في قرية الأشرار

استمرت القافلة تسير نحو خمس ساعات، عندما رفع «أحمد» يده وطلب التوقف، ثم أشار إلى مكان بين الأعشاب العالية، يبدو كمخبأ طبيعي … وسرعان ما توقف الجميع، وقال «أحمد»: سندفن صناديق المواد المشعة هنا … إنه مكان ممتاز، ومن السَّهل تمييزه إذا احتجنا للعودة إلى هذه الصَّناديق.

نزل الشَّياطين، ونزل «فيجو» أيضًا، وأخذوا يحملون الصَّناديق الثقيلة إلى المكان الذي أشار إليه «أحمد» … ثم انهمك الجميع في حفر أربع فجوات ضخمة في الرمال بجوار الصُّخور، وسرعان ما أخفوا الصَّناديق فيها ثم أهالوا عليها الرمال، وأحضر «فيجو» قطعة من أغصان الشَّجر وأخذ يمر بها على الرمال، حتى استعادت مظهرها الطبيعي، وحتى بدا المكان كأن لم يكن فيه حُفر على الإطلاق.

قالت «إلهام»: لننتهز الفرصة ونتناول بعض الطعام والشَّراب، بدلًا من التوقف من جديد!

وافق الجميع بحماس على اقتراح «إلهام»، وسرعان ما كانوا يتناولون بعض «الشَّطائر» والماء، واشترك «موري» معهم، وكانوا قد نقلوه إلى ظل شجرة؛ لينال قسطًا من الراحة … وبعد أن تمددوا جميعًا على الأرض نحو نصف ساعة، عادوا فقفزوا على ظهور خيولهم وبغالهم، وانطلقت القافلة من جديد.

كانت العاصفة قد جُن جنونها، ورغم أنهم كانوا يسيرون في ظل الأعشاب والأشجار، إلا أن الرمال كانت تلسع وجوههم وأيديهم … وبدأت الجياد تصهل معلنةً عن ضيقها بهذه الرمال السَّافية. ولكنهم رغم كل هذا مضوا يُغِذُّون السَّير، ومالت الشَّمس للمغيب، وأخذ الظلام يزحف على الصَّحراء الواسعة.

وتحدث «فيجو» إلى «موري» متسائلًا: متى نصل إلى القرية؟

قال الرجل الجريح، بصوت واهن: ربما بعد ساعة … إننا نسير بسرعة بسيطة؛ لأن الرمال تعاكسنا …

أسرع «فيجو» يبلغ «أحمد» بالحديث، فقال: لا بأس … إننا نستطيع الاحتمال ساعة أخرى …

وقد صدق تقدير «موري»، فلم تمضِ ساعة حتى بدت أضواء قرية من بعيد. وأحس الجميع بارتياح، رغم أنهم كانوا يدركون أنهم مقبلون على قرية صناعتها العنف والقسوة.

بعد ساعة تقريبًا هبط الظلام تمامًا، وأخذت القافلة المجهدة تدخل حدود القرية … كانت الشَّوارع خالية، والبيوت الخشبية على الجانبين مضاءة. واتجهوا ناحية فندق قديم كانت تقف أمامه بعض الخيول.

نزل الشَّياطين الخمسة، ثم ساعدوا «موري» على النزول، وفتح «أحمد» باب الفندق ودخل … كانت هناك صالة واسعة بها بضع موائد، بعضها مشغول برجال يشربون ويلعبون الورق، وعلى مكتب صغير في جانب الصَّالة جلس كاتب الفندق يقرأ في كتاب قديم. اتجه «أحمد» إليه وقال: نريد ثلاث غرف لهذه الليلة …

رفع كاتب الفندق الشَّاب نظره إلى «أحمد» وقال: الدفع مقدمًا.

أحنى «أحمد» رأسه، ووضع يده في جيبه على الفور، وقال الكاتب: ألف وستمائة بيزيتا يا سنيور …

أخرج «أحمد» من جيبه كمية ضخمة من النقود ودفع المبلغ المطلوب. وكان هذا خطأ لم يلتفت إليه، ففي أحد جوانب الصَّالة كان ثمة ثلاثة رجال تبدو عليهم علامات الشَّر، فما كادوا يلمحون النقود في يد «أحمد» حتى تبادلوا النظرات، ثم الهمسات …

دفع «أحمد» المطلوب، ثم خرج واستدعى بقية الشَّياطين، وحملوا «موري» … وعندما دخلوا اتجهت إليهم كل الأنظار، وخاصةً للفتاتين، وصعدوا إلى غرفهم، فخصصوا ﻟ «موري» و«فيجو» غرفة. وﻟ «إلهام» و«هدى» غرفة وﻟ «أحمد» و«قيس» و«عثمان» غرفة.

