الحياة تحت الصِّفر

سار «أحمد» أمام الرجل في الدهليز مرة أخرى … لم يكن يتصور أن تنتهي المغامرة الرائعة هذه النهاية المؤسفة! القبض عليه … الاستيلاء على الطائرة … مطاردة زملائه الأربعة في هذه الأصقاع الباردة! … وفي نهاية الدهليز الواقع تحت الأرض الثَّلجية، كانت هناك غرفة لها باب حديدي، مؤكدًا أنها تُستخدم كسِجن … دفع الرجل الباب بيده اليسرى بينما يده اليمنى تضغط بالمسدس على وجه «أحمد»، ثم دفع «أحمد» إلى الداخل وأغلق الباب … وفوجئ «أحمد» أن الغرفة ليست مكيفة الهواء كمباني المركز الذري، كانت باردة أكثر من الثَّلاجة … وشعر على الفور أن جسده قد تصلَّب من مفاجأة البرودة الشَّديدة، وأخذت أسنانه تصطك، وعرف أنه سوف يموت خلال ساعات قلائل، فسوف يفقد جسده حرارته تدريجيًّا ويموت متجمدًا … وقرر ألا يجلس وأخذ يجس جدران حجرته كانت من الأسمنت المسلح، وليس فيها فتحة واحدة وأدرك أنه في مصيدة الموت!

مضت ساعة و«أحمد» يسير في حجرته محاولًا بعث الحرارة في جسده … ثم فجأة سمع صوت الباب يُفتح، واستدار ليرى «عثمان» أمامه … كانت مفاجأة ضخمة حقًّا … وقال «عثمان» بسرعة: لقد اقتحمنا المكان منذ لحظات واستطعنا معرفة مكانك! …

أحمد: لماذا تأخرتم؟

عثمان: لقد رأينا مجموعة من الرجال متجهين إلى الطائرة، وعرفنا أنهم سيحاولون الاستيلاء عليها … وقد دارت بيننا وبينهم معركة ضخمة على الجليد، و«هدى» مصابة! …

ارتاع «أحمد» وقال: هل إصابتها خطيرة؟

عثمان: لا أعتقد … وقد مددناها في غرفة الدكتور «جمال زهران».

أحمد: هل قابلتموه؟

عثمان: نعم … إنه هو الذي مكننا من الدخول، وهو الآن يشرف مع بقية الشَّياطين على تجريد المركز الذري من الأدوات الدقيقة، حتى لا يتمكن من سيبقى فيه من إجراء تجارب جديدة!

أحمد: إنكم أولاد رائعون حقًّا … هيَّا بنا …

انطلقا معًا حتى وصلا إلى قاعة الاجتماعات … كان العلماء يجلسون حول المائدة المستديرة، وقد بدا على بعضهم الفرح، وكانت «إلهام» تجلس على مائدة في طرف الغرفة، وهي تحمل مدفعًا رشاشًا … وقالت وعيناها مثبتتان على الرجال: إن «قيس» يطارد بعض الحراس داخل المبنى، ومعه الدكتور «جمال زهران».

أسرع «أحمد» و«عثمان» ناحية صوت بعض الطلقات النارية في الجزء الأيسر من المبنى … وعندما وصلوا إلى المكان، شاهدوا «قيس» يقف خلف جدار، بينما أحاطت به مجموعة من الرجال يتبادلون معه إطلاق الرصاص … انطلق على الفور مدفع «عثمان» ناحية الأركان التي اختفى خلفها الرجال، بينما قام «أحمد» بحركة التفاف واسعة، استطاع بعدها أن يقف خلف اثنين من المهاجمين، وقفز قفزة عالية، وهبط عليهما معًا بضربتين قويتين، سقطا على أثرهما على وجهيهما، وفي لحظات كان «أحمد» يمسك بأحد المدفعين، ويأمرهما أن يظلا منبطحين …

سكتت أصوات الرصاص … وسمع «أحمد» صوت أبواب تُفتح وأسرع يجري ومعه «عثمان»، ووجدوا بعض الرجال قد فتحوا الأبواب، وأخذوا يبتعدون على الثَّلج، وانطلقت الرصاصات. كانت كلها في السِّيقان … فقد كان مبدأ الشَّياطين لا قتل إلا للضرورة القصوى، أو للدفاع عن النفس …

ولاحظ «أحمد» أن عاصفة ثلجية بدأت تهب … وأسرع يغلق أبواب المركز الذري، ثم ليرى ما يحدث بالداخل … كان كل شيء هادئًا، وجمع «قيس» بقية الرجال الذين في المركز، وكانوا قد أصبحوا قلَّةً … وجلسوا جميعًا في قاعة الاجتماعات، وقال «أحمد»: لقد جئنا لإنقاذ العلماء المخطوفين … وسوف نصطحب معنا من يريد من هؤلاء العلماء، وعلى كل حال سوف يعرف العالَم ماذا يجري في هذا المكان.

