الفصل الثاني

مستشار الأمراء

الحالة الفلورنسية

في وقت مبكر من عام ١٥١٣ سجَّلَتْ عائلة مديتشي أروع انتصاراتها على الإطلاق. ففي الثاني والعشرين من شهر فبراير توجَّهَ الكاردينال جوفاني دي مديتشي إلى روما بعد علمه بوفاة يوليوس الثاني، وفي الحادي عشر من مارس خرج من اجتماع الكرادلة السري وهو في منصب البابا ليو العاشر. من ناحية، كان هذا يمثِّل ضربةً أخرى لآمال مكيافيللي؛ لأنه أكسب النظام الجديد في فلورنسا شعبيةً غير مسبوقة؛ فجوفاني كان أول فلورنسي ينال منصب البابا، ووفقًا لما رواه لوكا لاندوتشي — كاتِب اليوميات الذي عاش في ذلك الزمن — ظلت المدينة تحتفل بإضرام النيران في الهواء الطلق وإطلاق المدافع طوال أسبوع تقريبًا. لكن من ناحية أخرى، كان هذا التطور ضربةَ حظٍّ جيدٍ غير متوقَّعة لمكيافيللي؛ لأنه دفع الحكومةَ إلى إعلان عفوٍ عامٍّ باعتبار ذلك جزءًا من حالة الابتهاج العام، وأُطلِق سراح مكيافيللي.

وما إن خرج مكيافيللي من السجن حتى بدأ يخطِّط لكيفية تزكية نفسه للسلطات الجديدة في المدينة. كان زميله السابق فرانشيسكو فيتوري، قد عُيِّنَ سفيرًا إلى روما، فكتب له مكيافيللي مرارًا يحثه على أن يستخدم نفوذه «بحيث أبدأ في تولِّي بعض المهام من قداسة البابا» (م ٢٤٤)، لكن سرعان ما اتضح أن فيتوري كان غير قادِر على مساعدته، أو ربما غير راغب في ذلك. ولما ألمَّ بمكيافيللي إحباط كبير، انسحب إلى مزرعته الصغيرة في «سانت أندريا» كي يكون (كما كتب إلى فيتوري) «بعيدًا عن وجوه كل البشر» (م ٥١٦). ومن هناك بدأ لأول مرة يتأمَّل المشهد السياسي باعتباره محلِّلًا أكثر منه مشاركًا فيه. في بادئ الأمر بعث برسائل طويلةٍ وقويةِ الحجة إلى فيتوري عن الآثار المترتبة على استمرار التدخلات الفرنسية والإسبانية في إيطاليا، وبعد ذلك — كما أوضح في رسالةٍ له بتاريخ العاشر من ديسمبر — بدأ يشغل فراغه القسري بأن يتفكَّر على نحوٍ أكثر منهجيةً في خبرته الدبلوماسية ودروس التاريخ، ومن ثم في قواعد شئون الحكم.

fig2
شكل ٢-١: صفحة العنوان لواحدة من الطبعات الفينيسية الأولى لكتاب «الأمير».

ويشكو مكيافيللي في سياق الرسالة نفسها من أنه قد انحدر به الحال وصار يعيش في «بيت متواضع وعلى إرث هزيل»، لكنه يجعل حياته محتمَلة بأن ينكفئ على دراسته كلَّ مساء، ويقرأ عن التاريخ الكلاسيكي، ويدخل «البلاط القديم لقدامى الملوك» من أجل «الحديث معهم والاستفسار منهم عن أسباب تصرفاتهم». وكان أيضًا يتأمَّل الخبرات التي اكتسبها «طوال خمسة عشر عامًا» بينما كان «منخرطًا في دراسة قواعد شئون الحكم». وثمرة ذلك، كما يقول، أنه ألَّف كتابًا صغيرًا عن «الإمارة»، يتعمَّق فيه «بأقصى قدر ممكن في مناقشات حول هذا الموضوع». كان هذا «الكتاب الصغير» هو رائعة مكيافيللي؛ «الأمير»، الذي كان يُكتَب — كما تشير هذه الرسالة — خلال النصف الثاني من عام ١٥١٣، وأُتِمَّ بحلول «عيد الميلاد» من ذلك العام (م ٣٠٣–٣٠٥).

كان منتهى آمال مكيافيللي، حسبما أفضى إلى فيتوري، أن تعمل أطروحته هذه على أن تجذب إليه انتباه «حكَّامنا لوردات مديتشي» (م ٣٠٥). أحد أسباب اهتمامه بجذب الانتباه إليه بهذه الطريقة — كما يوضِّح إهداء كتاب «الأمير» — كان رغبته في أن يقدِّم لعائلة مديتشي «أمارة ما على ولائي» بوصفه واحدًا من رعاياهم المخلصين (٣)، لكن قلقه إزاء هذا الهدف أضعف على ما يبدو ما عُرِف عنه من موضوعية معاييره في النقاش؛ وذلك لأنه في الفصل العشرين من كتاب «الأمير» يقرِّر بتأثُّر كبير أن الحكَّام الجدد يمكن أن يتوقعوا اكتشاف «أن الرجال الذين كانوا يعتبرونهم محلَّ ارتياب في المراحل الأولى من حكمهم، أكثر جدارةً بالثقة ونفعًا من أولئك الذين كانوا موضع ثقتهم في البداية» (٧٤). ونظرًا لأن هذا الزعم قد وجد ما يناقضه تمامًا لاحقًا في كتاب «المطارحات» (٢٣٦)، فإنه من الصعب ألا يحسَّ المرءُ بأن شيئًا من التوسل الشخصي كان يداخِل تحليل مكيافيللي في هذه المرحلة، خاصةً وهو يكرِّر في قلق أنه «يجب ألا أغفل عن تذكير أي حاكم» بأن الرجال الذين كانوا «مَرْضيًّا عنهم في ظل النظام السابق» سوف يتبيَّن دائمًا أنهم «أكثر نفعًا» من أي شخص آخَر (٧٤-٧٥).

لكن الهمَّ الرئيسي لمكيافيللي كان بطبيعة الحال يتمثَّل في التوضيح لعائلة مديتشي أنه رجل جدير بالتعيين، لكونه خبيرًا سيكون من الحمق تجاهُله. فهو يصر في «إهدائه» على أنه من أجل «الفهم الصحيح لشخصية ولي الأمر»، من الضروري أن يكون المرء «رجلًا من الشعب» (٤). ويضيف بثقته المعتادة أن أفكاره من المرجح أن تكون ذات قيمة استثنائية، لسببين؛ فيشدِّد على ما له من «خبرة طويلة في الشئون المعاصرة» اكتسبها على مرِّ «سنوات عديدة» و«بقدر كبير من الصعوبة والخطورة»، ويشير في فخر إلى البراعة النظرية في قواعد شئون الحكم التي اكتسبها في نفس الوقت من خلال «الدراسة المتواصلة للتاريخ القديم»، باعتباره مصدرًا لا غنى عنه للحكمة، ظلَّ يتفكَّر فيه مليًّا «بقدر كبير من العناية» (٣).

إذن، ما الذي يظن مكيافيللي أنه يستطيع تعليمه للأمراء بوجه عام، وحكام عائلة مديتشي على وجه الخصوص، بناءً على قراءاته وخبرته؟ يشعر أي شخص عند بدء قراءته لكتاب «الأمير» بأن مكيافيللي على ما يبدو ليس لديه الكثير ليقدِّمه أكثر من مجرد إجراء تحليل جافٍّ مبالغ في تخطيطه لأنواع الإمارات ووسيلة «الاستحواذ عليها والاحتفاظ بها» (٤٢). فهو يبدأ في الفصل الافتتاحي بدراسة فكرة «الأرض المملوكة» على نحوٍ مستقلٍّ، مقرِّرًا أن كل الأراضي المملوكة «إما جمهوريات وإما إمارات»، ثم يستبعد مباشَرةً النوع الأول، مشيرًا إلى أنه سيحذف في هذه المرحلة أيَّ مناقشة عن الجمهوريات، وسيركز اهتمامه على الإمارات فحسب، بعد ذلك يقدِّم ملاحظة عادية مفادها أن جميع الإمارات إما موروثة وإما جديدة. وتارةً أخرى يستبعد النوع الأول، بحجة أن الحكَّام الذين ورثوا الحكم يواجهون صعوبات أقل، ومن ثَمَّ هم أقل حاجةً إلى نصحه. ثم يركِّز على الإمارات الجديدة، فيمضي ليميِّز بين تلك «الجديدة تمامًا» وتلك التي «مثل أطراف يضمها الحاكم إلى جسد الولاية التي ورثها» (٥-٦). في هذه المرحلة، لا يولي كثيرًا من الاهتمام للنوع الأخير، وبعد ثلاثة فصول تتناول «الإمارات المختلطة» ينتقل في الفصل السادس إلى موضوعٍ يبدو واضحًا أنه آخِذٌ بمجامع تفكيره أكثر من كل ما سواه، هو موضوع «الإمارات الجديدة تمامًا» (١٩). عند هذه المرحلة يُجرِي تقسيمًا آخَر لمادة كتابه، وفي الوقت نفسه يقدِّم ما يمكن أن يكون أهم طِبَاق في مجمل نظريته السياسية، وهو الطِّبَاق الذي يشكِّل محورَ كتاب «الأمير»؛ إذ يعلن أن الإمارات الجديدة إما أن يستحوذ عليها المرءُ ويحتفظ بها «بفضل قوته وشمائله»، أو من خلال «قوة أشخاص آخَرين وحظوظهم» (١٩، ٢٢).

وإزاء هذا التفرُّع الثنائي الأخير، يبدو مكيافيللي ثانيةً أقل اهتمامًا بالاحتمال الأول؛ فهو يقول بأن أولئك الذين ارتَقَوا السلطةَ من خلال «قوتهم» لا من خلال «الحظ» كانوا القادة «الأبرز»، ويسوق عليهم أمثلةً من نوع «موسى وسايروس ورومولوس وثيزيوس ومَن على شاكلتهم»، لكنه يعجز عن إيجاد أي أمثلة إيطالية معاصِرة (ربما يُستثنَى من ذلك فرانشيسكو سفورتسا)، وخلاصة نقاشه أن هذه «القوة» الظاهرة هذه يكاد يستحيل وجودها في خِضَمِّ ما يعجُّ به العالم الحديث من فساد (٢٠)؛ لذا فإنه يركِّز على حالة الإمارات المستحوَذ عليها من خلال «الحظ» وبعون قوات أجنبية. هنا يجد — في المقابل — أن إيطاليا المعاصرة حافلة بالأمثلة الدالة، التي يأتي في صدارتها مثال شيزاري بورجا، الذي «اكتسب منصبه من خلال حظ والده»، والذي تستحق مسيرته «أن تُتَّخَذ كنموذج يُحتذَى به» لجميع أولئك «الذين ارتَقَوا السلطةَ من خلال «الحظ»، ومن خلال نفوذ أشخاص آخَرين» (٢٨).