وبعد أن استقروا، نزل «أحمد» إلى كاتب الفندق، وطلب منه استدعاء طبيب على وجه السرعة.

نظر إليه الكاتب في جمود، وقال: إن الطبيب الوحيد في القرية لا يستطيع مغادرة مكانه، وإنه رجل عجوز، ولا بد من سيارة لنقله …

أحمد: وأين أستطيع استئجار أو شراء سيارة؟

اتسعت عينا الكاتب وهو يقول: تريد شراء سيارة يا سنيور؟!

أحمد: نعم!

استغرق الكاتب في التفكير لحظات، ثم قال: كما أن هناك طبيبًا واحدًا في القرية. فليس بها إلا سيارة واحدة …!

انقبض قلب «أحمد»، ولكنه قال: وهل هي للبيع؟

جاء الرد هذه المرة من خلف «أحمد»، فقد سمع من يقول: نعم … إنها للبيع يا سنيور …

لاحظ «أحمد» رد الفعل على الكاتب … وأدرك أن محدثه شخص مرهوب الجانب … فالتفت إليه بهدوء وقال: سيسرني أن أراها.

ونظر «أحمد» إلى المتحدث، الذي وقف واضعًا يديه في وسطه، وحوله وقف شخصان آخران يلمع في عيونها التحدي … قال «أحمد» بهدوء مرة أخرى: أين هي السَّيارة؟

قال الرجل: في مكان قريب، تعال معنا!

فكر «أحمد» لحظات، وأحس أن الأمور لا تسير على ما يرام، وأن ذهابه مع هؤلاء الثلاثة ليس بالقرار الحكيم، فقال: ألا يمكن إحضارها هنا؟

فقال الرجل: هل تسخر منا أيها الصَّبي؟

أدرك «أحمد» على الفور أنهم يريدون الاشتباك معه. وأنهم يعرفون أن معه كمية كبيرة من النقود، فظلَّ ملتزمًا الهدوء وقال: مطلقًا يا سنيور! لماذا أسخر منك؟! إذا كانت السَّيارة قادرة على السَّير؛ ففي إمكانكم إحضارها أمام الفندق، فإنني أريد إحضار الطبيب لصديق جريح …

زاد الرجل من لهجة الاستهانة والتحدي، وقال: إن الذي يريد أن يشتري شيئًا ينتقل إليه … ولكن لا يُنقَل الشَّيء إلى المشتري!

لمح «أحمد» على أعلى السلم «عثمان» نازلًا، ووجد أن الأوان قد آن لإيقاف هؤلاء الأشرار الثلاثة عند حدهم، فقال ملتزمًا الهدوء: لا بأس يا سنيور … لا داعي مطلقًا لشراء السَّيارة، سوف أبحث عن سيارة أخرى! …

قال الرجل وهو يمد يده، يخبط صدر «أحمد»: لقد ضيعت وقتنا أيها الصَّبي … إن للوقت ثمنًا في هذا العالَم!

قال «أحمد»: إنني أشكُّ في أن لوقتك أية قيمة يا سنيور!

وكما توقع «أحمد» تمامًا، رفع الرجل يده في ضربة قوية، وجهها إلى «أحمد»، الذي اكتفى بأن هز رأسه فطاشت الضربة، فانحرف الرجل بشدة، وببساطة شديدة سحبه «أحمد» من ذراعيه، وأكمل اندفاعه القوي، حتى ارتطم بخشب البار، وسقط! … وهنا هجم الرجلان الآخران على «أحمد»، ولكن بضربة قوية جعلت أحدهما يتلوى على الأرض … وفي نفس اللحظة كان «عثمان» قد قفز إلى ميدان المعركة، وجذب ذراع الرجل الثالث، فلما استدار إليه، وجه إليه ضربة رائعة جعلته يدور حول نفسه، ثم يسقط على وجهه! …

أخذ الحاضرون ينظرون إلى ما يحدث وقد فتحوا أفواههم دهشةً … ففي لحظات انطرح الرجال الثلاثة كأنما داستهم سيارة مسرعة! … وبدا الاحترام على وجه الجالسِين جميعًا. وقال «أحمد» موجهًا حديثه للكاتب: أريد الطبيب والسَّيارة! …

وبلل الكاتب المذعور شفتيه، وقال: سأرسل في طلب الطبيب فورًا يا سنيور، أما السَّيارة فعند السنيور «مانويل»، وهو يسكن في المنزل المجاور للفندق! …

