إذا جُهَّالهم سادوا

بيت من الشعر حفظته، لا أدري منذ كم من عشرات السنين، ولعلَّ الذي أبقاه في الذاكرة هذا الزمن الطويل، هو أني كثيرًا ما كنتُ أُردِّده، إنني حتى اليوم لا أعرف من هو قائله،١ ربما كان أبا العلاء، لأنه مُعَطَّر بعطره، إلا أن القول الجميل لا يعتمِد في بقائه على بقاء اسم قائله، بل هو يستقل بذاته كائنًا له حق الحياة، ومن هنا جاءت قوة الفن بشتَّى صوره؛ فالأثر الفني الخالد أقوى من صاحبه الذي أبدعه، وفِيمَ العجب؟ إن الفنان إنسان يمرض ويموت، وأما فنه فإذا كانت له مقومات الفن الرفيع؛ كانت له بالتالي مقومات الدوام، مهما كان العصر وأهله؛ إذ الفن الرفيع فيه ما يرتفع به عن حدود المكان وحدود الزمان، لماذا؟ لأن ما يشتمل عليه مكان معين أو زمان مُعين هو جزئيات وتفصيلات مما لا يلبث أن يحيا حتى يموت، ولا يكاد يُوجَد حتى يفنى؛ فليست أحداث اليوم هي أحداث الأمس، كلَّا، ولن تكون هي أحداث الغد؛ فهذان حبيبان قد أذواهما الحب، وذلكما عدوَّان قد أحرقتهما الكراهية، وثالث هناك شغلُه المال وكسبُه وجمعه، ورابع كاد يهلكه الجهد في سبيل الصعود إلى مقاعد الحكم، وغير أولئك وهؤلاء، فأين كانوا بالأمس؟ وأين يكونون غدًا؟ لكن إذا ما وقعت موهبة عبقرية في فنٍّ من الفنون؛ في التصوير، أو في الشعر، أو في أدب المسرح والرواية، إذا ما وقعت موهبة عبقرية في ضربٍ من هذه الضروب من دنيا الفن والأدب، على ذَيْنِكَ العاشقَين، أو العدوَّين، أو ما وقعت عليه من أفراد الناس وهم في المُعترك، وأُثبتت تلك الواقعة المُفردة في قصيدة من الشعر، أو في لوحة من لوحات الفن التشكيلي، أو غير ذلك من فنون، بقي المنتج الفني أو الأدبي، ما بقي على وجه الأرض إنسان؛ وذلك لأن الفنان أو الأديب، من شأنه أن يقع على الجوهر الباقي من الواقعة الفردية الزائلة، فلئن كانت الواقعة الواحدة في كيانها الفردي شيئًا يزول، فقد يكون مُنطويًا في ثناياها «معنى» يخلُد ما خلَدت البشرية، لأنه في هذه الحالة، يكون «معنى» إنسانيًّا مُطلقًا وعامًّا، لا تتوقف صحة وجودِه على وجود الأفراد الذين يجسِّدونه في مسالكهم الفردية؟ ومن هنا نفهم شيئًا من المعنى الذي أراده أرسطو، حين قال عن «الشعر» (ولعلَّه يقصد كل ضروب الفن والأدب): أصدق من «التاريخ». فبينما التاريخ يحكي عما حدث ذات يوم ما، نرى الشعر يثبت عن حقيقة الإنسان ما هو باقٍ مع الإنسان في كل يوم.

