أسواق من النور

قال رجل لأبو الحسن الشاذلي: ما لي أرى الناس يعظمونك … ولم أرَ لك كبير عمل؟
قال أبو الحسن: بسنة واحدة افترضها الله على رسوله، تمسكت بها.
قال الرجل: وما هي؟
قال الشاذلي: الإعراض عنكم، وعن دنياكم!
من حزب الشاذلي:
نسلك الفقر مما سواك، والغنى بك، حتى لا نشهد إلا إيَّاك.
يا ذا المن ولا يُمَن عليه. يا ذا الجلال والإكرام. يا ذا الطول والإنعام. لا إله إلا أنت. ظهر اللاجئين، وجار المستجيرين ومأمن الخائفين.
إن كنت كتبتني في أم الكتاب شقيًّا، فامحُ عني اسم الشقاء، وأثبتني عندك سعيدًا، موفقًا للخير. فإنك تقول في كتابك الذي أنزلت: يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ.

فاجأ علي الراكشي الحلقة.

كان قد مضى زمن، يعبر الحلقة دون أن يدخلها. يدعوه الصيادون والفريشة، يغمغم بما لا يتبينه أحد، ويواصل السير.

دخل هذه المرة من الباب الواسع. جاوز الطبالي، ومستطيلات الثلج، والباعة والمشترين والزحام، والمياه الآسنة. كانت التعليقات متشابكة، صاخبة، حول جنوح باخرة عند البوغاز.

دنا من الحاج قنديل والمعلم أحمد الزردوني في جلستهما بركن الحلقة.

كان الزردوني يفضل الشراء من الحلقة. يروقه منظر السمك وهو يلعلط في الطبالي. الخياشيم تنفتح، وتنغلق، والنيل يهتز، فيهتز الجسم كله، ورذاذ الماء يتطاير. يلتقط بأصبعيه سمكة من الطاولة. يشمها، ثم يبدأ في الفصال. إذا تغيرت رائحة السمك، فهو قد تعفن.

أشار الحاج قنديل إلى كرسي بجانبه: تفضل يا مولانا!

قال الراكشي بلهجة آمرة: جاءني سيدي السلطان في المنام.

وزغد الحاج قنديل بأصابعه في كتفه: إنه يدعوك لتكسية مقامه بقماش جديد.

ثم بصوت زاعق: ويأمرك أن تعطيني مما أعطاك الله.

وهرش عنقه بأظافره. التقط بأصبعيه أجسامًا صغيرة، تأملها لحظة، ثم قذف بها. رمى الحاج قنديل بنظرة مؤنبة: هاتِ خاتم الذهب من فم السمكة الميتة.

وداخل لهجته وعيد: هاته … وإلا ستفقد الطريق إلى بيتك.

لاذ الحاج قنديل بصمت، فعرف الرجال أن كلمات الراكشي فيها معرفة باطنية، أدرك الحاج معانيها. تنبه لما تحمله من وعيد، فسكت.

اعتاد الرجال تغير أحوال الحاج قنديل. يطيل ذقنه، ويحلق شاربه، ويكر بأصابعه حبات المسبحة. يُعنى بالأحداث السياسية، يتابعها، يلح في تحويل مؤشر الراديو حسب مواعيد نشرات الأخبار، يخلص للقراءة: جرائد ومجلات وكتب، يأتي بها من مكتبة حمامة النن، يلزم صحن أبو العباس، لا يغادره إلا وقت العمل في الحلقة، أو للذهاب إلى البيت، أو لزيارة ابنته.

ضرب الراكشي على الترابيزة بقبضته: لا وقت عندي … أريد نقودًا.

دس الحاج قنديل يده في جيب السيالة. قبض الراكشي على ما أخذه، ومضى خارج الحلقة.

ثمة أسواق أخرى يعرف طريقه إليها، لا شراء فيها ولا بيع. يجتمع الناس حلقات، يتذاكرون كيف كانت الدنيا — هل يتنكر الحاج قنديل، أو أن النعيم ينسيه؟! — وكيف كان العمل بفرائض الدين، وكيف كان فقراء أهل الدنيا، وكيف كان الموت، وكيف صاروا بعد طول البلاء إلى الجنة. تختلف عن هذا الزحام المتلاغط. تحف بها الملائكة. فيها ما لم تنظر العيون إلى مثله، ولم تسمع الآذان، ولا خطر على قلب بشر. لا يباع ولا يشترى، إلا الصور من الرجال والنساء، إذا اشتهى الرجل صورة، دخل فيها، ولا ينزع ثمرة إلا نبتت مكانها مثلاها، قبل أن تصل إلى فمه. يأكل من ألوان الطعام، يجد لآخرها ما يجد لأولها. يقوم بالخدمة سبعون ألف ملك شبه اللؤلؤ. بأيديهم أواني الفضة وأباريق الذهب. فيها أشربة ليس فيها لون على لون الآخر. ويرتدي سبعين طاقًا من الحرير الأخضر، ومن السندس والإستبرق مختلفة الألوان. يقدم الخادم كأسًا فيه ماء وخمر ولبن وعسل، لا يختلط بعضها ببعض. يأخذها ولي الله، فيرى ما خلفها مسيرة ثلاثة أيام، فيتركها على فيه مقدار سنة، لا يمل الشراب، ولا الشراب ينفد.

