أفق الغيوم

قال قاسم الغرياني وهو ينفخ: حرررر!

ثم وهو يجفف بالمنديل المحلاوي حبات العرق النابتة في جبهته ووجنتيه ورقبته ومعصميه: عرفت الآن فقط … لماذا اختار الله النار وسيلة للتعذيب في الآخرة!

أسفلت الطريق ينفث صهدًا، والرياح الساخنة تكنس الشوارع، تثير دوامات الهواء، صغيرة، سريعة، متلاحقة، ترتفع إلى أعلى في عمود متماوج. تكسو البنايات ومدى الرؤية بغلالة رمادية، تلسع الوجوه بكرابيج ملتهبة، وتقتحم الأفواه بالتراب، والرطوبة المشبعة بالملح ثقيلة وخانقة. حتى الظلال استكانت، لا تتحرك، على الأرض والجدران.

قال محيي قبطان: أين كنت؟

وهو يحرك المنديل أمام وجهه التماسًا للهواء: في قسم الجمرك.

بحلقت عيناه: لماذا؟

هل افتضح أمره؟

إخفاء دخوله القسم سيدينه بالكذب. رآه حمودة هلول والعسكري يصحبه إلى داخل القسم، ويداه مكبلتان. استوقفه مخبر، وهو يضع على كتفه فخذة لحم. زاد شكه حين جرى لرؤيته.

قال قاسم الغرياني بصوت متراخٍ: خطفت فخذة لحم من عربة جيب إنجليزية.

وهو ينخسه في بطنه بمودة: ماذا فعلوا معك؟

في نبرة مستهينة: ثالث يوم، أفرج عني ضابط المباحث.

نقر على الترابيزة بأصبعه: تستاهل!

عض الغرياني بأسنانه طرف شاربه: إنهم يسرقون البلد … فماذا لو سرقنا طعامهم؟

قال محيي قبطان: وماذا تسرق بعد خروج الإنجليز؟

وعاود نخسه في بطنه.

أيام ويتركون الإسكندرية تمامًا.

هتف حمودة هلول: المعلم ناجي أبو لبن وصل.

قامة طويلة، أقرب إلى الامتلاء، وإن بدا جسمه غير متناسق. يعالج شعره المجعد بدهانات يعدها له محمد صبرة، يأتي بها صابر الشبلنجي من سوق الدقاقين. أنفه الضخم لا يتسق مع نحافة وجهه. عيناه تشبهان عيني سمكة ميتة، فلا بريق، واللون باهت. وثمة سواد أسفل العينين، وانتفاخ في الحاجبين. وكست الشعيرات البيضاء فوديه. يرتدي جلابية من الكتان الأبيض المزهر، ويحرص على عوجة الطربوش، وأن يكون الزر بالجنب، ويدس قدميه في مداس مغربي.

قال المعلم التميمي: اسمي ناجي التميمي.

قال حمودة هلول: أبو لبن هو لقب كل العربجية.

قال التميمي: العربجي أبوك!

لمح الحاج أحمد الزردوني حركة يد التميمي من جيبه إلى الترابيزة. صاح: إلا هذا.

أردف في صباحه: لا تشرب الزفت في قهوتي.

قال التميمي في بلادته الهادئة: ماذا جرى لك يا زردوني؟

قال الزردوني: مستحيل أن تشرب الخمر تحت أعين الأولياء.

قال التميمي: هذه قهوة وليست مسجدًا.

أشار الزردوني بامتداد ذراعه إلى الطريق: تفضل يا معلم تميمي!

قال التميمي في نبرة ملاينة: أنا أتعاطى الحشيش أو الأفيون … لكنني لا أتعاطى المحرمات.

استعاد الزردوني الكلمة: المحرمات؟!

قال التميمي:

– القرآن حرم الخمر … وأنا لا أتعاطاها.

ثم وهو يومئ إلى الزجاجة: هذه راوند … أشربها لصدري.

ولجأ إلى يديه معبرًا: أنا أؤدي فرائض الشرع، فلا أزيد عليها … ولا أحرم نفسي من الذات المباحة.

قال الجد السخاوي: من يفتش في مخك … لن يجد إلا المسخرة!

تلفت التميمي حوله في تعاظم: عانت نساء كوم بكير من هجرة أهل المدينة في أعوام الحرب … أنا أحاول تعويضهن!

