صرخات الجزر الوحشية

جلسة العصر أمام دكان الحاج محمد صبرة. ثمة نسائم خريفية تهب من ناحية البحر، وطيور النورس وعصفور النيل والعصفور الأسود والعنزة تحلق في امتداد الشاطئ، وتتناثر في السماء سحب بيضاء، صغيرة.

كانت أشعة شمس الأصيل تضوي بالألق على صفحة المياه. وفي نهاية الأفق مراكب متباعدة، فردت أشرعتها. وعلى طريق الكورنيش تقرقع عجلات البنز، وعربات النقل المحملة بفناطيس البترول والأخشاب والحديد المسلح وطاولات السمك، وبنات قدمن من شارع أبي السعادات يحملن الصفائح فوق رءوسهن، في الطريق إلى حنفية المياه.

قال الحاج قنديل: زمن طويل لم يجمعنا هذا المكان.

اتجه المعلم أحمد الزردوني إلى حمادة بك بنظرة مشفقة: إن كان لزيارتنا للحاج سعيد النقيب ميزة، فهي هذا اللقاء.

قال الحاج قنديل: كان لوفاة مصطفى، ابن أخينا عباس الخوالقة تأثيره المؤلم … شغلنا حتى عن مجرد التفكير في اللقاء.

قال محمد صبرة بصوت متأثر: أعانه الله على مصابه!

ظل حمادة بك ساكنًا، وإن وشى اهتزاز ساقيه بتوتره.

لم يكن يعتبر محمد صبرة صديقًا، وإن حرص على الجلسة أمام دكانه. يناقشه. يسأل، ويجيب عليه. ربما تقبل منه دعابة، لكنه يضعه خارج إطار الأصدقاء. هؤلاء معلمون كبار، لهم مكانتهم التي لا تخطئها العين. أما محمد صبرة، فإن المستحيل يلغي مهنته كحلاق.

روت نهى لأمها عن فصول زوجها معها. نقلت الأم الحكايات إلى الأب: الغياب عن البيت إلى ساعات الصباح، ادعاء التعب، إعلان الرغبة في الصحو مبكرًا لإنجاز عمل، افتعال الخناقات، فينام في حجرة الأولاد، اكتشافها لثياب نسائية في دولابه.

قال سعيد النقيب: عندما تقدمت لخطبة ابنتي، فلرغبتك في مصاهرتي … أليس كذلك؟

قال حمادة بك: هذا صحيح.

طقت عينا النقيب بشرر: أنت إذن تستهين بي حين تدس في دولابك ثيابًا نسائية.

عثرت نهى على الثياب — قمصان نوم وسوتيانات وجوارب — مدسوسة في ملابسه. همت بسؤاله عنها، ثم روت لأمها.

قال حمادة بك: هذه ثياب قديمة … أوزعها على الفقيرات من نساء الحي.

علا صوت النقيب بالسخرية: منذ متى أصبحت وزيرًا للشئون الاجتماعية؟!

وأطلق من أنفه ضحكة مبتورة: هل ما وجدته ابنتي بين ملابسك يصلح للفقراء؟

احمرت أذناه: أنا أعد نفسي للانتخابات ضد منافسات صعبة.

تقلقل النقيب في كرسيه: هذا كلام لا يدخل العقل!

قال الحاج قنديل: لو أنه يتاجر في الملابس النسائية، فليس في الأمر ما يشين.

قال النقيب: أوافقك لو أن المشكلة مجرد اتجار في الملابس!

ولون صوته: البروش المختفي داخل بدلتك … هل تنوي كذلك إهداءه في الانتخابات؟!

صرخ حمادة بك: هذا اعتراف بأن ابنتك تفتش ملابسي!

واجهه بعيني الشرر: لو أنها تفتش، لاكتشفت المصيبة من زمن.

وثنى إلى الجالسين ملامح مكتئبة: تصورت أن من واجبها أن ترتب دولاب زوجها.

وزفر: لم تكن تدري!

ورماه بنظرة عداء صريحة: لماذا تزوجت ما دمت في غير حاجة إلى الزواج؟!

كان يتوقع منه الحرج. يفاجئه — أمام الرجال — بملاحظة، أو كلمة نابية. تعثر لسانه في الارتباك، فسكت.

روى له أبوه عن خلافاته مع أمه حول اختيار اسمه. أصر على مختار — اسم جده — وأصرت على حمادة. ولد بعد طول عقم، ونشأ وحيدًا. دللته أمه. عاملته كأنثى. ألبسته ملابس البنات، وعلقت في أذنه قرطًا ذهبيًّا، وفي صدره خمسة وخميسة، ومنعته من اللعب مع الأولاد. يلجأ إلى أبيه إذا أراد اللعب في الشارع الخلفي. يثق من رفض أمه.

