لحظات الأمل

قبل أن يميل إلى شارع الكورنيش، اهتز البنز في جانبه الأيمن، ثم واصل السير.

خامره قلق، فتوقف إلى جوار الرصيف. نظر، وحدق، وهتف بدهشة. انتزع إطار العجلة اليمين، ثم نسي إعادته.

لحقه — في طريق عودته إلى الإسطبل — صوت حمودة هلول: تأخرت يا صابر … السباق بعد صلاة العصر.

كان الأذان قد تناهى من ياقوت العرش قبل عشر دقائق، فلا بد أن المصلين غادروا المساجد إلى ساحة رأس التين.

هل يبدأ السباق بدونه؟

عدل عن فكرة العودة. يبعث في الساحة بمن يأتي له بالإطار.

تردد على الورديان. اشترى من مغالق الأشجار قطعًا زائدة من الجازورينا والتوت والسرسوع. قضى المكنجي في الإسطبل يومين، يخرطها على اسطمبات. رمم كرسي السائق والصندوق والرفارف والكرسي القلاب.

كان يشتري لوازمه من سوق البرادعية والسروجية في نهاية شارع الميدان. اختفى السوق بندرة الحاجة إلى لوازم الدواب.

شكا من الصينية، فهي لا تسمح للبنز بالدوران كما يريد. أوصى على جلد بقري للتنجيد من ملوي، دباغته خاصة للبنز. اشتري سرجًا مبطنًا بالقطيفة الخضراء، مدندشًا بالدلايات والحرير والقصب والشراريب، الملونة. زينه بالدائرة المثقوبة، وخمسة وخميسة والورود. وثبت فانوسين من النحاس المطلي.

فك السير الجلدي عن ظهر الحصان. اطمأن إلى البشلك واللجام، وإلى غياب التسلخات والتقرحات والجروح وحشرة القراض.

– إذا لم تثق في الفوز … لا تذهب!

وهز أصبعه في توالٍ: الإسطبل لا بد أن يكون الأول.

اغتصب ابتسامة متذللة: نحن الأول بإذن الله.

قال التميمي وهو يمسح بيده عنق الحصان: سباق شم النسيم يشارك فيه كثيرون.

قال صابر: أعرف.

ثم وهو يتحسس عنق الحصان بأصابعه: باقي أشياء صغيرة.

يبدأ السباق من أمام حديقة سراي رأس التين. فتحة الحدوة الخضراء الواسعة. ينطلق — بين الصيحات والزغاريد — في طريق الكورنيش، إلى انحناءة السلسلة، ويعود. تتكرر الدورة سبع مرات. ثم ينتهي السباق حيث بدأ.

تناثر الكناسون على امتداد شارع الكورنيش، وعلى الرصيف. يلاحقهم المفتشون بأوامر متلاحقة وتحذيرات. سأل. قيل إن موكب الملك قادم من المنتزه للصلاة في أبو العباس.

علا صوت عابر: وما الجديد؟ … إنه دائم التنقل بين المنتزه ورأس التين.

قال عسكري السواحل: هذه زيارة رسمية.

هز كتفيه في عدم فهم، وواصل السير.

سباق اليوم فرصته في الفوز. تباينت بواعث الانشغال عن المشاركة. حتى عباس الخوالقة اعتذر لمرافقة حمادة بك في جولته بشوارع الحي ودكاكينه وقهاويه. كور قبضته. الفوز فرصة لن يفلتها.

لو أن التميمي يوافق على أن يؤجر البنز؟

ربما شد شعرات من ذيل الحصان. يلجأ إليها مرضى السنط. وربما باعها للأولاد. يستخدمونها في ألعابهم. آخر مبلغ حصل عليه، لما سافر التميمي والمرأة إلى رأس البر، لقضاء أيام العيد. أعد البنز، ووقف في ميدان أبو العباس. الجولة بتعريفة من الميدان إلى سراي رأس التين، والعودة. راح وجاء مرات كثيرة، حتى هلك الحصان. خوفًا من أن يظن التميمي — إذا فتش المخزن، وعثر على المبلغ — أنه يسرقه، مضى إلى قهوة كشك. أودع ما معه أمانة عند حسنين الدمنهوري، وعاد إلى الإسطبل.