لم يعرف عنه أنه يؤدي الفرائض، فهو لا يتردد على المساجد ولا يشارك في حلقات الذكر أمام أبو العباس والبوصيري، ولا يزاحم في الموالد، ولا انتوى أداء الحج، يقينه — طالما أعلنه — أن كل شيء مكتوب في القدر. ما هو مكتوب في القدر لا بد أن يحدث، فلا ملامة فيما يصدر عن الإنسان، والأمور تستوي في الطاعة والمعصية، ما دام الله يستغني عن أعمالنا، ولا يتأثر بها.

عرف عنه صداقته لتجار الصنف في البلقطرية. وقال صابر الشبلنجي إنه يشاهده كل صباح يضع على لسانه فصًّا أسود.

كثر تردده على كوم بكير.

كوَّن صداقات وعلاقات. ألف الوجوه، والأجساد، والبارات، والغرز، والفوانيس المتدلية على الأبواب، والستائر المنفرجة، والمسدلة، والكراسي المرصوصة أمام الجدران، والملابس الشفافة، والدعوات الصريحة، والهامسة، والنظرات المحدقة، والمتأملة، والمشجعة، والتأود، والغنج، والضحكات، وأي خدمة، وتفضل، ومساء النجف، والبحارة الأجانب، والصعايدة، والبلطجية، والفتوات، والقوادين، وزجاجات الخمر الفارغة تتعثر بها قدمه، والألوان الفاقعة.

أخذ بأصبعيه من علبة الدخان، ولف سيجارة بورق البفرة، ثم لصقها بلعابه. وضعها بين شفتيه، وأشعل طرفها بالكبريت.

غمز بعينه لمحيي قبطان: لم تأتِ عصر أمس.

قال محيي قبطان وهو يدعك ذرات التراب داخل عينه: رحت قهوة النجعاوي لشرب فنجان قهوة تركي.

قال التميمي: الغرياني أكد أنه رآك في كوم بكير.

برقت عيناه بالغضب: شاهدني وأنا أتمشى مع أمه!

قال الغرياني: لم أدعِ أنه ذهب إلى كوم بكير … سيمنعه البوليس لصغر سنه!

قال محيي قبطان: أنا أكبر منك بثلاث سنوات.

قال الغرياني: الرجولة ليست بالسن!

وأطلق ضحكة من أنفه: ما زلت بكرًا يا محيي!

قال محيي قبطان: تركت لك الصياعة!

قطب الغرياني جبينه: عليَّ الطلاق …

قاطعه الجد السخاوي: من عوَّد لسانه بالطلاق حُرِّمت عليه زوجته.

وهو يهز كتفيه: أنا أعزب.

قال الجد السخاوي: لا تحلف بالطلاق وأنت أعزب، حتى لا تطلق منك حوريات الجنة.

اتجه الغرياني إلى محيي قبطان بنظرة متسائلة: ما الذي أتى بك إلى بحري؟ … كل أقاربك يسكنون كفر عشري.

قدم محيي قبطان إلى الإسكندرية منذ عشرين عامًا. ظل حريصًا على لهجته الصعيدية، لم يبدلها. يعيبون عليه تحول الألف إلى جيم. يعيب عليهم الخنوثة المغلفة بزعيق. إذا تكلم ارتعش صوته من الانفعال. اشتغل ببيع البضائع المسروقة من الجمرك: ملابس وأطعمة ولعب. يقف بها على ناصية التقاء ميدان المنشية بشارع الميدان. ثم اختار موضعًا على الرصيف، أول الطريق إلى الدحديرة الخلفية لجامع أبو العباس. يبيع كتب الدعاء وقضاء الحاجات وأوراد الصوفية وقصائد الابتهالات وشرح آيات القرآن. دخل في صداقة مع قاسم الغرياني. تحايل على عباس الخوالقة فأذن له بركوب البحر. له عود ممتلئ فاره، وعينان مدورتان، حادتا النظر. ولم يكن يطيل ذقنه أو يحلقها، فتبدو متناثرة الشعر، يختلط فيها السواد بالبياض. ومرسوم في أعلى صدغه رسم عصفور أخضر. عرف عنه إجادة صيد السمك بيده. يدفع أصابعه — مفتوحة — في الماء. يعيدها مضمومة. يقذف السمكة في الغلق. وكان يؤدي — متطوعًا — دور المبلِّغ في جامع أبو العباس.

قال بيومي جلال: كل اللي ييجي من الصعيد مليح.

ثم وهو يحرك الهواء الساخن بيده: إلَّا الريح!

قال محمد كسبة: هل تتصور أن مجرد مشاركتك في سحب الجرافة جعل منك صيادًا؟!