بهذا التصريح تنتهي كل التقسيمات العامة والفرعية التي أجراها مكيافيللي، ونصل إلى أكثر نوع من أنواع الإمارات ركز مكيافيللي عليه. في هذه المرحلة يصبح من الواضح أيضًا أنه رغم ما أظهره من حرص على أن يقدِّم حجته في شكل تسلسُلي من أنماط محايدة، كان قد نظم بدهاء النقاش على نحوٍ يسلِّط الضوءَ على نوع معين من الحالات، وذلك لما لها من أهمية محلية وشخصية. تلك هي الحالة التي تكون فيها الحاجة إلى مشورة خبيرٍ ضروريةً على نحوٍ استثنائي، ويكون الحاكم قد ارتقى السلطة من خلال «الحظ» وقوات أجنبية. لم يكن أي قارئ معاصر لكتاب «الأمير» ليخفق في إدراك أنه في المرحلة التي طرح فيها مكيافيللي هذا التصريح، كانت عائلة مديتشي قد استردَّتْ للتو سيادتها السابقة في فلورنسا نتيجةً لضربة حظٍّ مدهشة، إلى جانب القوة العارمة الأجنبية لقوات فرديناند ملك إسبانيا. لكن هذا بالطبع لا يعني أن حجة مكيافيللي يمكن دَحْضها بذريعة أنها لا تستند إلى أكثر من مجرد ارتباطها المحدود بالأحداث. ومع ذلك، يبدو فعلًا أنه أراد لقرَّائه الأوائل أن يركِّزوا اهتمامهم على زمان ومكان محدَّدَين؛ المكان هو فلورنسا، أما الزمان فهو الفترة التي كان يجري خلالها تأليف كتاب «الأمير».

التراث الكلاسيكي

عندما أحسَّ مكيافيللي ومعاصروه أنهم — كما حدث عام ١٥١٢ — مدفوعون إلى التفكُّر فيما يُحدِثه «الحظ» من تأثير هائل في الشئون الإنسانية، تحوَّلوا بوجه عام إلى المؤرخين والفلاسفة الأخلاقيين الرومان كي يتزوَّدوا بتحليل موثوق لشخصية إلهة الحظ. كان هؤلاء الكتَّاب قد رأوا أن الحاكم إذا كان يدين بمنصبه لتدخُّل إلهة «الحظ»، فإن أول درس يجب أن يتعلَّمه هو أن يخشاها، حتى عندما تغدق عليه الهبات. كان ليفيوس قد أورد شهادة مؤثِّرة للغاية عن هذا التصريح في «الكتاب الثلاثين» من سرده لتاريخ روما، في سياق وصفه اللحظة الدراماتيكية التي استسلم فيها حنبعل أخيرًا لسكيبيو الشاب. يستهل حنبعل خطاب استسلامه بأن يشير في إعجابٍ إلى أن غريمه المنتصر «رجل لم يَخُنْه الحظ قطُّ» حتى تلك اللحظة، لكن هذا لا يدفعه إلا لتوجيه تحذير خطير بشأن مكان «الحظ» في الشئون الإنسانية؛ فالأمر لا ينتهي عند فكرة أن «قدرة الحظ هائلة»، بل يصل إلى أن «أعظم قدر من حسن الحظ هو دائمًا الأقل جدارة بالثقة.» فإذا اعتمدنا على «الحظ» لكي يرفع شأننا، فإننا معرَّضون للسقوط «على نحو مروع» عندما يتحوَّل الحظ ويعاندنا، وهو ما سوف يفعله يقينًا في نهاية المطاف (٣٠ : ٣٠، ١٢–٢٣).

ومع ذلك، لم يحدث قطُّ أن اعتبر الفلاسفة الأخلاقيون من الرومان «الحظَّ» قوةً خبيثة لا محالة، على العكس من ذلك، كانوا يرون إلهة الحظ خيِّرة وحليفة محتملة يجدر محاولة جذب اهتمامها، والسبب في أهمية السعي لنيل صداقتها هو بالطبع أنها تمنح هبات «الحظ»، التي يفترض أنها أمنية كل الناس. وهذه الهبات يتنوع وصفها؛ فالكاتب سينيكا يؤكِّد على شرف المنزلة والثروات، وسالوست يفضِّل أن يذكر المجد والسلطة. لكن كان هناك اتفاق عام على أن أعظم هبات «الحظ» جمعاء، تتمثَّل في شرف المنزلة وما يستتبعه من مجدٍ. ويشدِّد شيشرون مرارًا في كتابه «الواجبات» على أن أعظم هبةٍ ينالها المرء هي «بلوغ المجد»، و«زيادة شرف المرء ومجده»، واكتساب «أصدق مجد» يمكن الفوز به (٢ : ٩، ٣١ و٢ : ١٢، ٤٢ و٢ : ١٤، ٤٨).

كيف، إذن، يمكن أن نقنع إلهة «الحظ» بأن تحوِّل ناظرها إلينا، وأن تغدق الهبات من أنعمها الوافرة علينا لا على سوانا؟ والجواب هو: صحيح أن «الحظ» إلهة، لكنها ما زالت امرأةً، ونظرًا لكونها امرأة، فإن أشدَّ ما يجذبها هو «الذكر»، الرجل الذي يتمتع بالرجولة الحقيقية؛ لذا فإن إحدى الصفات التي تحب أن تكافئها على نحوٍ خاصٍّ هي الشجاعة الرجولية. على سبيل المثال، يستشهد ليفيوس عدة مرات بقولٍ مأثور مفاده أن «الحظ يفضِّل الشجعان»، لكن أكثر الصفات نيلًا لإعجابها على الإطلاق هي «القوة»، صفة الرجل الحق. والفكرة الكامنة خلف هذا الاعتقاد ظاهرةٌ في أوضح صورها في كتاب شيشرون «مناظرات توسكولوم»، التي يقرِّر فيها أن المعيار الذي يجعل الرجل رجلًا بحق، هو التمتع بأعلى درجات «القوة». وتُستكشف تبعات هذه الحجة على نحو واسع في كتب «تاريخ» ليفيوس، حيث دائمًا ما تُعزَى النجاحات التي أحرزها الرومان إلى حقيقة أن «الحظ» حتمًا يُصاحِب «القوة»، بل يقوم على خدمتها أيضًا، ويبتسم بوجه عام لأولئك الذين يُظهِرونها.

ومع انتصار المسيحية، أُطِيح بهذا التحليل الكلاسيكي لمسألة «الحظ» كليًّا؛ فالرؤية المسيحية التي أوردها بوثيوس في أكثر صورها إقناعًا في كتابه «عزاء الفلسفة»، قائمةٌ على إنكار الافتراض الرئيسي بأن «الحظ» عرضة لأن يتأثَّر، وبذلك صارت إلهة الحظ تُصوَّر على أنها «قوة عمياء»، وبالتالي لا تحمل أي قدر من التعقُّل أو التمييز عند إغداق هباتها، وما عاد يُنظَر إليها باعتبارها صديقًا محتملًا، بل باعتبارها مجرد قوة لا ترحم، وما عاد يُرمز إليها بقرن الخصب، وإنما بعجلة التغيير التي تدور بلا توقُّفٍ «مثل انحسار الجزر وتدفُّق المد» (١٧٧–١٧٩).

هذه النظرة الجديدة إلى طبيعة «الحظ» اتفقت مع دلالة جديدة لأهميته؛ إذ بات يقال إن ما يميِّز الحظ من طيش وعدم اعتبار لجدارة المرء عند توزيع مكافآته، يذكِّرنا بأن هبات «الحظ» غير جديرة على الإطلاق بأن نسعى إليها؛ لأن الرغبة في الشرف والمجد الدنيوي — على حدِّ وصف بوثيوس — «لا تساوي شيئًا على الإطلاق في واقع الحال» (٢٢١)، ومن ثَمَّ فإن الحظ يعمل على توجيه خُطانا بعيدًا عن دروب المجد، وهذا يشجِّعنا على التطلُّع إلى ما هو خارج سجننا الأرضي بحثًا عن وطننا السماوي. لكن هذا يعني أن «الحظ»، على الرغم من طغيانه النزواتي، فإنه في حقيقة الأمر «خادم الرب»، أو أداة من أدوات العناية الإلهية؛ وذلك لأن جزءًا من تدبير الرب أن يُظهِر لنا أن «السعادة لا يمكن أن تقوم على الأشياء التصادفية لهذه الحياة الفانية»، وبهذا يجعلنا «نحتقر جميع الشئون الدنيوية، ونبتهج بفرحة السماء كي نتحرَّر من الأمور الدنيوية» (١٩٧، ٢٢١). ولهذا السبب تحديدًا، يستنتج بوثيوس أن الرب قد وضع مقاليد السيطرة على ثروات العالم في يدَيِ الحظِّ العاجزتين، وهدفه أن يعلِّمنا أن «الكفاءة لا يمكن بلوغها من خلال الثروة، وأن القوة لا يمكن نيلها من خلال المُلْك، وأن الاحترام لا يمكن اكتسابه من خلال المنصب، وأن الشهرة لا يمكن تحقيقها من خلال المجد» (٢٦٣).

أحدث التصالح الذي أجراه بوثيوس بين الحظ والعناية الإلهية تأثيرًا طويلَ الأمد على الأدب الإيطالي؛ فهو يشكِّل أساسًا لمناقشةِ دانتي لموضوع «الحظ» في المقطع السابع من «الجحيم»، ويشكِّل موضوعَ بحث «علاج كلا النوعين من الحظ» للشاعر الإيطالي بترارك. لكن، مع استعادة القِيَم الكلاسيكية إبَّان عصر النهضة، صار هذا التحليل لمفهوم «الحظ» بوصفه «خادم الرب» محلَّ اعتراض؛ نتيجةً للعودة إلى الرؤية الأقدم التي تذهب إلى وجوب التمييز بين «الحظ» والقدر.

هذا التطور نشأ من تغيُّر النظرة إلى طبيعة «تميُّز وكرامة» الإنسان، وهما سمتان لهما خصوصيتهما. عادةً ما كان يُعتقَد أن هذا ناجِم عن امتلاكه روحًا خالدة، لكن في أعمال مَن خلفوا بترارك نلاحِظ ميلًا متناميًا نحو تغيير بؤرة الاهتمام، بحيث يُسلَّط الضوء على حرية الإرادة، لكن كان هناك شعور بأن حرية الإنسان مهدَّدة بسبب النظر إلى «الحظ» بوصفه قوةً لا تُقهَر. وهكذا نجد ميلًا مقابلًا نحو نبذ أي اقتراح بأن «الحظ» محض أداة من أدوات العناية الإلهية. ويشكِّل الفيلسوف بيكو ديلا ميراندولا مثالًا صارخًا على ذلك في هجومه على علم التنجيم المزعوم، فيندِّد بهذا العلم لكونه يجسِّد الافتراض الباطل بأن النجوم حدَّدَتْ لكلٍّ منَّا «حظه» ساعة ولادته. بعد ذلك بوقت قصير، نبدأ في ملاحظة استحسان واسع النطاق لرأي أكثر تفاؤلًا بكثير يذهب إلى أنه — كما جاء على لسان كاسيوس بطل شكسبير في حديثه إلى بروتوس — إذا باءت جهودنا لبلوغ العظمة بالفشل، فيجب ألا يُلقَى اللوم في ذلك «على نجومنا وإنما على أنفسنا.»

