قبل موسم السردين

قال المعلم ناجي التميمي: ماذا حدث؟

قال صابر الشبلنجي وهو يشير إلى السيدة على باب الإسطبل: الست تريد أجزاء من حافر البغلة.

– لماذا؟

غالب صابر تردده: قيل لها إن أجزاء الحافر إذا وضعت في الطعام، ينقطع حيض من تأكله وحملها.

لم يبدُ على التميمي مشاعر من أي نوع. لا دهشة ولا تأثر ولا غضب. قال وهو يتجه إلى الداخل: كل شيء هنا بالفلوس … فهل تملكين ثمنها؟

نطقت الاستجابة في عيني السيدة ذات التايير الرمادي، والنظارة الطبية.

مال التميمي إلى يمين الإسطبل. اطمأن إلى عليق الخيل: الشعير والذرة والفول والتبن والبرسيم. عُلقت على الجدران سست وقضبان حديدية وعجلات ورولمان بلي.

اتجه إلى سلم البيت.

مبنًى من الطوب الأحمر. نوافذه خشبية من ضلفتين. بابه الرئيسي في شارع سيدي كظمان، الخلفي. استأذن من حمادة بك — بعد أن استأجر منه الإسطبل، فأغلق الباب الرئيسي — واكتفى بباب شارع السيالة. نوافذ للطابق الأول تفتح على الإسطبل. أما الطابق الثاني، فنوافذه تطل على شارع سيدي كظمان.

قال التميمي: علينا مجاملة المعلم عباس الخوالقة في حفل زفاف ابنه.

– محمود؟

وهو يلوك فصًّا في فمه: لا … مصطفى … الولد الأصغر … أجبر أباه على تزويجه من بنت عبد الوهاب أفندي مرزوق.

وطرد ذبابة من أنفه: الزفة ليست طويلة … شقة العروسين في الطابق الرابع الخالي في بيت الخوالقة.

البيت في نهاية السيالة. تمضي الزفة إلى ميدان المساجد. تطوف دوراتها السبع أمام السلطان، ثم تمضي في طريق الكورنيش، إلى السلسلة، وتعود.

قال صابر متذكرًا: متى الزفاف؟

قال التميمي: في موسم السردين.

قال صابر: لما ظهر عصفور النيل على الشاطئ منذ أيام … أكد الجد السخاوي اقتراب موسم السردين.

قال التميمي بنبرة متعالمة: الراديو يتحدث عن ارتفاع فيضان النيل هذه السنة.

ثم وهو يعدل كمي البنش: فلنتوقع بإذن الله محصولًا وفيرًا من السردين.

عرف صابر — من أحاديث الصيادين على قهاوي الحي — متى يبدأ موسم السردين، ومتى ينتهي. يمتد من سبتمبر إلى يناير. جمعة النيل، موسم الزيادة، موسم القطن للصيادين. فصل الشتاء ميت، للصيد فيه أيام قليلة: الجمبري والسيفوليا واللوت والصبيط والدنيس والسيوف والكابوريا. أسراب السردين تفد بالملايين في أبو قير. يدفعها ماء النيل، والطمي، إلى البحر. تتألق في لون الفضة على سطح الماء. تحلق فوقها أسراب طير البحر. تهبط بمناقيرها، وترتفع. تستقبلها أساطيل الخشب في عرض البحر من الأنفوشي وإدكو ورشيد والبرلس ودمياط. تزدحم القوارب والشباك وعمليات البيع والشراء والصفقات المؤجلة. موسم الرواج، وزواج الأبناء، والأفراح، وتجهيز البيوت. كل الأمنيات الصعبة تنتظر تحقيقها في موسم السردين. معظم طعامه في جمعة النيل هدايا: المبرومة الأكثر سمنة، والمفطرة الأكثر نحولًا.

سأل التميمي وهو يتجه ناحية السلم المفضي إلى داخل البيت: الست فوق؟

قال صابر: لم ألمحها في الشباك.

كان باب البيت مفتوحًا. لا يغلق في ليل أو نهار، وإن حرص التميمي على إغلاق الحجرة التي يقيم فيها مع جمالات. يصعد صابر الدرجات الخشبية. يدخل الصالة. يضع ما يحمله من احتياجات البيت. ينظر إلى الصالة والحجرات المحيطة بها. بسرعة، أو بتأمل. إذا أراد التميمي، طرق باب الحجرة، أو يعود إلى الإسطبل.

