مقدمة
هوميروس
اسمه ولقبه
وأما اسمه فأشهر ما قيل فيه أنه كان ميونيذِس أي: ابن ميون؛ لأن ميون ملك ليديا تزوَّج أمه كريثيس، والطفل على يدها فدعاهُ باسمه وهو يعتقد أن أبا ذلك الطفل من الجن، وقيل: «بل كان والد هوميروس داماسوغوراس ووالدته أثرًا ومسقط رأسه مصر». وقيل: «بل كان اسم هوميروس ميليسا جينيس» وهي رواية هيرودوتس، وعليها المعوَّل كما سيجيء.
نَسَبُهُ
لا يعلم شيء ثبت عن نسب هوميروس وحسبه، وإن لدينا مما استبقاه المتقدمون أقوالا متباينة لا يمكن الأخذ بشيء منها، وصفوة ما عوَّل عليه الكتبة منها سيرتان كتبهما هيرودوتس وفلوطرخوس، ثم وجد المتأخرون بعد التمحيص أنهما لا تخلوان من تناقض يؤدي إلى الظن أنهما لُفقتا بعد حين كقول هيرودوتس أن هوميروس نبغ في القرن السابع أي: قبل حملة الفرس الكبرى على بلاد اليونان، وقوله في تاريخه: «إن هوميروس تقدمه بأربعمئة سنة مع أنه كان يدون بنفسه سير تلك الغزوة تدوين الشاهد الحي». وليس في ما بين أيدينا من منظوم هوميروس ما يشير إلى أسرته وعترته مع أنه كان أحرص الناس على تدوين الأنساب كما يتضح لمن يتصفح الإلياذة، ولا أخاله إلا آتيًا على تلك النسبة في شيء مما فقد من شعره إذ ليس في محفوظ أشعاره ذكرٌ لأبيه، وأما أمُّه فيزعم بعض الشراح أنها هي المعنية بقوله في النشيد الثاني عشر:
وعلى هذا فلا يمكن استخلاص شيء من كتبه عن نسبه، وجميع ما لدينا من رواية السلف عنه لا يتجاوز حد الحدس، ولا سيما أن شهرته النامية ومنزلته السامية حببتا إلى كتبة كل قبيلة من اليونان أن تدَّعيه فتنازعته مدائنهم وأتي كلٌّ منهنَّ ببرهان، وأشهر تلك المدائن ثمان وهي: أزمير، وسلاميس (وتدعى اليوم كولوري) ويوس (نيو) ورودس، وخيوس (ساقس) وكولوفون، وأرغوس وأثينا، ولعله أقام زمنًا في كل منهنَّ وأخلف فيها أثرًا من شعره فكان داعيًا إلى تلك الدعوى، وإن رجلًا هذا شأنه لا بَدْع أن يدّعيه كل فريق من قومه بعد أن ادَّعاه الأجانب، فقد ذكر أفستاثيوس رواية أسندها إلى إسكندر بافيوس زعم فيها أن هوميروس ولد في مصر قال: «كان أبوه يدعي داماساغوراس، وأمه أثرا فلما وُلد عنيت بتربيته نبيَّةٌ من ولد أوروس الكاهن، وكان يتحلَّب الشهد من ثدييها إلى فم الطفل فكان إذا أقبل الليل يتغنى بصوت كصوت تسعةٍ من الطير مختلفة الأجناس، وإذا لاح الفجر يصبح وهو يلاعب تسعًا من الوِرق، وأوعز إلى أبيه أن يبني هيكلًا للقيان منشدات السماء فبناه وقص الخبر على ابنه لما بلغ أشُدَّه، فكانت تهيجه ذكرى الحمام وترنم به في شعره».
ومهما يكن من الخبط في تلك الأقاويل، فإنَّا نتبع الفريق الأعظم من الكتبة في التعويل على النسبة التي كتبها هيرودوتس وإليك مجملها:
مولدهُ ونشوؤُه
هو ابن كريثيس ابنة ميلانوفوس ولدته أمُّه على ضفة نهر ميليس في ضاحية أزمير ودعته ميليسا جينيس أي: ابن النهر ميليس، وكان في أزمير إذ ذاك معلم كُتَّاب يدعى فيميوس، فاستأجرها لغزل الصوف الذي كان يتقاضاهُ أجرةً من تلامذته، وكانت كريثيس صناع اليدين ذات رجاحة وسكينة فأُعجب بها فيميوس وخطبها لنفسه، وما زال يمنيها بالوعود حتى أجابته إلى طلبه. وكان جلُّ ما استمالها به قوله لها: إنه توسم في الغلام من الفطنة والذكاء ما جعله واثقًا أنه سيكون نابغة عصره إذا عُهد إليه بتربيته، فإذا رضيت به بعلًا لها فهو يتبنى ابنها، ويعكف على تهذيبه وتثقيفه، وبرَّ فيميوس بوعده، فعُني به فإذا به قد فاق جميع أقرانه ثم ما انقضت بضعة أعوام إلا وهو يكاد يظهر على أستاذه.
مدرستهُ
وتوفي فيميوس ولا وارث له إلا هوميروس ثم ما لبث أن توفيت كريثيس، فخلت المدرسة لهوميروس فأقام مقام أستاذه فأُعجب به بنو أزمير، وطارت شهرته فقصدهُ الداني والقاصي، وأصبح مجلسه ديوان الأدب وكعبة الحكمة، وكانت أزمير لذلك العهد محطًّا لرحال التجار تستورد إليها الحبوب من تلك البقاع الخصبة فتمتار منها المدن المجاورة، فأصبح الغريب القادم إليها إذا فرغ من عمله أو سنحت له فرصةٌ يهرع إلى مجلس الأستاذ الفتى؛ ليلتقط درر حكمته، وممن كان يختلف إليه ربَّان سفينة من ذوي العلم والدهاء اسمه منتس يحمل الحبوب إلى أزمير من لوقاديا، فشغف بحديث ميليسا جينيس وجعل يحسن له الأسفار ويزين له مشاهدة الأمصار وهو في عنفوان الصبا قبل أن يدركه العجز؛ ليزداد حكمة واطلاعًا ووعده أن يحمله على سفينته فيتخذه خدنًا عزيزًا وإِلفًا كريمًا، وما زال به حتى حمله على مغادرة المدرسة والتدريس واللحاق به رحالة على متن البحار.
أسفارهُ
وكان ميليسا جينيس شديد المراقبة كثير البحث لا يقع بصره على شيء إلا تحرَّاه ولا طرق مسمعه خبرٌ إلا استجلاه، فطالت الرِّحلة وهو في أثنائها يختزن الفوائد ويجمع الأخبار حتى انتهى به التَّطواف إلى إيبيريا (إسبانيا) وأقلعت منها السفينة إلى أزمير، فعرَّجت على إيثاكة (ثياكي) في الأرخبيل اليوناني، وهناك رمدت عينا ميليسا جينيس، فاضطر منتس على كُرهٍ منه أن يستبقيه فيها لدى صديق له حميم من أهل تلك الجزيرة يدعى منطور، فأنزله منطور في داره وكان مضيافًا طيب العنصر، رحب الصدر، كريم الخلق ليس في بلاده من يضاهيه شهرة بتلك الخلال، ولم تكن العلة لتمنع الفتى من البحث والتحري فظل وهو على فراش المرض يلتقط شوارد الفوائد، ومن جملتها أخبار أوذيس (أوذيسس) وأسفاره (فكانت له أساسًا بنى عليه منظومته الأوذيسية، وجعل فيها اسم منطور مرادفًا للحكمة والبر فخلد بها ذكره أبد الدهر).
وبقي ميليسا جينيس نزيل منطور إلى أن عاد الربَّان منتس إلى إيثاكة فأنزله إلى سفينته واستأْنفا الأسفار إلى أن بلغا كولوفون، فاشتد عليه الرمد حتى فقد بصرهُ جملةً وظلَّ كفيفًا إلى أن مات.
شروعه في قرض الشعر
ولما كُفَّ بصرهُ قصد أزمير وأقام فيها زمنًا ينظم الشعر، فضاقت ذات يده وبرحت به الحاجة، فعوَّل على الشخوص إلى كومة، وسار يقطع هرمُس (وهو نهر كديز أو سرابات) إلى أن بلغ به السير إلى (نيونتيخوس) وهي بلدة من مستعمرات الكوميين. قيل: إنه وقف فيها إلى حانوت تاجر جلد، فأنشد أبياتًا شكا فيها بؤس الغريب الشريد المتضور فاقة وجوعًا، وكان ذلك أول عهده بالإنشاد على مسمع الناس، فأصابت تلك الأبيات موضع رفق وعطف من فؤاد ذلك التاجر؛ فرحب به وآواه إليه، فجلس في الحانوت وأنشد على مسمع جماعةٍ ممن حضر مقاطيع من شعره في وصف حملة أمفياراوس على ثيبة وبضع ترانيم دينية، فأَجَلَّه القوم وأكرموا مثواه، فأقام بينهم وصناعته الإنشاد.
قال هيرودوتس: «ولا يزال أهل تلك البلدة حتى يومنا يفتخرون بالإشارة إلى المجلس الذي كان ينتابه فينشد فيه، ولذلك الموضع عندهم حرمةٌ ومنزلةٌ سامية وفيه شجرة صفصاف يزعمون أنها زُرعت يوم قدم ميليسا جينيس فأقام بين ظهرانيهم».
