التحليق بلا أجنحة

قال أبو الحسن الشاذلي: «إذا أكرم الله عبدًا في حركاته وسكناته، نصب له العبودية لله، وستر عنه حظوظ نفسه، وجعله يتقلب في عبوديته، والحظوظ عنه مستورة، مع جري ما قدر له، ولا يلتفت إليها كأنه في معزل عنها. وإذا أهان الله عبدًا في حركاته وسكناته، نصب له حظوظ نفسه، وستر عنه عبوديته، فهو يتقلب في شهواته، وعبودية الله عنه بمعزل، وإن كان يجري عليه شيء منها في الظاهر.»

«لا تختر من أمرك شيئًا، واختر أن لا تختار، وفر من ذلك المختار، ومن فرارك، ومن كل شيء، إلى الله تعالى.»

«لا تنقل قدميك إلا حيث ترجو ثواب الله، ولا تجلس إلَّا حيث تأمن غالبًا من معصية الله، ولا تصطفِ لنفسك إلا من تزداد به يقينًا، وقليل ما هم.»

ترك المعهد الديني وراءه، ومضى في شارع المسافرخانة المرصوف بقطع البازلت الصغيرة، ببيوته القديمة، والأبواب والنوافذ العالية، والحجارة البيضاء. أسلم نفسه لظلام الحواري الضيقة، المتشابكة، المتداخلة، وإن تناثرت أضواء شاحبة من أخصة النوافذ المغلقة. ثمة بيوت مغلقة الأبواب، وبيوت فتحت عن آخرها، وإن احتوت للظلمة مداخلها، فلا تبين عن شيء، وهدأت الأصوات، وخفتت. تحولت إلى همهمات هامسة بعيدة.

لم يشعر بالخوف. الجن والعفاريت سجنها رمضان. يستطيع المرور في أي وقت، دون أن يخشى أذاها:

يا رمضان يا عود كبريت
يا مقيد كل العفاريت

أُغلقت أبواب الجحيم، وفُتحت أبواب الجنة، وصُفدت العفاريت والجان والمردة والغيلان في قمائم من النحاس. لا يظهرون طول الشهر، ليستطيع الناس الحياة في أمن وسلام.

كانت الجان والعفاريت تترصد له في ناصية حارة الشاروني، في الجانب المظلم المفضي إلى السيالة. يعرفها بمجرد اقترابه. لها تكوين البشر، لكن حركاتها القافزة تكشفها. يقترب، ولا يتوقف. تؤذي من يبدي خوفه. يتلو ما يسعفه به لسانه من آيات القرآن، فتفزع وتختفي.

كانت الأقدام قد خفت من الميدان والشوارع المحيطة، وأُغلقت الدكاكين. انداح الظلام، ما عدا ذبالات الفوانيس المرتعشة في الأركان.

ائتنس بالظلال التي صنعها تعدد لمبات الشارع، والأضواء المتسللة من النوافذ المغلقة. تلازم الظلال خطواته. تسبقه، وتجاوزه، وتتبعه. يعتبر نفسه سائرًا في جماعة تؤنسه وتسلِّيه.

توقف لرؤية أولاد أمام إسطبل التميمي بالسيالة. يهزون الفوانيس ويغنون:

الدكان ده كله عمار
وصاحبه ربنا يحميه

شوح التميمي بيده — ناحيتهم — في غضب، فعلت أصواتهم:

الدكان ده كله خراب
وصاحبه ربنا يعميه

رمضان …

طلقة مدفع الإفطار تترامى من قلعة قايتباي، يمتص صداها البحر، فلا تسمعها الأحياء البعيدة.

مولد سيدي ياقوت العرش موعده في أيام الشهر. تسبقه المظاهر التي تهب الشهر ملامحه. خلو الشوارع إلى العصر، وإغلاق الدكاكين، والزحام الخانق قبل انطلاق مدفع الإفطار، وموائد حمادة بك أمام فرن التمرازية: الفول النابت والأرز والفتة وقطع اللحم المسلوق، وتدلِّي المسابح من الأيدي، وحلقات الذكر والتسابيح، وقراءة كتب للدين، وصلاة التراويح، وتلاوة القرآن في حديقة سراي رأس التين، يتردد في الحديقة الواسعة في هيئة حدوة الحصان، طيلة ليالي الشهر، آيات القرآن، وخدم السراي يطوفون على الناس بصواني الحلوى والقهوة والشاي، وثمة الكنافة والقطايف والنقل وقمر الدين وقلل الماء البارد والفوانيس والزينات والأعلام الملونة والأضواء والسهر والحركة والتمشي على الكورنيش والفرجة ورائحة البخور … حتى مآذن الجوامع تُضاء إلى ما بعد صلاة الفجر.