وبناءً على هذا الموقف الجديد من الحرية، تمكَّنَ الفلاسفة الإنسانيون في إيطاليا في القرن الخامس عشر من إعادة تشكيل الصورة الكلاسيكية الكاملة لدور «الحظ» في الشئون البشرية. نجد ذلك في أطروحة ليون باتيستا ألبرتي «عن العائلة»، وأطروحة جوفاني بونتانو «عن الحظ»، وبأوضح صوره في الكراسة الدينية التي أعَدَّها إينياس سيلفيو بيكولوميني عام ١٤٤٤ تحت عنوان «حلم بالحظ»؛ حيث يحلم الكاتب أنه يسير في مملكة «الحظ»، ويقابل إلهة الحظ، التي توافِق على إجابة أسئلته، فتعترف بأنها تمارس سلطاتها على نحو متعمد؛ لأنه حينما سألها مستفسِرًا: «كم من الوقت تظلين كريمةً مع البشر؟» أجابَتْ: «ليس لفترة طويلة جدًّا.» لكنها لا تتجاهل على الإطلاق جدارة الإنسان، ولا تنكر فكرة أن «هناك مهارات يمكنك من خلالها تحقيق ما هو في صالحك.» وأخيرًا، عندما سألها عن أحبِّ الصفات إليها وأكثرها بغضًا في نظرها، أجابت في إيماء إلى فكرة أن «الحظ» يفضِّل الشجعان، معلِنةً أن «مَن يفتقرون إلى الشجاعة أبغض إليها من أي شخص آخَر.»1

عندما يأتي مكيافيللي إلى مناقشة «تأثير الحظ في الأمور البشرية» في الفصل قبل الأخير من كتاب «الأمير»، تُظهِر طريقة تناوله هذا الموضوع الشديد الأهمية أنه ممثل نموذجي لمواقف الفلاسفة الإنسانيين؛ فهو يستهلُّ هذا الفصل بأن يستحضر الاعتقاد المعهود بأن البشر «تحت سيطرة الحظ والرب»، وبأن يشير إلى المضمون الواضح بأننا «لا نملك دواءً على الإطلاق» يقينا من تغيُّر أحوال الدنيا؛ لأن كل أمر قد قدَّره الربُّ علينا مسبقًا (٨٤). بعد ذلك مباشَرةً، وعلى النقيض من هذه الافتراضات المسيحية، يقدِّم تحليلًا كلاسيكيًّا لمفهوم الحرية؛ فهو يسلِّم، بطبيعة الحال، بأن حرية الإنسان منقوصة حتمًا؛ لأن «الحظ» قوي للغاية، و«قد يكون المتحكم في نصف أفعالنا»، لكنه يصرُّ على أن الافتراض بأن مصيرنا مرهون تمامًا بيد الحظ يُعَدُّ «إلغاءً لحرية الإنسان». ولمَّا كان يؤمن إيمانًا راسخًا بوجهة النظر الإنسانية بأن «الرب لا يريد أن يفعل كل شيء، كي لا يحرمنا من حريتنا ومن المجد الذي يُنسَب لنا»، فهو يخلُص إلى أن ما يقرب من نصف أفعالنا خاضعة بالضرورة لسيطرتنا نحن، وليست خاضعةً لنفوذ «الحظ» (٨٤-٨٥، ٨٩).

إن أوضحَ تصوير قدمه مكيافيللي لهذا الشعور بأن الإنسان سيد مصيره له جذوره الكلاسيكية هو الآخر. فهو يؤكِّد أن إلهة «الحظ» امرأة، ومن ثَمَّ يسهل إغراؤها بالصفات الرجولية (٨٧)؛ لذا فهو يرى إمكانية حقيقية لأن يجعل المرء نفسه حليفًا للحظ، وأن يتعلَّم أن يفعل ما يتلاءم مع سلطات هذا الحظ، وأن يعمل على مقاومة طبيعته المتقلبة، وبالتالي يظلُّ ناجحًا في جميع شئونه.

وهذا يوصل مكيافيللي إلى السؤال الرئيسي الذي طرحه الفلاسفة الأخلاقيون الرومان في الأصل: كيف يمكننا أن نأمل في عقد تحالُفٍ مع «الحظ»، وكيف يمكننا أن نجعله يبتسم لنا؟ وهو يجيب بنفس الكلمات التي استخدموها من قبلُ؛ إذ يؤكِّد أن الحظ صديق الشجعان، وصديق مَن هم «أقل حذرًا وأكثر جسارةً». ويوضِّح فكرةَ أن أكثر ما ينال إعجاب إلهة الحظ، ويستدرُّ تجاوُبها هي «قوة» الرجل الحقيقي. فهو أولًا، يوضِّح النقطةَ السلبيةَ المتمثلة في أن الافتقار إلى «القوة» الرجولية هو أكثر ما يثير غضبها وبغضها، وكما أن وجود هذه «القوة» يعمل كسَدٍّ منيع يقي المرء هجومها، فإنها توجِّه غضبها دائمًا إلى حيث تعلم أنه «ما من حواجز أو سدود بُنِيتْ»؛ بل إنه يذهب إلى أبعد من ذلك بكثير، فيشير إلى أنها لا تُظهِر قوتها إلا إذا لم يتصدَّ لها الرجال «الأقوياء»، وهذا يعني ضمنيًّا أنها تعجب بهذه الصفة إعجابًا كبيرًا جدًّا إلى حدٍّ لا يجعلها أبدًا تصبُّ جامَ غضبِها على الذين يُظهِرون تلك الصفة (٨٥، ٨٧).

ومكيافيللي لا يكتفي بتكرار هذه الحجج الكلاسيكية، بل يزيد على ذلك بأن يضفي عليها ميلًا شهوانيًّا وفريدًا؛ فهو يُلمح بأن إلهة «الحظ» قد تجد في الواقع لذةً شاذةً في أن تُعامَل معاملةً عنيفةً؛ فلا يكتفي بأن يدَّعِي أن ««الحظ» امرأة، وإذا أراد المرءُ السيطرةَ عليها، فمن الضروري أن يعامِلها معاملةً خشنة»، بل يضيف أنها في الحقيقة «أكثر ميلًا لأن تستسلم للرجال» الذين «يعاملونها معاملةً أكثر جرأةً ووقاحةً» (٨٧).

في بعض الأحيان، كانت تُقدَّم فكرة أن الرجال قد يتمكنون من الاستفادة من «الحظ» بهذه الطريقة باعتبارها رؤية مكيافيللية خاصة. لكن، حتى في هذه الفكرة، يعتمد مكيافيللي على رصيد من الصور المألوفة؛ ففكرة أن «الحظ» يجب أن يُعانَد بعنف كانت محلَّ تركيز سينيكا، في حين أن بيكولوميني في «حلم بالحظ» مضى يستكشف ما ينطوي عليه هذا المعتقد من إيحاءات شهوانية، فهو حينما يسأل إلهة «الحظ»: «مَن الذي يستطيع أن يحتفظ بك أكثر من غيره؟» اعترفت أنها تنجذب أشدَّ الانجذاب إلى الرجال «الذين يشلُّون قوتي بالشجاعة الفائقة.» وأخيرًا، حينما يجرؤ على أن يسأل: «مَن أكثر الأحياء قبولًا بالنسبة لكِ؟» تخبره أنها بينما تنظر بعين الازدراء إلى «أولئك الذين يفرون مني»، تشعر بأشدِّ الإثارة «تجاه أولئك الذين يطاردونني ويدفعونني إلى الفرار.»1

وإذا كان الرجال قادرين على شلِّ قوة «الحظ»، وبالتالي على بلوغ أسمى أهدافهم، فلا بد أن يكون السؤال التالي الذي ينبغي طرحه: ما الأهداف التي ينبغي للأمير الجديد أن يضعها نُصْب عينيه؟ يبدأ مكيافيللي بأن يرسي حدًّا أدنى، مستخدِمًا عبارةً يتردد صداها في كتاب «الأمير». يجب أن يكون الهدف الأساسي «الحفاظ على الدولة»، وهو يعني بذلك أن الحاكم الجديد يجب أن يحافِظ على الحالة الراهنة للأمور، ويسيطر بصفة خاصة على النظام العام للحكومة، لكن إلى جانب الأهداف الرامية إلى الحفاظ على الدولة، هناك أهداف أكبر بكثير يجب السعي لتحقيقها، ومكيافيللي إذ يحدِّد ماهية هذه الأهداف يكشف من جديد أنه وريث شرعي بحق للمؤرخين والفلاسفة الأخلاقيين الرومان. فهو يفترض أن جميع الرجال يريدون في المقام الأول أن ينالوا هبات «الحظ»؛ لذا فإنه يتجاهل تمامًا فرض المسيحية الأرثوذكسية القويمة (الذي أكَّدَه، على سبيل المثال، القديس توما الأكويني في كتابه «حكم الأمراء») بأن الحاكم الرشيد يجب أن يتجنَّبَ إغراءات مجد الدنيا وثروتها، كي يتأكَّدَ من أنه سينال مكافآته السماوية. بل على العكس من ذلك، يبدو واضحًا لمكيافيللي أن أسمى الجوائز التي يتعيَّن على المرء أن يتبارى للفوز بها هما «المجد والثروة»؛ أروع هبتين تملك إلهة «الحظ» أن تهبهما (٨٥).

لكن مكيافيللي، شأنه شأن الفلاسفة الأخلاقيين الرومان، ينحِّي اكتساب الثروات جانبًا معتبرًا إياها مسعًى وضيعًا، ويذهب إلى أن أنبل أهداف الأمير «البعيد النظر والبارع» يجب أن يتمثَّل في إرساء شكلٍ من الحكم يكون «من شأنه أن يُكسِبه الشرف» ويجعله مجيدًا (٨٧). ويضيف أن الحكَّام الجدد تحديدًا يمكنهم حتى نيل «مجد مضاعف»؛ إذ لا تتسنى لهم فقط فرصة تدشين إمارة جديدة، بل أيضًا تثبيت دعائم هذه الإمارة «بقوانين جيدة، وأسلحة قوية، وحلفاء جديرين بالثقة، وسلوك يُقتدَى به» (٨٣). وهكذا فإن بلوغ الشرف والمجد في الدنيا هو الهدف الأسمى لمكيافيللي بقدر ما هو كذلك لليفيوس أو شيشرون؛ فحينما يسأل نفسه في الفصل الأخير من كتاب «الأمير» عمَّا إذا كانت ظروف إيطاليا مواتية لنجاح أي حاكم جديد، فهو يتعامل مع هذا السؤال على اعتبار أنه مرادف للتساؤل عمَّا إذا كان أي رجل «قوي» يستطيع أن يأمل في أن «يشكِّلها في قالب يُكسِبه الشرف» (٨٧). وحينما يُعرِب عن إعجابه بفرديناند ملك إسبانيا — أكثر مَن حظي باحترامه من بين كل الحكَّام الذين عاصَرَهم — يبرِّر ذلك بأن هذا الرجل قد فعل «أشياءَ عظيمة» جعلته «أكثر الملوك شهرةً ومجدًا في العالم المسيحي» (٧٦).

يعتقد مكيافيللي أن هذه الأهداف ليست صعبةَ التحقيق للغاية — على الأقل، في أدنى صورها — عندما يرث الأمير ولاية «اعتادَتْ على حكم مَن ينتمون إلى عائلة الحاكم الحالي» (٦). لكنها صعبة التحقيق جدًّا على الأمير الجديد، لا سيما إذا كان يدين بمنصبه لضربة حظ، فمثل هذه الأنظمة «لا يمكن أن تمد جذورها كما ينبغي»، ومعرَّضة لأن تهوي مع أول عاصفة عارِضة يشاء «الحظ» أن يرسلها عليها (٢٣)، ولا يمكنها أن تضع — أو بالأحرى يتحتم عليها عمليًّا ألا تضع — أي قدر من الثقة في استمرار «الحظ» الحسن؛ لأن هذا يعني الاعتماد على أقل القوى جدارةً بالثقة في الشئون الإنسانية. ويرى مكيافيللي أن السؤال التالي الأكثر حَسْمًا هو: ما المبادئ، وما التعاليم، التي يمكن أن تُقدَّم إلى حاكِم جديد، بحيث إذا «طُبِّقت بمهارة» سوف تجعله «يبدو قويًّا وراسخًا» (٨٣)؟ إجابة هذا السؤال هي موضوع الجزء الباقي من كتاب «الأمير».