مسح بيومي جلال جبهته بظهر يده: ماذا تعرف عني لأتعلمه؟

قال محمد كسبة: عد إلى طفولتك، وابدأ من البداية!

حين دله صابر الشبلنجي على صيد الجرافة، لم يكن في باله البحر ولا الصيد. همه التقاط رزق تغيب ملامحه. وزع وقته بين البلانس وقهوة كشك. حتى حمام الأنفوشي لم يعد يتردد عليه. يكتفي بالاستحمام في مياه البحر، وغسل ثيابه فيها. ينتظرها حتى تجف، ثم يعاود ارتداءها. وربما قضى الليل داخل أحد القوارب المتناثرة على الرمال، داخل ورش المراكب.

قال الجد السخاوي: نحن لا نربي أولادنا … إنهم تربية نساء.

أردف لنظرة اللوم في عيني محيي قبطان: نغيب في البحر بالأيام والأسابيع … فإذا عدنا، ندخل بيوتنا آخر الليل … فمتى نرى الأولاد؟!

قال محيي قبطان: حتى لو ربى النساء أولادنا … فإن نساءنا رجال!

قال حمودة هلول: أصارحكم أني أحب المرأة الرجل.

بحلقت عينا الغرياني في دهشة: كيف تكون امرأة ورجلًا؟

– لا أحب الناعمة الخاضعة … أحب التي تشبه الرجل في تصرفاتها وكلامها.

لون الغرياني صوته: الجد السخاوي يحب الرجل المرأة!

فوَّت حمودة هلول الملاحظة: قاسم يرقص دائمًا في مركب الجد السخاوي.

كتم عبد الوهاب مرزوق ضحكته: عقابك من الله أن يذهب بلسانك مثل السمك!

قال الجد السخاوي: أنا الذي علمته ركوب البحر … فماذا تقول في قلة الأصل؟!

أطلق الغرياني ضحكة معابثة: تعلمتها منك يا جدي!

قال محمد كسبة: الجد السخاوي والغرياني يختلفان في كل شيء … ويتفقان في حب البحر.

قال حمودة هلول: إنهما الزناتي وأبو زيد … كل منهما عظيم في ذاته، لكنهما أصبحا عدوين!

علا صوت الغرياني: أنا أرفض تصرفات الجد السخاوي، لكنه مثل أبي!

قال محيي قبطان: أشعر بأكلان في أنفي.

قال حمودة هلول: معناه أن شخصًا يلعنك … أو أنك ستتشاجر مع أحد.

قال محيي وهو يدفع مجهولًا بيديه: كفى الله الشر … أنا في حالي.

قال حمودة هلول: الناس ليسوا في حالهم!

ثم علا صوت حمودة وهو يتطلع إلى القادم: سأضيف إلى اسمك صفة البطل الصغير.

التقت الأعين على مصطفى عباس الخوالقة.

كان يخطو إلى الرابعة عشرة وإن بدا — لطول قامته وشاربه المنسدل على شفتيه — أكبر من عمره. دفعه أبوه إلى الحلقة منذ طفولته. تعلَّم المهنة. عرف أنواع السمك، وخالط الصيادين، وركب البحر وفاصل، وساوم، وباع، واشترى، وجلس على القهاوي، وشارك في الأذكار. كان عباس الخوالقة يعد ولديه ليرثا مهنته، فلم ينشغل برسوب مصطفى المتكرر في البوصيري الأولية.

اختار الكرسي المجاور للباب، تحيط بوجهه ضمادة من الشاش، وثمة تورم بدل ملامحه.

انشغل الرجال — في الأيام الأخيرة — بما جرى لمصطفى. ضربه العساكر في مظاهرة بشارع إسماعيل صبري. تدفق المتظاهرون من الشوارع الجانبية، أفندية وطلبة وعمال وبجلابيب. قدموا من ناحية البحر ومن شارع التتويج، ومن الموازيني والحجاري. ملئوا الميدان الفسيح بالزحام والقبضات والهتافات. تناثر فوق الرءوس شبان يصرخون بهتافات، والمتظاهرون يرددون وراءهم: تسقط معاهدة ٣٦ … الاستقلال التام أو الموت الزؤام … الجلاء بالدماء … لا مفاوضة ولا معاهدة.

أغلقت الدكاكين أبوابها، وحمل خادم سيدي علي تمراز القُلل الموضوعة على الجدار إلى الداخل.

لمح المتظاهرون كومات الزلط في «المجيرة». تدافعوا إليها. ملئوا جيوبهم وسيالاتهم وأكفهم. تطايرت قطع الحجارة في الجو. تراجع العساكر إلى الوراء. لاذوا بداخل البيوت والدكاكين، وشارع حسن باشا عاصم.