ردَّ أحد العلماء قائلًا: إنني أعمل هنا بمحض إرادتي … فقد اتفقت على أن أقوم بتطوير تجاربي الذرية مقابل أجر سخي!

أحمد: هل تعرف في أي شيء تُستخدم هذه التجارب وما هو الهدف منها؟

ردَّ العالِم: إنَّها لخير الإنسانية.

أحمد: إنك مخطئ يا سيدي … إن الذين اتفقت معهم على العمل، طلبوا منك الاحتفاظ بسر وجودك هنا وبسر تجاربك، أليس كذلك؟!

ردَّ الرجل: نعم!

أحمد: ذلك؛ لأنها تجارب تتم في الخفاء لحساب منظمة إجرامية عالمية، هدفها التهديد والقتل!

ساد الصَّمت بعد هذه الجملة، وقال «أحمد»: على كل حال … إن عندنا أماكن لعشرة منكم، وسوف تصل طائرات أخرى بعد يوم أو يومين. إننا لا نريد أن نفرض عليكم شيئًا، ولكن أرجو ألا يحاول أحد منكم عمل أي شيءٍ قبل أن يسألنا … والآن سنتناول جميعًا العشاء، ثم نأوي إلى أَسرتنا، فسوف نسافر في الصَّباح الباكر.

وأسرع «أحمد» بعد ذلك إلى غرفة «هدى»، وكان الدكتور «جمال زهران» معها، وقد قام بتضميد الجرح الذي أُصيبت به، وأسرع إليها «أحمد» متسائلًا، فقالت ضاحكة: لا تخَفْ، ليس هناك ما يُخشى منه!

أحمد: هل يمكنك السَّفر غدًا؟

هدى: بالطبع … الآن ممكن أيضًا!

بقي «قيس» وحده في قاعة الاجتماعات يراقب العلماء، بينما قام «عثمان» بتطهير المقر الذري من بقية الحراس …

واشترك «أحمد» مع الدكتور «جمال زهران» في نزع كل ما يمكن نزعه من أجهزة المقر الذري، حتى لا يُستخدم مرة أخرى … وكان الدكتور «جمال زهران» يشرح ﻟ «أحمد» خطوات العمل في المقر … وقال معلقًا: إنه مقر ممتاز لهذه المجموعة من العلماء … وفي الحقيقة، إنني لم أدرك تمامًا الغرض الذي اختُطِفتُ من أجله والآن فقط، عرفت منك الحكاية!

أحمد: هل كان في إمكانكم حقًّا التوصل إلى قنبلة ذرية نظيفة، يمكن حملها بواسطة التجارب التي قمتم بها هنا؟

الدكتور: لا أستطيع أن أقول لا أو نعم … ولكن ربَّما كان هذا ممكنًا بمرور الوقت!

وكان الليل قد أوغل، واشتدت العاصفة الثَّلجية، ونام كل من في المركز ما عدا «عثمان» و«أحمد» اللذين توليا الحراسة أول الليل … وفي النصف الآخر تولَّى «قيس» وحده الحراسة، وظلت العاصفة تدوي حتى أشرقت شمس اليوم التالي … ودبت الحياة مرة أخرى في المركز، وبدأ المرشحون للسفر من العلماء يستعدون للخروج.

وعندما فتح «أحمد» الباب ليكون أول الخارجين، خُيِّل إليه أنه يسمع صوتًا بعيدًا … وصوتًا لا يمكن أن يكون في هذه الأصقاع المثلجة، واستدعى «إلهام» التي أنصتت قليلًا ثم قالت: إنها طائرة قادمة من هذا الاتجاه!

وقال «أحمد» في ضيق: إنه «مارتينز»! يجب أن نسرع! …

لبس الجميع زحافاتهم، وكانوا سبعة من العلماء …

وزحافة عليها «هدى» ومجموعة الأجهزة التي انتُزعت من معامل المركز الذري، والشَّياطين الأربعة، ثم بدأت الرحلة إلى الطائرة …

وفي نفس الوقت كان صوت الطائرة القادمة يزداد وضوحًا … وسرعان ما بدت في الأفق وهي تسير منطلقة كالصَّاروخ.