الثورة المكيافيللية

تأتي النصيحة التي يقدِّمها مكيافيللي للأمراء الجُدُد في جزأين أساسيين؛ النقطة الأولى والجوهرية التي يوضِّحها هي أن «الأساسين الرئيسيين لأي دولة» هما «القوانين الجيدة والجيوش القوية»، يضاف إلى ذلك أن الجيوش القوية قد تفوق القوانين الجيدة أهميةً؛ لأن «من المستحيل أن توجد قوانين جيدة إلا إذا وُجِد جيش قوي»، بينما «إذا وُجِد جيش قوي فإن القوانين الجيدة توجد بالضرورة» (٤٢-٤٣). والمغزى — الذي عُبِّر عنه تعبيرًا يحمل لمسةً معتادة من المبالغة — هو أن الأمير الرشيد «يجب ألا يضع نُصْب عينيه هدفًا آخَر» سوى «الحرب وأساليبها وممارساتها»، «وألا يشغله هَمٌّ آخَر» أكثر منها (٥١-٥٢).

ويمضي مكيافيللي فيوضِّح أن الجيوش في الأساس نوعان: مرتزقة مأجورون وقوات مسلَّحة من أبناء الوطن. في إيطاليا كان نظام المرتزقة مطبَّقًا على نطاقٍ يكاد يكون شاملًا، لكن مكيافيللي يشرع في الفصل الثاني عشر في شنِّ هجوم شامل عليه، فيقول إن الإيطاليين ظلُّوا «لسنوات عديدة» «تحت سيطرة جيوش مرتزقة»، وكانت النتائج المترتبة على ذلك مروعة؛ فشبه الجزيرة برمته «احتلَّه تشارلز، ونهبه لويس، ودمَّرَه فرديناند، وعامَلَه السويسريون بازدراء» (٤٧). لم يكن من الممكن توقُّع تحسُّن الأحوال؛ لأن كل المرتزقة «بلا فائدة ويمثِّلون خطورةً»؛ فهم «مفكَّكون، وطموحون وغير منضبطين وغادرون»، وقدرتهم على تدميرك «مؤجَّلَة فقط إلى أن يحين الوقت، حينما يُطلَب منهم القتال» (٤٣). بَدَتِ العواقب واضحةً لمكيافيللي، فراح يعبِّر عنها بانفعال قوي في الفصل الثالث عشر، ويقرِّر أن الأمراء الحكماء دائمًا ما «يتجنبون استخدامَ هذه الفِرَق العسكرية ويؤلِّفون جيوشًا من رجالهم.» وهو مقتنع بهذا اقتناعًا قويًّا إلى حدٍّ يجعله يضيف الزَّعْم، الذي يكاد يكون سخيفًا، بأنهم «يفضِّلون الخسارة باستخدام قواتهم الخاصة على النصر باستخدام قوات أجنبية» (٤٩).

هذه النبرة الشديدة اللهجة في حاجة إلى بعض التفسير، لا سيما في ضوء حقيقة أن معظم المؤرخين قد انتهوا إلى أن نظام المرتزقة عادةً ما يعمل على نحوٍ بالِغِ الفعالية. أحد الاحتمالات أن مكيافيللي كان ببساطة يتبع تقليدًا أدبيًّا في هذه المرحلة، فالادعاء بأن المواطَنَة الحقَّة تتضمن حمل السلاح كان محلَّ تأكيد ليفيوس وبوليبيوس وأرسطو، ثم حمل رايتها عدة أجيال من الفلاسفة الإنسانيين الفلورنسيين بعد أن أحيا هذه القضية الجدلية ليوناردو بروني وتلاميذه. لكن، قد يكون من المستغرَب جدًّا أن يتَّبِعَ مكيافيللي أحب الأساتذة وأعزهم عنده بهذه الطريقة الخانعة، والاحتمال الأرجح أن مكيافيللي، على الرغم من هجومه بوجه عام على الجنود المأجورين، ربما كان يفكِّر بصفة خاصة في المصائب التي نزلت بمدينته الأم، التي قاست دون شك سلسلةً من المهانات على أيدي قادتها المرتزقة إبَّان الحرب الممتدة ضد بيزا؛ إذ لم تكن حملة عام ١٥٠٠ وحدها كارثة محقَّقة، بل حلَّتْ نكسة مماثلة عندما شنَّتْ فلورنسا هجومًا جديدًا عام ١٥٠٥ نتيجةً لتمرد قادة الجند، الذين كانوا مرتزقةً في أغلب الأحيان، حالما بدأ الهجوم، وفي غضون أسبوع كان لا بد من الانسحاب.

كما رأينا، أصيب مكيافيللي بالصدمة حينما اكتشف، وقت هزيمة عام ١٥٠٠، أن الفرنسيين يعتبرون الفلورنسيين محطَّ سخريةٍ بسبب انعدام كفاءتهم العسكرية؛ ولا سيما بسبب عجزهم عن إخضاع بيزا لسيطرتهم. وبعد تجدُّد الفشل عام ١٥٠٥، أخذ هذا الأمر على عاتقه ووضع خطةً مفصلة لإحلال قوات مسلَّحة من مواطني فلورنسا محلَّ القوات المأجورة التي تستخدمها. وافَقَ المجلس الأعلى على الفكرة لفترة مؤقتة في ديسمبر عام ١٥٠٥، وفُوِّض مكيافيللي ببدء التجنيد، وبحلول شهر فبراير التالي كان جاهزًا لإقامة أول عروضه العسكرية في المدينة، وهي مناسبة حظيت بإعجاب كبير من كاتب اليوميات لوكا لاندوتشي، الذي سجَّلَ يقول إن «هذا يُعتقَد أنه أرقى حدث على الإطلاق جرى ترتيبه لفلورنسا.»2 خلال صيف عام ١٥٠٦ كتب مكيافيللي «معايير إعداد المشاة»، مؤكِّدًا على «ضآلة الآمال التي يمكن عقدها على القوات الأجنبية والمأجورة»، ومشددًا أن على المدينة بدلًا من ذلك أن «تتسلَّح بأسلحتها وبرجالها» (٣). بحلول نهاية العام، كان المجلس الأعلى قد اقتنَعَ أخيرًا، وأُنشِئت لجنة حكومية جديدة، هي «لجنة التسعة للقوات المسلحة»، وانتُخِبَ مكيافيللي سكرتيرًا لها، وبات أحدُ أعظم أهداف الحركة الإنسانية الفلورنسية حقيقةً واقعةً.

ربما كان المرء ليفترض أن تحمُّس مكيافيللي لقواته العسكرية كان ليفتُر على إثر ما أظهرته من أداء كارثي عام ١٥١٢، حينما أُرسِلت للدفاع عن براتو فاكتسحها تقدُّم قوات المشاة الإسبانية دون جهد يُذكَر. لكن ما حدث أن حماسه ظلَّ على توهُّجه؛ إذ نجده بعد مرور عام يؤكِّد على حكَّام عائلة مديتشي في نهاية كتاب «الأمير» أن ما عليهم أن يتأكَّدوا من فعله «قبل كل شيء» هو تزويد فلورنسا بجيوشها الخاصة (٩٠). وعندما نُشِر كتابه «فن الحرب» عام ١٥٢١ — أطروحته الوحيدة التي طُبِعت أثناء حياته عن فن الحكم — واصَلَ تكرار الحجج نفسها. كان الكتاب الأول كله مكرَّسًا لتبرئة ساحة «نظام الجيش الوطني» في مواجهة مَن شكَّكوا في جَدْواه (٥٨٠). ومكيافيللي يسلِّم، بطبيعة الحال، أن هذه القوات ليست في منعة من الهزيمة، لكنه مع ذلك يصرُّ على تفوُّقها على أي نوع آخَر من القوات (٥٨٥). ويستنتج بنفس المبالغة في التأكيد أن الحديث عن أن امرأً حكيمًا يرى عيبًا في فكرة الجيش الوطني، هو ببساطة حديث يحمل شيئًا من التناقض (٥٨٣).

الآن يمكننا أن نفهم لماذا شعر مكيافيللي بإعجاب شديد تجاه شيزاري بورجا بصفته قائدًا عسكريًّا، وأكَّد في كتاب «الأمير» أن سلوك الدوق يمثِّل أفضل مبادئ يمكن أن تُقدَّم إلى أي حاكم جديد (٢٣). فقد كان مكيافيللي حاضرًا — كما رأينا — عندما اتخذ الدوق القرار الوحشي بالقضاء على قوَّاده المرتزقة، والاستعاضة عنهم بقواته الخاصة. يبدو أن هذه الاستراتيجية الجريئة كان لها تأثير حاسم في تشكيل أفكار مكيافيللي؛ فهو يعود إليها بمجرد أن يطرح مسألةَ السياسة العسكرية في الفصل الثالث عشر من كتاب «الأمير»، متعامِلًا معها باعتبارها مثالًا نموذجيًّا على التدابير التي يتعيَّن على أي حاكم جديد أن يتخذها. فبورجا محل إشادة لأنه في المقام الأول أدرك دون تردُّد أن القادة المرتزقة عديمو الولاء على نحوٍ خطير، ويستحقون أن يُقضَى عليهم بلا رحمة. بل إن مكيافيللي يفرط في مدح بورجا لفهمه الدرس الأساسي بأن أي أمير جديد في حاجة إلى أن يعلم أنه من الضروري عليه — إذا كان يرغب في الحفاظ على دولته — أن يتوقف عن الاعتماد على «الحظ» والقوات الأجنبية، وأن يؤسِّسَ فِرَقه الخاصة من الجند، وأن يجعل نفسه «سيدًا مسيطِرًا على قوَّاته» (٢٥-٢٦، ٤٩).

القوات والرجل: هذان هما الموضوعان المهمان اللذان يتناولهما مكيافيللي في كتاب «الأمير». الدرس الآخَر الذي يأمل بالتالي أن يقدِّمه إلى وطنه ولحكام عصره، مفاده أن الأمير الذي يتطلع لتسنُّم ذُرَى المجد يجب عليه، إلى جانب امتلاكه جيشًا جديرًا بالثقة، أن يُنمِّي في نفسه الصفات المناسبة لقيادته كأمير، وطبيعة هذه الصفات قد جرى تحليلها تحليلًا فعَّالًا على يد الفلاسفة الأخلاقيين الرومان من قبلُ. كان هؤلاء قد برهنوا في المقام الأول على أن جميع القادة العظام بحاجة إلى حدٍّ ما لأن يكونوا محظوظين؛ لأنه إذا حدث ولم يبتسم الحظ، فما يرجى أن يساعدنا أي قدر من الجهد البشري المجرد على بلوغ أسمى أهدافنا. لكن كما رأينا، فإنهم أكَّدوا أيضًا أن ثمة مجموعة خاصة من الصفات التي تميِّز «الرجل» غالبًا ما تجذب انتباه «الحظ» على نحو إيجابي، وبهذه الطريقة تكاد هذه الصفات تضمن لنا تحقيق الشرف والمجد والشهرة. وأفضل تلخيص للافتراضات التي ينطوي عليها هذا الاعتقاد هو ذلك الذي قدَّمَه شيشرون في كتابه «مناقشات توسكولوم»؛ حيث يذكر أننا إذا تصرَّفنا من منطلق التعطُّش إلى «القوة» دون أدنى قدر من التفكير في الفوز بالمجد نتيجة لذلك، فإن هذا سيمنحنا أفضل فرصة للفوز بالمجد أيضًا، شريطةَ أن يبتسم الحظ؛ وذلك لأن المجد هو مكافأة «القوة» (١ : ٣٨، ٩١).

