن يمين الآب هو قُطب الدائرة في إيماننا. هو الكلمة الذي صار جسدًا. هو أحد أقانيم الثالوث القُدُّوس، به كان كل شيء وبغيره لم يكوَّن شيء مما هو كائن. هو رأس الكنيسة والنصرانية، وبدونه ليس لنا كنيسة ولا وجود. أما مُعلِّم الصلاح أو «مُعلِّم الصدق» فإنه كان عند الجماعة بشرًا كسائر البشر لم يُستَغث به ولم يُبتَهل إليه، ولم تحمل الجماعة اسمه، ولم يُدعَوا به ولم يكن المسيح المنتظر. وجُلُّ ما وصل إليه أنه كان مُفسِّر الأسفار «بنعمة من الله».

ولم يُصلب معلم الصلاح كما يدَّعي أليغرو، وليس في النصوص ما يدل على ذلك، وجُلُّ ما هنالك تعليق على آية من نبوَّة نحوم ينصُّ هكذا: «هو الأسد المُفترِس الذي علق الناس [بشكل لم يحدث] في إسرائيل من قبل»، وما جاء بين المعقوفين هو افتراض لجأ إليه أليغرو ليسد ثلمًا في المخطوط. ولو صحَّ الافتراض أن المُشار إليه هنا هو معلم الصلاح لبقي هنالك فارق كبير بين موت المسيح على الصليب وبين الصلب في هذا التعليق؛ فالمسيح مات فاديًا، وليس في نصوص قمران كلها مايشير إلى مثل هذا الفداء؛ فموت معلم الصلاح فيها حادث من حوادث تاريخ الجماعة لا جزء من إيمانهم، أما صلب المسيح وصليبه، فإنهما لا يزالان من صُلب الإيمان رغم مر العصور.٨
figure
مقطع من درج تفسير كتاب حبقوق (العمود ١١).
وليس هنالك ما يُؤيد القول إن معلم الصدق ظهر في الهيكل بعد وفاته كما ادَّعى بذلك الأستاذ دوبون صومر في كتابه الأول.٩ فالنص الذي يستند إليه جاء في التعليق على حبقوق. وليس فيه ما يُبيِّن أن الذي ظهر في الهيكل كان المعلم الصادق لا الكاهن الكاذب. ويرجح رجال الاختصاص، كما سبق وأشرنا، أن المقصود هنا هو الكاهن الكاذب لا المعلم الصادق.

مجلس الاثني عشر والرسل

ومما ذهب إليه أستاذ السوربون دوبون صومر أن معلم الصدق سبق يسوع في النظام والتنظيم، فأقام مجلسًا اثني عشريًّا كما انتقى يسوع رسلًا اثني عشر.١٠ وإن الكنيسة لم تكن في أوائل عهدها سوى نسخة عن جماعة قمران. ويتيه أتيامبل Etiemble في شِعاب الباطل؛ فيؤكد أن مسيح الجليل لم يأتِ بشيء لم يكن معروفًا قبله عند الجماعة في قمران، وأنه جاء يُعيد تمثيل الدور نفسه الذي كان قد سبقه إليه مسيح أول في عهد أرسطوبولوس الثاني.١١ ومن إعادة تمثيل هذه الرواية انتقاء الرسل الاثني عشر؛ فالقمرانيون خضعوا لمجلس اثني عشري أيضًا.١٢ وهي حُجة واهية باطلة، ولو صحَّ الأخذ بها لاضطررنا أن نقول مع الإرلندي أن الأسماك والبشر من جنس واحد؛ لأن النوعين يخرجان من الماء مبللين. والماء في هذه الحالة هو معين العهد القديم الذي استقى منه القمرانيون والرُّسل ورُسل الرُّسل، والمسيح نفسه قال (متى ١٩ : ٢٨): «إن هؤلاء الرسل الاثني عشر، سيجلسون هم أيضًا على اثني عشر كرسيًّا ليدينوا «أسباط إسرائيل الاثني عشر».» واستعارة السيد في هذا هي من العهد القديم. وليس هنالك ما يُحتِّم أنها أُخذت من أدب قمران. ولم يبقَ للكنيسة مجلس اثنا عشري يُدير شئونها؛ فإنه بعد انتحار يهوذا الإسخريوطي وانتخاب متيَّا؛ ليحل محله لم يعُد الرسل إلى الانتخاب مرة ثانية، وتُوفُّوا وزالت بوفاتهم الهيئة الاثنا عشرية. وهنالك فَرق آخر بين الهيئة الرسولية وبين المجلس القمراني؛ فالأنظمة القمرانية أوجبت وجود ثلاثة من الكهنة في المجلس كما سبق وأشرنا، ولم يكن بين الرسل كهنة من نسل هارون أو غيره.