وكانت الأرض هشَّةً من أثر عاصفة الليل، والسَّير صعب. وبين لحظة وأخرى كان «أحمد» و«عثمان» يسرع لمساعدة من يقع من العلماء … وبدأ سباق بين الطائرة التي أخذت تحوم للنزول، وهؤلاء المجموعة من الفارين … وأخيرًا نزلت الطائرة عند الجانب الشَّمالي من المركز الذري، بينما كانت المجموعة المسافرة على بعد نحو ثلاثة كيلومترات من طائرة الشَّياطين.

وبنظارة مكبرة استطاعت «إلهام» أن ترى النازلين من طائرة «مارتينز»، لقد نزلوا مسرعين ناحية المركز. وعرفت أنهم سوف يحررون الحراس الأسرى ثم يسرعون إليهم، فصاحت تستحث الجميع على الإسراع.

مضت القافلة ناحية الطائرة حتى وصلوا إليها، كانت العاصفة الثَّلجية قد ألقت عليها كميات هائلة من الجليد … وشعر «أحمد» بانقباض شديد … فقد لا يستطيعون تحريك الطائرة والتحليق بها … وأسرع هو و«قيس» إلى باب الطائرة. وأخذا يزيحان الجليد المتراكم عليه … ثم أشار «أحمد» إلى العلماء ونادى الدكتور «زهران»، وطلب منه المساعدة في إزاحة الجليد عن جسم الطائرة، بينما قام «قيس» بإزالة الجليد عن العجلات، بعد ساعة من الجهد المضني أزالوا معظم الجليد عن الطائرة، وفتحوا بابها ودخلوا … ثم أسرع «أحمد» و«عثمان» إلى كابينة القيادة وأخذا يديران الآلات، لكن المحرك لم يستجب، وأخذ «أحمد» يدير ويدير دون فائدة، ومن خلال نافذة القيادة شاهد مجموعة من الرجال قادمين، عرف على الفور أنهم من رجال «مارتينز»، وأدرك أن مهمة الشَّياطين قد فشلت تمامًا، وأنهم واقعون لا محالة في أيدي المهاجمين، وأخذ يفكر بسرعة في حلٍّ، عندما حضر إليه الدكتور «زهران»، وقال له: هل عندك جهاز يَدَوي للتدفئة؟

أحمد: لماذا؟

زهران: لأننا كنا نتغلب على تجمد المحركات بتسخينها تسخينًا يدويًّا …

وأسرع «أحمد» بإحضار الجهاز، وأسرع الدكتور «زهران» يدفئ المحركات وأخذ «أحمد» ينظر إلى رجال «مارتينز» الذين كانوا يطيرون على الثَّلج … وكانت المسافة تضيق وتضيق بينه وبينهم … وأصبحت مهمتهم مهددة بالخطر تمامًا، عندما صاح الدكتور «جمال زهران»: أدر المحركات …

وجلس «أحمد» إلى أجهزة القيادة، وأدار المحركات النفاثة … وسمع أجمل صوت في حياته، عندما استجابت التوربينات للحركة، وأخذت تصدر أصواتًا متقطعة، ثم دارت التوربينات، وأخذت الطائرة تهتز … و«أحمد» يراقب مجموعة «مارتينز» التي كانت تسرع إليهم …

ومشت الطائرة على الجليد الهش، و«أحمد» يدعو الله ألا يقعوا في منطقة هشة، فلا تتحرك الطائرة من مكانها.

وأخذ رجال «مارتينز» يقتربون شيئًا فشيئًا، لم يعد بينهم وبين الطائرة إلا بضعة من الأمتار … ولاحظ «أحمد» أن بعضهم قد توقف وأخذ يصوب بنادقه إلى الطائرة. وكانت رصاصة واحدة تصيب مخزن الوقود كافية لإشعال الطائرة، ولم يكن أمامه إلا أن يختصر مسافة الجري على الجليد، ويطلق للطائرة العنان، وصاح بها، وكأنها تسمع نداءه: هيَّا!

وترنحت الطائرة لحظات حاسمة على الجليد.

ثم هدرت المحركات النفاثة، وقفزت الطائرة إلى الفضاء، وأخذت تصعد تدريجيًّا، و«أحمد» يرى رجال «مارتينز» على الجليد، وكأنهم مجموعة من الذباب على سطح طبق من اللبن … وابتسم لأول مرة. ونظر إلى الشَّياطين الذين كانوا معه في الكابينة، وقال مازحًا: أظن أن «مارتينز» لم يخطئ في حياته مثلما أخطأ عندما اختارني حارسًا له!

ومضت الطائرة تحلِّق مبتعدة، بعد أن أحبط الشَّياطين أكبر وأخطر مخططٍ إجراميٍّ لحكم العالم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