لم يغضب من المعلم أحمد الزردوني، ولا رد عليه. عاب عليه رائحة جسده: يا أخي … حمام الأنفوشي بالمجان!

تيقن أن ما قذف به الله في قلبه، هو علم الباطن، وإن لم يحاول السؤال ولا الفهم، فالله لم يطلع عليه ملك ولا بشر. صفا قلبه لله، وسكن إليه، وفر من الناس. أهمل الظاهر، وعُني بالباطن. تخلص من أثقال الدنيا، وقاطع من وصلهم أيام غفلته، وارتحل إلى الآخرة بقلبه، وتهيأ للوصول. الشوق في داخله لن يطفئه سوى الوصول واللقاء، يرنو إلى يوم يرشح عرقًا كالمسك. لا يبول فيه ولا يتغوط ولا يمخط ولا يبصق ولا يمسه تعب. يرد الله وجهه كالقمر ليلة البدر. تغيب الحرشفة من ظاهر يده، صنعها تآلف الملوحة والشمس. ينعم، ولا يبؤس، ولا تفنى ثيابه، ولا يبلى شبابه. يدخل عليه الملك ومعه ألوان الحلل مطرزة بالذهب، مكتوب عليها أسماء من أسماء الله الحسنى. يقول: انظر يا ولي الله إلى هذه الحلل. إن أعجبتك فهي لك، وإن لم تعجبك انقلبت إلى الشكل الذي تريده. يرتدي ملوك الدنيا الأساور والتيجان. يرتدي — حيث تضعه العناية الإلهية — طوق ديباج يتلألأ من نور، ويضع في يديه ثلاثة أساور: سوار من الذهب، وسوار من الفضة، وسوار من اللؤلؤ، ولرجليه خلخالان لا صدى فيهما. قد يرتدي حلة ذات وجهين. يقول الذي يلي جسده: أنا أكرم على ولي الله منك. أنا أمس بدنه وأنت لا تمسينه. ويقول الذي يلي وجهه: أنا أكرم على الله منك. أنا أرى وجهه وأنت محجوبة لا ترين وجهه. قرأ عن مراكب الياقوت. كل مركب ياقوتة واحدة، تجري بلا شراع ولا موتور. بحرها من السلسبيل في بياض اللبن الخالص، مرتفع بلا أمواج، رائحته أذكى من العنبر، على شاطئه نخل يختلف عن نخل الكورنيش، فهو من ذهب، بدنه وسيقانه وفروعه وأوراقه. حتى ثماره فهي في لون الذهب، وإن كانت ذات مذاق أحلى من الشهد، ومن العسل إذا أراد صيد الحيتان — لها رائحة أشد من المسك، وطعم أحلى من الشهد — وقف على المركب، أو حتى على ساحل البحر، فيأتي الحوت مطبوخًا ومشويًّا. ويقول: كل يا ولي الله. إذا أكلت منه، فسيرجع إلى البحر مسبحًا، مفتخرًا، بأن ولي الله أكل منه. يصيد الغزلان بدلًا من السمك ليس صيدًا مما اعتاده الناس. ولي الله يسعى في أثر الغزال، بذلك السعي. لا خوف يصيب الغزال، ولا وجع في الإمساك به، لا تخويف ولا جرح ولا كسر ولا قتل. إذا قبضتها، فإن شاء رجعت له لحمًا مطبوخًا أو مشويًّا. لا ذبح ولا نحر ولا كسر ولا سلخ ولا دم يسيل. يسكن كل ولي قصرًا، سقفه عرش الرحمن، له أربعة آلاف باب، وسبعون ألف غرفة من الذهب، مرصعة بالزبرجد. يتزاور مع الآخرين على نجائب بيض كأنهن الياقوت. وثمة قبة من الدر الأبيض، أُسست على سطح من الزمرد الأخضر، تُرى من مسيرة مائة عام. ركبت في أعلاها جوهرة بيضاء، يلمع فيها نور، ينعكس شعاعه على امتداد الأفق. ليس لها معاليق من فوقها، ولا عماد من تحتها.