تبنَّى الفلاسفة الإنسانيون إبَّان «عصر النهضة» في إيطاليا هذا التحليل دون تغيير، ومع نهاية القرن الخامس عشر، كان قد نشأ ضرب أدبي واسع النطاق من كتب إرشادات الفلاسفة الإنسانيين للأمراء، وبدأ يصل إلى جمهور لم يسبق لاتساعه مثيل، من خلال وسيلة الطباعة التي كانت حديثةَ العهد حينئذٍ. كان هناك كتَّاب مميزون، مثل بارتولوميو ساكي وجوفاني بونتاتو وفرانشيسكو باتريتزي، كتبوا جميعًا أطروحات لإرشاد الحكَّام الجدد، تأسَّست كلها على نفس المبدأ الأساسي، وهو أن امتلاك «القوة» مفتاح نجاح أي أمير؛ إذ يؤكِّد بوتانتو مشدِّدًا في كراسته عن كتاب «الأمير»، أن أي حاكم يرغب في تحقيق أسمى غاياته «يجب أن يدفع نفسه إلى اتباع ما تُملِيه «القوة» عليه» في جميع تصرفاته المتعلقة بشئون الدولة. إن «القوة» هي «أروع الأشياء في العالم»، أكثر روعةً حتى من الشمس؛ لأن «العميان لا يستطيعون رؤية الشمس»، بينما «يستطيعون رؤية «القوة» بأقصى قدر ممكن من الوضوح.»3

إن مكيافيللي يؤكِّد تحديدًا على نفس المعتقدات بشأن العلاقات التي تربط بين «القوة» و«الحظ» وتحقيق أهداف الأمير؛ فهو أولًا يوضِّح هذه الحقائق الإنسانية في الفصل السادس من كتاب «الأمير»، حيث يرى أنه «في الإمارة الجديدة تمامًا، حيث يوجد حاكم جديد، ستتوقف الصعوبة التي سيواجهها الحاكم من أجل الحفاظ عليها» بالدرجة الأولى على «مدى قوته» (١٩). وهذه حقيقة يؤكِّدها فيما بعدُ ما ورَدَ في الفصل الرابع والعشرين، والهدف منها هو تفسير «سبب فقدان حكَّام إيطاليا دولهم» (٨٣). يصر مكيافيللي على أن اللوم ينبغي ألا يُلقَى على «الحظِّ» فيما لحق بهؤلاء الحكَّام من هوان؛ وذلك لأن كل ما فعلته إلهة «الحظ» هو أنها «أظهرَتْ قوتها» حينما لم يكن الرجالُ أولو «القوة» على استعدادٍ لمقاومتها (٨٤، ٨٥). لذا فإن خسائرهم تُرَدُّ ببساطة إلى عدم إدراكهم أن «الدفاعات الفعَّالة والمضمونة والدائمة» الوحيدة هي تلك المبنية على «قوة» المرء الخاصة (٨٤). ثمة تأكيد آخَر على دور «القوة» في الفصل السادس والعشرين، في سياق «التوصية» القوية بتحرير إيطاليا، والتي يصل بها كتاب «الأمير» إلى نهايته. عند هذه النقطة يعود مكيافيللي إلى الإشارة إلى القادة المتفرِّدين الذين أشاد بهم في الفصل السادس بسبب ما يتمتعون به من «قوة» ظاهرة؛ موسى وسايروس وثيزيوس (٢٠). ويشير ضمنًا إلى أن إنقاذ إيطاليا يتطلَّب بالضرورة اتحاد قدراتهم المذهلة مع أعظم قدر من حسن «الحظ». ثم يضيف في لحظة إطراء غير معهودة أن حكَّام عائلة مديتشي المجيدة يتمتعون لحسن الحظ بكل الصفات اللازمة لذلك؛ فهم يملكون «قوًى» هائلة، ويحالفهم «الحظ» بقوة، ويدعمهم «الرب والكنيسة» (٨٨).

في كثير من الأحيان يُشكى من أن مكيافيللي لا يقدِّم أي تعريف لصفة «القوة»، وأنه بريء من أي استخدام مُمَنْهَج لهذه الكلمة، لكن سيتبيَّن الآن أنه يستخدمها استخدامًا كاملَ الاتساق؛ فقد تعامل معها — سيرًا على نهج أساتذته الكلاسيكيين والإنسانيين — باعتبارها الصفة التي تمكِّنُ أيَّ أمير من الصمود في وجه خيانات «الحظ»، كي يستجدي رضا الإلهة، ويرتفع بالتالي إلى قمم شهرة الأمراء، فيفوز بالشرف والمجد لنفسه وبالأمن لحكمه.

لكنْ يبقى أن نأخذ في الاعتبار ماهيةَ الصفات المميزة التي يتوقَّع أن تتوافر في الرجل ذي الإمكانات «القوية». كان الفلاسفة الأخلاقيون من الرومان قد ورَّثوا تحليلًا معقَّدًا لمفهوم «القوة»، يصوِّر بوجهٍ عام «الرجلَ» الحقَّ بأنه رجل يتمتع بثلاث مجموعات متميزة، ومرتبطة أيضًا، من الصفات، وذهبوا إلى أنه يتمتع في المقام الأول بأربع فضائل «جوهرية»، هي الحكمة والعدل والشجاعة وضبط النفس، وهي ذات الفضائل التي كان شيشرون (سائرًا على خطى أفلاطون) قد بدأ بتسليط الضوء عليها في افتتاحية كتاب «الواجبات». لكنهم أيضًا نسبوا إليه مجموعةً أخرى من الصفات صارَتْ يُنظَر إليها فيما بعدُ باعتبارها تخصُّ «الأمراءَ» في طبيعتها. أهم هذه الصفات — والفضيلة المحورية في كتاب «الواجبات» لشيشرون — كانت ما أسماها شيشرون «الأمانة»، قاصدًا بذلك الاستعداد لصون العهد والتعامل بشرف مع كل الرجال في جميع الأوقات، وهي صفة اعتُقدَ أنها في حاجة إلى أن تُلحَق بصفتين أخريين، ورد وصفهما في كتاب «الواجبات»، وتناوَلَهما سينيكا بتحليل واسع النطاق، حيث خصَّصَ لكلٍّ منهما أطروحةً مستقلة، إحداهما شهامة الأمراء، وهي الموضوع الذي ناقَشَه سينيكا في كتابه «عن العفو»، والأخرى هي التسامح، وتشكِّل إحدى النقاط الرئيسية التي ناقَشَها سينيكا في كتابه «عن المنافع».

وأخيرًا، كان يُعتقَد أن «الرجل» الحقَّ يتميَّز بإقراره الراسخ بحقيقة أنه إذا كنَّا نرغب في بلوغ هدفَيِ الشرف والمجد، فعلينا دائمًا أن نتأكَّدَ من أننا نتصرَّف بأقصى قدر مستطاع من الفضيلة. وهذا الرأي الجدلي — الذي مفاده أن من العقلانية دائمًا أن يكون المرء فاضلًا — يكمن في صميم كتاب «الواجبات» لشيشرون؛ فهو يشير في الكتاب الثاني إلى أن العديد من الرجال يعتقدون أن «أي شيء يمكن أن يكون صحيحًا من الناحية الأخلاقية دون أن يكون ملائمًا للمصلحة الشخصية، ويمكن أن يكون ملائمًا للمصلحة الشخصية لكنه ليس صحيحًا من الناحية الأخلاقية.» لكن هذا محض وهم؛ لأن الأساليب الأخلاقية وحدها هي التي تتيح لنا أن نأمل في تحقيق أهداف رغباتنا، وأي مظاهر تدل على عكس ذلك تكون خادعة تمامًا؛ لأن النفعية الشخصية لا يمكن أبدًا أن تتعارَضَ مع الاستقامة الأخلاقية (٢ : ٣، ٩-١٠).

هذا التحليل اعتُمِدَ مرةً أخرى في مجمله من جانب مؤلِّفِي كتب إسداء النصح لأمراء «عصر النهضة»؛ فقد جعلوا افتراضهم الرئيسي يذهب إلى أن المفهوم العام لصفة «القوة» يشير بالضرورة إلى قائمة كاملة من الفضائل المرتبطة بالقادة والأمراء، وهي قائمة شرعوا في تطويلها وتقسيمها بقدر كبير من الاهتمام بالفروق الطفيفة، إلى حدِّ أننا — في أطروحة مثل «تعليم الملك» لباتريتزي — نجد أن الفكرة الرئيسية عن «القوة» فُصِّلَتْ إلى سلسلة لا يقل قوامها عن أربعين فضيلة أخلاقية ينبغي اكتسابها. بعد ذلك، أقرُّوا دون تردُّدٍ الزعمَ بأن المسار الرشيد الذي ينبغي للأمير أن يسلكه هو دائمًا المسار الأخلاقي، ودافعوا عن هذه النقطة بقدر كبير من القوة، إلى حدِّ أنهم جعلوا من مقولة «الأمانة أفضل سياسة» قولًا مأثورًا. وأخيرًا، قدَّموا اعتراضًا ذا خصوصية مسيحية على أي تفريق بين النفعية الشخصية وعالم الأخلاق، وأكَّدوا على أننا — حتى إذا نجحنا في إعلاء مصالحنا عن طريق اقتراف الظلم في هذه الحياة الدنيا — يمكن أن نتوقَّعَ رغم ذلك أن نشاهِد هذه المصالح الظاهرة تتهاوَى حالما نتلقَّى الجزاء الإلهي العادل في الحياة الآخِرة.

وإذا فحصنا الأطروحات الأخلاقية التي كتبها معاصرو مكيافيللي، سنجد أن هذه الحجج تُكرَّر وتُعاد بلا كلل، لكن عندما ننتقل إلى كتاب «الأمير» نجد أن هذا المظهر من مظاهر الأخلاق الإنسانية قد انقلَبَ فجأةً وبعنفٍ رأسًا على عقب. يبدأ هذا الانقلاب في الفصل الخامس عشر، عندما يبدأ مكيافيللي في مناقشة فضائل الأمير ورذائله، ويحذرنا في هدوء بقوله: «أعلم جيدًا أن الكثير من الأشخاص قد كتبوا عن هذا الموضوع»، لكن «ما سوف أقوله سيكون مختلفًا عن الإرشادات التي قدَّمَها الآخَرون» (٥٤). ويبدأ بالإشارة إلى الملاحظات الإنسانية المألوفة التي تفيد بأن هناك مجموعةً خاصةً من فضائل الأمراء، وأنها تشمل بالضرورة أن يكون الأمير متسامحًا ورحيمًا وصادقًا، وأن على جميع الحكام أن ينمُّوا في أنفسهم هذه الصفات. ثم يسلِّم — وهو لا يزال على الطريقة الإنسانية القويمة — بأن الأمير الذي يستطيع أن يتحرَّى هذه الطرق في تصرفاته في جميع الأوقات «جدير بأعظم ثناء». لكنه بعد ذلك يرفض تمامًا افتراضَ الفلاسفة الإنسانيين الجوهري بأن هذه الفضائل هي تلك التي يحتاج الحاكم إلى اكتسابها إذا أراد تحقيق أسمى أهدافه. ويعتبر أن هذا الاعتقاد — الذي يشكِّل جوهرَ كتب إسداء النصح للأمراء — خاطئ على نحوٍ واضحٍ وكارثيٍّ. وهو يوافق بالطبع على طبيعة الغايات التي يجب على أي أمير أن يسعى إلى تحقيقها؛ فأي أمير يجب أن يسعى للحفاظ على دولته وتحقيق المجد لنفسه، لكنه يعترض بأنه إذا كان المفترض لهذه الأهداف أن تتحقَّقَ، فما من حاكم يمكن أن يتحلَّى بكلِّ الصفات التي عادةً ما «يُعتقَد أنها جيدة»، أو يمارسها ممارسة كاملة. فالموقف الذي يجد أي أمير نفسه فيه هو أنه يحاوِل أن يحمي مصالحه في عالم مظلم مليء بالرجال عديمي الأخلاق. وإذا حدث في ظل هذه الظروف أنه «لم يفعل ما يُفعَل في العموم، واستمرَّ في فعل ما يجب فعله»، فإنه ببساطة سوف يعمل على «تقويض سلطته لا الحفاظ عليها» (٥٤).