حنانيا وصفَّيرة

وباع حنانيا مع صفيرة امرأته ملكًا له، واختلس بعض الثمن وامرأته تعلم بذلك، وأتى ببعضه وألقاه عند أقدام الرسل (أعمال ٥ : ١–٣)، ولم يكن بين النصارى الأوَّلين محتاج؛ لأن كل الذين كانوا يملكون ضِياعًا أو بيوتًا كانوا يبيعونها ويأتون بأثمان المبيعات ويُلقونها عند أقدام الرسل فيوزَّع لكل واحد على حسب احتياجه (أعمال ٤ : ٣٤-٣٥). ولكن هذه الاشتراكية النصرانية اختلفت عما كان سائدًا بين الجماعة في قمران في أمرين؛ أولهما أن القمراني لم يضع ملكه الشخصي تحت تصرف الجماعة إلا بعد انتهاء فترة الامتحان والتدريب؛ أي: بعد سنتين من ترشيحه، وكان ذلك إجباريًّا. والثاني أن الاشتراكية المسيحية لم تدم إلا مدة وجيزة جدًّا، وكانت تقادمهم اختيارية.

وضوء لا معمودية

وليس في مُخلَّفات قمران، كما سبق وأشرنا، ما يدل على أن الجماعة مارسوا معمودية مُعيَّنة كمعمودية يوحنا أو معمودية الرسل، وجُلُّ ما هنالك وجوب التوضؤ مِرارًا وتكرارًا لمناسبات متعددة.١٣ ويوحنا والرسل لم يتطلبوا سوى معمودية واحدة تجري مرةً واحدةً ولا تتكرر، والسيد المسيح أبطل الوضوء والتطهير الذي مارسه اليهود أجمعين حتى عهده؛ فقد جاء في إنجيل مرقس (٧ : ١) أن الفريسيين وقومًا من الكَتَبة اجتمعوا إلى يسوع، فرأوا بعض تلاميذه يأكلون الطعام بأيدٍ نَجِسة؛ أي: غير مغسولة، فلاموهم، فسألوه: لِمَ تلاميذك لا يجرون على سُنَّة الشيوخ ولكن يأكلون الطعام بأيدٍ نجسة؟ فقال: «لا شيء مما هو خارج عن الإنسان إذا دخله يمكن أن ينجسه، بل ما يخرج من الإنسان هو الذي ينجس الإنسان.» وليس في غسل الأرجل وقت العشاء الرباني ما يُفيد بشيء من الوضوء والتطهير الشائعين عند اليهود؛ فإن السيد قال بعد أن غسل الأرجل (يوحنا ١٣ : ١٣): «أنتم تدعوني مُعلمًا وربًّا، وحسنًا تقولون: لأني كذلك. فإذا كنتُ أنا الرب والمعلم قد غسلتُ أرجلكم فيجب عليكم أنتم أن يغسل بعضكم أرجل بعض؛ لأني أعطيتكم قدوة.» ويُلاحظ هنا فرق آخر بين ما كان يجري من اغتسال وتطهير ووضوء عند اليهود، وفي قمران من جهة والمعمودية المسيحية من الجهة الأخرى؛ وهو أن الاغتسال في قمران لم يرتبط بشخص معلم الصدق، وأن معمودية يوحنا لم تُؤذن بالدخول في منظمة مُعيَّنة، أما المعمودية فإنها كانت ولا تزال باسم المسيح وله.١٤ وهي في النصرانية ذات مفعولٍ ما خطر قط ببالٍ أنها عِلَّة جديدة تشرك الإنسان في حياة الله وفي قداسته.