قال حسان عبد الدايم وهو يتابع انصراف الراكشي بنظرة مشفقة: الراكشي ليس مجنونًا … أسرف في التعلم، فتشوش مخه!

قال خميس شعبان: عالجه يا حاج … تأخذ ثوابًا.

قال الحاج قنديل: الرجل أصح منا … وهو — بإذن الله — طبيب نفسه.

أطلق قاسم الغرياني ضحكة عصبية: أيوب السكندري!

قال الحاج قنديل: لا تسخر من الرجل فهو بركة!

قال قاسم الغرياني: فلماذا لا تحل بركته على بيته؟ … المرأة تنفق على أولادها من مساعدات أهلها.

قال الحاج قنديل: شدة وتزول!

وأهمل الشيشة في يده، وسرح إلى بعيد: قد يكون علي الراكشي في حياتنا وليًّا جديدًا!

كانت الكلاب والقطط تسكن لمرآه، لا تنبح أو تموء، ولا تمارس الفعل. وأكد خميس شعبان أنه رآه يخوض المياه العميقة، وراء قلعة قايتباي، فلم تصل المياه إلى ركبتيه. واستمع إليه عبد النبي شعرة، خادم أبو العباس، يكلم من لا يراه داخل مقام السلطان، وصوت — من داخل المقام — يبادله الكلام بعبارات واضحة. وعرف بأنه ينطق بما يجريه الله على لسانه، لا يختار كلماته، ولا يتدبرها، ولا يتوقع تأثيرها في نفس محدثه. وكان — في بعض الأوقات — لا يعي ما حوله، ولا يعرف من يعيشون حوله، ولا يستطيع التعبير. يلجأ إلى يديه، وهز رأسه، ونوبات من الصراخ.

فاجأ الناس في مولد سيدي نصر الدين بسيف من الخشب، رفعه، وهزه، وأطلق صيحات متوالية.

ثمة قوة غامضة، مسيطرة: تجتذبه إلى حيث لا يدري. تدفع قدميه فلا يستطيع التوقف. تمنعه حتى من إطالة الوقوف أمام الدكاكين والقهاوي. لا تهدأ نفسه إلا عندما يدخل أبو العباس أو ياقوت العرش أو البوصيري أو مساجد الحي الأخرى. يتوضأ، ويصلي، ويخلو إلى نفسه بأدعية وأذكار حتى يهم الخادم بإغلاق الجامع، فيخرج.

أشرقت في داخله أنوار الخدمة والمحبة والمعرفة. انشغل باختراق الحجب التي تمنعه من رؤية المستور. أخلص في عبادة الله، والتجرد لذكره، والزهد في طلب الدنيا، والإعراض عن مباهجها. فني عن نفسه، وأقبل على حياته بخضوع من ينفذ إرادة إلهية. انصرف إلى أعمال القلوب: المحبة لله ورسوله، والتوكل، والخوف، والرجاء، وغير ذلك من المقامات والأحوال. حب إلهي يفيض بالأهوال والأشواق. دنيا لا يزاحمها وهم، ولا يخالطها شك، ولا يصحبها اضطراب. تطير به الخيل في ساعة من ساعات الدنيا مسيرة ألف عام. يصل روضة، هي الدرجة الرابعة من الفردوس، من الكافور الأصفر، نباتها الزعفران، وترابها المسك الأذفر، وحصاها من الدر والجواهر، تجري فيها أنهار الماء والعسل والخمر. على حافاتها أشجار، أصولها من الزبرجد الأخضر، وقضبانها من الذهب، وأوراقها من اللؤلؤ، وثمارها لا يعلمها إلا الله. تخفق فيها رياح الرحمة، وتنفخ فيها روائح المسك والعنبر. يخرج إليها — فيما بعد — متنزهًا، كما يخرج الملوك من قصورهم. بها خيمة من لؤلؤة مجوفة عرضها ستون ميلًا. في كل زاوية منها أهل للمؤمن ما يرون الآخرين. يطوف عليهم المؤمن في كل زاوية. إذا حل ولي الله بالخيمة، انصدعت له عن باب، فيعلم أن أبصار المخلوقين من الملائكة والخدم لم يأخذها، فهي مقصورة، قد قصرها عن أبصار المخلوقين. يؤذن في يوم الجمعة من أيام الدنيا، ليزوروا الواحد الأحد. يبرز العرش. يتبدى في روضة من رياض الجنة. توضع للصالحين مثله منابر من نور، ومنابر من لؤلؤ، ومنابر من ياقوت، ومنابر من زبرجد، ومنابر من ذهب، ومنابر من فضة. يجلس أدناهم، وما فيهم من دني، على كثبان المسك والكافور. سئل رسول الله: هل نرى ربنا؟ قال: نعم. هل تتمارون في رؤية الشمس والقمر ليلة البدر؟ قيل: لا. قال: كذلك لا تتمارون في رؤية ربكم، ولا يبقى في ذلك المجلس رجل إلا حاضره الله محاضرة.