قال عبد الوهاب مرزوق: رمضان ليس مجرد شهر مبارك. إنه ملك عظيم، بل هو أقرب الملائكة إلى الله سبحانه.

واتجه بنظرته إلى محيي قبطان: كل الناس تفقد من وزنها في رمضان … ما عدا محيي.

قال محيي قبطان: أنا لا أفطر يومًا واحدًا.

قال قاسم الغرياني: ومن أنكر؟ … لكنك تأكل بمقام أربعة في إفطار سراي الملك.

تجعدت جبهته: كذب! … لم أتردد على إفطار الملك في رأس التين إلا مرة واحدة أسبوع …

قال حمودة هلول: أنا أذهب كل يوم … وألتقي بك كل يوم!

كان يحرص على الجلوس في المقاعد الأمامية. يحجزها الخدم للوجهاء والأعيان والمعلمين وموظفي الحكومة. يدخل السرادق — عندما يأذن الحرس الملكي — عقب صلاة التراويح.

قال قاسم الغرياني: لو أن المعلمة أنصاف أقامت فرعًا لنشاطها في المولد.

قال محمود عباس الخوالقة: منه لله سيد الفران … استأثر بأنسية وحده!

قال الغرياني: تزوجها على سنة الله ورسوله.

قال محمود: كانت تقضي …

قال الغرياني في لهجة معاتبة: يا رجل! … سيد صاحبك!

قال محمود: ألم يجد إلا أنسية ليتزوجها؟!

قطب عم إبراهيم القسط جبهته متذكرًا: زكي تعلب؟

ثم وهو يهز رأسه: نعم … طرد من المعهد، وسافر إلى بلدته.

اتسعت عيناه بالقلق: لماذا؟

– سألت عنه المباحث لصلته بالإخوان المسلمين … ففصلته إدارة المعهد.

– هل أُلقي القبض عليه؟

مط القسط شفته السفلى: لا أعرف! … ودعته حتى نهاية المسافرخانة … شيخنا يرفض اشتغال الطلبة بالسياسة.

أردف الرجل بصوت هامس: قيل إنه فُصل لانتمائه إلى جماعة سرية.

قال طالب التقى بالراكشي في حجرة زكي تعلب، إن الحكومة ليست راضية عن نشاط الطلبة. تحالفوا مع الوفد، أو مع الإخوان المسلمين. أوقفت الحكومة دعم المعهد، فعانى الطلبة. تحولوا إلى مهزومين. وغابت العناية عن المبنى: انتشر البلى والوسخ، وتشققت الجدران، وتساقط الطلاء.

لما أبدى زكي تعلب ضيقه مما يجري، أمر شيخ المعهد بفصله.

اعتاد — في الأيام الماضية — أن يتردد على المعهد. يدخل الباب الحديدي الضخم. يسبقه نبوت، حمله للمرة الأولى ليطرد الأولاد حين يعاكسونه. يصعد الدرجات الرخامية. يطالعه في الردهة الواسعة زحام الطلبة وصخبهم. عرف الطريق إلى حجرة زكي تعلب. الثانية على اليمين، في الطابق الثاني. تطل على منور خلفي، وعلى حجرات الطلبة المقابلة. ينضم إلى زكي تعلب، وإلى الطلبة المقيمين معه، والمترددين عليه. يخوضون في أحاديث تبدأ ولا تنتهي. يتناهى من حجرة قريبة، تواشيح للشيخ علي محمود. يهتف أحدهم: جعنا. توضع الطبلية، فوقها أرغفة الخبز، وأطباق العدس والفول النابت والفول المدمس … ثم تشغي الحجرة بالحكايات والمناقشات والنداءات والهمس والمذاكرة واندلاق أدوار الشاي في الأكواب. وثمة — من المطابخ — أصوات الحنفيات المفتوحة والملاعق والشوك والسكاكين والأكواب ورنين المغرفة في داخل الحلل.

كان يواصل السير، يقطع منازل السائرين، ومراحل السالكين. يلتذ بالصبر في تحمل المشقة، ويكتفى بأكل القراقيش والليمون المالح. حمل سلسلة تتطوح بمجمرة بخور، ينادي بآخر ما عنده على المدد من أولياء الله الصالحين، فلما لحقت النار ذيل جلبابه، ألقي بالمجمرة بعيدًا، فلم يحملها ثانية.