الوجبة المُقدَّسة وسر الشكر

وقد التفت عدد من رجال الاختصاص إلى وجبات الطعام في قمران وأعاروها اهتمامًا خصوصيًّا ورأوا فيها ما يُوازي سر الشكر عند النصارى، ولا سيما وأن الوثيقة ذات العمودين تذكر وجبة يقدم فيها الخبز والخمر، ويشترك فيها المسيحان الكاهن الأعظم وسليل داود، فيجعلانها ترمز إلى المملكة المسيحية المنتظرة.١٥ والواقع أنه ليس بين سر الشكر وهذه الوجبة المقدسة من خصائص مُشتركة سوى استعمال الخبز والخمر؛ فالمسيحيون الأوَّلون والمتأخِّرون يرون في ممارسة سر الشكر، مع بولس الرسول، «إخبارًا بموت الرب إلى أن يأتي»، ويرون أيضًا مع السيد نفسه أن الخبز الذي يأخذون هو جسد الرب، وأن الكأس التي يشربون هي دمه للعهد الجديد «الذي يهراق عن كثيرين». وليس في الأدب القمراني كله شيء من هذا.
ويشك رجال الاختصاص في أن تكون وجبات الطعام اليومية التي مارسها الحاسيون، كما جاء في تاريخ يوسيفوس وفي كلام فيلون١٦ مقدسة؛ فتناولُ الخبز والخمر فيها كان أمرًا عاديًّا في ذلك العصر، شائعًا في جميع الأوساط اليهودية ولمناساب عديدة متنوعة. ويكون عندئذٍ وُرود ذكر الخبز والخمر في الوجبة الكبرى المنتظرة وُرودًا عَرَضيًّا لا جوهريًّا. ويصبح الأمر المهم في وصف هذه الوجبة تقدُّم الكاهن الأعظم على المسيح سليل داود.١٧

الفوارق العمومية

وهنالك بالإضافة إلى ما تقدَّم شرحه فوارق عمومية بين النصرانية والقمرانية تجعل منهما حركتين مُختلفتين في الجوهر؛ فالقمرانية بقيت مذهبًا يهوديًّا، ولم تخرج من هذا الدور أبدًا، أما النصرانية فإنها كانت ولا تزال رسالة عالمية. هكذا أرادها السيد المسيح. وقد عبَّر عن إرادته قبل ارتفاعه إلى السماء بقوله لرُسُله وأعقابهم من بعدهم على تعاقب الزمن: «لقد دُفع إليَّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض، فاذهبوا وتلمِذوا جميع الأمم، وعمِّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس، وعلِّموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به، وها أنا ذا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر.» (متَّى ٢٨ : ١٨–٢٠)، وقال لهم أيضًا: «اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها» (مر ١٦ : ١٥). وهكذا فإن الكرز بيسوع شمل اليهود والأمم، فخرجت النصرانية بذلك من دور مذهب يهودي إلى رسالة عالمية كبرى.

ولم تكن مملكة يسوع من هذا العالم (يوحنَّا ١٨ : ٣٦) ولم تقم بالسيف؛ لأن كل من يأخذ بالسيف بالسيف يهلك (متى ٢٦ : ٥٢)، وإنما قامت وتقوم بمحبة الله للبشر وبتجسد ابنه الوحيد واعتلائه الصليب، وموته لأجل البشر وقيامته من الموت. أما جماعة قمران فإنهم استعدوا لخوض معركة زمنية بالسيف، ولم يبقَ بعد تجسُّد المسيح أي تقدُّم لأي طبقة على أخرى كما كانت الحال في قمران وبين اليهود أجمعين. «ولو كان بالكهنوت اللاوي كمال، فأية حاجة كانت بعد أن يقوم كاهن آخر على رتبة ملك صادق، فإن ربنا خرج من يهوذا من السِّبط الذي لم يصفه موسى بشيء من الكهنوت.»