تتمة أسفاره
أقام الشاعر بضعة أعوام في نيونتيخوس ثم قلَّ رزقه فيها فبرحها إلى كومة، وقصد الموضع الذي كان يجتمع فيه مجلس الشيوخ، وأنشد ما تيسر فارقص الحضور طربًا فطابت نفسهُ وعظمت أمانيُّه فسألهم أن يقوموا بنفقته على أن يقول فيهم من الشعر ما يُطير شهرة مدينتهم في الآفاق ويخلد لها جميل الذكر. فلم يكن في من حضر إلا من استصوب السؤال وأوعزوا إليه أن يقول قوله هذا في المجلس وهو ملتثم وهم من ورائه يعضدون. فعمل بإشارتهم، ولما اجتمع الشيوخ أدخل إلى قاعة الاجتماع، فانتصب خطيبًا وأعاد الكلام الذي ألقاه على عامَّة الناس وخرج ينتظر الجواب. فخلوا إلى شوراهم وكان معظمهم ممن يرغب في موافقته، فإذا بواحد منهم قد قام فاعترض وقال: «لئن جنحنا إلى القيام بنفقات عميان الشعراء لنُلقينَّ على عواتقنا زُمرًا منهم لا قِبَل لنا بهم». فأدَّى بهم ذلك إلى الانقلاب عن عزمهم.
ومن ثم لُقب ميليسا جينيس بهوميروس، ومعناها أعمى بلغة الكوميين وتنوسي اسمه، فَنَقم هوميروس على كومة وأهلها، ونظم قصيدة رثى بها حاله، واستنزل اللعنة على من يتغنى بمدحها ومدحهم من الشعراء، وغادرها إلى فوقيا على مقربة من أزمير وجعل يطرق منتدياتها فينشد فيها الأشعار.
وكان في تلك البلدة معلم كتَّاب ذميم الخلق يسمَّى ثستوريذس، فلما رأى ما كان من رواج بضاعة الشعر دعاه إلى منزله يقيم فيه ضيفًا كريمًا على أن يلقنه كل ما نظم وما سينظم من الشعر فما وسع هوميروس إلا القبول فرارًا من الفقر، فأكب ثستوريذس على النسخ حتى استتم كل منظومات هوميروس، فأقفل أبواب مدرسته وسار إلى جزيرة ساقس، وأقام فيها ينشد شعر نزيله ويدَّعيه. فبلغ هوميروس أمره فعزم على تعقُّبهِ ولم يبال بما اعترضه من مشاق فوصل الجزيرة بعد معاناة الأهوال، ونزل في بلدة من ثغورها تدعى بوليسوس فاتخذه بعض وجهائها معلمًا لأولاده، فأقام عنده وعكف على نظم الشعر ثم أذاع منظومات خلابة «كحرب الزرازير» و«حرب الضفادع والفيران» و«الكركوفة» فتناشدها الناس وتناقلها الركبان، وكان ثستوريذس كلما علم بحلول هوميروس في مكان فرَّ منه إلى مكان آخر.
ولما رسخت شهرة هوميروس في ثغور الجزيرة سأل صاحب منزله أن يذهب به إلى عاصمتها، فشخص إليها وفتح مدرسةً يعلم فيها النظم وطرائقه فعظُم أمره وعلت منزلته، وأكبر الناس قدره فطاب عيشه واتسعت حاله بينهم، فأزوجوه بنتًا فولدت له ابنتين، وجادت قريحته فنظم وأبدع، وكان وفيًّا ذكَّارًا للجميل، فأودع شعره كل خلَّةٍ محمودة خلَّد بها ذكر المحسنين إليه ولا سيما منطور الذي عني به أثناء رمده في إيثاكة، قال هيرودوتس: «جعل هوميروس منطور في منظومته الأوذيسية رفيقًا لأوذيس، وأبرزه بمظهر من الصدق والوفاء عظيم حتى أن ملك إيثاكة استخلفه على بيته وعياله عند ما شخص في من شخص إلى طروادة».
فلهج الناس في كل قطر بذكر هوميروس حتى ملأت شهرته بلاد يونيا، وبلغت هيلاذة، فأوعز إليه أن يقصد إغريقيا، فطرب لذلك الإيعاز فأقلع إلى ساموس، وقضى فيها فصل الشتاء يتكسَّب بالإنشاد في منازل الأغنياء.
مرضُهُ ووفاتهُ
ولما انقضى الشتاء عوَّل على السفر إلى أثينا فركب سفينة مع جماعة من أهل ساموس، فبلغوا جزيرة يوس وأرسوا في مضيق على مقربة من الثغر ففاجأ هوميروس الداء، فنزل إلى البر وانطرح على الجرف، ولم تقو السفينة على مواصلة السير لشدة الأنواء، فأقاموا أيامًا في مكانهم وأهل الجزيرة يتهافتون أفواجًا لمحادثة هوميروس، وقد بلغ بهم الإعجاب منتهاه لما كان ينثر عليهم من غرر الأقوال ودرر الأمثال، ولكنه ما لبث أن توفي لاشتداد الداء، فاجتمع رفاقه وأهل الجزيرة ودفنوه قرب الشاطئ.
ولما مرَّت السنون وذَوت نضارة الشعر، وانحطت منزلته اجتمع أهل الجزيرة إلى قبر هوميروس، فنقشوا عليه بيتين من الشعر معناهما: إن من هذا النبات الأخضر غطاء للرأس المقدس رأس الشاعر هوميروس شبيه الآلهة الذي كان يتغنى بمدح الملوك والأبطال.
فذلكة ما تقدَّم
تلك خلاصة ترجمة هوميروس بنص هيرودوتس، وهي وإن كانت لجلائها وصراحتها وتقدم عهدها أحرى بالثقة مما سواها فإنها لم تخلُ من مظان اعتراض رماها بها المتقدمون فضلًا عن المتأخرين، ولكن جلَّ ما يعترض به مقصورٌ على العرَض لا يكاد يتناول الجوهر بشيء، قال هيرودوتس: «إن تسثوريذس عكف على نسخ منظوم هوميروس مع أنه لم يثبت قط أن اليونان كتبوا لعهد هوميروس؛ لأن الحروف الفينيقية لم تشع عندهم إلا بعد حين». على أن هذا القول لا يعبث بأساس الرواية إذ المراد إثبات أن تسثوريذس كان سارقًا فسيَّان إذًن أن يكون ناسخًا أو مستظهرًا، وزعم بعضهم أن تلك السيرة كتبت بعد زمن هيرودوتس وعزيت إليه، فعلى فرض ثبوت هذا الزعم فلا ريب أنها كتبت بيد خبير فنسبتها إلى هيرودوتس لا تنقض حقائقها، وأما إغفال هيرودوتس أمورًا مما أثر عن هوميروس كرحلته إلى مصر، وما أشبه فليس مما يفسد الحوادث التي أثبتها إذ قلما تجد مترجمًا أو مؤرخًا يلم بأحوال مترجمه وأعماله بكلياتها وجزئياتها؛ بل ربما حصل التفاوت في نصوص كتبة الوحي والمحدثين، فإن في كل من الأناجيل شيئًا مما أغفل في غيره، وما كان ذلك لينقض شيئًا من الحقائق المسطرة فيه، ويقال مثل ذلك في السير النبوية والأحاديث.
وحاصل القول أنه كان للقدماء مزاعم كثيرة في هوميروس مما أسند إلى السلف، وتنوقل بالتواتر أو استنبط من فقرات من أناشيده، ولقد أوغل بعضهم في البحث أو الاستنباط حتى وضع سلسلة نسبة رواها سويداس وغيره تتصل من أفلُّون إلى كريثيس والدة هوميروس، قالوا: «كانت كريثيس ابنة ميون بن فرسيس وفوكميذا ابنة أفلون، وكان فرسيس أخا هسيودس الشاعر وكلاهما من ولد ذيوس بن مينالفس بن أبيفراذس بن أوفيمس بن فيلو تربس بن هرمونيذس بن أرفيوس بن واغروس من القينة قليوبة، وكان واغروس ابنًا لفيروس من الحوراء ميثونة، وفيروس ابنًا للينوس الشاعر، ولينوس هذا من ولد أفلون، وثووسة ابنة فوسيذ». تلك نسبةٌ لا يثبت منها مع ما هو متواتر من أقوال المتقدمين إلا أن اسم والدة هوميروس كان كريثيس ولا علم لهم بأبيه، ولعل هوميروس نفسه لم يكن يعرف أباه وهو شأن كثيرين من نوابغ الأعصر الخالية، ومن جملتهم فرجيليوس نابغة شعراء اللاتين، أما سائر حلقات السلسلة، فإذا استجلي كنهها اتضح منه أنه يُرمى به إلى إعظام قدر الشاعر، وإلصاقه بأعلى نسبة يفتخر به، ووصفه بأجل وصف يزين عظام الرجال، فما في تلك السلسة إلا الشاعر والحكيم والملك والعظيم فضلا عن الآلهة كأفلون صاحب القيثار وفوسيذ رب البحار والمطربات القيان والحور الحسان، وإذا أضفنا إلى ذلك معاني سائر الأسماء كهرمونيذس من رقة النغم وحسن الإيقاع، وفيلوتربس من حب السرور، وإبيفراذس من الذكاء، وفوكميذا من الحكمة علمنا أن واضع تلك السلسلة رمى بها مرمى الأقدمين من التعبير عن الحقيقة بالرمز واللغز وتجسيم الصفات، فكأنه قال: تلك هي أوصاف هوميروس الشاعر الحكيم المطرب العظيم الرحَّالة الفهَّامة والمؤرخ العلامة إلى آخر ما هنالك من صفات الإجلال والتبجيل.