أزمع أن يستبدل المتاع الأخروي الباقي، بالحطام الدنيوي الفاني … عدَّ نفسه من الموتى، ولولا خوفه من غضب الله، لتمنى مفارقة هذا العالم. صار حاله في زمن الحال. لا يشغله الماضي، ولا المستقبل. نور في قلبه، يشغله دائمًا بأمور الآخرة. سطعت الشمس في داخله بشدة، اجتذبته، لفته، استغرقته في أضوائها المبهرة، فذابت نفسه. انقشعت أمام عينيه سحب الأغيار والأشكال والإشكال. وامتلأ القلب بعظمة الله ومحبته وجلاله. حل فيه النور، ونزلت السكينة. تجاوز الحدود الخلفية. لم يعد على صلة بالخلق ورسومهم. أزالهم من نفسه، وانفرد إلى الحق.

كانت الرؤى تأتيه عقب أذان الفجر. اللحظات التي تشتد فيها الظلمة. لا يدري إن كان ما يشاهده في نوم أم في يقظة. يدفع نفسه إلى التأكد مما حوله.

تداخلت الرؤى فلم يعد يدري ما الحلم، وما رآه رؤية العين. كالصور الباهتة، كالأصداء البعيدة، مساومات الحلقة، وجلسات قهوة الزردوني، وطرقعات الكوتشينة والنرد، ونداءات الجرسون ياقوت، ودرس المغرب في أبو العباس، وتهدجات الذكر، وسهرات حمام الأنفوشي، ومطالب المرأة والأولاد. استغنى بالله عن الكل، لا يحفل بهم، ولا يلتفت إليهم، ولا ينصت إلى كلامهم، ولا يعتذر لهم على أي نحو، وآثر ما يبقى على ما يفنى.

انسلخ من نفسه، وانقطع عن الوجود إلى الله. اتصلت حياته به، وأصبح كله له. استغنى به عما سواه، وآثره على ما دونه. توكل عليه، وعكف ببابه، ورضي بقضائه، وهجر له الأهل والأصدقاء. هرب من الخلائق مستأنسًا به، مستوحشًا مما سواه. صان قلبه عن الاتساع لغير المحبوب. جعله بيتًا مقدسًا طاهرًا من التعلق بالغير. مضى في قلب التجليات الجاذبة إلى الفناء، خلَّف وراءه البرق، وتشوق إلى الهمس في الذات، والسياحة، والانقطاع في الجبال والشعاب وبطون الأودية، لا يختلط، ولا يراه أحد، ولا يرى أحدًا، وإن رأى نفسه في جلوة الخليفة. هو الخليفة نفسه، وهو شيخ السجادة. يمتطي الحصان، يحيط به الأتباع والمريدون، والبيارق والرايات والتهليل والإنشاد والزغاريد.

رأى — أول السيالة — طاطا الخباز بفرن التمرازية، يقود دراجة بيد، ويحمل طاولة خبز باليد الأخرى.

– إلى أين؟

– مطعم النبلاء.

قال الراكشي: هل تبيعون له العيش الرجوع؟

– طلب حمادة بك إرساله إلى المطعم.

ثم وهو يواصل السير: يستخدمونه في عجينة الفلافل!

بدا ميدان المساجد كالسوق. تخلى عنه الهدوء، وتعالى في جنباته التكبيرات وعبارات التوحيد والصلاة على النبي والزعيق والنداءات والابتهالات ودقات الدفوف والزغاريد، وتناثرت أضواء الكلوبات، تبين عن السرادقات وخيام الخدمة وسواتر الأقمشة والأكشاك وعربات اليد وشوادر الحمص وحب العزيز وخيام الكنافة والقطايف وفرق الصوفية والإنشاد والمريدين وحلقات الذكر وطوفان الزوار المتجهين إلى الباب الرئيس لجامع ياقوت للعرش وألعاب النشان والقوة والرايات والبيارق، وتضوع المكان بروائح البخور والعطور والشواء، ورددت مواكب الأطفال:

اقروا الفاتحة لسيدي ياقوت
واللي ما يرضى يطق يموت

تنبه لصيحة مفاجئة:

هل هلالك شهر مبارك … على أمة الإسلام.

وعلا — متغنيًا — صوت الرجل الواقف أمام الباب الجانبي لأبو العباس:

يا رمضان يا صحن نحاس
يا داير في بلاد الناس
سقت عليك أبو العباس
تبات عندنا الليلة

الشيخ جمعة. الموالد موطنه. ينتقل من مولد إلى آخر. يحفظ مواعيد البدء والانتهاء: القنائي … الحجاجي … الدسوقي … البدوي … البوصيري … أبو العباس … السيوطي … يحرص على حضور مولد أبو الحسن الشاذلي. وقفة عرفات . يخوض زحام البشر والسيارات وحلقات الذكر والخيام ودماء الأضاحي. يصبح قطرة في بحر الألوف المحيطين بضريح قطب الأقطاب في وادي حميثرة. يشارك في الطواف بكسوة مقام الشاذلي، يمسك — أو يلمس — أطرافها. يردد عبارات التكبير والتوحيد والصلاة على النبي.