•••

ويطيب لنا١٨ في هذا الباب، أن ننقل شهادة كبير بين الأدباء ومفكري العالم العربي هو الأستاذ عباس محمود العقَّاد الذي بعد أن اطَّلع — بكل ما هو معروف عليه من رصانة في النقد ودقة في التقصِّي — على ما انتهت إليه بحوث العلماء في شأن مخطوطات البحر الميت أو لفائف وادي قمران، يخرج بهذه الشهادة: «إن الجديد في الأمر لا يزال من عمل السيد المسيح، أو من فتوحه المُبتكرة في عالم الروح … وإن كل مشابهة بين السيد المسيح وبين مذاهب الدين قبل عصره تنتهي عند الظواهر والأشكال، ولا تدل على فضلٍ أسبق من فضله فيما ارتقت إليه عقائد الدين على يديه.»١٩ وتوضيحًا لحكمه وشهادته ننقل المقطع كله الذي يتعلق بكشوف البحر الميت، قال الأستاذ العقاد:

لقد كُنا نقرأ في الصحف والمجلات أن لفائف وادي القمران تشتمل على نسخة كاملة من كتاب أشعيا، ونسخة مقروءة سليمة بعض السلامة من تفسير نبوَّات حبقوق التي حقَّقتها الحوادث التالية، وشذرات من تفسير كتاب ميخا، وقصة تسمى قصة الحرب بين أبناء النور وأبناء الظلام، وأناشيد منظومة للدعاء والصلاة، ونسخة آرامية من كتاب غير معتمَد بين كُتب التوراة، وقصاصات متفرِّقة من كتب شتى تلحق بكتب العهد القديم، ونسخة مُفصَّلة لآداب السلوك المرعية بين جماعة النُّسَّاك الذين أقاموا زمنًا بصومعة وادي القمران. وكلها مودعة في جِرار كبيرة يوجد الكثير منها في بعض الكهوف المجاورة. ويبدو من أجل ذلك أنها قد تشتمل على ودائع من هذا القبيل لا تقدَّر عند العلماء الحفريين، وعلماء المقابلة بين الأديان وجمهرة اللاهوتيين على الإجمال.

ولو أن أحدًا أراد أن يُحيط بأطراف الكتب والرسائل التي تناولت مسائل البحث في تلك اللفائف خلال السنوات الخمس الأخيرة لما استوعبها جميعًا، ولو فرَّغ لها كل وقته. وحسْبُ القارئ العربي أن يعلم أنها بُحِثت من كل ناحية تشترك في موضوعاتها الدينية أو اللغوية أو التاريخية أو الحفرية أو الكيماوية أو الصناعية، ولم تخلُ منها لغة من لغات الحضارة الغربية: فقد تناولت البحوث مسائل الهجاء وقواعد الكتابة، واختلاط اللهجات واللغات، ومواد الورق والجلد والمِداد واللصق والتجفيف، كما تناولت أسماء الأعلام وما إليها من الألقاب والصفات وما يقترن بها من تواريخ الشعوب والقبائل، ومواقع الأرض وعوارض الجو والفلَك وأصول العقائد وشعائر العبادات في كل فترة على حسب حظِّها من الأصالة أو الاستعارة، وعلى حسب المصطلحات التي تلازمها ولا تُعهد في غيرها، واتسع نطاق البحث إلى غاية حدوده لتحقيق نماذج البناء، وصناعة الآنية الفخارية، وعادات الأكل والشرب، وأزياء الكِساء، ومواد الأطعمة، وثمرات النبات. وتراوحت تقديرات الزمن بين القرن الخامس قبل الميلاد والقرن الأول بعد الميلاد. ولم تستقر بعد كل هذا التوسع وكل هذا الإمعان والتدقيق على قرار وثيق.