وأما سائر الروايات المخالفة لترجمة هيرودوتس فأكثره موضوعٌ لأسباب قد يمكن استجلاء بعضها بالتحري والمقابلة. ولنتخذ مثالا على ذلك زعم بعضهم أنه وُلد في مصر. فإذا علمنا أن مصر كانت لذلك العهد مورد العلم ومنهل الحكمة، ومحط ركاب الطلبة من كل فجٍّ سحيق، وعرفنا أن رجلًا كهوميروس لا بد من أن يحثه الشوق إليها فيقيم فيها زمنًا طويلا ويخالط عامتها وسوقتها فيختبر الخلق والعادة، ويتصل بالكهان والأحبار فيدخر ويستفيد، وثبتت لدينا صحة ذلك من كثرة مآخذه عن المصريين مما نبهنا عليه في مواضعه، ورأينا تهافت القدماء على انتحال نسبة هوميروس إليهم، إذا تبينَّا كل هذا ذهبت عنا غرابة هذا الزعم، ثم إذا تطرقنا إلى النظر في قولهم: «إنه ربي في حجر بيت عظيم الكهنة» على ما تقدم فلا يصعب علينا أن نرى في تلك الرواية تحريفًا لنص التوراة في نشأة موسى الكليم، وكم من رواية على هذه الشاكلة وضعت لنبي أو عظيم، فنُقلت فنُسبت إلى غيره في كل بلاد الله، وتغيرت الأسماء وتحولت المجريات إلى ما يلائم المكان والزمان والأصل واحد.
فلا غرابة بعد هذا في تشعب الأقوال عن شاعر يلهج الناس بذكره منذ نحو ثلاثين قرنًا، وأن تتباين المزاعم في اسمه ولقبه ونشأته وأسرته وسيرته في صباه وشيخوخته. فإذا ولد اختلفوا في أبيه، وإذا دبَّ اختلفوا في ربيبه، وإذا شب تنازعته الأمصار، وإذا شرع في السياحة قالوا: «رحل فقيرًا على نفقة غيره أو غنيًّا على نفقه نفسه». وإذا أنشد الشعر ذهب فريقٌ إلى أنه أنشده مترنمًا محتسبًا كامرئ القيس وعبد يغوث في الجاهلية وابن المعتز وأبي فراس في الإسلام، وقال الأكثرون: «بل تغنَّى به مستجديًّا مكتسبًا كزهير ولبيد والحطيئة ومتنبي المشرق أبي الطيب، ومتنبي المغرب ابن هاني». وهكذا ظلُّوا يتقوَّلون في مناحي حياته إلى أن تناولوه ميتًا، فأماته بعضهم كمدًا ميتة نحوينا سيبويه، قالوا: كان شاخصًا إلى ثيبة فعرج على يوس، وإذا بفتية يصطادون سمكًا فسألهم عن مقدار صيدهم فقالوا: «أفلتنا بعدد ما أمسكنا، واصطدنا بعدد ما لم نصطد» فأُغلق عليه فهم المراد، وعظم عليه الأمر فمات قهرًا.
تاريخ ظهورهِ
- (١)
أن مؤرخي الرومان مجمعون على أن هوميروس نبغ قبل بناء رومية بقرن ونصف، فإذا أضفنا ذلك إلى ٧٥٣ وهي السنة التي بنيت فيها رومية كان نبوغ هوميروس نحو سنة ٩٠٣ق.م.
- (٢)
أن من مرويَّات شيشرون الروماني أن هوميروس كان معاصرًا ليكرغس الشارع اللقدموني، وقد أيَّد إسطرابون تلك الرواية، وقال: «إن ليكرغس قصد ساقس طمعًا بمحادثة هوميروس والأخذ عنه، وعهد ليكرغس بين القرنين التاسع والعاشر، ولا يجرح تلك الرواية قول فلوطرخوس الذاهب إلى أن ليكرغس إنما أخذ شعر هوميروس عن حفيد الشاعر، فقد يمكن أن يكون ذلك في حياة الشاعر أو بعدها بقليل».
- (٣)
يؤخذ من الأنساب المنقولة على قطع المرمر التي وجدت في أوائل القرن السابع عشر في جزيرة فاروس في الأرخبيل الرومي، والمحفوظة في مكتبة أكسُفورد أن هوميروس كان حيًّا سنة ٩٠٧ق.م. ولا غرو أن تكون تلك النقوش موضع ثقة؛ لأنها كتبت باعتناء حكومة أثينا، ودونت فيها أشهر حوادث اليونان من سنة ١٥٨٢ إلى ٢٦٣ق.م.
فإذا ثبت لدينا أن نبوغ هوميروس كان في أخريات القرن العاشر رجح في الظن أن بينه وبين دمار إليون التي سمى الإلياذة باسمها نحوًا من أربعمئة سنة، وأنه كان معاصرًا لأحاب ملك إسرائيل وسوا ثاني ملوك الدولة الخامسة والعشرين في مصر، وكلٌّ من مصر وفلسطين في ذلك الحين كان في معامع الاضطراب والانقلاب، كما كانت بلاد اليونان في أبَّان سكونها بعد أن ماجت بالجالية المتدفقة إليها تدفق السيل، وهو ولا ريب زمن احتكاك الأفكار وانفجار القرائح بنفيس الأشعار.
منزلته عند القدماء
وكان أرسطوطاليس في مقدمة المعجبين بهوميروس، وقد ألصق نسبه بالآلهة فقال: «سطت طائفة من قرصان أزمير أثناء الجلاء اليوني على فتاة من جزيرة يوس، وهي حبلى من أحد الآلهة؛ فسبوها واحتملوها إلى بلدتهم فولدت الشاعر».
وكان الإسكندر المقدوني كلِفًا بمطالعة منظومات هوميروس، واستكتب منها نسخة نقحها له أستاذه أرسطوطاليس كان يحتملها معه حيثما توجه، ثم اتخذ لها غلافًا خوذة مرصعة من أسلاب دارا ملك الفرس فكانت جليسه في حله وأنيسه في ترحاله يتحدى نهج مواقعها، ويترنم ببدائعها ويتمثل بها في كل ما عنَّ له من الأقوال والأفعال، ولطالما كانت تعروه هزة الطرب إذا أنشد بعض أبياتها، ولا سيما بيته القائل بوصف أغاممنون:
ومن مأثور أقواله وهو واقف إلى قبر آخيل بطل الإلياذة: «طوباك فقد أوتيت منتهى السعادة بقيام شاعر كهوميروس يخلد ذكرك».
وإنك لا تكاد تتصفح كتابًا من كتب الأدب والتاريخ مما كان يوثق به عند قدماء الغرب إلا رأيته مشحونًا بالشواهد المنقولة عن شاعرنا مشفوعة بالإطراء والإكبار، وكانوا يقتبسون من أقواله على نحو ما يقتبس اليهود من التوراة والنصارى من الإنجيل والمسلمون من القرآن والحديث، كل ذلك مما مهَّد سبيل إحلاله عندهم ذلك المحل الرفيع حتى تنازعته البلاد وشغفت به العباد، وعني الملوك والعلماء بجمع شتات قريضه، وعكف الرفيع والوضيع على إدخاره كنزًا لا ينفد.
وكان فقهاء اليونان ومشترعوها يتجشمون الأسفار؛ لجمع ما تفرق من تلك الغرر في أطراف البلاد فينظمون عقدها ويلقونها على العامة؛ تهذيبًا لأخلاقهم وتثقيفًا لعقولهم والملوك يبذلون لهم المال عونًا لهم على بلوغ تلك الغاية. قالوا: وأول من فعل ذلك ليكرغس لعهد هوميروس أو بعده بقليل، وحذا صولون حذوه ففعل في أثينا فعل ليكرغس في إسبرطة حتى لقد كان يضطر الشعراء أن ينشدوا قطعًا متوالية من هوميروس؛ حفظًا لها في ذهن الأمة واستبقاءً لانتساقها على السياق الذي نظمها به الشاعر. وإن لفيسيستراتوس ملك أثينا يدًا مشكورة في تبويب تلك المنظومات على النمط الذي اتصلت به إلينا، فاتخذ جماعة من كبار العلماء ووسع عليهم في الرزق ليتفرغوا لتلك المهمة، ومن جملة مرويَّات الأعصر الغابرة أنه تألفت طائفة من أدباء اليونان صرفت همها إلى النظر في الشعر الهوميري، فنقحته ونبذت منه الدخيل وألقته إلى الخلف على ما نراه عليه اليوم، وكانت تلك الطائفة مؤلفة من سبعين عالمًا مثلما تألف المجمع السبعيني الذي نقل التوراة من العبرية إلى اليونانية لعهد بطليموس فيلادلفيوس. وأما العامة فإنها تلقت تلك الفرائد تلقيها للآي المنزلة، فكانت فكاهتها في مجالسها ومرجعها في مباحثها ومرماها في تثقيف أحداثها وقبلتها في غدوها وآصالها. وما انتشر فن الكتابة حتى انتشرت في النوادي والمنازل فوق انتشارها في أذهان الخلق، فكان الساقط السافل عندهم من خلا رأسه أو منزله من شيء من منظومات هوميروس. وهم يتنافسون بحفظها ويتناشدونها كما تتناشد خاصة الفرس والجمُّ الغفير من عامتهم أقوال الفردوسي صاحب الشهنامة وسعدي صاحب الكلستان لعهدنا هذا أو كما يتناشد أدباؤنا الحكم والأمثال المقتطعة من أقوال نوابغ الشعراء، ومما يروى في هذا الصدد أن الكيبياذس القائد اليوناني لم يتمالك وهو فتى أن انهال على أستاذه بالشتم ثم بلغت به الحدَّة أن ضربه؛ لأنه لم تكن عنده نسخة من شعر هوميروس وهو ذنبٌ في ذلك العصر عظيم، ومن هذا القبيل أيضًا ما يقال عن زويلوس الكاتب إذ تصدى لانتقاد هوميروس في القرن الرابع ق.م. فقامت الأمة وقعدت وقبضت على المنتقد وصلبتهُ ثم رجمتهُ رجمًا، ومهما يكن من صحة هاتين الروايتين ففيهما من المعنى ما لا يخفى على اللبيب.