تطوع أحد الواقفين فقال: سأحضر لك السنيور «مانويل» فورًا! …

وجلس «أحمد» و«عثمان» يتحدثان … بينما قام الرجال الثَّلاثة، وفي عيونهم علامات الشَّر والضيق، انسحبوا واحدًا وراء الآخر في مذلة … وبعد لحظات حضر «مانويل»، واتجه إلى حيث جلس «أحمد» و«عثمان»، وقال: لقد سمعت أنكما تريدان شراء سيارة … إن سيارتي هي الوحيدة في هذه الأنحاء ولا بد أن تدفعوا مبلغًا كبيرًا ثمنًا لها …

قال «أحمد»: سندفع ما تساويه السَّيارة يا سنيور «مانويل»، ولكننا لا نبعثر نقودنا كما تصور بعض الناس هنا! …

ونظر «أحمد» حوله، وفتح الباب في هذه اللحظة، وظهر رجل عجوز يحمل حقيبة صغيرة، وعرف فيه «أحمد» الطبيب، فقال ﻟ «عثمان»: اصعد معه إلى «موري»، وسأبقى للحديث مع السنيور «مانويل»! …

ثم التفت «أحمد» قائلًا: ما هو نوع السَّيارة، وسنة إنتاجها يا سنيور؟ …

رد «مانويل»: إنها من طراز «فورد»، موديل ١٩٤٨! …

صفَّر «أحمد» بشفتيه … «فورد» قديمة، والمسافة بينهم وبين «بيونس آيرس» جبلية وبعيدة … ولكن لم يكن هناك مفر، فقال ﻟ «مانويل»: هل هي جاهزة؟ …

رد «مانويل»: إن كنت ستشتريها، فسأقوم بإعدادها الليلة …

أحمد: فليكن هذا يا سنيور … وماذا تطلب ثمنًا لها؟ …

أخذ «مانويل» يفكر، لقد سمع من الناس أن هذا الشَّاب يحمل نقودًا كثيرة، وهذه هي فرصته لبيع سيارته بمبلغ يؤمِّن له حياته، وأخذ يبلل شفتيه بلسانه … وفي هذه اللحظة ظهر «عثمان»، واقترب من «أحمد» وهمس في أذنه قائلًا: لن يستطيع «موري» السَّفر معنا … لقد أشار الطبيب عليه بالراحة لفترة لا تقل عن أسبوعين قبل أن يتحرك! …

قال «أحمد»: الحمد لله، فلم يكن في استطاعتنا أن نأخذه معنا … فالسَّيارة لن تتسع إلا لنا فقط! …

عثمان: لقد قرر «فيجو» أن يبقى بجواره! …

أحمد: عظيم … سندفع لهما مبلغًا طيبًا، وسوف نرى كيف نلتقي بهما مرة أخرى!

عثمان: إن «فيجو» لن يستطيع العودة إلى كوخه بجوار أراضي «مارتينز»؛ فقد عرفوا بالطبع أنه ساعدنا، ولن يتركوه حيًّا إذا عاد! …

أحمد: ليبقَ إذن مع «موري»؛ حتى نرى كيف يمكننا مساعدته!

ثم التفت إلى «مانويل» قائلًا: والآن يا سنيور «مانويل»، ماذا قلت؟

رد «مانويل»: إنني أطلب خمسين ألف بيزيتا!

وحسبها «أحمد» سريعًا، ووجد أن المبلغ ليس كبيرًا كما تصور «مانويل» فقال: اتقفنا يا سنيور … أريد السَّيارة جاهزة في السَّادسة صباحًا …

مد «مانويل» يده إلى «أحمد» فوضع فيها عشرة آلاف بيزيتا، وقال: هذا المبلغ لإعداد السَّيارة … وسأدفع لك الباقي عندما أجد السَّيارة دائرة أمام الباب.

وعندما قام «مانويل» منصرفًا، قال له «أحمد» محذرًا: سنيور «مانويل»، … إنك تعرف أن من يحاول العبث بنا يلقى جزاءه سريعًا! …

وأحنى «مانويل» رأسه ومضى، … وقام «أحمد» إلى صالة الطعام حيث اجتمع الشَّياطين و«فيجو»، وتناولوا عشاءً من لحم البقر والسلطات الخضراء … وبعد مناقشة استمرت نحو ساعة، أسرعوا إلى الطابق الثَّاني، وبعد أن اطمأنوا على «موري» استلقى كل منهم في فراشه، واستسلم للنوم سريعًا بعد يوم حافل بالتعب والتوتر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