وهذا بيت من الشعر، حفظته منذ لا أدري كم من السنين؟ كنت أردده لنفسي آنًا بعد آنٍ، حتى رسخ في الذاكرة، لكنني لستُ الآن على يقينٍ من دقة إدراكي لأبعاد مغزاه، وتلك هي خاصة أخرى من خصائص الشعر، فهو ليس صياغة تُشبه ما يصوغه رجال العِلم من رموزٍ عددية أحيانًا، ومن حروف الأبجدية أحيانًا أخرى، قاصِدين بذلك ألا يحمِل كلُّ رمزٍ إلا معنى واحدًا، يتساوى في إدراكه كلُّ رجال العِلم في عالَم اليوم والأمس والغد. لا، ليس ذلك هو ما يصنعه شاعر بالألفاظ حين يصُوغها؛ إذ تستطيع القول بأن عظمة الشعر يتفاوت قدرُها بين مختلف الشعراء، بتفاوُت هؤلاء الشعراء في قُدرتهم على اختيار اللفظ والصياغة، بحيث يُمكن لكلِّ قارئ أن يخرُج لنفسه بمضمون، ليس هو بالضرورة المضمون الذي يخرج به قارئ آخَر، لأنه إذا كان رجل العِلم يتناول موضوعه من ناحية «الكم» فالشاعر يتناول موضوعه من جانب «الكيف». العلم يدرس الطبيعة، حتى لو كان ما يدرسه هو «الإنسان» إذ هو في هذه الحالة ينظُر إلى الإنسان من حيث هو جزء كسائر أجزاء الطبيعة، وأما الشعر فموضوعه «الإنسان حتى إذا تناول أي جزءٍ من أجزاء الطبيعة، فهو يتناوله وكأنما هو مِثله «إنسان». العلم «يُطَبْعِنُ» الإنسان والشعر «يُؤَنْسِنُ» الطبيعة، فالهدفان مُختلفان أشدَّ اختلاف، والوسيلتان أشد اختلافًا.

وإنما أردتُ أن أقول إن هذا البيت من الشعر، الذي حفظتُه وكثر ما ردَّدته، لستُ الآن على يقينٍ من أن إدراكي لكل جوانب معناه كان هو هو الإدراك في مراحل حياتي جميعًا، فماذا أرى من معناه اليوم؟ إنني أُرجِّح أن يكون هذا البيت في محفوظات الكثرة الغالبة من القراء؛ ما يُيسِّر المشاركة في الحديث، فهو بيت الشعر الذي يقول:

لا يصلح الناس فوضى لا سَراة لهم
ولا سَراة إذا جُهَّالهم سادوا

ولنبدأ معًا بشيء من تحليل اللفظ في ظاهره، قبل أن نتعرَّض لِما قد ينطوي عليه ذلك اللفظ من أبعاد، فاللفظة المحورية هنا هي «سَراة» (بفتح السين) وسراة أي شيء «أعلاه»، فذروة الجبل سَراته، وظهر الجواد سراته، وهكذا.

على أن القاموس الوسيط يُضيف إلى ذلك، أن سَراة الشيء قد يُراد بها «وسطه» وقد يُراد بها أيضًا «مُعظمه»، وبناءً على ذلك، فإذا قلت: «سراة الشعب المصري»، كنت تُشير إلى متوسط أفراده، أو إلى معظم أفراده، وهما مَعنيان — كما ترى — قريبان أحدهما من الآخر، إلا أن سياق البيت الذي نعرضه الآن للتحليل يَقضي بأن المعنى المقصود من كلمة «سَراة» هنا هو الجانب «الأعلى» من الشيء الذي يكون موضوعًا لحديثنا، فإذا قال الشاعر: «لا يصلح الناس فوضى لا سَراة لهم»؛ فأول ما يتبادر إلى الذهن، هو أن الشاعر قد قصد بذلك أن يقول إنه لا بدَّ للناس من قيادة، أو ريادة، أو زعامة، أو صفوة، تهديهم سواء السبيل، وإلا ضربت «الفوضى» في حياة الناس بخلطها وخليطها وتخليطها، حتى لتنمحي الحدود الفواصل بين الأشياء والأفكار؛ فلا يدري أحدٌ أيُّها يكون أيَّها!

