في حضرة ياقوت العرش

أخبر أبو العباس المرسي بخليفته ياقوت العرش، يوم ولِد ببلاد الحبشة، وصنع له عصيدة، أيام الصيف بالإسكندرية.
قيل له: إن العصيدة لا تكون إلا في أيام الشتاء.
قال: هذه عصيدة أخيكم ياقوت. ولِد ببلاد الحبشة، وسوف يأتيكم.
فكان الأمر كما قال.

قال النبهاني: «سمي العرش لأن قلبه كان ينظر دائمًا إلى العرش، وليس بالأرض إلا بدنه. ومن كراماته أنه إذا كان قُدم إليه طعام ليأكله وفيه شبهة، وجد عليه ظلمة محسوسة كالمسكنة، فيتركه. وكان يشفع في الحيوان والطير.»

دخل شريف على ياقوت العرش بثياب رثة، فوجده بثياب غالية.
قال له الشريف: أنت يا مقلب الشفاتير يا مشقق الحوافر، بهذا الحال … وأنا بهذا الحال؟
قال ياقوت العرش: لعلي نهجت نهج آبائك فحسبوني منهم، فأنزلوني منزلتهم.
بكي الشريف، واعتذر له.

حين ظهر لي سيدي ياقوت العرش، اجتذبتني الرهبة.

لم يكن خوفًا، ولا يشبهه. أعرف الكثير الكثير من كرامات سيدي ومكاشفاته. حكايات أتاح لي تثبتها، وروايتها. جلوسي — ساعات طويلة — خلال ما يقرب من السنوات العشرين، في صحن جامع سيدي ياقوت العرش. أرقب — وأجالس — الداخلين والخارجين والمصلين والذاكرين والطائفين حول مقام صاحب الضريح، رضي الله عنه.

كنت أتلو آيات القرآن، وأؤذن للصلاة. أفتح أبواب الجامع قبل صلاة الفجر، وأغلقها بعد صلاة العشاء. سمعت وشاهدت ما لم يغادر خاطري ولا ذاكرتي. جلست إلى العابرين في ترددهم على الجامع. قدموا لأداء نذر، أو لحلول موعد الصلاة وهم بالقرب منه. وجلست إلى دائمي التردد على الجامع من مريدي أبو العباس المرسي، عارفي فضل سيدي العرش في حياته، خادمه، وزوج ابنته، وصفيه، وتلميذه، يلبدون أركان الجامع، وعلى سلالم الأبواب، ولصق الجدران.

دونت ما استمعت إليه، وشاهدته، في أوراق كثيرة. تعهدتها بالتسوية والترتيب، والتنقيح، والتأكد من المعلومة الصحيحة. أخذت ما سجلته من أهل الثقة، وما شاهدته بنفسي. لم أترك لقلمي رواية ما لم أتأكد من حدوثه. ساعدني على ذلك أن الروايات مأخوذة من أشخاص مشهود لهم بالعلم والأمانة. لا أترك التفصيلات، مهما بدت صغيرة. ما يبدو تافهًا قد يبين توالي الأحداث عن أهميته، والشخصية التي لا شأن لها، ربما — في لحظة ما — تسفر عن ملامحها. تمنيت على الله أن يكرمني بالفهم والحفظ حتى لا أنسى كلمة مما قرأت أو شاهدت أو سمعت. حقق الله أمنيتي، فلم يُسقط ذهني أيَّ شيء.

•••

الله — سبحانه — هو الذي يصطفى الأنبياء والرسل والأولياء والعلماء والمصلحين. محمد هو آخر الأنبياء. الرسالة المحمدية هي مسك الختام، والعلماء — كما تعلم — هم ورثة الأنبياء. ما قاله الرسول العظيم، وقال به علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل. حين يجيد العالم السباحة في بحر العلم، فإنه يصبح وليًّا. يضعه علمه على مشارف الحقيقة. ثم يصبح في قلبها. لتوضح كراماته ومكاشفاته ومعجزاته وخوارقه.

التصريف بالمقدرة الإلهية لا يكون إلا لولي. أولياء الله كالشمس الدنيا، والعافية للناس. الأولياء هم الذين آمنوا، وكانوا يتقون. هم الذين قالوا: ربنا الله، ثم استقاموا.

قال الرسول: إن من عباد الله عبادًا يغبطهم الأنبياء والشهداء.

قيل: من هم يا رسول الله؟

قال: هم قوم تحابوا بروح الله على غير أموال وأنساب. وجوههم نور، وهم على منابر من نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس. ثم تلا قول الله تعالى: أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ.