متى تبدلت معاملة أمه له؟ وكيف؟

فاجأته بصفعة حين عاد متأخرًا من الشارع الخلفي. لم تكن قد مدت عليه يدًا، ولا آذته من قبل. تمازج الألم بمشاعر غامضة، غريبة، صعب عليه فهمها، وإن استقرت في داخله، وظلت تؤانسه. تعارك مع الأولاد، فأسرفت في سؤاله عن أثر الدمع في عينيه. ضربته، فأصر على الكتمان.

قالت الأم: مصيبتي أن لي ولدًا مثل البنت!

ظلت العبارة في داخله. يتذكرها إذا عانى الخواطر الجهنمية. جاوز الطفولة، فأصرت أن يكون مثلما ولِد. وكانت تضربه بلا مناسبة. كأنها أرادت أن تنسيه سني التدليل، فيصبح رجلًا. تذكرت أباها الشيخ حفني سلام إمام جامع الشيخ إبراهيم. كان زميلًا لعبد الله النديم، وشارك في ثورة عرابي. لم يترك الإسكندرية، حتى بعد أن دمر الأسطول الإنجليزي معظم مبانيها. له اجتهاداته المعلنة في الفقه والتفسير، وقوائم مكتبة البلدية تضم ثلاثة كتب من تأليفه. جعلت همها تطهيره من أي عيب أو ضعف.

ظلت الأمنية، السر — بعد رحيل الأم — في إطارها لا تغادره. يتمني تحقيقها، وإن قيده الخوف من المعايرة والتلميز، وربما الفضيحة، ثم أخضعته قوة غريبة، مسيطرة، لا قبل له على دفعها، أو الفرار منها. يغلق عليه باب حجرته. ينزع ثيابه تمامًا، ويقف أمام المرآة. يتأمل جسمه. يجري براحتيه عليه في دوائر، فتداعبه نشوة. يخلع حذاءه في ظلام الشارع الخلفي، ويلتذ بملمس برودة الأرض، والحصا، بقدميه الحافيتين. يخترق زحام شارع الميدان، لا يأبه بالنظرات التي تعرفه، ولا عبارات التحية والمجاملة. يصطدم بالأجساد الواقفة، والمتلاصقة، والمتدافعة. يتوقع رد الفعل، ويتحداه. لا تشغله التعليقات الغاضبة ولا التأوهات. ربما علا صوت يشتمه، فيؤجج النيران المشتعلة في الأعماق. أسلم نفسه لأمواج الرغبة، تجتذبه، وتطويه، وتجرفه، وتغوص به في أعماق ساحرة، لا نهائية. استحال كرة مشتعلة، تجري بالهياج والرعونة والشبق والشهوة. أراد أن يستغني بنهى. قذفت بالعصا في الأرض، وجرت لزمت حجرة الأولاد حتى الصباح. حاول أن يسبق رواية ما حدث لأمها أو لأبيها. اشترى من الصاغة — في اليوم التالي — عقدًا وأسورة وساعة مذهبة. أخذتها، وأشاحت بوجهها. فوجئ — عند عودته في المساء — بغيابها. حين ذهب لإرضائها في بيت سعيد النقيب، واجهه الرجل بافتضاح السر. قال بلهجة ملمزة: الرجل لا يتنازل عن رجولته لأي سبب.

ضايقته الكلمات. أحس بالسخونة خلف رأسه. استجمع الكلمات، لكن الرجل مال على ابنته بملامح آمرة: عودي إلى زوجك!

لم يعد إلى ما فعل، وأرضاه أنها لم تعد — من يومها — إلى السيرة، وإن انتقلت إلى حجرة الأولاد، لا تتركها إلا إذا نادى بطلب شيء. حتى أوقات تناول الطعام تعتذر بالنوم، أو بالمرض. وحين يجبرها — بتوسلاته — على المضاجعة، يتصاعد الغثيان إلى حلقها. تنشغل بكتمه، حتى يخرج من الحجرة، فتعود إليها نفسها.

اقتحم التوقع، لا تشغله الشتائم، ولا الدفعات، ولا النظرات الغاضبة.

دعاه المعلم التميمي — في لحظة مؤانسة — إلى بيت أنصاف.

تدبر الأمر للحظات: هل تستطيع أنصاف أن تفهمه؟ وهل تعطيه ما يريده؟ يذهب لو أن المرأة بذلت غير ما تبذله له زوجته. تصور نفسه عاجزًا عن مجرد البوح، فرفض الفكرة.

حدق في المرآة: هل هذه الملامح لفتاة؟ والشارب الذي تعمد أن ينسدل على جانبي فمه؟

قالت نهى وهي تتأمل ربطة عنقه: ماذا تفعل بالكرافتات؟ … هذه ثاني واحدة تمزقها.