إذن فاللفظة الثانية التي تستحق من تحليلنا وقفة، لأهميتها في البيت الذي نعرضه؛ هي كلمة «فوضى»، وإني لأعلَم أنها كلمة كثيرة الدوران على ألسنة الناس، لكن ذلك وحدَه لا يضمن لنا أن يكون معناها واضحًا، حتى لأولئك الذين يُكثرون استخدامها في أحاديثهم الجارية، فمتى يكون الأمر «فوضى»؟ أظن أن معنى الفوضى يتَّضِح بضوء يُلقى عليه من ضده، وضده هو «النظام»، ومرة أخرى نُعيد السؤال: ومتى يكون في موقفٍ ما «نظام»؟ أيسر إجابة، وأوضحها، وأدقها، هي أن «النظام» في موقفٍ ما، أو بين مجموعة مفردات، هو قُدرتنا على وصفه بكلمةٍ واحدة، أو بعبارة واحدة قليلة الكلمات، في حين أنه لو دبَّت الفوضى في ذلك الموقف نفسه، أو في مجموعة المفردات ذاتها، لأخذت أجزاؤها مواضع، بحيث يتعذَّر، أو يستحيل وصفها وصفًا صحيحًا ودقيقًا، اللهم إلا إذا كلَّفَنا ذلك كتابة مجلد ضخم أو ربما عدة مجلدات. ونسوق إليك أمثلة موضحة: خُذ حفنة من الحصى، وانثرها على الأرض كما اتفق، ثم حاول أن تصِف أوضاع الحصوات بعضها بالنسبة إلى بعضها الآخر، فانظر كم يقتضيك الأمر من قياسٍ للمسافات التي بين الحصاة والحصاة، وقياس الزوايا التي تنحرف بها كل حصاة عن كل حصاة أخرى في المجموعة، لكن اجمع تلك الحصوات مرة أخرى، ثم رصَّها على الأرض على هيئة «مربع» فعندئذٍ تكون هذه الكلمة الواحدة، أعني كلمة «مربع» قادرة على وصف مجموعة الحصوات في أوضاعها، فهذه الحالة الثانية، هي حالة «نظام» بينما كانت الحالة الأولى حالة «فوضى».

خُذ مثالًا ثانيًا؛ مجموعة ضخمة من كتب وأوراق، في مكتبةٍ خاصة أو عامة، ما الفرق بينها وهي في «نظام» وبينها وهي «فوضى»؟ الفرق هو أنها في الحالة الأولى قد رُتبت وَفْقَ قاعدةٍ مُعينة، كأن تُوضع كتب الأدب في مكان، وكتب العلوم في مكان، وكتب التاريخ في مكان ثالث، وهَلُمَّ جرًّا، ثم يزداد النظام نظامًا إذا وضعت قاعدة فرعية لكل مجموعة فرعية، ففي كتُب الأدب نُفرق بين شعر ونثر، وفي كتب الشعر نفرق بين قديم وحديث، وبين عربي وغير عربي، وهكذا في سائر المجموعات، وأما إذا غاب النظام وقامت الفوضى، فتُكوَّم الكتب كما اتفق، فيتعذَّر على صاحب المكتبة نفسه أن يُخْرِج لنفسه كتابًا بعينه؛ لأنه يكاد لا يعرف لأي كتابٍ مكانًا إلا عن طريق المصادفات، وانظر إلى هاتَين الحالتين، باحثًا عن الفرق الأساسي بين ما هو «نظام» وما هو «فوضى» تجده — كما أسلفتُ لك — كامنًا في سهولة الوصف بكلماتٍ قليلة، إن لم يكن بكلمةٍ واحدة في حالة النظام، وبصعوبته في حالة الفوضى؛ لأنك مُضطر في هذه الحالة أن يجيء وصفك لها، مجموعة قوائم تفصيلية بأسماء الكتُب ومواضعها، وحتى هذا يتعذَّر فعله إذا كانت المكتبة مكوَّمة أكوامًا على الأرض، وليست مرصوصة في خزائن أو فوق رفوف.