وقال سيدنا المرسي أبو العباس: معرفة الولي أصعب من معرفة الله — عز وجل — فإن الله تعالى معروف بكماله وجماله. وحتى متى تعرف مخلوقًا مثلك، يأكل كما تأكل، ويشرب كما تشرب؟

وقال المرسي: الأدنى يشرف على الأعلى، ولا يحيط به، والأعلى يحيط بالأدنى … فالأولياء لهم إشراف على مقامات الأنبياء، وما لهم الإحاطة بمقاماتهم، والأنبياء يحيطون بمقامات الأولياء.

•••

كان اليوم شديد الحرارة. وكان جماعة من أصحاب أبي العباس في ضيافته، فقدَّم لهم عصيدة.

قال أحدهم: يا أبا العباس … لا تؤكل العصيدة إلا في أيام الشتاء.

قال أبو العباس: هذه عصيدة ياقوت … ولِد اليوم ببلاد الحبشة.

وظل ياقوت يباع ويشترى، إلى أن جاء إلى أبي العباس. حسبوا عمره، فتأكدوا من نبوءة السلطان.

•••

هو محمد بن سعيد بن حماد بن محسن بن أبي سرور بن حبان عبد الله العرش الشاذلي. يكنى بشرف الدين. من بني حبنون، أحد فروع قبيلة «صهناجة» بالمغرب العربي. نسبه إلى قطب الأقطاب، سيدي أبو الحسن الشاذلي.

اشتراه التاجر رضي الدين إبراهيم الإسكندراني، من أسواق الحبشة، وحمله في مركبه — ضمن ما اشتراه — ليبيعه في موطنه ببلاد المغرب … لكن العاصفة فاجأتهم في قلب البحر، وعلت الأمواج، وهددت المركب بالغرق. فدعا التاجر ربه قائلًا: يا رب … لئن نجيتني، ونجيت تجارتي، لأهبن عبدي ياقوتًا لعبدك الصالح أبي العباس المرسي.

وسكنت العاصفة — حالًا — وهدأت الريح، واستوت المراكب في انطلاقها، وأمن التاجر على تجارته. فلما وصل إلى الإسكندرية، وأراد أن ينفذ ما اعتزمه، فوجئ بأن العبد ياقوت أصيب بقروح في رأسه، فاستحى أن يهب السلطان عبدًا أقرع، بعد أن نجاه الله — بفضل السلطان — من الغرق. وذهب إلى سوق النخاسة، واشترى غلامًا جميل الصورة، وذهب به إلى أبو العباس.

فاجأه المرسي بالقول: أهذا الذي نذرته يا رضي الدين؟

ثم بلهجة يخالطها غضب: ما لك وما له؟ … أتعرف منزلة هذا العبد من ربه، وقربه منه؟

وذهب التاجر، وعاد بياقوت. فاستقبله السلطان بالبشر، وألبسه طاقيته، فشفاه الله.

اتصل ياقوت العرش بأستاذه أبي العباس، وأخذ عنه، وتأدَّب، وقام على خدمته، وصار من أخلص المقربين إليه.

•••

أعلن حاكم الإسكندرية ضيقه، فهو يمر على أبي العباس بين أصحابه. يقف الأصحاب احترامًا، ويظل المرسي في جلسته. زاد من ضيق الحاكم أن أبا العباس كان يقف إذا مر عليه أحد خدمه.

قال الحاكم: كيف تقف لخادمك ولا تقف لي؟

لم يرد أبو العباس، وطلب الخادم.

قال الأصحاب، إنه يجمع فتات الخبز الذي خلَّفه الآكلون!

قال أبو العباس: ليأتِ، ومعه فتات الخبز في يده.

وطلب أبو العباس من الخادم أن يفتح يده التي تقبض على فتات الخبز. فتحها الخادم، فهتف الحاكم في عجب: ياقوت!

وسمِّي الخادم ياقوت. ولزم مجلس السلطان لا يغادره، حتى مات، فدفن في المسجد.

•••

سمِّي العرش، لأن قلبه كان لم يزل تحت العرش الإلهي، وما في هذه الدنيا إلا جسده الفاني. أخذ عن شيخه المرسي في المعارف والعلوم. لازمه فلم يفارقه. تعلَّم على يديه، وتابع حركاته وسكناته، ولاحظ كيف يأخذ أموره: متى ينصت، ومتى يتكلم، وقراءاته، وأحاديثه، وأفعاله. لجأ إليه فيما غمض عليه من أمور دينه ودنياه. ناقشه، سأله، أذن له المرسي بالخوض في بحار الشك، لا يضايقه إن جاوز حدود العقل.

