ظلال حزينة

السابعة …

الضوء الشاحب من النافذة الحديدية، العلوية، وشى بالظلال جدران الصالة المتآكلة، وبياض الحائط وراء المواضع الممزقة في الورق المزدان برسوم وزخارف ملونة. عُلِّقت آيات من القرآن، وبعض الأمثال، والحكم، وأبيات من الشعر، وصورة لسعد زغلول يصافح المعلم كشك الكبير، وسط عشرات يطل عليهم تمثال محمد علي. وثمة نجفة هائلة، مدلاة من السقف بسلسلة حديدية، تهتز بنسائم ربيعية هادئة. على الأرض — أوسط الكراسي والطاولات — سجادة صلاة مطوية إلى نصفين، ظهر فيها رسم الكعبة. النصبة — على اليمين — تتوسطها الرمالة والفناجين والكوبات، وصُفَّت في نهايتها ثلاث نارجيلات، وصحن نحاسي، فوقه قلة من الفخار مغطاة بقطعة شاش. والردهة — ناحية اليسار — تفضي — في ظلمة شفيفة — إلى المطبخ ودورة المياه. وصوت أم كلثوم ينبعث — خفيضًا — من الراديو خلف قعدة المعلم كشك:

سلوا قلبي غداة سلا وتابا
لعل على الجمال له عتابا

تأكد زناتي الكنَّاس من إغلاق الباب جيدًا. ظهر عساكر الجيش في شارع فرنسا، ليبدءُوا تطبيق قرار منع التجول.

قال حسنين الدمنهوري: من كان يصدق أن الأمور تتطور إلى هذا الحد؟

قال زناتي الكناس: حتى عمال الميناء أضربوا … تكدست البضائع، وتوقفت البواخر عن إنزال ما بها.

قال المعلم كشك: ذكرت «البلاغ» أن النقراشي وصل الإسكندرية.

روى زناتي عن المظاهرات في ميدان المنشية، طلبة وعمال وعساكر بوليس وصولات وكونستبلات، رفعوا أرغفة خبز فوق بنادقهم.

فرضت نفسها على الجميع أحاديث الإضرابات والمظاهرات. حتى ضباط البوليس لم يعد من المثير خروجهم في مظاهرة، والهتافات ضد الإنجليز والحكومة والملك. صداقة فرضها ملازمة المكان. تبادل الشكوى والبوح والفضفضة. التجول في الشوارع الخلفية، وفيما وراء الأسوار. التعرف إلى ملامح غائبة.

لم تعد القهوة تغلق أبوابها في العاشرة.

عرفوا السهر والعودة وجه الصبح. المظاهرات والإضرابات، دفعتهم إلى الفرجة والمتابعة. قيود الحرب غابت كأنها لم تكن. أُزيلت الزرقة من النوافذ وواجهات الدكاكين، واختفت الكشافات الضوئية من السلسلة، وأبيح دخول ما كان ممنوعًا. حتى القعدات داخل حديقة سراي رأس التين عادت إلى مألوفها، وعادت أضواء الكازينوهات في امتداد الشاطئ، وعاد السهر على الكورنيش، والتمشي في صفية زغلول وسعد زغلول ومحطة الرمل.

قال مؤمن الدشناوي: بالمناسبة … أقرأ على الجدران: نريد الخبز بدل السلاح … ماذا تقصد هذه العبارة؟

قال مصطفى حجازي: أعرف أن الخبز موجود.

تلون صوت عم محمد الطوشي بالتأثر: أخطأ الجيش عندما أطلق الرصاص عليهم.

أردف في تأثُّره: النتيجة هي ما حدث من حرائق بقسم الجمرك وقسم اللبان وإحراق لعربات الترام والدكاكين ودور السينما.

قال المعلم كشك: لولا نزول الجيش لضاعت المدينة.

قال مؤمن الدشناوي: عرفت في المستوقد أن القتلى سبعة وعشرين … منهم سبعة من عساكر البوليس.

قال زناتي: هتفوا: يسقط النقراشي عدو الأمة.

أضاف حسنين الدمنهوري: سمعتهم يهتفون: قود الثورة يا نحاس.

قال المعلم كشك: لهم حق … كل شيء يدعو إلى الغيظ … التخاذل في المفاوضات … انهيار أسعار القطن … كادر الموظفين … البطالة.

ثم في لهجة متشككة: حتى لو نجح النحاس في الانتخابات … فلن يوافق الملك على تكليفه بها.

كان المعلم كشك لا يفتح عينيه إلا إذا تكلم. فإذا أنهى كلامه أغمض عينيه، وأحنى رأسه على صدره كالنائم. يتكلم ثانية، فيفاجئ من حوله بأنه كان يتابع كل ما قيل.

قال مؤمن الدشناوي: الحمد لله أنهم أذنوا لنا بالبقاء في القهوة.

لاحظ فأرًا يطل من جحر داخل فجوة في الجدار، بالقرب من الردهة. تطلع الفأر — بعينين متأملتين — إلى المكان حوله. ثم عاد — ثانية — إلى الجحر.

أردف الدشناوي متصعبًا: أغلقوا القهوة في النهار يوم ذكرى توقيع اتفاقية وادي النيل … أما الآن فحظر التجول بالليل.

قال حسنين الدمنهوري: سمعت أن عمال كرموز خرجوا في مظاهرة كبيرة، شارك فيها مائة ألف … ورفعوا لافتات تطلب قيام الجمهورية.

قال زناتي الكنَّاس: ميزة المظاهرات أن المفتش لا يترك مكتبه … وقد لا يترك بيته.

مشواره اليومي يبدأ في الصباح. يأخذ المقشة العهدة من البناية الصفراء الصغيرة في ميدان سانت كاترين، ويعطي التمام. منطقته من قسم المنشية إلى نهاية شارع فرنسا، عند تقاطعه مع إسماعيل صبري.

قال مؤمن الدشناوي: حجتك معك … هل تنظف الشوارع من المتظاهرين؟

استطرد مصطفى حجازي: ربما أصابتك طوبة.

فاجأ عم محمد الطوشي الرجال بالقول: كما ترون … لم أعد أقوى على حمل الصينية.

مثل الترسة هو. صدفته الصمت، والغموض. لهجته شامية، وإن لم يتحدث عن أهله ولا موطنه، ولا متى جاء إلى الإسكندرية. لا يكاد يتكلم، ولا يروي عن ظروفه الشخصية. حتى صينية الهريسة يحرص، فلا يرى طريقة صنعها أحد. الصينية الهائلة الاستدارة، تلتف حولها — بإحكام — صينية من الماء. في أسفل بريموس يسخن الماء، فيواصل البخار ارتطامه بصينية الهريسة، حتى تنضج. يميز نفسه، لا يضم طاولتين فيتحولان إلى سرير، يزيح الأكواب من «النصبة»، يفرش البطانية فوقها، يغطي ببطانية ثانية.

وغالب التأثر في صوته: استأجرت دكانًا بالقرب من قهوة فاروق.

قال حسنين الدمنهوري: عين العقل.

قال الطوشي: ما يحزنني أنني سأترك القهوة.

علا حاجبا زناتي بالدهشة: لماذا؟

– إيجار هنا، سأدفعه هناك.

قال له المعلم كشك: هل تفارقنا يا رجل؟!

وهو يداري تأثره: ما باليد حيلة!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