وخذ مثلًا ثالثًا وأخيرًا، نظام الكون، فكائنات هذا الكون العظيم، رغم لا نهائية عددها؛ قد صِيغت في «نظام» بعضها مع بعض، حتى ليذكُر المفكرون هذا النظام برهانًا بين البراهين على وجود الخالق سبحانه وتعالى، كلما أرادوا على ذلك الوجود برهانًا عقليًّا يؤيدون به صلابة الإيمان، فماذا نعني ﺑ «النظام» في هذه الحالة؟ إننا نعني الشيء نفسه الذي عنيناه في المثالَين السابقَين، وهو إمكان الوصف بكلمات قليلة، في حين أننا لو افترضنا غياب النظام عن الكون فاختلط حابله بنابله؛ لاستحال استحالةً قاطعة أن يُوصَف، حتى لو خُصِّصت للوصف ملايين المجلدات لرصد أجزائه وجزئياته، أقول: ماذا نعني بالنظام عندما نصف به الكون؟ وأجيب: إن الذي نَعنيه هو أن لكلِّ أسرةٍ من الظواهر «قانونًا» يستطيع البحث العلمي استخلاصه، وإن هو لم يستطع إلى اليوم، فهو — من الناحية النظرية — مُستطيع يومًا ما، في مستقبله القريب أو البعيد. وقانون الظاهرة المُعينة، كالضوء، أو الكهرباء، إنما هو عبارة قصيرة، لكنها تصدُق على ما لا نهاية له من حالات الوجود الفعلي لتلك الظاهرة، وحتى لو كانت للظاهرة الواحدة عدة قوانين، فمِن المُمكن دائمًا أن تُنسق تلك المجموعة تنسيقًا يجمعها تحت «مبدأ» عِلمي واحد. ثم ما هو أكثر من ذلك؛ فنحن إذ نرى بين أيدينا علومًا كثيرة: الفلك، والفيزياء، والكيمياء، وعلوم النبات والحيوان والإنسان، وحين نرى كذلك أن كل علم من تلك العلوم يُقام على عدة قوانين لا قانون واحد؛ فإننا نشعر بالقلق العقلي، ونأخذ في محاولات تحليلية، طويلة وعريضة، وعميقة، نستهدف بها البحث عن حقيقةٍ واحدة، تلتقي فيها تلك الأشتات جميعًا، وتكون تلك الحقيقة الواحدة — إذا وقعنا عليها — بمنزلة الأم التي أنسَلَت تلك الفروع جميعًا، أو بمنزلة الينبوع الواحد، الذي تتدفق منه المياه كلها، قبل أن تعود فتتفرع فيما بينها فروعًا، وفروعًا للفروع، فإذا ما تحقق للباحث هدفه هذا، سُمِّيَت تلك الحقيقة الواحدة الأولية — عادة — باسم «المبدأ الأول»، وسُمِّيَ العمل الفكري الذي اضطلع به الباحث «فيلسوفًا» وسُمِّيَ البحث نفسه في هذه الحالة باسم «فلسفة»، وتلك هي المهمة الأولى والهامة والمُميزة للفلسفة في أي عصرٍ من عصور تاريخها، أعني محاولة جمع ما يبدو أشتاتًا من ظواهر تحت مبدأٍ واحد، يُوحِّده ويُفسره في آنٍ معًا. وبعبارة أخرى مُتصلة بما نحن بصدد الحديث عنه وهو «النظام» ومعناه، لكي تتَّضِح لنا بالتالي طبيعة «الفوضى» ومعناها، نقول إنَّ نظام الكون، الذي هو من الأدلة على وجود الله سبحانه؛ إنْ هو إلا أن وُضِعَت أجزاء الكون وجزئياته، على سُنَنٍ معلومة من قوانين، وهذه القوانين إن تعدَّدت؛ فهنالك المبدأ الواحد الذي يُوحدها جميعًا، وهو مبدأ إذا عبرنا عنه بكلمات؛ كانت العبارة قصيرةً قليلة الكلمات.