•••

قال ياقوت العرش: كنت بمدينة الإسكندرية. وكنت أتعبد في مسجد بخارج المدينة، فبقيت فيه مواصلًا ثلاثة أيام، فأصابني الجوع، فدخلت الإسكندرية قاصدًا الشيخ أبو العباس، فوجدت في طريقي درهمًا، فأردت أن أشتري به خبزًا وإدامًا، فرأيت في السوق زبيبًا طيبًا. وكنت أعلم أن أبا العباس يحبه؛ لأنه من بلاد الأندلس. وهو كثير ببلاده. فاشتريت الزبيب، وآثرته على نفسي، وقصدت إليه، فوجدته جالسًا في القلعة، لأنه كان يسكنها بعد الشيخ أبو الحسن، فوضعت الزبيب بين يديه، وجلست ساعة. ولما هممت بالانصراف، أمهلني الشيخ، وقال لي: اجلس!

فجلست. فإذا برجل يدخل علينا بمائدة، عليها رقاق طيب وبعض الطيور.

فقال لي الشيخ: كُلْ … فهذا فتوحك لما آثرتني على نفسك وأنت جائع.

قال: فأكلت حتى امتلأت. ثم أمرني أن أوزع الباقي على الفقراء. وعند قيامي، قال لي الشيخ: احمل الزبيب معك، فنحن قوم لا تحل لنا اللقطة.

•••

حين أراد الناصر بن محمد بن قلاوون، ابن والي مصر آنذاك، أن يخطب مهجة بنت سيدي المرسي أبو العباس لنفسه — وكانت بالغة الجمال — رفض أبو العباس، واختار لها زوجًا، عبده ياقوت، بعد أن اعتقه.

•••

قضى سيدي ياقوت العرش معظم عمره في خدمة سيدي أبو العباس المرسي. تزوج ابنته، وإن لم يصبح خليفته. لا لعيب فيه، وإنما لأن خلفاء أبو العباس هم مئات التلاميذ والمريدين الذين أخذوا على يديه.

تعلم الكثير الكثير من أحوال المرسي. اعتقاداته وخواطره وأسراره ومطالع أنواره ومكاشفاته ومشاهداته ومسامراته وأفعاله.

روى أنه كان في سوق للسمك خارج الإسكندرية، عندما أتى إليه فقير من عند أبو العباس، ليشتري سمكًا. تنقل معه ياقوت العرش بين الباعة، فلم يجد سمكة واحدة.

قال: فاجتمعت بجماعة من الصيادين، وطلبت من رئيسهم أن يصيد لنا شيئًا.

فقال لي: إن هذه الريح يتعذر فيها الصيد (وكان نصرانيًّا).

فقلت له: ادخل على بركة الله، فإن للشيخ كرامة.

فقال: ما يخالف الله العادة.

فعرضت عليه أجره، وأجر رجاله. فقبل، ودخل البحر، ومد شبكته، وجرها إلى الساحل، فإذا بها سمك كثير، ما رأوا مثله من قبل، فتعجب الحاضرون لذلك، فرد رئيس الصيادين، فقال: هذه بركة … لأدخلن على بركة فلان الراهب.

فدخل بالشبكة، فلم يخرج فيها غير الوطاويط. وهو نوع لا يؤكل ولا ينتفع به.

قال: فرجعت بالسمك. وكان به سمكة كبيرة الحجم. وفي الطريق رآها يهودي، وطلب شراءها، فامتنعت، وأرسلت بالسمك كله إلى سيدي أبي العباس، فما إن رأى السمكة حتى قال: ارفعوا هذه السمكة، وردوها إلى ياقوت يعطيها لليهودي، فإن له زوجة حاملًا، اشتهت السمك، وليس اليوم من سمك.

قال: فرددت السمكة إلى اليهودي، وأخبرته بقول الشيخ، فأسلم هو وجماعة من اليهود، وبعض صيادي السمك، منهم صاحب الشبكة.

•••

روى سيدي ياقوت العرش أن رجلًا قدم له طعامًا، فرأى عليه ظلمة كالمكب.

قال ياقوت العرش في نفسه: هذا حرام!

وامتنع عن الأكل.

ثم دخل على المرسي. وما كاد يطمئن إلى جلسته، حتى ابتدره السلطان: ومن جهلة المريدين من يقدم له طعام، فيرى عليه ظلمة، فيقول: هذا حرام.

وأردف السلطان متصعبًا: مسكين أنت … ما ساوى ورعك سوء ظنك في أخيك المسلم. هلا قلت لي: هذا طعام لم يردني الله به.