حين تقدم التميمي — منذ ثمانية عشر عامًا — لخطبة بنت المعلم كشك الكبرى، غالب الحرج لاصطحابه الحاج قنديل — وحده — يزكي مطلبه. نسب قامته الطويلة لأبوين من فلسطين، قدما إلى بحري فترة الخلافة العثمانية. أقاما في السيالة لأنها تذكرهما بحيهما في مدينة يافا. لم يغادر البيت المطل على داخل الإسطبل بعد وفاة أبويه — مات الأب، ثم لحقته الأم، في العام نفسه — قصَر سكنى طوابقه الثلاثة على أسرته، واكتفى بإيراد الإسطبل. ألغى عقدًا كان أبوه وقعه لشراء إسطبل جديد — بدلًا من الإيجار — في رأس التين، ووقع عقدًا جديدًا على حمادة بك.

سُئل عن الأبناء، فقال إنه يتحاشى الإنجاب. الأبناء مسئولية لا يقوى على مواجهتها … لكنه تمنى — بينه وبين نفسه — أن تنجب له زوجته طفلًا، ونذر إن أنجب ولدًا، يمشي في زحام شارع الميدان، وعلى رأسه طرحة.

ظلت المرأة بلا خلفة، حتى قتلتها وصفة مسمومة للإنجاب. طالت حياته بلا زواج، حتى قدم — منذ ثلاثة أعوام — بالست جمالات في سيارة تاكسي.

لم تكن من أسر الحي، ولا تكلم التميمي عن ظروف زواجه منها، وإن أكدت الهمسات في قهوة الزردوني أنها من نساء كوم بكير. أُعجب بها، فعقد عليها. عانى — لسنوات — من تحقق الرجفة المتعجلة. يتبعها همود، وتهيؤ للنوم. أفلحت في إطالة اللحظات. جاست به أحراشًا لم يسبق له ارتيادها، فأحبها، وعقد عليها. ثم أدرك أن المرأة تحاول أن تقتله باللذة، فأخلى لنفسه حجرة مستقلة، وترك المرأة وحدها في حجرة النوم. إذا علا في داخله صوت الرغبة، مضى إلى كوم بكير، يطفئ الجذوة المشتعلة، ويعود.

قيل إنه ضعيف أمام الخادمات. لا يقوى على كتم رغبته ولا تلهفه، وتعرض لمتاعب. وأودت به علقة نالها في دحديرة أبو العباس، إلى لزوم الفراش عشرة أيام.

كان يتردد على بار بشارع البوستة. يجلس على الرصيف. أمامه زجاجة الخمر وطبق المزة، وأمام الحصان دلو أفرغ فيه الجرسون خمس زجاجات من البيرة.

وكان من أطعمته المفضلة الريش والخناصر والنيفة والطرب والمخاصي والمنبار. وكان يأكل الحمام واليمام والسمان. إن لم يأكلها في البيت، تردد على مطعم الخيرات بشارع الميدان. وحرص على تدليك العصعص بالثوم الطازج، وأكل الفلفل الأسود والكرفس والجزر الأصفر والتفاح وجوزة الطيب.

قال صابر: العجلة مقلقلة منذ نزهتك الأخيرة على الكورنيش.

ثم وهو يهز رأسه: سأصلحها.

يحلو له الجري في شارع الكورنيش بآخر ما عنده. ضحكاته عصبية للصرخات الخائفة من اندفاع البنز وسط السيارات والحناطير وعابري الطريق. يميل البنز، فتعلو الصرخات للتصور أنه سينقلب على الحصان، وعلى راكبه، وعلى الناس في الطريق. حتى في المفارق لا يحاول التقليل من سرعته. تسترخي يده على اللجام في اعتزامه الميل إلى ميدان أبو العباس. للسلطان احترامه الذي يرفض الاجتراء. يمشي أمامه متمهلًا، ويقرأ الفاتحة. لا يصلي ولا يصوم، لكنه يخاف أذية السلطان. يعرف قدره، ويؤمن بكراماته ومكاشفاته، ويؤمن بكرامات وشفاعات الأولياء الذين يمر على أضرحتهم، في طريقه إلى الإسطبل. يعيد قراءة الفاتحة.

قال صابر: اليوم السبت … هل تذهب إلى سبورتنج؟

حدجه بنظرة متسائلة: لماذا؟

– سباق الخيل.

وهو يبدأ في ارتقاء السلم: سباق البنز على الكورنيش أجمل!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