وبعد هذا الذي بسطناه، فلنقرأ بيت الشعر الذي نُدير حوله الحديث بقول الشاعر: «لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم، ولا سراة إذا جُهَّالهم سادوا.» فأول بادرة عند القارئ — فيما أظن — هي أن يقرأ هذا البيت من منظور سياسي؛ فيكون المعنى هو أنَّ حياة الناس لا تصلح إلا إذا أمسك لهم زمامها حاكم مُطلق السلطان، يكون في جماعة الناس ما يكون الرأس من البدن؛ لأنه إذا تُرك الأمر للجماهير وحدَها، بحيث لا يكون فوقهم من هو أعلى؛ كان محتومًا أن تتنافر المصالح بتنافُر الأفراد. وقد يقرأ البيت من منظورٍ اجتماعي، تكون فكرة الطبقات الاجتماعية ووجوب تفاوتها قدرًا هي الفكرة الغالبة، فيكون المعنى هو أن حياة الطبقات الدنيا من المجتمع لا يصلح حالها إلا إذا تُرِكت السيادة «للعِلية» (بكسر العين وسكون اللام) الصفوة أو الطبقة الأرستقراطية، سواء أكانت أرستقراطية ثراءٍ ومولد أم كانت أرستقراطية عِلم ومعرفة، لكن مثل هذه الطبقة تختفي في مجتمع تطفو فيه جماهير الشعب على السطح؛ إذ الأرجح في تلك الجماهير أن تسودها جهالة بحقائق الأشياء، وبالتالي فهيَ أقرب إلى أن تضلَّ سواء السبيل.

لكنني أتحدَّث هنا عن الحياة «الثقافية» وطرائق تحديثها؛ فلا المنظور السياسي بشاغلي، ولا المنظور الاجتماعي من وجهة نظر سياسية، وإنما هو المنظور الثقافي الذي قرأتُ منه هذا البيت من الشعر، فكان المعنى هو أنه لو تركت جماعة المُثقفين غير مُهتدية بمبدأ ضمني يكمُن في نتاجهم؛ لجاءت التركيبة الثقافية في جُملتها أقربَ إلى كومةٍ من الخيوط، لم تُنسَج على نولٍ لتكون قماشة مُتصلة تصلح أن يُقَدَّ منها ثوب يرتديه من يرتديه؛ فالمبدأ الضِّمني هنا هو بمنزلة «السَّراة» أو القمَّة التي يتَّجِه إليها الصاعدون، وفكرة «المبدأ» في هذه الحالة، تترادف مع فكرة «الهدف»، فالشرط بأن يكمُن في نفوس الذين يُنتجون ثقافة «مبدأ» واحد، رغم تعدُّد المجالات التي منها تتكوَّن حياة ثقافية كاملة؛ هو نفسه الشرط بأن يكون أمامنا «الهدف»، نعمل على تحقيقه، أو بعبارةٍ أخرى، أن نلتزم في سيرنا «خطة» ولو على سبيل التقريب، لا تُضيق الخناق على أصحاب المواهب، وإذا لم يكن مبدأ، أو هدف، أو خطة، فماذا يبقى إلا أن تتقاطع الخطوط، وتختلط السبل، ويُصبح أمرنا «فوضى» لا نستطيع معها أن نصف حياتنا الثقافية بصفةٍ تُبين اتجاهها، فمِثل هذا الوصف لا يتحقق لشيء — أي شيء — إلا إذا كان على شيء من «النظام» بالمعنى الذي أسلفنا شرحه لهذه الكلمة، فمع «النظام» يسهل التقنين، ويسهل الوصف في كلماتٍ قلائل مُحددة المعنى واضحة الدلالة.

وإنني لأَبعدُ رجل عن أن يجعل في الحياة الثقافية سُلطة تُملي، وجمهورًا يتلقَّى ما يُملى عليه، فليس الذي يدور بخاطري، هو أن تجيء الخطة الثقافية هابطةً علينا من وزارة الثقافة أو غيرها من أنظمة الحكم؛ فما هذه الهيئات الحاكمة إلا وسائل لتيسير السُّبل أمام المواهب المُبدعة، ولكن الذي أعنيه هو أن الحياة إذا استقامت سويةً لأبنائها، وجدتَ هؤلاء الأبناء وقد تحرَّكت ضمائرهم مُتجهة نحو أملٍ مُعين تتمناه لشعبها، ولولا هذه الحاسَّة الفطرية؛ لما وجدنا الشعوب تتميَّز فعلًا بأنماطٍ مُعينة من الذَّوق والرؤية ورسم الأهداف، ومن هنا جاءت صور التعبير بشتَّى أدوات الثقافة: الأنغام، والألوان، والكلمات، وغيرها من وسائل مُتميزة بطابعٍ خاص في كل جماعةٍ من الناس، فيكون لها موسيقاها وأغانيها، وتصويرها، وشعرها، وأدبها، وهكذا. على أن تلك الخصوصية الثقافية للشعوب، وإن حافظت على جوهرها الأصيل، فهي لا تتنافى مع التأثُّر بما يُحيط بها من ثقافات الشعوب الأخرى، والتأثير فيها.