•••

عُرف عنه ميله إلى صوم النهار وقيام الليل، حتى في الأيام التي يرهقه الضعف لمرض، أو لبذل مجهود في العمل. وعُرف عنه الاشتغال بالذكر والعبادة، والغنى عن الناس، والقناعة، والرضا بالقليل من المأكل والملبس، وهجر الشهوات، والمجاهدة، والورع، وقلة النوم والكلام، وعدم مبارحة المسجد إلا لضرورة.

لم يتعمد إظهار الكرامات، ولا خوارق الأحوال، ولا إنشاء البراهين. وكان يغلب على حاله السكينة والوقار، فهو يحسن الإنصات، ويتحدث بقدر المعنى، فلا يستطرد. يخشع في صفات الله: الكبرياء والعزة والقوة والقدرة والجلال واللطف والكرم والعلم المحيط بكل شيء. والتف حوله مريدون وتلاميذ، والتمس الناس — حيث يقيم، أو يزور، أو يمشى — بركاته ودعواته. عرفوا عنه أنه من أهل المحبة الإلهية، ومن أصحاب المكاشفات القلبية. وتخرج عليه العديد من المريدين، في المجاهدة والخلوة. وظل له احترامه وتوقيره بين الطائفة الشاذلية.

حقق خوارق ومعجزات وآيات لا حصر لها، ولا مستحيل أمامها. أضاء نور علمه جنبات الإسكندرية. اشتهر بمواجيده وأحواله. أفاد بكراماته ومكاشفاته أبناء الطائفة الشاذلية، في كل البلاد التي أقاموا بها.

روى الناس عن قدرته. وقيلت عنه خوارق: كان يصيد السمك دون سنارة، أو شباك. يمد يده في الماء. تصعد بالماء والسمك. ينساب الماء من بين أصابعه، ويبقى السمك. وكان يمد يده في الهواء، يلتقط الطعام فيكفي المريدين من الفقراء ويزيد، تنزل عليه الطيور الكاسرة بأجنحتها لا تنفر منه ولا تهاجمه، يعرف كلامها وتعرف كلامه، وضايقته الشمس في زيارة له إلى صديق بصحراء المتراس، فكوَّن الطير سحابة، ظللته في سيره، حتى وصل إلى البيت الذي يقصده.

كان يغمض عينيه. ينظر بخياله إلى قلبه. وقيل إن الله — سبحانه — صرفه في جميع مملكته، وأطلعه على الكثير من علوم الغيب. لم يخلف إنتاجًا مكتوبًا، لكنه خلف شهرة واسعة بخلقه وصفاته.

قيل إنه كان يمتلك مسبحة هائلة الحجم، ينتظم في عقدها ألف حبة في البيضة، صُنعت من خشب الصندل، ذي الرائحة الذكية النفاذة، وقيل إنه كان يبول على الرصاص، فيستحيل ذهبًا، ويبول على الصفيح، فيتحول ماسًا وأحجارًا كريمة بإذن الله.

•••

كان جالسًا في حلقة الفقراء، فجاءته يمامة، وجلست على كتفه، وأسرت إليه شيئًا في أذنه، فقال: باسم الله، ونرسل معك أحدًا من الفقراء.

قالت اليمامة: ما يكفيني إلا أنت!

ركب سيدي ياقوت بغلة من الإسكندرية، وسافر إلى جامع عمرو بن العاص بمصر القديمة، وقال: اجمعوني على فلان المؤذن.

وجاء المؤذن، فقال له ياقوت العرش: هذه اليمامة أخبرتني في الإسكندرية أنك تذبح فراخها كلما تفرخ في المنارة.

قال المؤذن: صدقت … قد ذبحتهم مرارًا.

قال ياقوت: لا تعد!

قال للمؤذن: تبت إلى الله تعالى.

•••

أنكر الشيخ شمس الدين بن اللبان على سيدي أحمد البدوي، فسلب البدوي علمه وحاله.

توسل الشيخ شمس الدين بجميع الأولياء، فلم يقبل البدوي شفاعتهم فيه.

سار ياقوت العرش من الإسكندرية إلى طنطا. رجا للبدوي أن يطيب خاطره على شمس الدين، وأن يرد عليه حاله. فأجابه البدوي، حبًّا له وإعظامًا لمكانته. زاد ياقوت، فزوج ابن اللبان ابنته. فلما أحس شمس الدين بدنو الأجل، أوصى أن يدفن تحت رجلي زوجته، تقديرًا لمكانة أبيها.