ومن البديهي أننا لم نستوعب هذا الطوفان الزاخر من الفروض والنقائض، وعلى كل ما في هذه البحوث من مواضع المراجعة والعدول، ومواضع التشكيك والترجيح، بل نحن لم نشعر بضرورة الاستيعاب والاستقصاء؛ لكي نخلُص منه إلى القول الجديد في تاريخ السيد المسيح. ولكننا عمَدنا إلى نُخبة من كتُب الثقات التي ألمت برءوس المسائل ولخَّصت محور الخلاف ومبلغه من الدلالة في كل مسألة منها، وخرجنا منها بالخُلاصة المطلوبة فيما يعنينا، فكانت هذه الخُلاصة أن الجديد في الأمر لا يزال من عمل السيد المسيح أو من فتوحه المُبتكَرة في عالم الروح، وأن كل مشابهة بينه، عليه السلام، وبين مذاهب الدين قبل عصره، تنتهي عند الظواهر والأشكال، ولا تدل على فضل أسبق من فضله فيما ارتقت إليه عقائد الدين على يديه.

ولعل أرجح الأقوال التي خلصتْ إليها أكثر البحوث والمناقشات أن نُسَّاك صومعة القمران كانوا زُمرة من «الآسيين»، إحدى الطوائف المُتشدِّدة في رعايتها للأحكام الدينية، وانتظارها للخلاص القريب بظهور المسيح الموعود. وهذه الطوائف أقرب الطوائف الإسرائيلية إلى التطهر من أدران المطامع والشهوات، وأنهم كانوا ينتظمون في النِّحلة على ثلاث درجات، وأن أحدهم يُقسِم مرة واحدة يمين الأمانة والمحافظة على سر الجماعة، ويحرم عليه القسم بالحق أو بالباطل مدى الحياة … والمادة عندهم مصدر الشر كله، والسرور بها سرورٌ بالدنس والخباثة، وكانوا يتآخون ويصطحبون اثنين في رحلاتهم، وهم مؤمنون بالقيامة والبعث ورسالة المسيح المُخلِّص، معتقدون أن الخلاص بعثٌ روحاني يهدي الشعب إلى حياة الاستقامة والصلاح.

فإذا صحَّ أن زُمرة وادي القمران كانت تنتمي إلى الآسيين.٢٠ وصحَّ أكثر من ذلك أن صومعتهم كانت هي البرِّية التي كان يلوذ بها السيد المسيح ويوحنا المعمدان؛ فالجديد في هذا الكشف هو توكيد الحاجة إلى رسالة السيد المسيح، أو توكيد فضل الدعوة المسيحية في إصلاح عقائد القوم كما وجدتها على أرقاها وأنقاها بين أتباع النِّحَل اليهودية قُبيل عصر الميلاد.

فالكتب الآسينية، أو الآسية، التي وُجدت في الصومعة تصف لنا نظام الجماعة وآداب سلوكها وشدَّة حرصها على الشعائر الموروثة بين قومها، ولكنها لا تزال مصابة بداء القوم الذي انتهى إلى غاية مداه في تلك الفترة، وهو داء الجمود على النصوص والحروف، والانصراف عن جوهر العقيدة ولُباب الإيمان. ولا تزال النِّحلة الآسينية نفسها أدل على الحاجة إلى الإصلاح من النِّحل المُتَّهمة أو المُحاطة بالشبهات؛ لأن النحلة المُتَّهمة تجد إصلاحها عند الراشدين من أبناء الديانة القائمة. وكل نِحلة يهودية زائغة عن سوائها تجد من يقوِّمها من العارفين باستقامتها في نطاق الديانة اليهودية. ولكن الحاجة إلى الإصلاح إنما تثبت كل الثبوت إذا بلغت النِّحلة أرقى ما تبلغه، واستنفدت كل طاقتها تهذيبًا وتطهيرًا وإخلاصًا وتذكيرًا، ولم تزل بعد ذلك قاصرة عن تزويد الروح بما تتعطَّش له وتفتقر إليه.