ولا يظننَّ المطالع أن هوميروس إنما نال تلك الحظوة عند قومه وبني ملته. بل كانت هذه منزلته عند الرومان ومن وليهم من أمم الغرب، فاللاتين كانوا يترنمون بأقواله ترنمهم بشعر نابغتهم فرجيليوس، وما فرجيليوس إلا نابغة من مريدي هوميروس شغف بتلاوة شعره، وكان شاعرًا بليغًا، فنظم الإنياذة على نسق الإلياذة، وأجاد في تحدي أستاذه، وأما أمم أوروبا فإنها أقبلت على ذلك الشعر منذ نشأتها، ولم يتخلل إقبالها فتورٌ إلا عقودَ أعوامٍ معدوداتٍ في بدء النصرانية كما سنبين في باب نقل الإلياذة إلى العربية، وفي ما سوى ذلك كانت منظومات هوميروس ولا تزال عندهم في المنزلة الأولى بين منظومات البشر أجمعين، وكان بعض العامة من الإفرنج في القرون الوسطى يتخذون منها الأحراز والتعاويذ، ويلجئون إلى استخراج المغيبات مما يستنبطون من معاني الأبيات التي تبدو لهم إذا فتحوا كتابه أيًّا كانت، وأبلغ من كل ذلك أن لفيفًا من الأطباء المشهود بعلمهم كانوا يعالجون بعض المرضى بالشعر الهوميري، فإذا استوصفوا علاجًا للحمى الرباعية أمروا بوضع نسخة من النشيد الرابع من الإلياذة تحت رأس العليل.
تلك كانت منزلة هوميروس عند اليونان والرومان ومن وليهم من أمم أوروبا.
رأي المتأخرين فيه
لم يزل الشعر الهوميري في المنزلة الأولى بين منظومات الشعراء، وليس بين كتب الأدب والتاريخ والشعر كتاب تداولته الأيدي وتناقلته الألسن، واستشهد به الأدباء والكتبة والمؤرخون ونقل مرارًا متوالية إلى معظم لغات الحضارة نثرًا وشعرًا كديوان هوميروس حتى لقد جُعل تدريسه فرضًا في كثير من مدارس القوم تلقَّنه الفتية أصلا وترجمة، ومما يذكر في هذا الصدد اعتراض بعضهم على إنفاق الساعات الطوال في إلقائه على طلبة جامعة برلين، فلما بلغ ذلك الاعتراض ولهلم الأول قيصر ألمانيا قال: «دعوا الأساتذة يكثروا من تلقين شعر هوميروس فإن الأمة التي يرسخ في ذهنها وصف صبا الأمم على ما يبسطه هوميروس لا يسارع إليها العجز والهرم». ومن أقوال رينان الفيلسوف الفرنسي الحديث: «إذا مر على عهدنا ألف عام انقرضت جميع التآليف التي بين أيدينا، ولم يبق منها إلا كتاب واحد وهو ديوان هوميروس» وإذا كان المتقدمون قد أطلقوا عليه لقب «الشاعر» فقد لقبهُ المتأخرون «بأمير الشعراء» وما انتقاد بعض الكتَّاب فقراتٍ متفرقة من شعره إلا مَدعاةً لزيادة انتشاره واتساع شهرته.
وأما بنو الشرق فهم وإن جهل معظمهم اسم هوميروس فضلًا عن وجود منظوماتٍ له إلا أن ذوي الاطلاع من متأخريهم قدروه حق قدره كما أن بعض علمائهم في الزمان الغابر أعظموا شأنه وأجلُّوهُ، وإنَّ صفوة أدبائنا في هذا العصر شاعرون بالحاجة الماسة إلى نقله إلى العربية، ويُذكرني هذا حديثًا مع منيف باشا ناظر المعارف العثمانية قال في أثنائه: «لو أن الشاعر العربي القائل: كأني أُميروسٌ لدين محمدٍ … عمل حقيقةً للشرق ما عمل هوميروس للغرب لما تعدانا الغرب هذا الشوط البعيد». وقد غاب عنه وعني عرفان ذلك الشاعر، ومما قاله لي السيد جمال الدين الأفغاني في محضرٍ من الأدباء: «إنه ليسرنا جدًّا أن تفعل اليوم ما كان يجب على العرب أن يفعلوا قبل ألف عام ونيفٍ. ويا حبذا لو أن الأدباء الذين جمعهم المأمون بادروا بادئ بدء إلى نقل الإلياذة، ولو ألجأهم ذلك إلى إهمال نقل الفلسفة اليونانية برمتها». وسأذكر في باب «الإلياذة» سبب إغفال نقلها إلى العربية.
ذلك قول عامة المتقدمين والمتأخرين وخاصتهم في هوميروس وشعره، أما الشعر فلا سبيل إلى إنكاره لأنه موجودٌ يُتلى، وأما هوميروس نفسه فقد قامت طائفة من الباحثين في أواخر القرن الثامن عشر بزعامة وُلف الألماني، وتألبت على إنكار وجوده بتاتًا، وما لبث مذهبهم أن انتشر انتشار الشرار ثم ما لبث أن خبا خَبْوَهُ على ما سنبسطه في الكلام على الإلياذة.
قول العرب فيه
فيؤخذ مما تقدم أن اليونانية كانت معروفة لذلك العهد في بغداد تقرأ وتُدرَّس حتى في بيوت الخلفاء، وأن منظومات هوميروس كانت معروفة فيها بين المشتغلين بلغات الأجانب ومعظمهم إذ ذاك من النصارى.
وخلاصة القول أن هوميروس كان له شأنٌ مذكور عند نقلة الكتب من بطانة الخلفاء، ولكن إلمام أدباء العرب بأقواله كان إلمامًا ناقصًا بقي منحصرًا في أفراد معدودين من كبار الكلدان. وأما منظوماته فالثابت أنها لم تُعرَّب.
منظوماته
نقصر الكلام في هذا الباب على الإلماع إلى ما نُسب لصاحب الإلياذة من الشعر مما ثبت له ومما لم يثبت، وأما البحث في شعره من حيث هو وأساليبه وطرائق نظمه وتشابيهه واستعاراته وفائدة ذلك للعلم والتاريخ والآداب، فنستبقيه إلى الكلام على الإلياذة بُعَيْد هذا.
إن لهوميروس منظومات كثيرة لا غرو أن يكون المفقود منها شيئًا كثيرًا، فإن العلماء ما زالوا حتى الآن يعثرون حينًا بعد حين على قطع مبعثرة في عاديات القدماء من تلك القطع المختزنة في دفائن الأرض، وإن العهد لقريب بالعثور على مقاطيع مكتوبة على ورق البردي في عاديات مصر مما لم يدرج في ديوانه، على أن درة تلك القلادة إنما هي الإلياذة بلا خلاف. بل هي كانت ولا تزال درَّة عقد ما نظم الشعراء في كل عصر وبلاد مما تقدم زمن هوميروس وما تأخر عنه.
الأوذيسية
ويتلوها الأوذيسية وهي ملحمة تقصر عن الإلياذة بضعة آلاف من الأبيات يغلب على الظن أن الشاعر نظمها في شيخوخته، وموضوعها رحلة أوذيس أثناء عوده إلى بلاده بعد انتهاء حرب طروادة، والقصة بأجمعها لا تتناول إلا أربعين يومًا ولكن فيها من الحقائق وتنوع المباحث ما يكاد يعادل الإلياذة، وهي كشقيقتها في أربعة وعشرين نشيدًا، ولكنها باعتبار وقائعها تقسم إلى أربعة أقسام؛ يشتمل القسم الأوَّل منها على ما حصل لأوذيس في منتهى المدة الطويلة التي نزل بها على الإلاهة كاليبسو في جزيرة أوجيجيا، وعشاق امرأته ساعون إذا ذاك في تبديد ثروته وتقويض دعائم ملكه، وابنه تليماخوس وهو فتى يافع مهتم في إحباط مساعيهم حتى إذا أعيته الحيلة شخص بإيعاز آثينا إلاهة الحكمة إلى فيلوس وإسبرطة متطلعًا أخبار أبيه. وفي القسم الثاني وصف مغادرة أوذيس لجزيرة أوجيجيا وبلوغه بلاد الفاقيين حيث نزل وقص عليهم خبره، ثم غادرهم إلى إيثاكة مقر حكمه، وفي القسم الثالث تفصيل الخطة التي اختطها هو وابنه تليماخوس في منزل خادمه الأمين الراعي أفميوس للضرب على أيدي أولئك البغاة، وفي القسم الرابع وصف انتقامه منهم واستقراره في ملكه.