•••

لما وضع مؤلف «التنوير في إسقاط التدبير» كتابه، وضمنه علومًا ومعارف كثيرة، اطلع عليه ياقوت العرش، فقال له: جميع ما قلت مجموع في بيتين، هما:

ما تم إلا ما أراد
فاترك همومك وانطرح
واترك شواغلك التي
شُغلت بها تسترح
… … …
… … …

للتأكد، تلوت آية الكرسي، وأسماء الله الحسنى.

ظل الجسم النحيل في موضعه، والشعاع النفاذ، الهادئ، ينبعث من العينين الواسعتين، المكحولتين. وكان يرتدي عباءة من الجوخ الأخضر، تحتها قفطان مزهر، به خطوط خضراء، ويحيط وسطه بحزام أخضر وعلى رأسه عمامة هائلة، ودس قدميه في بلغة مغربية.

خنقني الخوف، فتلعثمت. رهبة الموقف أضاعت الكلمات. قرأت — في لهوجة — الفاتحة، وقل أعوذ برب الناس، وقل هو الله أحد. وقرأت آية الكرسي، وعدية يس، لكنه ظل في وقفته.

أخلى — سيدي — وجهه لابتسامة رائقة، طيبة، وقال: من تظنني يا جابر؟

وأنا أغالب الرهبة: سيدي ياقوت العرش.

وهو يغرقني في فيض ضيائه: تلاوة القرآن، أللخوف أم للحب؟

جاهدت حتى لا يشي صوتي بما أعانيه: هو الحب يا مولاي.

قال في ابتسامته الرائقة، الطيبة: غفر الله لك ما أملاه عليك خوفك!

ثم وهو يجري بأصابعه على حبات المسبحة: سأكلفك بما لا تقوى نفسي الضعيفة على احتماله.

همست بالتهيب: وكيف أحتمل ما لا يقوى عليه سيدي؟

روى لي عن اليوم الذي غادر فيه السلطان مرقده. خاطب المترددين على مقامه. عاب الأفعال الخاطئة، وانتصف للائذين بحضرته. ثم ارتخت شدة الغربال.

قال وهو يضم أطراف عباءته: أنا خادم السلطان وتلميذه … ومن واجبي أن أنفذ أوامره.

قلت في لهفة خائفة: وأنا خادمك يا سيدي … ومن واجبي أن أنفذ أوامرك.

سبحت نظراته في آفاق غير مرئية: لقد أدى كل منا ما عليه … والدور قادم على الأنفوشي.

انتزعت السؤال: ماذا؟

أحنى رأسه، ورفعها بالضياء: بل من … ولي الله الأنفوشي.

أخليت السبيل لجرأتي: هل هناك ولي بهذا الاسم؟

في ابتسامته الطيبة: لأن أمور ديننا استغرقتنا، فقد أوكل إليه السلطان أمور دنيا الناس، فهو أدرى بها.

استطرد موضحًا: سيدي السلطان مشغولياته لا تحد في أمور الدين، بما يصرفه عن أمور الدنيا.

ثم وهو يهز رأسه في تأثر: هذا حالي، وأحوال أولياء الحي.

ودس المسبحة في جيب العباءة: اسم ولي الله الأنفوشي — كما تعلم — على معظم الحي.

وضغط على الكلمات: الجأ إلى ولي الله الأنفوشي!

قلت في لهجة متذللة: أنا لا أصلح لهذه المهمة … ورائي تبعات بيتي وأولادي.

قال سيدي ياقوت العرش: هذا أمر سيدنا المرسي … ولا بد لك منه!

رنوت إليه بنظرة مستغيثة: وأين أجد سيدي الأنفوشي؟

كان قد اختفى.

عاد المكان إلى مألوف هدوئه، وذوى الضوء الباهر الذي غشيني، وإن ظل يملأ قلبي. واستقر المقام في وضعه، كأنه لم يغادره أحد. ثمة الصحن، والأعمدة، والمنبر، والحصير، والسجاد، والعقود المحملة بالجفوت والخناصر والميهات والزخارف الجصية، والمبخرة يتضوع منها بخور اللبان والجاوى والمستكة، والأضواء الخافتة.

عرفت أن سيدي أبلغني الرسالة، ومضى. مشغولياته — وأولياء الله الصالحين — لا تحد في أمور الدين، بما يصرفهم — غصبًا — عن أمور الدنيا.

واجهت السؤال، في اللحظة التالية: أين سيدي الأنفوشي؟

أقول هذا، وأختمه، بالحمد لله رب العالمين، وأستغفر الله العظيم، وسبحان من بيده الأمور، ومصائر البشر. يحيي ويميت، ويعز ويذل، وهو على كل شيء قدير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