وكذلك كانت النحلة الآسينية التي كشفت عنها لفائف وادي القمران، أيًّا كان اسمها، وأية كانت وجهتها، فإنها لم تُمهد لرسالة السيد المسيح إلا كما يُمهد المريض للعلاج أو يُمهد الداء للدواء. ولا شك في أن اللفائف المكشوفة ذخيرة نافعة في بابها، ولكنها لا تُضيف إلى معلوماتنا عن حقائق الرسالة المسيحية، ولا تُخرجنا بشيء جديد في أمر هذه الرسالة، غير أنها تؤكِّد لنا فضلها ولزومها في أوانها. فمهما يكن من غرض النِّحلة الآسينية فهي في أصولها وفروعها بقيةٌ محافظة على تراثها مُتشدِّدة في محافظتها، ناظرة إلى أمسها حتى في التطلُّع إلى الغد المرجوِّ انتظارًا للمُخلِّص الموعود على حسب النبوُّات الغابرة. ولهذه الآفة الوبيلة، آفة التشدد في عبادة المراسم والنصوص، كانت الدعوة المسيحية رسالة لازمة تعلِّم الناس ما هم في حاجة إلى أن يتعلَّموه كلما غرقوا في لُجَّة راكدة من الحروف الميتة والأشكال المُتحجِّرة. تعلمهم أن العقيدة مسألة فكرة وضمير، لا مسألة حروف وأشكال … وهذه هي رسالة السيد المسيح في ذلك العصر الموبوء بجموده وريائه على السواء؛ لأن الرياء إنما هو في باطنه جمود على وجهه طلاء (حياة المسيح ١٤–١٧).

١  Dupont-Sommer, A., Apercus Préliminaires sur les Manuscrits de la Mer Morte, (1950), 122.
٢  The Dead Sea Scrolls, 99.
٣  Les Ecrits Esseniens Découverts Près de la Mer Morte, (1959), 23, 283, 284.
٤  Wilson, E., The Scrolls from the Dead Sea, (Revised and Enlarged from the New Yorker, May, 1955), Oxford, 1955.
٥  Allegro, J. M., The Dead Sea Scrolls, “The Story of the Recent Manuscript Discoveries and Their Momentous Significance for Students of the Bible”, Pelican Book, 1956; The People of the Dead Sea Scrolls, Routledge and Kegan Paul, 1959.
٦  Powell Davies, A., The Meaning of the Dead Sea Scrolls, N. Y., 1956.
٧  The Greatest Challenge to Christian Dogma since Darwin's Theory of Evolution.
٨  Culman, O., The Significance of the Qumran Texts for Research into the Beginnings of Christianity, Journ. Bib. Lit., 1955. 217; Silver, A. H., Where Judaism Differed, 174.
٩  The Dead Sea Scrolls, 27 f.
١٠  Ibid., 99 f.
١١  Les Temps modernes, Jan., 1951, 1291 f.
١٢  Fritsh, C. T,, The Qumran Community, (1956), 120.
١٣  I Q S, V, 13-14.
١٤  Burrows, M.: Dead Sea Scrolls, 286, 320 f, 332, 339, 373, 377; More Light 59, 115, 372; Milik, J. T., Dix Ans, 66-67. Rowley, H. H., The Dead Sea Scrolls and the New Testament, (1957), 13–16; Ploeg, van der J., The Excavations at Qumran, 211-212.
١٥  I Q S A, II, 11–22; Discoveries in the Judaean Desert, (Barthelemy and Milik), I, 110 f, 117 f, pl. XXII.
١٦  Josephus, Bell. Jud., II, 8; Antiq,, XVII, 1; Philon, Quod Omnis, 86; Apologia, 11.
١٧  Burrows, M., More Light, 115, 268, 300, 365 ff.
١٨  هذا الملحق تنقله هنا «المسرَّة».
١٩  حياة المسيح ص١٥.
٢٠  نُرجِّح أن الاسم مأخوذ من كلمة «الآسي» بمعنى الطبيب، وهي تقابل كلمة الترابيين Therapeuts اليونانية بمعنى المتنطِّسين (العقاد).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