معارضة الأوذيسية بالإلياذة
إن بين الأوذيسية والإلياذة شبهًا كبيرًا في النهج والسياق مما يدل على أن الناظم واحد، فكلتاهما قائمةٌ على أساس بسيط مرجعه إلى موضوع واحد، ففي الإلياذة «كيد أخيل» وفي الأوذيسية «رحلة أوذيس» وعلى هذين الأمرين مدار جميع حوادث الروايتين بما تخللهما من القصص والتاريخ، وما وراء الطبيعة ودونها، وكل واحدة من الروايتين منحصرة الوقائع في أيام قليلة في منصرم أعوام طوال، فالإلياذة لا تتناول سوى ستة وخمسين يومًا من حصار عشر سنين، والأوذيسية لا تتجاوز في مدتها الأربعين يومًا من رحلة أوذيس، وكما أن مطالع الإلياذة يلمُّ استطرادًا بتاريخ ذلك الحصار وما تقدمه وما وليه، ويتمثل حالة البلاد بالنظر إلى التاريخ والجغرافية والدين والآداب والأخلاق والعادات، فكذلك يحيط مطالع الأوذيسية علمًا بما لقي أوذيس في تلك الرحلة منذ نزل بكاليبسو فشغفت به وأمسكته في جزيرتها سبعة أعوام، ويقف على حالة البلاد التي ألقته الأقدار إليها، وينزل إلى أعماق الجحيم، ويصعد إلى أعالي السماوات، ويطوف حول الأرضين تطواف الشاهد البصير، وكلتاهما متماسكة الأجزاء متراصة المعاني لا تقرأ نشيدًا منهما إلا أنست به نفس سائر الأناشيد، ومع هذا فقد يُعترض على وحدة الناظم بما بين اللحمتين من التباين في قوة التركيب وحدة التصور وجزالة اللفظ، فإن الإلياذة في كل ذلك فوق شقيقتها، وإنما هو اعتراض مردود بثبوت أن الإلياذة متقدمة على الأوذيسية نظمها الشاعر في أبان عمره ومخيلته على نضارتها ومادته بمعظم غزارتها، ولكن في الأوذيسية من إصابة المرمى، وسداد الرأي، ورسوخ الحكم، وسعة العلم ما لا يقصر عما في الإلياذة.
سائر منظومه
وأما سائر المنظومات المعزُوَّة إلى هوميروس فسواء ثبتت له أو لم تثبت فلا تزيده رفعةً وشأنًا بل خيرٌ له أن لا تكون له، والراجح عند أهل التحقيق أنها من غير نظمه، وإن نسب هيرودوتس بعضها «كحرب الضفادع والفيران» و«حرب الزرازير» وجماعة «الكركوفة» وهي قصائد لا تتجاوز المئات من الأبيات، وليس فيها شيء مما يدل على أنها من نتائج تلك القريحة السيالة والذهن المتوقد. ونسبتها إلى الإلياذة والأوذيسية كنسبة بعض قصائد المتنبي المنظومة في صباه والمثبتة في أول ديوانه إلى سائر قصائده الرائعة. وقد ذهب أرسطوطاليس إلى أن هوميروس نبغ في الشعر الهزلي نبوغه في الشعر القصصي، واستدلوا على ذلك بالمنظومة «مَرْجِيتس» وهي قصيدة يصف فيها الناظم رحلة مرجيتس الغني المتغطرس، ولم يبق منها إلا أجزاء متقطعة.
ومما ينسب إليه أيضًا ثلاثة وثلاثون مزمورًا ترنم فيها بمدح الآلهة، وقص فيها بعض أخبارهم، وترسل بالابتهال إلى أفلون، وعطارد (هرمس) والزهرة، وذيميتير، والمريخ (آريس) وأثينا، وهيرا، وهرقل قلب الأسد، وإسقليبيوس إله الطب، وهيفست إله النار، وفوسيذ وزفس، والشمس والقمر والأرض وهمَّ جرَّا.
وقد نسبوا إليه أيضًا بعض مقاطيع وأهاجي في أبيات قليلة، والأظهر أن تلك المقاطيع والزبور وأشباهها مما ألصق بديوان هوميروس لجهل رواتها أسماء أصحابها.
الإلياذة
تمهيد
الإلياذة أو الإلياس نسبةٌ يونانية إلى إليون عاصمة بلاد الطرواد، وهي الملحمة التي نحن بصددها وضعها هوميروس على أسلوب بسيط وبناها على موضوع واحد هو «غيظ آخيل أو احتدامه» ونهج بها نهجًا متناسقًا قص في أثنائه حوادث متسلسلة لا تتشعب وقائعها بتعدد الأشخاص مهما كثروا وكثرت. فهي بهذا المعنى سلسلة واحدة من أولها إلى آخرها، وهو مذهب معظم الرواة والقصَّاصين من القدماء، ولا سيما الشرقيين لميلهم إلى البسيط من القصص بخلاف رواة الأوروبيين في الأعصر الحديثة فإنهم يفرّعون الحوادث ويكثرون من تدخل الأشخاص بوقائع متشعبة مما يئول في نظرهم إلى زيادة تفكهة القارئ، ولعل المتأخرين مصيبون برأيهم هذا في الزمن الحاضر وخصوصًا؛ لأنهم بعد انتشار فن الطباعة أصبحوا في غنًى عن استظهار أقاصيصهم على نحو ما كان القدماء يحفظون رواياتهم حرفًا حرفًا عن ظهور قلوبهم. ومعلومٌ أن البسيط المتناسق أسهل حفظًا من المركب المتشعب.
ولا بد لنا قبل بسط موضوع الإلياذة من الإلماع إلى حرب طروادة تلك الحرب التي خلد هوميروس ذكرها باقتطاع شذرة منها موضوعًا لأناشيده.
كانت مملكة طروادة أثناء تلك الحرب ممتدة من جنوبي آسيا الصغرى إلى الهِلِسْبُنْطُس وهو مضيق الدردنيل، وملكها فريام وقاعدتها إليون، وتدعى أيضًا طرويا (أو طروادة) وقد عفت آثارها منذ قرون، ولكنه قد يؤخذ مما تُوصِل إليه بالبحث أنها كانت واقعة في سفح الجبل القائمة عليه الآن قرية بونار باشي.
أما بلاد الإغريق فكانت ممالك صغيرة تتحالف أحيانًا وتتشاق أخرى، وبينها وبين بلاد الطرواد صلة تجارة ونسب، وحدث أن منيلاوس ملك إسبرطة غاب عن عاصمته في مهمَّة، وأن فاريس بن فريام أوفد برسالة إلى إسبرطة، فنزل ضيفًا على منيلاوس وهو غائب وما زال بهيلانة امرأة فاريس حتى استهواها فأحبته ووافقته على الفرار معه إلى بلاده. فقامت الإغريق وقعدت لذلك النبأ. ولما أعيتهم الحيلة في استخلاص هيلانة تأهبوا للحرب، واستصرخوا جميع قبائلهم؛ ففزع إليهم القاصي والداني، وعقدوا لأغاممنون أخي منيلاوس وملك ميكينيا، فكانت الرئاسة إليه منذ نشوب الحرب إلى أن خبت جذوتها بدمار إليون، فساروا جيشًا كثيفًا يعيشون في بلاد الطرواد يخربون المدائن ويقتلون الرجال، ويسبون النساء، وينهبون الأموال إلى أن بلغوا إليون العاصمة فحصروها وأقاموا على حصارها عشر سنين. فساءت حال الفريقين، ونفدت الأرزاق وبادت المقاتلة، وكاد الإغريق ينثنون إلى أهلهم ويقنعون بسلامة من بقي منهم لو لم يوافهم داهيتهم أوذيس بخدعةٍ مكَّنتهم من فتح إليون.
موضوعها
تناول هوميروس أيامًا قلائل من السنة العاشرة لحصار إليون وبنى عليها منظومته وشرع فيها بقوله:
إشارةٌ منه إلى أنه سيدور حول ذلك الاحتدام منذ اتقد إلى أن خمد. وهو موضوعٌ يكاد يحسبه شعراؤنا تَفِهًا لبساطته، ويعجبون لقريحةٍ علقت به؛ فأنتجت نحوًا من ستة عشر ألف شطرٍ أو شعر مع أن معلقة امرئ القيس ومطلعها ينبئ بمجموع أوسع وموضوع أجمع تقصر بجملتها عن مئة بيت. وإنك مع هذا إذا طالعت الإلياذة كلها لا تكاد ترى فيها حشوًا ولغوًا بل لا تتمالك أن تستزيد منها في مواضع كثيرة.
ومُجمل القصة أنه كان في جملة السبايا فتاةٌ جميلةٌ وقعت في سهم آخيل عنترة الإغريق، فانتزعها منه أغاممنون زعيم الزعماء، واستخلصها لنفسه فعظم الأمر على آخيل وكاد يبطش بأغاممنون لولا أن أثينا إلاهة الحكمة هبطت من السماء وصدَّته قسرًا، فانكفأ عنه واعتزل القتال هو وعشائرهُ، فحمي وطيس الحرب بين الإغريق والطرواد وأخيل في عزلته يتحرق غيظًا؛ فاشتدت عزيمة الطرواد لاحتجاب آخيل فنكَّلوا بالإغريق في مواقع كانت الغلبة في معظمها لهم، فلما ثقلت الوطأة على الإغريق أوفدوا الوفود استرضاءً لأخيل فما زاد إلا عتوًّا وكِبرًا، فوقعت هيبة هكطور زعيم الطرواد وابن ملكهم فريام في قلوب الإغريق وما زالت تتوالى له الغلبة بعد الغلبة حتى كاد يحرق سفائنهم ويردهم خائبين. وكان لأخيل صديقٌ حميم هو فطرقل فتى جمع بين كرم الخلال وبسالة الأبطال صحب آخيل في معتزله، وهو مع هذا يتلظى أسى لنكبة قومه ويستفز أخيل للأخذ بيدهم، وأخيل كالحجر الأصم لا يرقُّ ولا يلين. ولما اشتدت الأزمة على الإغريق وكاد يقضى عليهم جعل فطرقل ينتحب كالطفل؛ فأذن له آخيل أن يتقلد سلاحه ويحمل على الطرواد بجند المرامدة قوم أخيل. فحمل عليهم حملةً مزقت شملهم وردَّتهم على أعقابهم، وإذا به خرَّ قتيلا أمام هكطور فدارت الدائرة بموته على قومه فولَّوا مدبرين وهكطور يضرب في أردافهم، ولما علم آخيل بموت فطرقل قتيلا تسعر حزنًا على حليف وده، والتهب حقدًا على الطرواد وتحول غضبه من عن الإغريق إليهم، ونهض للأخذ بالثأر فصالح أغاممنون وأغار على الطرواد فبطش بهم بطش الأسود بالحملان؛ فلاذوا بالفرار وتحصنوا في معاقلهم ما خلا هكطور فإنه برز له فقتله آخيل ومثَّل به، ولكنه ما لبث أن سكن جأشه وخبا غيظه، فانقلب ذلك الغيظ رفقًا وعطفًا إذ رقَّ لشيبة فريام فألقى إليه بجثة ابنه وسيَّرهُ آمنًا، فانتهت القصة بسكونٍ وسلام.