لم يسافر التميمي خارج الإسكندرية بعدها. ظلت أيام العيد حلمًا جميلًا، لا سبيل إلى استعادته.

تحسس — بتلقائية — مواضع ضربات الكرباج على جسمه. طالت أعلى الجبهة، واتصالها بالرأس، والخد الأيمن إلى الذقن، والرقبة، والساعدين. تردد — أربعة أيام — على مستشفى رأس التين. يعود من المستشفى، فلا يترك غرفته. يتمدد على ظهره. يفسح ما بين ساقيه ينهض — في تثاقل — ليعد طعامه، أو ليدخل دورة المياه. زارته الست جمالات مرتين. وقفت — في عودتها من الخارج — على الباب. سألت عن صحته. أجاب دون أن يترك مكانه، أو يلتفت.

فاجأه التميمي صباح اليوم الخامس: إلى متى أظل أُعنى بالخيل بدلًا منك؟!

لم يكن شفي من جراحه، ولا سكتت آلام جسمه. لكنه تحامل على نفسه، وقام.

عمله في الإسطبل فرصته الوحيدة للمشاركة في السباق. لن يستطيع ركوب البنز بعيدًا عن الإسطبل. يا دوب يتولى تجهيزه. التميمي لا يستقر على حال. يلقي عليه السلام، فلا يدري إن كان يرد أم يشتمه. إذا وصل إلى خط النهاية قبل الجميع، نال الجائزة. ضمن الحياة في غيبة أوامر التميمي وتحذيراته وشخطه ونطره وأذيته، وتبدل أحواله الذي لا ينتهي. يصل إلى خط النهاية قبل الجميع. يعلن الحكام فوزه. يحصل على النقود والهدايا. يخلي قيادة البنز، ويكتفي بالجلوس لتلقي صيحات الإعجاب والتصفيق. ينتهي الموكب الصاخب إلى قهوة مخيمخ. يحيا في الحفاوة إلى نهاية الليل. ربما لا يعود بعد ذلك إلى الإسطبل. ربما اشترى حانطورًا يسيره لحسابه من رأس التين إلى المنتزه، أو يختار لوقفة الحانطور داخل ساحة محطة السكة الحديد، بالقرب من الباب المفضي إلى محرم بك.

لو أن المعلم يعدل عن رأيه: أفضل أن أستمع في الراديو، إلى وصف مباراة الكرة بين مصر والمجر.

أبدى صابر دهشته: الكرة؟! … سباق البنز أفضل من الكرة مليون مرة!

قال التميمي: أنا بعافية … فرصة للاسترخاء.

وأشار إلى حصان دس وجهه في مخلاة الطعام: المهلب يحتاج إلى قصاص يهذب شعره.

سمي حصانه المهلب، اسم حصان أبو زيد الهلالي، وإن لم يكن أسود مثل حصان الهلالي. كانت غرته بيضاء، يداخلها اللون البني، الجسد كله بني اللون، ما عدا دوائر غير مكتملة من اللون الأبيض. سارح العود، له رأس صغير، وعينان واسعتان، يحيط بهما سواد كالكحل. واسع المنخارين. عنقه أشبه بعنق البجعة. عروقه وعضلاته — إذا صدرت عنه حركة — تبين من الجلد الرفيع الشفاف. ربما أشار التميمي إليه وقال: النوة قادمة!

– أية نوة؟

– لا أدرى! … لكن النوة قادمة … معنى وقوف المهلب هكذا، أن النوة قادمة!

كان يسقيه اللبن مخلوطًا بالسمن البلدي، ويسقيه البيرة في شارع البوستة، ويطعمه الذرة والعشب. وخصص له في مولد أبو العباس سرجًا مطعمًا بالفضة وخيوط الذهب.