قدم عساكر من ناحية البحر، يمسكون العصي السوداء، والدروع الحديدية، وتغطت رءوسهم بخوذات من الحديد. وقفوا في نهاية الشارع، وفي مفارق الطرق.

التمعت خوذات الجنود في أشعة الشمس، وعلا دبيب أحذيتهم الثقيلة، والصيحة الواحدة، المتكررة، الرتيبة.

امتلأت المساحة الفاصلة بين المتظاهرين والعساكر، بالحجارة والكراسات والدروع والهراوات والسيور الجلدية وبقع الدم. لم يعد إلا أصوات الضربات في الأجسام، والتأوهات، والصراخ، ووقع أحذية البيادة.

جرى المتظاهرون في غير اتجاه.

صرخ مصطفى لرؤية شاب نط من ضربة عصا في ساقه. ظل يواصل التنطيط والصياح، ثم لحقه العسكري بضربة أخرى في جنبه، فأطلق آهة طويلة، ممتدة، وسقط ساكنًا.

جذب عسكري بنتًا من لمة شعرها المعقوص. ثنى رأسها إلى الوراء. طوحه بآلية سريعة، متلاحقة. تقلصت ملامح الفتاة. جرها العسكري على الأرض. تمزقت الجونلة في احتكاكها بالأسفلت الساخن، وانفرجت الساقان في تخاذل.

حاولت البنت أن تنهض، لكن الجندي عاجلها بضربة من حذائه في صدرها. أطلقت صرخة كالحشرجة، وغابت عن الوعي.

ألقى ضابط قنبلة بآخر ما عنده. جرَّت وراءها خيطًا من الدخان الأبيض. تلقفها شاب يرتدي قميصًا وبنطلونًا، أول المظاهرة. أعادها ناحية الضابط وخيط الدخان وراءها. تحولت — من بعيد — غمامة بيضاء، اخفت الجنود القادمين.

اختلطت الصيحات والهتافات بضربات الهراوات ولسعات القوايش وطرطشات الدم والأجساد المتهاوية.

تراجع المتظاهرون بظهورهم، وهم يواصلون إلقاء الحجارة، وطوابير العساكر تتقدم. تتسع المساحة بينهم وبين الذين امتصتهم الشوارع الجانبية، وتضيق بينهم وبين من تباطئوا في الانسحاب، يواصلون الهتافات وإلقاء الحجارة. حاول أن ينفذ بينهم. اصطدم بأجسام وصراخ وزعيق وهتافات، كأنهم التصقوا بالأرض. وقفوا في نقطة الصفر.

فوجئ بالسحنة المربدة فوقه تمامًا. لا يدري إن كان قد ظل واقفًا أم تعثر … لكن الشرر الغريب، في العينين الناريتين، لحقه ارتفاع العصا وهبوطها.

هل أتت الضربة على رأسه، أو على كتفه، أو في وجهه؟

لا يذكر إلا الألم، والدوار، وأن جسمه تخاذل، يريد القعود أو النوم تماوجت المرئيات، تراقصت، تداخلت بالألم القاسي. انتزع من داخله آهة طويلة.

صحا على أبيه وأخيه والرجال في مستشفى رأس التين. توسط حمادة بك، فأعفي — لصغر سنه — من التحقيق، ونُقل إلى البيت.

حدج الجد السخاوي حمودة هلول بنظرة متصعبة وهو يسند كرسيه إلى جدار القهوة: البطل الصغير أكل علقة!

قال قاسم الغرياني: هل كان يعارك البوليس؟!

قال الجد السخاوي: عباس الخوالقة ضرب السكران، فقطع رجله عن بحري.

مال مصطفى على حمودة هلول: مَن السكران؟

– فتوة قديم.

قال محيي قبطان: يكفي أن مصطفى تظاهر ضد الحكومة!

همس محمد كسبة في أذن الجد السخاوي: الولد مصطفى تغيَّر صوته وسحنته.

قال الجد السخاوي: حتى الأسماك يتغير لونها عند البلوغ … الفارق أن الأسماك تعود إلى لونها بعد أن تضع الأنثى بيضها، ويتولى الذكر التلقيح والإخصاب!

قدم علي الراكشي من ناحية شارع فهمي الناضوري.

هش على ولد بعصاه. خطفها منه الولد، وجرى. جرى الراكشي وراءه بآخر ما عنده. اصطدم في جريه بعربة يد، فسقط من طوله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