نظمُها وتناقلها
إذن لزم من تماسك أجزاء الإلياذة أن تكون منظومة واحدة، فلا يلزم أن تكون نظمت وأنشدت جزءًا واحدًا، ولا يؤثر على مجموعها أن تكون أنشدت في قطر واحد أو أقطار مختلفة، فهذا نقلها العربي وما هو بالشيء المذكور إزاء الأصل اليوناني، وقد نظم في أربع من قارات الأرض. ولا فرق أن يكون الشاعر نظمها تطرُّبًا بمعانيها أو تطلُّبًا بأغانيها. تلك جميعها مباحث لا فعل لها في جوهر الإلياذة، فليس لنا هنا أن نطيل النظر فيها. وإنما يجب النظر في طريقة اتصالها على سعتها من السلف إلى الخلف.
وقد يُستغرب تناقل الإلياذة في أول أمرها استظهارًا على ما فيها من كثرة الأبيات واتساع المباحث وتنوع الأحاديث. على أنه يتضح لدى التروي أن ذلك الاتساع كان من مسهلات حفظها وعلوقها في ذاكرة المنشدين. وهو ثابتٌ أن الإنشاد مهنةٌ كانت ولا تزال شائعة بين أجيال شتى من الناس. وكان للرواة والمنشدين منزلةٌ يحسدون عليها؛ ولهذا تطالَّ إليها كل ذي علم واسع وذاكرة نيرة. وكثيرًا ما كانت باب رزق لكل ضرير كُفَّ نظره، فتحوَّل نور بصره إلى بصيرته، فادخرت في محفوظها ما تقصر عن رسمه أقلام الخطَّاطين.
ذكر سقراط وأفلاطون وغيرهما أن المنشدين كانوا يتهافتون إلى مجتمعات الناس في أثينا وسائر مدن اليونان فينشدون ما حفظوه من الإلياذة وغيرها، وكان قيام هؤلاء المنشدين بين العامة والخاصة من لوازم كل احتفال وطني وعيد ديني. فتُقام لهم في أثينا وساقس وتيوس وأُرخمينا، ومدائن أخرى أسواق كسوق عكاظ ومربد البصرة يتناظرون فيها، وتُعدُّ لهم الجوائز السنية فيحرزها المبرِّز منهم، ويحرص عليها حرص الفائز بإكليل الغار بعد الانتصار، ولطالما كان يجنح الواحد منهم إلى التغني ببطلٍ معين أو روايةٍ مخصوصة، فيفني العمر بإلقائها حينًا بعد حين على ما هو اليوم شأن القصَّاصين في مصر، وبر الشام، والأقطار العجمية، ويؤخذ على ذلك دليلٌ من نفس هوميروس إذ أنطق أوذيس في الأوذيسية (ن ٩ — ١٢) بما يربو على ألفين ومئتي بيت نفَسًا واحدًا. على أنه لا يلزم مما تقدَّم أن راويًا واحدًا ينشد الإلياذة كلها أو يحفظها لهذا الغرض.
العميان وإنشاد الشعر
حفَّاظ الشعر عند سائر الأمم وخصوصًا العرب
أما العرب فلم يكن في أُمَّة من أمم الأرض شأنٌ للإنشاد أرفع منه عندهم، وهذه أخبار عكاظ والمربد تملأ الأسفار بصرف النظر عن أخبار الشعراء المنبثين في كل أصقاع البلاد العربية لا مهنة لهم إلا إنشاد الشعر. وهذه أخبار الخلفاء، وقد كان ما يجيزون به الشعراء من أبواب النفقة الطائلة مما لا يبقى معه ريب أن إنشاد الشعر كان الضالَّة المنشودة والمفخرة التي يتسابق إليها الرفيع والوضيع.
وإذا طالعت أخبار الشعراء المُترجمين في كتاب الأغاني وغيره رأيت بعضهم كهوميروس أميين لا يقرءون ولا يكتبون؛ بل ربما احتاج أبلغهم إلى قارئ صغير كما فعل طَرَفة بن العبد والمتلمس أثناء شخوصهما إلى عمرو بن هند ملك الحيرة إذ اضطرا إلى استرضاء غلام حدث ليقرأ لهما كتابًا، وكلاهما من فحول الشعراء (شرح الإلياذة ص: ٤٤٩) وهؤلاء أصحاب المعلقات والمجمهرات والملحمات كان فريق كثير منهم أميًّا.
وأما مبلغ الذاكرة عندهم فمما لا يفوقه شيء في أخبار اليونان والرومان والإفرنج، وفي أخبارهم ما لو حذف منه شيء كثير لربا باقيه على مرويَّات اليونان قديمهم وحديثهم. فإذا علمت أن أبا العلاء المعري سمع محاورة إسرائيليين بالعبرية، وهو في شأن غير شأنهما ثم طلب بعد مدة مديدة للشهادة، فأعاد تلك المحاورة وهو لا يفقه من العبرية حرفًا — إذا علمت ذلك فما ظنك تعي ذاكرته من الشعر لو توخَّى الحفظ — وإذا قيل لك أن الإلياذة مؤلفة من زهاء ستة عشر ألف بيت؛ فيصعب الأخذ بقول القائلين أنه أمكن استظهارها فما بالك لو سمعت ما ذكروا عن غرائب حافظة حمَّاد الراوية إذ امتحنه الوليد بن يزيد، ووكَّل به من يسمع إنشاده فأنشد تباعًا ألفين وتسعمائة قصيدة من شعر الجاهلية. أو لو قيل لك أن الأصمعي كان يحفظ ستة عشر ألف أرجوزةٍ كاملة ما خلا القصائد والمقاطيع وأخبار العرب بدوهم وحضرهم. وهذا قولٌ مهما أُنس فيه من المبالغة لا يخلو من صحة بعضها كافٍ لإثبات ما نتوخاه.
هذا وإني ممن يعتقدون انحطاط قوى الذاكرة وارتقاء قوى المخيلة في أزماننا هذه بِنَاء على الناموس القاضي بترقي القوى البشرية وانحطاطها بكثرة المزاولة وقلتها. ومع هذا فالحافظة مهما ولدت خاملة لا تلبث أن تقوى بالمثابرة على الاستظهار، فمثلها في تدرُّجها من الضعف إلى القوة مثل يد النجار والحداد وقلم الكاتب. وفي عصرنا هذا من حفَّاظ التوراة والإنجيل والقرآن مئاتٌ وألوف عرفتُ بعضهم بالذات، ولقد طالما اضطررت في حينٍ من الزمن إلى مراجعة خبرٍ أو آية في التوراة وإلى جانبي المرحوم المعلم داود الحاج، فكنت إذا ذكرت له طرفًا مما أريد أشار فورًا إلى السفر والفصل، وكثيرًا ما كان يعيّن العدد؛ فأتصفح الكتاب فإذا هو كما قال. وحفظة القرآن منتشرون في كل صقع من بلاد الإسلام، ومنهم الجم الغفير من كفيفي البصر كرواة سائر الأمم. ويقال مثل ذلك في حفظة الإنجيل من المسيحيين، ولا سيما وعَّاظ الإنجيليين.
أما رواة الشعر فهم في البلاد الشرقية أكثر منهم في أقطار الغرب حيث قضت الكتابة على الاستظهار القديم، وقد شهدت بنفسي مصداق قول شدزكو في منشدي الفرس، فإذا جلست إلى الواحد منهم وهو ينشد شعر الفردوسي أو جلال الدين الرومي أو قصص كلستان سعدي شعرًا ونثرًا لظننته يتلو كتابًا يتصفحه حرفًا حرفًا.
وإذا جلت في بادية العرب وسمعت منشديهم ينشدون على نغم ربابتهم ألوفًا من الأشعار قلت: تلك كنارة هوميروس، وهؤلاء لا أولئك هم المنشدون الذين ذكرهم سقراط وأفلاطون، ومِثفُرد وغروت وفوريل، وغرم وشدزكو.
ولقد تيسر لي أثناء تجولي بينهم أن التقطت منهم قصائد شتى جمعتها في ديوان سأمثل منتخباته بالطبع، وكثيرًا ما كنت أسمع القصيدة من غير راوٍ فإذا هي هي.
وليس بالأمر اليسير بإزاء ما تقدم محفوظ زجَّالي مصر، وقوَّالي لبنان، وشعراء أهل الأرياف في إسبانيا والبرتغال، فقد استبقت الذاكرة بضع قصائد بل مطالع من معنى اللبنانيين مما علق بها في الصغر منذ بضعة عقود من السنين فاستنشدتها بعضهم في الصيف الماضي فإذا هي عندهم على حالها لم تزد ولم تنقص.