وهكذا فإن انتقاد مكيافيللي للفلسفة الإنسانية الكلاسيكية والمعاصرة بسيط لكنه مدمر؛ فهو يذهب إلى أنه إذا رغب أي حاكم في بلوغ أسمى أهدافه، فإنه لن يرى دائمًا أنه من العقلانية التصرف على نحو أخلاقي، بل على العكس، سيتبين أن أي محاولة جادة لتعزيز فضائل الأمراء سياسة غير عقلانية ومدمرة (٦٢). لكن ماذا عن الاعتراض المسيحي الذي يرى أن هذا النهج حماقة، فضلًا عن كونه موقفًا شريرًا لا ينبغي تبنِّيه؛ نظرًا لأنه يغفل يوم الدينونة الذي سيُعاقَب فيه أخيرًا كلُّ ظالم على ظُلمه؟ لا يعلِّق مكيافيللي مطلَقًا على هذا، لكن صمته كان بليغًا وبالغَ التأثير؛ فقد أحدث دويًّا في أرجاء أوروبا المسيحية، فأثار في بادئ الأمر صمتًا من الذهول، ثم عاصفةً من اللعنات لم تهدأ قطُّ.

لكن إذا لم يكن يتعيَّن على الأمراء أن يتصرَّفوا وفقًا لما تُملِيه عليهم الأخلاق التقليدية، فكيف يتعيَّن عليهم أن يتصرفوا؟ يأتي رد مكيافيللي، الذي هو جوهر نصحه الإيجابي للحكام الجدد، في بداية الفصل الخامس عشر. فالأمير الحكيم ينبغي أن يتصرف وفق ما تقتضيه الضرورةُ لا أيُّ شيء سواها؛ فإذا كان «يرغب في الحفاظ على سلطته»، فعليه دائمًا «أن يكون على استعداد لأن يتصرَّف على نحوٍ غير أخلاقي متى يُصبِح ذلك ضروريًّا» (٥٥). بعد ثلاثة فصول، يتكرَّر هذا المذهب الأساسي؛ فالأمير الحكيم يفعل الخير عندما يستطيع، لكن «إذا دَعَتِ الضرورة إلى الإحجام عن ذلك»، فعليه «أن يكون على استعداد لأن يتصرَّف على النحو المقابل ويكون قادرًا على فعل ذلك.» يضاف إلى ذلك، أنه لا بد أن يتصالح مع الحقيقة التي تفيد بأنه «في سبيل الحفاظ على سلطته» ستضطره الضرورة في كثير من الأحيان لأن «يتصرف على نحو غادر وعديم الرحمة أو غير إنساني» (٦٢).

كما رأينا، كانت الأهمية الحاسمة لهذه الرؤية الثاقبة قد تكشَّفَتْ لمكيافيللي لأول مرة في مرحلة مبكرة من عمله الدبلوماسي. لقد شعر، بعد التحاور مع كاردينال فولتيرا عام ١٥٠٣، ومع باندولفو بيتروتشي بعد ذلك بنحو سنتين، أنه لا بد أن يسجِّل ما أصبح فيما بعدُ مُعتقدَه السياسي الرئيسي، ومفاده أن مفتاح النجاح في إدارة شئون الدولة يكمن في إدراك قوة الظروف، وقبول ما تمليه عليه الضرورة، وتكييف سلوك المرء مع الزمن. فبعد عام من إعطاء باندولفو لمكيافيللي هذه الوصفة للنجاح في الإمارة، نجد الأخير يطرح لأول مرة مجموعةَ ملاحظاتٍ مماثلة على اعتبار أنها أفكاره الخاصة. وبينما كان معيَّنًا في بيروجيا في سبتمبر عام ١٥٠٦، يراقب ما تحرزه حملة يوليوس الثاني من تقدُّم محموم، صرَّح بوحي تأملاته عن أسباب حدوث الانتصارات والملمَّات في الشئون المدنية والعسكرية، في رسالة إلى صديقه جوفاني سوديريني يقول فيها: «إن الطبيعة منحت كل إنسان موهبةً وإلهامًا خصوصيين» من شأنهما أن «يُسيِّرَا خطى كل واحد منَّا»، لكن «الزمن تغيَّرَ، وهو عرضة لأن يتغيَّر مرارًا»، بحيث إن «أولئك الذين يفشلون في تغيير عاداتهم وسلوكياتهم»، لا بد أن يُواجِهوا «حُسْنَ الحظ في وقتٍ ما، وسوء الحظ في وقت آخَر.» والمغزى من هذا واضح؛ إذا رغب إنسان «في أن يتمتع بحسن الحظ دائمًا»، فعليه «أن يكون حكيمًا بما فيه الكفاية، بحيث يكيِّف نفسَه مع تغيُّر الزمن.» وإذا تمكَّن كل إنسان من «التحكم في طبيعته» بهذه الطريقة، و«وَفَّقَ عاداته وسلوكه مع عصره»، «فسيتحقق صدقًا القول بأن الرجل الحكيم هو المتحكم في النجوم والمصائر» (٧٣).

وعندما كان مكيافيللي يؤلِّف كتاب «الأمير» بعد ذلك بسبع سنوات، نقل بدقة هذه «الأهواء»، كما أطلق عليها في استهجان، في فصله عن دور «الحظ» في الشئون الإنسانية؛ فيقول إن كل شخص يحب أن يتبع هواه الشخصي؛ فقد يتصرف رجل ما بحذر، ويتصرف آخَر بتهوُّر، وآخَر بقوة، وغيره بدهاء، لكن في غضون ذلك، «يتغيَّر الزمن والظروف»، بحيث إن أي حاكم «لا يغيِّر من أساليبه» سوف «ينتهي به الحال إلى الفشل.» لكن «الحظ» قد لا يتغيَّر إذا تعلَّم المرء «أن يغيِّر شخصيته بحيث تناسِب الزمن والظروف»، ومن ثَمَّ فإن الأمير الناجح سيكون دائمًا هو ذلك الذي يواكِب الزمن (٨٥-٨٦).

الآن يتضح أن الثورة التي رسم مكيافيللي معالمها في هذا النوع من كتب إسداء النصح للأمراء، كانت قائمةً في الحقيقة على إعادة تعريف مفهوم «القوة» المحوري. فهو يقرُّ الافتراض التقليدي بأن «القوة» اسم لتلك المجموعة من الصفات التي تمكِّن أي أمير من محالفة الحظ وبلوغ الشرف والمجد والشهرة، لكنه يفصل معنى هذه الكلمة عن أي ارتباط لازِم بفضائل القادة والأمراء، فيذهب إلى أن السمة المميزة للأمير «القوي» بحقٍّ هي الاستعداد لفعل كل ما تقتضيه الضرورة — سواء كان فعله هذا خيِّرًا أو شريرًا — في سبيل تحقيق منتهى غاياته؛ ومن ثَمَّ فإن «القوة» تشير تحديدًا إلى الصفة الضرورية المتمثلة في المرونة الأخلاقية لدى الأمير؛ إذ «عليه أن يكون على استعداد لتغيير سلوكه حسبما تشتهي رياح الحظ، وحسبما تفرض عليه الظروف المتغيرة» (٦٢).

يبذل مكيافيللي بعض العناء في توضيح أن هذا الاستنتاج يفتح هوَّة لا سبيلَ لسدها بينه وبين مجمل تراث الفكر السياسي الإنساني، وهو يفعل ذلك بأسلوب تهكُّمي بالغ القسوة. فالفضيلة الأخلاقية بالنسبة للفلاسفة الأخلاقيين الكلاسيكيين وأتباعهم الذين لا حصرَ لهم، كانت هي السمة المميِّزة للرجل «الحقيقي»؛ ومن ثَمَّ فإن البُعْد عن الفضيلة لم يكن يُعَدُّ تصرُّفًا غير عقلاني فحسب، بل كان يُعَدُّ أيضًا تخليًا عن مكانة المرء كإنسان، وانحدارًا إلى مستوى البهائم. وقد عبَّر عن ذلك شيشرون في الكتاب الأول من سلسلة «الواجبات»، حينما زعم أن هناك طريقتين لاقتراف الباطل، إما بالقوة وإما بالاحتيال، وأكَّدَ أن كلتا الطريقتين بهيمية و«لا تليقان على الإطلاق بالإنسان»؛ ذلك أن القوة رمز للأسد، والاحتيال «يبدو أنه صفة الثعلب الماكر» (١ : ١٣، ٤١).

في المقابل، بدا واضحًا لمكيافيللي أن الرجولة ليست كافيةً. وهو يقرُّ في مستهل الفصل الثامن عشر بأن هناك بالفعل طريقتين للتصرُّف، «الأولى تليق بالبشر، والثانية بالحيوانات»، لكن «نظرًا لأن الأولى تكون غير فعَّالة في كثير من الأحيان، يتعيَّن على المرء أن يلجأ للثانية» (٦١)؛ ومن ثَمَّ فإن أحد الأشياء التي ينبغي للأمير أن يعرفها، هو أن يعرف أي الحيوانات ينبغي له أن يقلِّده. كانت أكثر النصائح التي اهتمَّ بها مكيافيللي أن الأمير سيبلي بلاءً حسنًا إذا تعلَّمَ أن يقلِّد «كلًّا من الثعلب والأسد»، فيتمِّم مُثُلَ الأخلاق الرجولية بمهارتَيِ القوة والاحتيال الحيوانيتين (٦١). هذا المفهوم محلُّ توكيد في الفصل التالي، الذي يتناول فيه مكيافيللي إحدى الشخصيات التاريخية المفضَّلة بالنسبة إليه، وهي شخصية الإمبراطور الروماني سبتيموس سيفيروس. فيؤكِّد أولًا أن الإمبراطور كان رجلًا ذا «قوة» عظيمة جدًّا (٦٨)، بعد ذلك يشرع في تقديم بيان حكمه هذا، فيضيف أن صفتَيْ سبتيموس العظيمتين كانتا تتمثلان في كونه «أسدًا بالغ القوة وثعلبًا بالغ المكر»؛ ونتيجةً لذلك كان «مرهوبَ الجانب وموضعَ احترام من قِبَل الجميع» (٦٩).

ويختتم مكيافيللي تحليله بالإشارة إلى مسارات السلوك المتوقَّعة من أي أمير «قوي» بحق، فهو يعرض في الفصل التاسع عشر لهذه النقطة شارحًا ما لن يفعله مثل هذا الحاكم، مؤكِّدًا أنه لن يفعل أبدًا أي شيء يستحق الازدراء، وسوف يحرص أشد الحرص على تجنُّب التحوُّل إلى هدف للكراهية (٦٣). ثم يعرض لما سوف يفعله مثل هذا الحاكم في الفصل الحادي والعشرين، فيقول إنه سيبرز دائمًا بشجاعة، إما باعتباره «حليفًا حقيقيًّا أو عدوًّا صريحًا.» في الوقت نفسه سوف يحرص، مثل فرديناند ملك إسبانيا، على أن يُظهِر نفسه لرعاياه في أعظم جلال ممكن، فيفعل «أشياءَ عظيمة»، ويُبقِي رعاياه «في حالة من الترقُّب والدهشة في انتظار ما تؤتيه من ثمار» (٧٧).