اعتادت أم محمد غيابه عن البيت يومًا بليلة، أو يومين بليلتين يجلس — بين أوقات الصلاة — في صحن مسجد المسيري. يُلزم نفسه بخدمة المصلين، ويكنس المسجد بنفسه، وينظف دورات المياه. يمشى في الشوارع والأسواق حاسر الرأس، حافي القدمين. عاريًا إلا من قطعة خيش تغطى صدره وحول بطنه.

تركت المرأة — ليلة — حجرة نومها مع الأولاد. دفعت باب حجرته الموارب. أعادت التثبت من حمالتي القميص الستان الأحمر فوق كتفيها.

كان قد تمدد على بطنه، ودس يديه تحت المخدة، وتعالى شخيره.

داعبته بأصبعها في بطن قدمه، فانتتر مذعورًا. كان قد انفرد عن المرأة والأولاد. تخلَّى للعبادة، وانقطع إلى الله تعالى. ضعفت أحوال الحس، وقويت أحوال الروح بعاقل العبادات والذكر، وغلب سلطانها، وتجددت النشوة الربانية. مضى إلى النهاية في الرياضة والمجاهدة.

فوجئ بوقفتها الخائفة.

دفعها بقدمه في صدرها: امشي!

جرت — بظهرها — إلى الباب المغلق. فتحته، وانحطت — تلملم نفسها — على كنبة الصالة.

لم يعد يلتفت إلى ما تراه عيناه. هو يكتفي بالنظر إلى ما بداخله، ما يشغله، ويلح عليه، يضنيه. انطلق من ضيق المحسوسات إلى لا نهائية الحضرة الإلهية. حرم على نفسه النوم إلى جوارها، منذ عرف طريقه. ضجر من صحبة الأغيار، وآثر الزهد. انقطع للعبادة. جاوز سجن عبادات صفات النفس إلى الصفات الروحية في عالم الأمر. محبة الله لا تدخل القلب، ولا تستقر فيه، إلا إذا خلا القلب من حس سواه. تكشفت الأنوار الإلهية، فاحتجبت المحسوسات. خرج عن حظوظ النفس بالمجاهدة والمكابرة. اشتغل بالله تعالى، وتجرد من أسباب الدنيا، ورغب في الآخرة. محا أسرته من قلبه، لا يستقر فيه إلا الذات العلية. تحمل نار المعاناة، ليتذوق حلاوة القرب، ويشرب من خمر المعارف الربانية، الأزلية، وينغمر في بحر النور. تلبسته الخشية من الصد والهجر وعدم القبول، ففتح أبواب الشدة، والذل، والجهد، والسهر، والفقر، والخوف. قطع المنازل والمقامات. كشفت سجوف الظلام عن عالم الملائكة والوعد والجنة والأشجار وأنهار اللبن والعسل والسقاة والحور العين. أحب الأشياء حين يخلو إلى نفسه: كيف يشرق نور قلب، صور الأكوان منطبعة في مرآته؟ كيف يرحل إلى الله وهو مكبل في شهواته؟ كيف يطمع أن يدخل حضرة الله دون أن يتطهر من جنابة غفلاته؟ كيف يرجو أن يفهم دقائق الأسرار قبل أن يتوب من هفواته؟

خطر له أن يؤمها في صلاة الفجر. يئس من ردها على ندائه. نضح في وجهها الماء، وقال لارتعاشتها الخائفة: من استيقظ في الليل وأيقظ امرأته، فصليا ركعتين … كُتبا من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات.

•••

رآه أمين عزب يطير وراء أولاد يعاكسونه في شارع أبو وردة. يقذفونه بقطع الحجارة الصغيرة، وقشر البطيخ، وهو يتقي بيديه، ويصرخ.

زجر أمين عزب الأولاد. تصعب للمشهد وهو يتجه إلى باب الجمرك. جرى الأولاد بالخوف من مكانة أمين عزب في نفوس آبائهم.

– ثم ماذا يا علي؟

علا صوت الراكشي: من يريد الله … لا يريد سواه!

رماه أمين عزب بنظرة غاضبة: هل أفقدك يوسف بدوي عقلك؟!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