فوت الملاحظة. دفعته المرأة لما استفزها إصراره على تلقي النازلين من ترام الرمل بصدره. تعرفت إليه في وقفة تالية، جذبته من ربطة عنقه. خنقته بها، وأطلقت صرخاتها. وضع همه في الفرار من اللمة.

رمق سعيد النقيب بنظرة ساخطة: هل تؤلب الرجال ضدي؟

قال النقيب: أفعالك تؤلب الدنيا ضدك.

أشاح بيده: أنا أفعل ما يرضي ضميري.

النقيب: وهل عندك ضمير؟

فز في مكانه: هذه إهانة!

لم يكن يدري طبيعة المشاعر التي تتصاعد في نفسه، عندما يرى حزامًا معلقًا على الشماعة، أو ملقًى فوق السرير. تقذف به الخواطر الجهنمية في جزر غامضة، تعلو فيها صرخات اللذة والألم. تدهمه المشاعر نفسها لرؤية عصا في يد من لا يعرفه، أو لرفع امرأة شبشبًا في شوارع السيالة، ترفقه بتهديداتها وشتائمها.

الرغبة صراخ في أعماقه، بأن يخلو إلى من يحسن الإنصات، فيروي له. تفجؤه لحظات تلح عليه فكرة البوح. يروي ما يشغله ويعذبه. يفشي السر الذي لا يذكر متى بدأ في حياته، ولا كيف استطاع أن يظل في داخله بأعوام العمر.

تصور في كوم بكير سدَّادة تكتم السر. يطفئ النيران المشتعلة ويمضي. يسقط احتمالات الفضيحة. يسلم نفسه لتصورات تجاوز المستحيل، تصنع المنتهى والمطلق.

تشجع بالعصا الجلدية، فدنا بفمه من أذن المرأة. هزت رأسها بما يعني الفهم. ملأت البسمة وجهها عندما دس في يدها ما لم تكن تتوقعه. لم يكد ينزع الجاكتة والقميص، حتى لاحقته بضربة في كتفه، فصرح متألمًا. غابت الجزر السحرية الباعثة للنشوة. لم يعد إلا الألم القاسي. دفع المرأة بيدين اصطدمتا بالعصا الجلدية، فدميتا. لاحقته بشتائم وبصقات وركلات بقدم عفية. باخت مشاعره. تبلورت أمنياته في أن ينتهي الموقف حالًا، ولا يجد نفسه في هذا المكان. حين أصبح ما حدث ذكرى، بدا الفارق بين النيران الهادئة الجميلة في بيت حارة سيدي داود، والجحيم الذي أذاه في كوم بكير.

لمح حمادة بك استجابة تعاطف في أعين الجالسين. هتف: هذه مؤامرة لتحطيم مستقبلي.

قال سعيد النقيب: أي مستقبل؟ … أنت تترك مسئولية شغلك للآخرين، وتكتفي بالصرمحة في الشوارع وعلى القهاوي.

قال عباس الخوالقة: هل يمكن أن نرجئ ذلك كله إلى ما بعد الانتخابات.

أضاف للدهشة المتسائلة في عيني النقيب: مهما تطل أيام الحكومة الحالية … فالمتوقع إجراء انتخابات جديدة.

ثم بنبرة ملاينة: كما تعرف … حمادة بك ينوي ترشيح نفسه!

قال الحاج قنديل: نحن نعرفك … فلا تدع لما حدث تأثيرًا على صداقتنا!

أردف محمد صبرة: غدًا تصفو النفوس … فلا تنشغل الآن إلا بعملك، والاستعداد للانتخابات التي اقتربت.

وأضاف لنظرة حمادة بك المتسائلة: هذه الحرب المفاجئة في فلسطين … ستعجل بعودة الوفد!

قال المعلم أحمد الزردوني: قل لأن الوفد هو أجدر الأحزاب بتولي الحكم!

قال الحاج قنديل: هذا كلام وفدي متعصب … الوفد انتهى منذ ٤ فبراير.

قال الزردوني: عندما وافق النحاس على تولي الحكم، فلإنقاذ البلاد من كارثة!

قال محمد صبرة: البلاد تحتاج الآن إلى قارعة … كتلك التي تحدث عنها سعد زغلول!

اتصلت الكلمات، وتشابكت. توالت الأسئلة والأجوبة، والآراء الزاعقة والهامسة. ظل داخل أسوار الجزر الوحشية: هل يقتصر ما حدث على جلسائه القريبين، أو يذيعه سعيد النقيب، فيفقد الفرصة في دخول الانتخابات، وفي مواجهة الناس؟ هل هي النهاية، تبين عن ملامحها القاسية، الوشيكة؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