في ضوء ما سبق، يسهل ثانيةً أن نفهم السبب في شعور مكيافيللي بهذا القدر من الإعجاب تجاه شيزاري بورجا، ورغبته في اتخاذه نموذجًا لفضيلة «القوة» — على الرغم مما كان يشوبه من عيوب واضحة — يحذو حذوه غيره من الأمراء الجدد. فقد أظهر بورجا، في مناسبة رهيبة، أنه فهم تمامًا الأهمية القصوى لتجنُّب كراهية الشعب مع إبقائهم في الوقت نفسه شاعرين بالرهبة منه، كانت هذه المناسبة عندما أدرك أن حكمَه لرومانيا، حينما كان في يدَي ريميرو دي أوركو الماهرتين لكن المستبدتين، معرَّضٌ لأشد التهديدات خطورة، وهو أن يصبح مكروهًا من قِبَل مَن يعيشون تحت حكمه. وكما رأينا، كان مكيافيللي شاهد عيان على الحل القاسي لهذه المعضلة الذي نفَّذَه بورجا، حينما قتل ريميرو على حين غرة، وعرض جثته في ميدان عام قربانًا لاحتواء غضب الشعب.

ربما ينبغي أن نردَّ إيمان مكيافيللي بالحاجة الماسة إلى تجنُّب كراهية الشعب وتمرُّده إلى هذه اللحظة تحديدًا. لكن على الرغم من أن تصرُّف الدوق لم يعمل إلا على تأكيد حسن تقديره للواقع السياسي، ليس ثمة شك في أن هذا الحدث خلف في نفس مكيافيللي تأثيرًا عميقًا؛ فحينما بدأ في مناقشة مسائل الكراهية والتمرد في كتاب «الأمير»، استدعى هذا الحدث تحديدًا لتوضيح وجهة نظره، فأوضح أن تصرُّفَ بورجا أثَارَ تأمُّله باعتباره صحيحًا إلى حدٍّ بعيد؛ فقد كان تصرُّفه حازمًا، وتطلَّبَ شجاعة، وأحدَثَ التأثير المرغوب تمامًا؛ لأنه «جعل الشعب راضيًا ومندهشًا معًا»، وفي الوقت نفسه أزال سبب كراهيتهم. ثم يلخِّص مكيافيللي فكرته في أشد نبراته برودًا، فيشير إلى أن هذه السياسة ليست جديرةً «بأن تُعرَف» فقط، بل بأن تكون أيضًا «مثلًا يُحتذَى به من قِبَل الآخَرين» (٢٦).

الأخلاق الجديدة

يعي مكيافيللي تمامًا أن تحليله الجديد عن «قوة» الأمير يثير بعض الصعوبات الجديدة، وهو يعرض المعضلة الرئيسية في الفصل الخامس عشر قائلًا: من جهةٍ، فإن «الحاكمُ الذي يرغب في الاحتفاظ بسلطته يجب أن يكون على استعداد للتصرُّف على نحوٍ غير أخلاقي متى يصبح ذلك ضروريًّا»، لكن من جهةٍ أخرى لا بد له أن يحرص على عدم اكتساب سمعة رجل شرير؛ لأن هذا سوف يقوِّض سلطته بدلًا من تأمينها (٥٥). وهكذا فإن المعضلة تتمثَّل في كيفية تجنُّب الظهور بمظهر الشرير وأنت لا تستطيع أن تتجنَّب التصرف على نحو شرير.

علاوة على ذلك، فإن المعضلة أكثر تعقيدًا من ذلك؛ لأن الهدف الحقيقي للأمير ليس مجرد تأمين سلطته، بل يضاف لذلك بطبيعة الحال الفوزُ بالكرامة والمجد. يشير مكيافيللي في روايته قصة أجاثوكليس ملك «صقلية» في الفصل الثامن إلى أن هذا يزيد تعقيد المعضلة التي يجد أي حاكم جديد نفسه في مواجهتها، فقد قيل لنا أن أجاثوكليس «كان يحيَا دائمًا حياةً منغمسة في الملذات»، وكان يُعرَف عنه أنه بلغ حدًّا مروعًا من «السلوك القاسي عديم الإنسانية». حقَّقَتْ له هذه الصفات نجاحًا هائلًا، ما أتاح له أن يرتفع من «أحطِّ الأصول وأكثرها فقرًا» ليصبح ملكًا على سَرَقوسة، وأن يحتفظ بإمارته «دون مواجهة أي شغب مدني» (٣٠-٣١). لكن مكيافيللي يحذِّرنا بجملةٍ كاشفة بدرجة كبيرة، بأن مثل هذا القدر من القسوة السافرة قد يجعلنا نفوز بالقوة «ولكن ليس بالمجد»؛ فعلى الرغم من أن أجاثوكليس كان قادرًا على الحفاظ على مكانته وحكمه بالاعتماد على هذه الصفات، «لا يمكن أن توصف هذه الصفات بأنها «قوة»»، و«لا يمكن أن تجعله في مصاف أفضل البشر» (٣١).

يرفض مكيافيللي أن يسلِّم بفكرة أن المعضلة يمكن أن تُحَلَّ من خلال وَضْع قيود صارمة لقدر الشر الذي ينبغي للأمير أن يمارسه، ومن خلال التصرُّف بشرفٍ عمومًا مع رعاياه وحلفائه. هذا تحديدًا هو ما لا يستطيع المرء أن يأمل في تحقيقه؛ لأن كل البشر في كل العصور «جاحدون متقلِّبون مدَّعون منافقون متجنبون للخطر متلهفون على المكاسب»، بحيث إن أي حاكم «يركن كليًّا إلى وعودهم، ويهمل إعداد وسائل الدفاع الأخرى، سوف يسقط» (٥٩). مضمون ذلك هو أن أي أمير، لا سيما الجديد، غالبًا — وليس فقط في بعض الأحيان — ما سيجد نفسه مضطرًّا بحكم الضرورة إلى التصرُّف على نحوٍ يتعارض مع الإنسانية، إذا كان يرغب في أن يحتفظ بمنصبه ويتجنَّب التعرُّض للخداع (٦٢).

هذه صعوبات شديدة، لكن مع ذلك يمكن التغلُّب عليها. فالأمير لا يحتاج إلا أن يتذكَّر أنه من غير الضروري امتلاك كل الصفات التي عادةً ما تعتبر جيدة، لكن من اللازم التظاهر بامتلاكها (٦٦). من المرغوب فيه أن ينظر إليك باعتبارك شخصًا متسامحًا، ومن العقلانية أن تبدو رحيمًا وليس قاسيًا، ومن الضروري بوجه عام أن تبدو أهلًا للتقدير (٥٦، ٥٨، ٦٤). إذن، الحل هو أن تصبح مُتظاهرًا ومنافقًا كبيرًا، وتتعلم مهارة «الدهاء في إرباك الناس» وجعلهم يصدقون ما تتظاهر به (٦١).

كان مكيافيللي قد تعلَّمَ درسًا مبكرًا عن قيمة الدهاء في إرباك الناس؛ فقد كان حاضرًا — كما رأينا — حينما تطوَّرَ الصراع بين شيزاري بورجا ويوليوس الثاني في الأشهر الأخيرة من عام ١٥٠٣، والواضح أن الانطباعات التي خرج بها من تلك المناسبة كانت لا تزال تستحوذ على تفكيره عندما بدأ الكتابة عن النفاق في كتابه «الأمير». فهو يشير مباشَرةً إلى هذا الحدث الذي شهده، مستخدِمًا إياه باعتباره مثاله الرئيسي على الحاجة إلى البقاء في حالة حذر من نفاق وازدواجية الأمراء، ويتذكَّر أن يوليوس تمكَّنَ من إخفاء كراهيته لبورجا ببراعةٍ، بحيث استدرج الدوق للوقوع في الخطأ الفادح المتمثِّل في الاعتقاد بأن «المصالح الجديدة تجعل الرجال ذوي الشأن يَنْسَون الجروح القديمة» (٢٩). وهكذا تمكَّنَ يوليوس من استخدام قدراته في الخداع استخدامًا حاسمًا؛ فبعد أن فاز في انتخابات البابوية بدعم كامل من بورجا، كشف فجأة عن شعوره الحقيقي، وتحوَّلَ ضد الدوق، وكان سببًا في سقوطه النهائي. لا بد أن بورجا تخبَّط في هذه المرحلة، ويشعر مكيافيللي أنه يستحق أن يلام بشدة لخطئه هذا؛ فقد كان عليه أن يعلم أن موهبة نشر حالة من الإرباك والحيرة تشكِّل جزءًا من ترسانة أسلحةِ أيِّ أمير ناجح (٣٤).

لكن من المستبعَد أن مكيافيللي كان يجهل فكرةَ أنه من خلال تزكيته فنونَ الخداع باعتبارها مفتاحًا للنجاح، فإنه يصبح عرضةً لأن يبدو شخصًا شديد السطحية. صحيح أن عددًا أكبر من الفلاسفة الأخلاقيين الأرثوذكسيين كانوا على استعداد دائم للنظر في اقتراح إمكانية استخدام النفاق طريقًا مختصرة موصلة إلى المجد، لكنهم دائمًا ما ذهبوا إلى استبعاد أي إمكانية من هذا القبيل، فشيشرون على سبيل المثال تناوَلَ هذه الفكرة تناولًا صريحًا في الكتاب الثاني من سلسلة «الواجبات»، لا لسبب آخَر سوى استبعادها باعتبارها حمق بيِّن؛ إذ يقول إن أي شخص «يعتقد أنه يستطيع الفوز بمجد دائم عن طريق التظاهر مخطئ جدًّا»، والسبب هو أن «المجد الحقيقي يمدُّ جذورًا عميقة وينشر فروعه على نطاق واسع»، في حين أن «جميع صور التظاهر سرعان ما تهوي أرضًا مثل الأوراق الذابلة المتساقطة» (٢ : ١٢، ٤٣).

ويردُّ مكيافيللي، كما فعل من قبلُ، برفض مثل هذه المشاعر الجادة بأشد أساليبه سخريةً، فيصرُّ في الفصل الثامن عشر على أن ممارسة النفاق ليست مجرد عنصر ضروري في حكم الأمراء، بل يمكنه أيضًا المداومة عليها دون كثير عناء طالما دعته الحاجة لذلك. ويوجد سببان مختلفان لهذا الاستنتاج الذي يثير الاستفزاز عن عمد، أحد هذين السببين أن معظم البشر سُذَّج في تفكيرهم، والأهم من هذا أنهم ميَّالون لخداع أنفسهم، لدرجة أنهم عادةً ما يأخذون الأمور بظواهرها دون تمحيص على الإطلاق (٦٢). وأما السبب الآخَر فهو أنه عندما يتعلَّق الأمر بتقييم سلوك الأمراء، ثمة احتمال كبير بأن يحكم على الأمور بظواهرها حتى أكثر المراقبين حنكةً؛ وذلك لأن الأمير يكون بمعزل عن الجماهير، ومدعومًا بجلال مكانته التي تجعل الجميع «لا يسعهم أن يروا إلا ما يبدو عليه في الظاهر»، عدا «قلة قليلة هم مَن يملكون درايةً مباشرة بما أنت عليه حقًّا» (٦٣)؛ لذلك ليس ثمة سبب لافتراض أن خطاياك ستكشف أمرك، بل على العكس من ذلك، «المخادع الماهر دائمًا ما يجد الكثير ممَّنْ يتركون أنفسهم فريسةً للخداع» (٦٢).