والآن فلنُضيق مجال القول، وبدل أن نتحدَّث عن «الحياة الثقافية» وعن «الشعوب» بمعانٍ مُطلقة، نحصر انتباهنا في مجالٍ واحد يُعَد مجالًا من مجالات الإبداع الثقافي. ولأبدأ بالفكر الفلسفي في الوطن العربي المُعاصر، كيف يجيء؟ وكيف يكون إذا قُسِم لنا أن يكون لنا شيء من فِكر خاص يحمل هذا الطابع الفلسفي في منهجه وفي هدفه؟ فهذا الضرب من الفكر إنْ هو — بكلِّ اختصار — إلا تعقُّب المفاهيم ذات الأهمية الخاصة في حياة الناس في عصرٍ مُعيَّن، وبالطبع تختلف هذه المفاهيم المحورية من عصرٍ إلى عصر، فليس ما يسودُ عصرًا قريب عهدٍ بدينٍ جديد آمنوا به، هو نفسه ما يسودُ عصرًا آخر قريبَ عهدٍ بعِلم جديد تفتَّحت به قرائح العلماء، وذلك التبايُن بين العصور لا يتنافى مع أن تكون هنالك معانٍ كبرى شغلت الإنسان منذ كان إنسانًا، وستظلُّ تشغله ما بقِيَ إنسانًا، كفكرة الخلق، وفكرة المصير بعد الموت، فماذا يصنع صاحِب فكرٍ يميل بطبعه نحو نهج التفكير الفلسفي، سوى أن يلتقط ما يلفت نظره من المفاهيم الشائعة بين جمهور الناس، فيُحلِّلها ويؤصِّلها، وإنه وهو في طريقه نحو التحليل والتأصيل؛ لَيَصُبُّ الضوء شيئًا فشيئًا على ما تَعنيه الفكرة التي يتناولها بالتشريح. ولا بدَّ لنا من القول هنا، بأن الجمهور وحدَه إذ يتداول فيما بين أفراده مفهومًا من تلك المفاهيم المحورية في عصره، مُستحيل على قُدراته العامة أن تُدرك المعنى الواضح لذلك المفهوم. على أنَّ مثل هذا التشريح للمعاني بُغيةَ تَوضيحها لا يجيء مع كبار الفلاسفة مجزَّأً، وإنما هو يستهدف آخر الأمر إقامة بناء فكري كامل وشامل، يُصور جسم الحياة كما هي قائمة، ويُبين في الوقت نفسه ماذا على الناس أن يصنعوه بتلك الحياة لِتَكْمُلَ بعد نقص.

ومن هو على طريق التفكير الفلسفي — بهذا المعنى الذي قدَّمناه — من أبناء الوطن العربي، تَضطرُّه المفاهيم التي تُلح عليه بأن يلتزم بتشريحها وتوضيحها، فهي في حياتنا العربية كثيرة جدًّا، خطيرة جدًّا، شديدة الغموض في أذهان الناس، ومع ذلك الغموض تراهم يتقاتلون من أجلها في حرارة وكأنهم حقًّا يعلمون على أي شيءٍ هم يتقاتلون! وفي الصدارة يأتي مفهوم «العروبة» والصعوبة الشديدة في رسم الخط الواضح بين «العروبة» و«الإسلامية»؛ إذ هو من الغموض بحيث تجد من لا يستسيغ منك أن تقول أمامه إننا ننتمي إلى «عروبة»؛ فيعترضك بقوله إنما الانتماء يكون للأمة الإسلامية في طولها وعرضها. ولو أنَّ الخلط بين هذين المفهومين مُقتصِر على الجانب النظري والجدلي فقط، لهان علينا الأمر، وقُلنا إنها شقشقة لسان لا تغني عن الحق شيئًا، ولكنه خلط يضرب في صميم حياتنا السياسية والعملية، حتى لقد جاز لبلدان «عربية» أن تحارب في صفوف بلدان «إسلامية وغير عربية» بلدانًا عربيةً أخرى، وليس شأني هنا هو السياسة، فلستُ من رجالها، ولكن شأني هو وضوح المفاهيم المحورية في حياتنا أو غموضها.