رفض عرضًا أن يستعمل نوعًا من الحقن. يصبح المهلب كالعفريت، يجري كالرهوان. ثم ماذا؟ … يحصلون على المال، ويموت المهلب؟!

قال الشيخ عوض مفتاح، إمام ياقوت العرش، وهو يتأمل المهلب: الخير معقود بنواصي الخيل إلى يوم القيامة!

يخرج بالبنز كل صباح. يسحبه الحصان الذي اختاره للسباق. يمضي إلى ميدان المساجد، فساحة أبو العباس. يميل يسارًا إلى طريق الكورنيش، حتى السلسلة. يشجعه هدوء الحركة، وخلو الطريق من المارة، على السير في اللسان إلى نهايته. ثم يعود إلى طريق الكورنيش. السور الحجري على يمينه. يدور حول حديقة السراي، فيصبح سور البحر على بساره. ثم يميل من شارع أبو السعادات إلى داخل السيالة.

حقق المركز الأول في سباق البنز، لسنوات، ثم غلبه المعلم عباس الخوالقة ثاني أعوام الحرب العالمية الثانية، فقرر اعتزال المشاركة في السباق. اكتفى بالمتابعة، والمشاهدة، وإبداء الملاحظات، والنصائح.

حين فاجأه صابر الشبلنجي باعتزامه المشاركة في سباق هذا العام، تردد في الموافقة: هذه سمعة الإسطبل!

قال صابر: أنا تلميذك يا معلم.

وأظهر القلق لما نط التميمي على حصان دون سرج: قد لا تستطيع التحكم في الحصان إلا باستخدام ساقك فقط … ربما أتى الحصان بحركة مفاجئة.

قال التميمي في نبرة واثقة: الخيَّال هو الذي يفوز ويخسر، وليس الحصان!

وخالط صوته سخرية: أليق بك أن تكون برادعيًّا.

واستطرد كالمتنبه: حتى البرادعيين راحت عليهم … أفضل أن تكون سروجيًّا قد الدنيا.

لكز التميمي جانب الحصان بقبضته، وشد اللجام. رفع الحصان عنقه، وانتشرت أذناه، واختلج منخراه، وتقلقل في وقفته، ثم جرى بخطوات مهرولة خارج الإسطبل.

اعتاد مؤاخذات المعلم وتوبيخاته، وملاحظاته التي لا تنتهي، واعتاد الحياة في الإسطبل، والتعامل مع الحداد وصانع المهاميز واللجومي والسروجي. تعلم معالجة أسطح العربات وعجلاتها وعرائشها، ومداواة جراح الاحتكاك وأورام القوائم وتسلخات الظهور، وبذل خراريج البغال وتركيب الحدوات. وتعلم تحنيك الخيل وكيها وتقليمها وتزنيدها. وصار على دراية بأصناف الخيل وطباعها ومزاياها: طول العنق، طول الخطوة، طول الأذنين ورقتهما، قصر المسافة بين الحافر والساق، قصر الظهر، بروز العينين، علو الكفل، اكتناز اللحم، اتساع الصدر، ضخامة الفك، صغر الرأس، وجود صوف بين الرجلين الأماميتين، نعومة صوف الجسم. يمكنه — من النظرة الأولى — أن يعرف نوع أي حصان، وسنه، وعدد الحدوات التي أهلكها، وموطنه الأصلي.

ظل مساعدًا لعم شفيق عبد السيد في تشغيل الإسطبل. عندما قرر عم شفيق أن يقضي آخر أيامه في قريته بالصعيد، طالبه التميمي أن يقضى يومه في الإسطبل، لا يتركه — في الليل — إلى قهوة كشك. ترك له عم شفيق راتبه، وبعض الأواني، ووفر له أجر البيات في القهوة.

اطمأن إلى الإطار في موضعه.

هم بالسير ناحية رأس التين.

لحقه صوت عم سلامة.

حدق في دهشة: غادر التميمي الإسطبل منذ ساعتين … فكيف مات؟!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