المسألة الأخرى التي يناقشها مكيافيللي تتمثَّل في ماهية الموقف الذي ينبغي اتخاذه من القواعد الجديدة التي ينبغي ترسيخها في الذهن. للوهلة الأولى، يبدو أنه يتبنَّى موقفًا أخلاقيًّا تقليديًّا إلى حدٍّ ما؛ فهو يقرُّ في الفصل الخامس عشر بأنه من «الجدير بالثناء» أن يظهر الأمير الجديد الصفات التي عادةً ما تُعَدُّ جيدة، كما يساوي مكيافيللي بين التخلِّي عن فضائل الأمراء وبين «التصرف على نحو غير أخلاقي» (٥٥). ثم يتكرَّر نفس القدر من القِيَم حتى في الفصل السيئ السمعة الذي يتناول «كيف ينبغي للحكَّام أن يوفوا بوعودهم»؛ إذ يبدأ مكيافيللي بالتأكيد على أن الجميع يدرك إلى أي مدى يكون الحاكم جديرًا بالثناء، حينما «يتحرى في حياته الاستقامة وليس الاحتيال» (٦١). ويمضي فيؤكِّد على أن الأمير لا يتعيَّن عليه فقط أن يبدو فاضلًا على النحو المتعارَف عليه، بل ينبغي له أيضًا «أن يكون كذلك حقًّا» بقدر ما تسمح به الظروف، وينبغي له «ألا يحيد عن السلوك الصحيح إذا كان ذلك ممكنًا، على أن يكون قادرًا في الوقت ذاته على خوض مسلك الإيذاء متى يصبح ذلك ضروريًّا» (٦٢).

ومع ذلك، يُقدِّم مكيافيللي في الفصل الخامس عشر حجتين مختلفتين جدًّا، تصبح كلٌّ منهما محلَّ تفصيل فيما بعدُ؛ فهو بادئ ذي بَدْء، يتشكَّك إلى حدٍّ ما فيما إذا كان من الصواب أن نقول إن تلك الصفات التي تُعتبَر جيدة، لكنها رغم ذلك مدمِّرة، جديرةٌ حقًّا بأن تُوصَف بأنها فضائل. وبما أن من شأنها أن تسبِّب الدمار، فهو يفضِّل القول بأنها «تبدو فاضلة»، وبما أن أضدادها من الأرجح أن تعزِّز موقف المرء، فإنه يفضِّل القول بأنها تبدو فقط وكأنها رذائل (٥٥).

يواصِل مكيافيللي عرض هذه الفكرة في كلا الفصلين اللاحقين؛ ففي الفصل السادس عشر، الذي عنوانه «الكرم والشح»، يتناول فكرةً تناولها جميع الفلاسفة الأخلاقيين الكلاسيكيين، ويقلبها رأسًا على عقب. فشيشرون عندما يناقش فضيلة الكرم في كتابه «الواجبات» (٢ : ١٧، ٥٨ و٢ : ٢٢، ٧٧) يعرِّفها بأنها الرغبة في «تجنُّب أي شبهة بالبخل»، ويوضِّح أن ما من نقيصة أشد كراهةً في أي قائد سياسي من البخل والجشع. ويردُّ مكيافيللي بالقول بأنه، إذا كان هذا هو ما نعنيه بالكرم، فإننا لا نصف فضيلةً وإنما رذيلة. ثم يوضِّح أن الحاكم الذي يرغب ألا يشتهر بالبخل سيجد أنه «بحاجة لأن ينفق في بذخ وتفاخر»، ونتيجة لذلك سيجد نفسه مضطرًّا «لفرض ضرائب باهظة على الناس» كي يسدِّد ثمنَ سخائه، وهذه سياسة سرعان ما ستجعله «مكروهًا من رعاياه». في المقابل، إذا بدأ الحاكم يُقلِع عن أي رغبة في التصرُّف بهذا القدر من السخاء، فقد يبدو للناس بخيلًا في بادئ الأمر، لكنه «في نهاية المطاف سيتبيَّن أنه أكثر سخاءً»، وسوف يكون ممارِسًا بالفعل لفضيلة الكرم الحقيقية (٥٩).

ثمة مفارقة مماثلة تظهر في الفصل التالي، الذي عنوانه «القسوة والرحمة». هذا أيضًا كان موضوعًا أثيرًا لدى الفلاسفة الأخلاقيين من الرومان، ومقال سينيكا «عن العفو» هو أشهر تناوُلٍ لهذا الموضوع. يقول سينيكا إن الأمير الرحيم دائمًا ما يبدو عليه «كم هو كاره لأن تمتد يده» بإنزال العقاب، وأنه لن يلجأ إليه إلَّا «عندما ينال تكرارُ الخطأ العظيم من صبره كلَّ منال»، ولن يُنزِله إلَّا «بعد ممانعة كبيرة» و«كثير من التسويف»، ومع أكبر قدر ممكن من الرأفة (١ : ١٣، ٤ و١ : ١٤، ١ و٢ : ٢، ٣). في المقابل، يصرُّ مكيافيللي ثانيةً على أن هذه العقيدة تمثِّل سوءَ فهمٍ تامًّا للفضيلة محل النقاش. فإذا بدأت بمحاولة أن تكون رحيمًا بحيث «تفرط في السماح بظهور اضطرابات»، ولا تلجأ إلى العقاب إلا بمجرد أن يبدأ «القتل والنهب»، لن يكون سلوكك هذا تسامحًا ورحمةً بقدر ما هو سلوك حاكم لا يملك الشجاعة لأن يجعل ممَّنْ تزعَّموا الفتنة عبرةً لمَن يعتبر. ويضرب مكيافيللي مثالًا على ذلك بني وطنه الفلورنسيين الذين أرادوا ألا يظهروا بمظهر القسوة في مواجهة انتفاضة ما، ونتيجةً لذلك تصرَّفوا على نحوٍ أسفر عن دمار مدينة بأكملها، وهذه نتيجة أشدُّ بشاعةً في قسوتها من أي نوع من القسوة كان ذهنهم ليتفتَّق عنه. هذا يختلف عن سلوك شيزاري بورجا الذي «كان يعتبر قاسيًا»، والذي أدت إجراءاته الصارمة «إلى استعادة النظام في رومانيا، وتوحيدها وجعلها مسالمة وموالية للدولة» من خلال وحشيته المزعومة (٥٨).

هذا يقود مكيافيللي إلى سؤال وثيق الصلة يثيره — بنفس روح المفارقة المتعمدة — لاحقًا في نفس الفصل «عمَّا إذا كان الأفضل للمرء أن يكون محبوبًا لا مرهوبَ الجانب، أم العكس» (٥٩). من جديد، كان الجواب الكلاسيكي واردًا في كتاب «الواجبات» لشيشرون؛ «إن الرهبة ليست إلا ضمانة ضعيفة لاستمرار البقاء في السلطة»، بينما الحب «يمكن أن يكون محلَّ ثقة في أنه سيجعل السلطة في مأمن إلى الأبد» (٢ : ٧، ٢٣). ومن جديد، يُعرِب مكيافيللي عن تمام اختلافه مع هذا الرأي، ويرد بأن «الأكثر أمنًا بكثير» لأي أمير «أن يكون مرهوبَ الجانب على أن يكون محبوبًا»، وسبب ذلك أن كثيرًا من الصفات التي تجعل الأمير محبوبًا غالبًا ما تجلب عليه الاستهانة به والتمرد عليه، فإذا لم تكن رعيتك «يرهبون العقاب»، فلن يفوِّتوا فرصةً لخداعك من أجل مصلحتهم، لكن إذا جعلتَ نفسك مرهوب الجانب، فسوف يفكِّرون مليًّا قبل أن يلحقوا بك ضررًا أو يهينوك، وبالتالي سيكون من الأسهل عليك بكثير أن تحتفظ بدولتك (٥٩).

fig3
شكل ٢-٢: صفحة العنوان لترجمة إدوارد داكري لكتاب «الأمير»، أقدم نسخة إنجليزية تمَّ طباعتها.

المسار الآخَر للنقاش في هذين الفصلين يعكس رفضًا أكثر ازدراءً للأخلاق الإنسانية التقليدية؛ إذ يشير مكيافيللي إلى أنه حتى إذا كانت الصفات التي عادةً ما تُعتبَر جيدة هي فضائل بالفعل — بحيث إن الحاكم الذي لا يلتزم بها سيسقط في الرذيلة لا شك — فينبغي للحاكم ألا يقلق بشأن هذه الرذائل، سواء كان يعتقد أنها مفيدة أو غير ذات صلة بتسيير شئون حكمه.

الشغل الشاغل لمكيافيللي فيما يتعلَّق بهذه النقطة هو تذكير الحكَّام الجدد بأكثر واجباتهم أهميةً على الإطلاق، والمتمثل في أن الأمير الحكيم «ينبغي ألا يخشى اكتسابَ سمعةٍ سيئةٍ جرَّاء اتصافه بهذه الرذائل التي من دونها سيصعب عليه الاحتفاظ بسلطته»، وسيرى أن هذه الانتقادات ما هي إلا ثمن محتوم عليه أن يدفعه في سبيل أداء التزامه الأساسي، الذي يتمثَّل بالطبع في الاحتفاظ بدولته (٥٥). يوضِّح مكيافيللي انعكاسات هذا المبدأ أولًا فيما يتعلَّق بما يُفترض أنها رذيلة الشح؛ فبمجرد أن يدرك الأمير الحكيم أن الشح «أحد الرذائل التي تمكِّنه من الحكم»، لن يقلق بعد ذلك من أن يقال إنه رجل بخيل (٥٧). الأمر نفسه ينطبق أيضًا في حالة القسوة؛ فاستعداد الأمير للتصرف في بعض الأحيان بقسوة شديدة ضروري وحاسم في المحافظة على استقرار النظام في الشئون المدنية والعسكرية على حد سواء، وهذا يعني أن الأمير الحكيم «ينبغي ألا يقلق بشأن اكتسابه سمعةً بأنه قاسٍ»، وأن من الضروري ألا يقلق المرء من أن يُوصَف بأنه قاسٍ إذا كان قائدًا للجيش؛ لأن من دون هذه السمعة لن يتحقَّق أَمَلُكَ أبدًا في إبقاء قوَّاتك «متحدةً ومُهيَّأةً للعمل العسكري» (٦٠).

وأخيرًا، يتعرَّض مكيافيللي للنقطة المتعلقة بما إذا كان من المهم للحاكم أن يتجنَّب رذائل الطبيعة البشرية وخطاياها الأهون شأنًا، إذا كان يرغب في الاحتفاظ بدولته. في أغلب الأحيان كان مؤلِّفُو كتب إسداء النصح للأمراء يتناولون هذه المسألة في سياقٍ أخلاقي صارِم، يعيد إلى الأذهان إصرار شيشرون في كتابه الأول من سلسلة «الواجبات»، على أن الاستقامة «ضرورية للحُكم على نحو أخلاقي»، ومن ثَمَّ فإن كلَّ مَن هُمْ في مواقع السلطة يتعيَّن عليهم أن يتجنبوا كل الزلات السلوكية في حياتهم الشخصية (١ : ٢٨، ٩٨). في المقابل، يردُّ مكيافيللي في استهانة بأن الأمير الحكيم «يسعى لاجتناب تلك الرذائل إن استطاع، لكن إذا رأى أنه لا يستطيع، فإنه لن يُقلق نفسه دون شك» أكثر مما ينبغي بشأن هذه الحساسيات الأخلاقية العادية (٥٥).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