وهنا ألقي بسؤال على القارئ، وسوف يرى أن الإجابة ستكون في أيدينا مفتاحًا لمشكلةٍ من أعقد مشكلاتنا الثقافية المعاصرة، وذلك السؤال هو: إذا حدث أن ظهر بيننا صاحب منهجٍ فلسفي في تحليل المعاني، وأن ذلك الرجل قد حلا له أن يَصبَّ منهجه ذاك على مفهومَي «العروبة» و«الإسلامية» فهل يَحسُن به أو يَقبُح به أن يستعين بما قد يكون بعض فلاسفة العرب قالوه في طرائق تحليل الأفكار؟ إذا جاء جوابك بأن ذلك الأخذ الثقافي بين الشعوب هو أمر لا ضير فيه، بل إنَّه لَخير كل الخير، يُضيف إلى إحدى الثقافات، دون أن يمس جوهرها الأصيل، أقول: إذا جاء جوابك على هذا النحو؛ إذن فكأنك أشرْتَ علينا بوجوب الأخذ والعطاء بين مُختلف الثقافات، وتكون قد ألقيتَ درسًا على قومٍ يرفعون علينا عِصِيَّهم إرهابًا؛ حتى ننكمِش في حدود جدراننا، لا نفتح فيها نافذةً ولا بابًا.

وكنتُ أودُّ أن أسوق بعدَ مثل الفكر الفلسفي، مثلًا ثانيًا من الفن، وثالثًا من الأدب؛ لأوضِّح كيف أن بعض عناصر «المبدأ» الضِّمني، الذي نريد له أن يكون ماثلًا أمام صُنَّاع الثقافة في أُمتنا، يجب أن يكون ضرورة الأخذ والعطاء بين الثقافات، غربيها وشرقيها على السواء، دون أن نخشى في سبيل ذلك طغيانًا على هويتنا الوطنية والقومية معًا.

وأما أهم عنصرٍ مما نُريد له أن يكون «المبدأ» الهادي في إبداعنا الثقافي، على اختلاف مبادئه؛ فهو أن نتصوَّر بوضوح ناصع، مُقومات المُواطِن الذي نسعى إلى بنائه بمُبدعاتنا، ماذا عساها أن تكون؟ إن الوالد الذي يتولَّى ولدَه بتربية مُنسقة تنتهي به إلى غايةٍ منشودة، إنما يؤدي ما يؤديه، والصورة المُثْلَى قائمة نصبَ عينَيه، وإلا لَما عرف ماذا يكون صوابًا وماذا يكون خطًا في تنشئته لولده، وكذلك الحال بالنسبة إلى بُناة الصرح الثقافي في بلادنا؛ فلن تتيسَّر لهم هداية السَّير على جادَّة الطريق، إلا إذا تمثَّل في وجدانهم صورة لما يُريدون تحقيقه بما يُبدعونه قطرة قطرة، معزوفة معزوفة، قصيدة قصيدة، رواية رواية، مقالة مقالة.

ولستُ أرى صورةً نهتدي بها في إنتاجنا الثقافي خيرًا من مُواطن فيه كل مقوماته الوطنية والقومية الأساسية، بحيث يكون مصريًّا لا شائبة في مصريته، عربيًّا لا رِيبة في عروبته، ثم إنسانًا يعيش مع سائر الناس في أرجاء الدنيا، يحمل معهم هموم العصر للمشارَكة في حلها، كما يحمل معهم عبء التقدُّم، بمشاركة فعَّالة تُحَسُّ بها الدنيا؛ ليَصيح زهوًا بملء فيه: ها أنا ذا، وهكذا كان أبي.

١  عرف المؤلف فيما بعد أن قائل البيت الذي سيرِد ذكره هو الشاعر الجاهلي الأفوه الأودي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