قال الشاذلي عند موته: والله، لقد جئت في هذا الطريق بما لم يأتِ به أحد.

دُفن بحميثرة، وغُسِّل من مائها، فكثر الماء بعد ذلك، وعَذُب، فصار يكفي الركب إذا نزل عليه، ولم يكن قبل ذلك كذلك.

قال الشيخ جابر: استصحب سيدي أبو العباس المرسي، شيخه أبا الحسن الشاذلي، في رحلتهما الأخيرة إلى الأراضي الحجازية. ولما وصلا قنا، اشترى الشاذلي مكتلًا وفأسًا وقماشًا أبيض، وحمله لتلميذه أبي العباس، فسأله: ولمَ هذه الأشياء، ونحن غير قادرين على السير بمفردنا؟

قال أبو الحسن: عند «حميثرة» سوف ترى.

وسارا حتى وصلا عيذاب، بالقرب من إدفو. وعند وادي حميثرة طلب الشاذلي من أبو العباس أن يملأ الإناء ماءً، فملأه. وهنا قال أبو الحسن: يا أبا العباس … الآن وقد أعددت لك كل شيء، وحفرت هذه الحفرة، وسوف ألقى الله بعد قليل … فعليك أن تغسِّلني، وتكفنني. وسوف يحضر إليك رجل يساعدك في دفني، فلا تسأله من أنت.

وقام الشاذلي، فتوضأ، وصلى. بعد أن فرغ من صلاته، نطق بالشهادتين، ولقي ربه.

نفذ أبو العباس كلام شيخه.

يُمضي الشيخ جمعة ليلة عرفات وصباح العيد في أقرب مكان إلى الضريح. يحرص أن يشارك في حمل كسوة المقام الحريرية الخضراء، تطوف على إيقاع الذكر والتكبير، حتى المسجد. يتكرر الطواف سبعًا حول المقام، ثم يتسلم الكسوة خدم الضريح. يميل — عقب أيام المولد — إلى ضريح سيدي سالم. يطوف حوله ثلاث مرات، التماسًا للمدد، وتجنبًا لإشعاره بالغيرة.

صعد علي الراكشي درجات السلم الرخامية.

لم يعد تردده على الجامع مثلما كان في القديم . انتصر السلطان له على الإمام وجلسائه، لكن الأحوال ظلت كما هي. الحاج قنديل وحده أخذته هيبة الموقف، فغابت — من يومها — شتائمه، وراعى خاطر الله في معاملاته. قصر تردده للصلاة على ياقوت العرش، يؤدي ركعات الفرض والسنة. يجلس إلى جابر برغوت. يسأله، أو يرد على أسئلته، ثم يأخذ طريقه إلى باب الجامع لا يختار غاية محددة. قد يجول في ميدان أبو العباس، أو يطيل التوقف على شاطئ الكورنيش، يرقب قدوم البلانسات والفلايك، وابتعادها في انحناءة الميناء الشرقية. وربما مضى إلى زحام شارع الميدان.

قال له سيد الفران وهو يحاذيه في خطوات الصعود إلى الجامع: الرجل أبو شنب … لم أكن أراه في الفرن، كما أراه الآن في أيام المولد!

قال الراكشي: كن متكلًا ولا تضعه في مخك.

ثم وهو يشيح بيده: لك الآن تجارتك!

أظهر سيد التصعب: يدهشني تنقله بين الأكشاك والخيام والغرز … كأنه مسئول عن إعاشة الناس!

تناثر في أرجاء الجامع أفراد ومجموعات، يصلون، ويتلون القرآن، ويستندون إلى الجدران، ويتبادلون الأحاديث. وثمة أعداد لا تنقطع من النسوة، يدخلن الباب المواجه للمقام. يطفن حوله، يهمسن بتلاوات وأدعية.

اجتذبه صوت: أما كنت تعبد الله لو لم يكن هناك خوف من النار وحب في الجنة؟!

نظر إلى الرجل بجانب عينه. جلس في طرف البسطة الأولى من الدرجات الرخامية. الشيخ حماد. قامته الطويلة، وشعره المهوش المنسدل على كتفيه، وعيناه المحدقتان فيما يصعب تبينه، وفمه المنفرج عن شفتين متدليتين، وأنفه الدائم الزكام، وملابسه التي تداخلت بالسواد في جسده.

هم بالميل ناحية الرجل، لكن قوة غامضة، غلَّابة، رقت به الدرجات إلى داخل الجامع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