وليس ما أذكره في هذا الباب على سبيل الاستطراد شيئًا مذكورًا بإزاء محفوظ الرواة الذين لا همَّ لهم إلا اختزان الشعر والقصص في حوافظهم، فالمنظومات فيها كالمتاع المنضود في حانوت حافل بأصناف المنسوجات ينشرون منها ما شاءوا أيَّان شاءوا على نية أن يطووه إلى موضعه. وكلما نشروه مرةً زاد زهاء ورواء، وإذا تلقَّاه أحدٌ عنهم فإنما يتلقى رسمه، والأصل باقٍ في ملكهم لا تبلغه يد مشترٍ أو سارق. فأمثال هؤلاء هم الذين استبقوا للخلف منظومات هوميروس إلى أن كُتبت.
جمعها وكتابتها
وهو معلومٌ أيضًا أن القرآن على غزارة مادَّته، وتشابه آياته انتشر ورسخ في حوافظ الصحابة كاتبهم وأميهم بل ربما كان أرسخ في ذهن الأميّ.
القول في سلامتها من التحريف والتصحيف
لم يُعن البشر في زمن من الأزمان بنسخ كتاب وتمحيصه وحفظه ونشره عنايتهم بالإلياذة وأختها الأوذيسية، ولا يستثنى من هذا الإطلاق إلا الكتب التي رُفعت عليها أُسس الأديان كالتوراة، والإنجيل، والقرآن، ومع هذا فلست ممن يقول بسلامة الإلياذة بجميع أجزائها من كل تحريف وتصحيف أو زيادة ونقصان، وأيُّ كتاب أجمع الناس على أنه لم تعبث به قطُّ يدُ كاتب، ولم تَنْتبهُ جائحة زمان، أفليس في بعض نسخ التوراة عباراتٌ مختلفاتٌ عنها في نسخ أخرى، وإن منها أسفارًا كاملة يعدُّها فريقٌ قانونية وينكر ذلك فريقٌ آخر، أَوَليس من يقول بضياع بضعة أناجيل، واختلاط أسفارٍ أخرى من العهد الجديد، ومن ينكر عناية الخليفتين: أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب في جمع أجزاء القرآن في صحفٍ مكتوبة، ومبلغ جهدهما وجهد الخليفة عثمان بعدهما في ضبط قراءته، والنظر في كل آية من آيه حتى إذا رأى عمر أن آخر سورة التوبة مفقود ظل يبحث عنها حتى وجدها مع أبي خزيمة الأنصاري، وفعل فعله عثمان إذ فقدت آية من الأحزاب فالتمسها ووجدها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري، وهل سد ذلك أفواه المعترضين من بعض فرق الغُلاة والمعتزلة! أو لم يتواتر أيضًا أن بعض كتبة الوحي لنبي الإسلام كعبد الله بن أبي سرح في أول إسلامه كانوا يعمدون إلى تبديل كلام بآخر.
ولكن النبي كان حيًّا؛ فأثبتوا أنه كان يضرب على أيدي أولئك المحرِّفين، ويردُّ الكلم إلى مواضعه. أما الإلياذة وقد تناشدها الرواة نحوًا من قرنين ولا ضابط لها سوى أذهان المنشدين فلم تكن ثَمَّ قوةٌ بشرية قادرة على حفظها من أولها إلى آخرها على ما نطق بها هوميروس مهما بُذل في سبيل ذلك من العناية والهمة. بل ربما لو بُعث هوميروس نفسهُ، وأنشدها مرة أخرى لما تمالك عن تغيير حرفٍ وتبديل شعر، على أنه لا ريب أن التحريف والتصحيف قليلان جدًّا في جميع ما اتصل بنا منها لما رأيت من عناية القوم بها اللهمَّ إلا أن تكون هناك أجزاء مفقودة برمَّتها مما لا يدخل تحت هذا الحكم، ومع هذا فارتباط أجزائها بلا انقطاع يدل على أنه إن كان ثمة مفقود فهو قليل، وإننا الآن موردون استجلاء لهذا البحث أمثلة مما ذكره الشراح وما لم يذكروه من الدخيل، والساقط، والمكرَّر، والمُغْلق.
الدخيل
ذكر هوميروس في النشيد الثامن أنه عند غروب الشمس تحاجز الجيشان، فانكفأ كلٌّ منهما إلى معسكره، والطرواديون على بيّنة من الفوز في غدهم لما أُوتوه من أنباء الغيب فأقاموا ليلهم ينتظرون بزوغ الفجر لينقضُّوا على أعدائهم، ثم وصفهم ووصف نيرانهم وقال:
وهنا في بعض النسخ أربعة أبيات مفادها أنهم ضحَّوا بالضحايا فلم تقع لدى الآلهة موقع قبول لما استقر في نفوسهم من كراهة إليون عاصمة الطرواد وملكها وملته، فذهب بعض الشراح وذهبنا مذهبهم إلى أن هذه الأبيات دخيلة فأغفلوها وأغفلناها؛ لأن فوز الطرواد في ما يلي يدل على أنها في غير موضعها بل هي مناقضة للمعنى على خطٍّ مستقيم؛ لأن زفس كبير الآلهة كان في زمن موالاة للطرواد.
وفي النشيد الثالث عشر يوعز فوليداماس إلى هكطور زعيم الطرواديين أن يجمع إليه زعماء الجيش ويشاورهم في الأمر، فيقول الشاعر:
وهنا في بعض النسخ بيت يقول: «أن هكطور وثب إلى الأرض من مركبته» وهو لا شك دخيلٌ من غير نظم الشاعر؛ لأن سياق الحديث يدل على أن الطرواد غادروا مركباتهم، وزحفوا مشيًا على الأقدام.
هذا وإن في الإلياذة بضعة أبيات لا أرى لها محلًا أصلًا، ولو خُيرت لحذفتها ولكنه لا سبيل إلى ذلك؛ لأنها مثبتة في كل النسخ، مثال ذلك قول إيريس إذ أنفذها زفس برسالة إلى هيرا وأثينا، فبعد أن بلَّغتهما قوله كجاري العادة قالت لأثينا: (ن ٨)
فإنها تجاوزت حد مهمتها وفاهت بكلام بذيء لم يفُهْ به زفس، ولم يتفق للشاعر أن أتى بأمثاله فضلا عن أنه كلامٌ لا يجوز أن يوجَّه إلى أثينا ربَّة الحكمة، وحيثما ذكرها هوميروس فإنه يذكرها بالتعظيم والتبجيل.
ومثل ذلك قوله بلسان فطرقل في النشيد السادس عشر متهكمًا على قبر يون، وهو مهوٍ قتيلا من مركبته إلى الأرض:
وفطرقل هذا على بسالته وعزته مثال الحلم، والحصافة، والدّعة، فلا يصح أن ينطق بمثل هذا التهكم على قتيل انقضى أمره، ولا سيما أنه قبل أبيات انتهر صاحبه مريون لمخاطبته عدوًّا بكلام فظٍّ فقال له:
•••
الساقط
ويقابل هذه الزيادة نقصانٌ قليل في إيراد بعض الروايات مثال ذلك قصة بليروفون، فإنها مبتورةٌ بترًا فسواءٌ التقطها هوميروس من التوراة، فمثَّل به يوسف الصديق أو تناولها من مصدر آخر فلا يأتي المطالع على آخرها إلا وهو متطلع إلى أسباب انحراف الآلهة عن ذلك الرجل البار، وقد أفضنا بهذا البحث في موضعه:
المكرَّر
- (١)
ما كان واجب التكرار كالبلاغ الذي يلقى إلى الرسول، فيؤديه كما أُلقى إليه وهو كثير.
- (٢)
ما كان جائزه وهو: إما مقصود من الشاعر لبلاغته، وإما دخيلٌ بقلم النسَّاخ في أحد موضعيه لكثرة تغني الناس به، وانطباقه على المعنى في الموضعين. مثال ذلك وصف اصطدام الجيشين في النشيد الرابع إذ يقول:
تَدفَّقتِ الأجناد أَيَّ تدفُّقِإلى الحرب تجري فَيلقًا إِثْر فيلقِكثائر أمواج البحار تهيجُهامن اللُّجِ أنواءٌ بغيرِ ترفقِيدفع بعضًا بعضُها فوق لُجهاإلى حيث فوق الجرف بالعُنف تلتقيفبعض أبيات هذه القصيدة مكررٌ في مثل هذا الموقف في النشيد الثامن.
ومثل ذلك قوله في وصف هكطور وهو مقبل على الأعداء: (ن ١٥)
أفلّون هاتيك العزائم مانحُوهكطور للإبلاءِ والحرب جانحُكمهرٍ عتيٍّ فاض مطعمهُ علىمرابطهِ يبتتُّها وهو جامحُويضرب في قلب المفاوز طافحًاإلى حيث وجه الأرض بالسيل طافحُيروّض فيه إِثْرَ ما اعتادَ نفسهُويطربُ أن تبدو لديه الضحاضحُوَيشمخُ مختالًا بشائق حسنهيطير وأعراف النواصي سوابحُوتجري به من نفسها خُطَواتُهإلى حيث غصَّت بالحجور المسارحُفهذه الأبيات بعينها واردة بوصف فاريس في النشيد السادس:
- (٣)
ما كان مكروهًا والأجدر به أن يُعدَّ من باب الدخيل كقول هيرا، وهي تستمد رأفة زوجها زفس بالإغريق: (ن ٨)
ولكننا نرثي لحال الأغارِقِيُبيدهُمُ المقدور تحت اليلامقِأطعنا فلا نأْتي الكفاح وإنمانمدُّهُمُ بالرأْي خوف البوائقِفهذا كلام سبقت أثينا فخاطبت به زفس في نفس النشيد فما بقي محل لإعادته.
وأغرب من هذا تكرار خطاب أغاممنون في النشيد التاسع، وهو الذي يقول في مطلعهِ:
أَحبَّايَ والأقيال والصيد خلتُنيرماني زفسٌ في حبائل آتيافهو خطاب ألقاه بنفسه في النشيد الثاني وقصد به هنا غير ما قصد هناك، ولعل ما قاله في هذا الموضع مما فُقد أصلهُ فعوَّض النسَّاخ عنه بأبيات سابقة حسبوها تليق بالمقام.
الْمُغْلَق
ولقد أغلق عليَّ فهم المراد من مخالفة أثينا لأبيها زفس مخالفة بلغت حد العصيان، وهي ربَّة الحكمة والسداد تعرف أنها لا قِبَل لها به، ويشقُّ عليها الخذلان فلا تأتي أمرًا يورثها الندم، فكيف قامت بعد هذا تتهدد وتتوعد بكلام مِلؤُه العتوُّ، ثم ما لبث أن استلأمت، وتدججت بالسلاح لتنخرط في سلك مقاتلة نهاها زفس عن الأخذ بيدهم، فصدعت بالأمر وقالت: «أطعنا فلا نأتي النزال» ثم خالفت قولها، وانتقضت عليه انتقاضًا كاد يودي بها، وحبذا لو كانت هذه الرواية في بضعة أبيات إذن ليتيسر لي أن ألتمس للشاعر عذرًا، فأجزم بكونها دخيلة ولكنها مندمجة في الرواية اندماجًا، ولا سبيل إلى إفرازها منها إلا إذا اختل نظام سياق الحديث فلا بد إذن من أن تكون من نظم الشاعر أدرجها هنا لأمر غمضت عليَّ حكمته. وخصوصًا أن الشاعر يتوخى الحقيقة في كل أقواله صريحةً كانت أو رمزية، ويرمي في كل معانيه إلى بث حكمةٍ ونشر فضيلةٍ، وليس في هذه الرواية شيءٌ من ذلك. على أنه إذا صحَّ انتقادنا، فليس بعجيب أن يشذَّ الشاعر هذا الشذوذ في مظنَّةٍ واحدة من منظومة تملأ هذا المجلد الضخم.
وعلاوةً على ما تقدم ربما لا تخلو الإلياذة من ألفاظٍ بل من أبياتٍ لعبت بها أيدي النسَّاخ، ولكنه ليس في شيء منها ما يشوه وجه تلك الخريدة العذراء فلا يزيدها تقادم العهد إلا بهاءً ورواءً، فهي كزهرة هوميروس وقومه تتوالى عليها الأعقاب وتنقضي الأحقاب، وهي هي تلك الفتيَّة العذراء ربَّة الجمال الخلَّاب.
الرأْي الوُلْفي
توالت الأحقاب على الإلياذة والناس يتناشدونها ويتناقلونها وهم مُعَجبون ببلاغتها، وانتساقها مُكبرون ذكاء تلك القريحة السيالة التي تفجَّر منها ذلك المنهل العذب، فلما كان القرن الثامن عشر قامت عصابةٌ من العلماء، وأنكرت على هوميروس إنشاء الإلياذة وما يتبعها من سائر شعره، وقالت: «بل هي قصائد متفرقة لشعراء كثيرين رواها الرواة، وعني بجمعها المشغفون بمطالعة الشعر» وكان من نتيجة قولهم هذا أن هوميروس رجلٌ وهمي خلقته مخيلات الشعراء.
ذلك ما يُدعى في عرف الإفرنج بالرأْي الوُلفي نسبةً إلى وُلف العالم الألماني، وإن لم يكن هو السابق إلى بث ذلك المذهب، وإنما نُسب إليه لأنه كان أشدَّ دعاتِهِ وتيسر لهُ نشرهُ في زمن ثوران أفكار وانتقاضٍ على كل كبير، وقد سبقه إليه أفراد ذوو شأن في عالم الأدب فلم يكن لكلامهم شيءٌ من الوقع.
وليس لنا في هذا المقام الضيق أن نفصل الأدلة التي أوردوها، ومع هذا فلا بد من إلقاء نظرة مجملة على الإلياذة؛ لاستجلاء ما إذا كان يصح القول بكونها من نظم غير واحد من الشعراء.
علمنا مما تقدم في فذلكة سيرة هوميروس ورأْي المتقدمين والمتأخرين فيه أنه لم يبق محلٌّ للريب في نظر المحققين أن شاعرًا يلقب بهوميروس نبغ في القرون الغابرة، ونظم الإلياذة والأوذيسية، وقد أجمعت النصوص التاريخية والآثار العاديَّة على أنه كان بمنزلة يقصر عن إدراك شأوها سائر الشعراء، فما بقي من ثمَّ سبيل إلى إنكار وجوده.
وإنما بقي علينا أن نعلم ما إذا كانت الإلياذة كلها من نتاج تلك القريحة الوقَّادة.
وحدتها
وهو قولٌ لا شك سديدٌ في بابه، ولكنه لا يدفع حجة القائلين: «إنه إذا صح أن تكون الإلياذة على سلامتها في ذلك الزمن قد لا يصحُّ أن تكون اتصلت إلينا على تلك السلامة». فدفعًا لهذا الاعتراض حسبنا أن نوجه نظر المطالع إلى ما أسلفنا عن عناية الأقدمين بحفظها نقيةً من الشوائب، ولا سيما في باب «جمعها وكتابتها».
وإننا موردون في ما يلي تحليلًا موجزًا لتلك المنظومة بل تشريحًا لذلك الجسم المتماسكة فقراته، المترابطة عضلاته يتضح منه أنه لا بد من أن تكون منظومة واحدة لشاعر واحد، وهو بحثٌ لم يتصل بنا نظيره في ما طالعناه من كتب القوم.
تحليلها وتشريحها
الأشخاص
خذ الإلياذة وتصفح أية صفحة شئت منها، واقرأْ حتى يقع بصرك على بطلٍ من أبطالها سواءٌ كان من مغاوير الكماة أو من عُرض الجند، ثم انتقل إلى معجم الأعلام وانظر في الصفحات التي ورد فيها ذكر ذلك الرجل، واقرأ ما وصف به فيهن جميعًا، فتتبين أنه هو هو حتى تكاد تنطق باسمه قبل أن تبلغه مهما تباينت المواقع، وتباعدت الأناشيد.
فهذا آخيل يبدو لك لأول وهلة قرمًا عنيدًا، وشهمًا حقودًا، ووليًّا ودودًا، وصارمًا عتيًّا ترتسم حسناته وسيئاته في مخيلتك من تلاوة أول جزء من أول نشيد، وتعلم أنه الفتى الغضوب بُنيت الإلياذة على وصف غضبه، فلا تقرأ نشيدًا منها سواءٌ ظهر فيها ذلك البطل أو لم يظهر إلا وتشعر أنه لا يزال محتدمًا بسعير الحقد والغيظ إلى أن يتيسر للشاعر تهيئة الأسباب المؤدية إلى إخماد تلك الجذوة في آخر الكتاب، فإذا به كما تستلزم دواعي السيادة والكرامة ساكن الجأش على رفعة نفسه، وقد جمع في صدره من كرم الخلال ما يكاد يضيق عنه أرحب الصدور، وليس في الكتاب كله عبارةٌ واحدة يشذُّ بها الناظم عن هذا المرمى، وهيهات أن يتفق هذا التناسب لغير ناظم واحد.
ثم انظر إلى هكطور فهو حيثما رأيته حامي الذمار، دفَّاع العار، عزومًا حزومًا مقدامًا عن غير طيش، ورِعًا عن صدق عقيدة ذا ذكاء ونيرة يتمسك من دينه بما لصق بمعبوداته، وينبذ ما دون ذلك من خرافات القوم. يعلم أنه عماد قومه فيسير سير الزعيم الهمَّام، ويحسن الذود والكر والإبلاء، ولا يفتأ على المثال الذي صوره به الشاعر حتى يذهب شهيد الدفاع، ويموت ميتةً يُحسد عليها.
-
فأغاممنون الأمير الخطير والقائد الكبير.
-
وآنياس البطل الورع والحليف الباسل.
-
وإياس رب بأس فعَّال غير قوَّال.
-
وذيوميذ الفتى المقحام يهون له نزق الشباب ركوب الأهوال.
-
ونسطور الشيخ الحكيم حنَّكته صروف الأيام.
-
وأوذيس الداهية الدهماء والبلية الصماء.
-
وفطرقل الفتى الكريم والخل الحميم.
-
وفريام الملك الصبور والهرم الوقور.
-
وفاريس العاشق المتأنق.
-
وأنذروماخ الزوجة الأمينة.
-
وإيقاب الأم الحنون.
-
وهيلانة الفتاة الغالب هواها على قواها الشاعرة بسوء المصير.
-
فاغينور في النشيد الرابع هو نفسه ذلك المحراب في النشيد الحادي والعشرين.
-
وأنطيلوخ في النشيد الرابع هو نفسه ذلك الشاب العزوم المتسرع في النشيد الثالث والعشرين.
وقل مثل ذلك في ماخاوون وطبه، وهيلينوس وعرافته، وفينكس وصداقته، ومريون وأمانته، وهلمَّ جرَّا. وقد تأتي على تلاوة اسمٍ ذكر بطريق العرض، فلا ترى له شأنًا خاصًّا، ثم إذا أُعيد ذكره بعد مئات أو آلاف من الأبيات رأيته على صفته لم يتغير بشيء عما ذكر به للمرة الأولى، وقد لا يَرِد ذكره سوى مرتين أو ثلاث. مثال ذلك أذميت وأفرميذون، وأفروطسيلاس، وأفغياس، وأقطور، وأقلونُّيس، وأكماس، والقميذ وأمفيماخُس، وثرسيلوخ، وثواس، وأمثالهم كثيرون.
الأعلام الجغرافية
-
فارسية لاصقٌ ذكرها بنهر سليس، وزعيم جندها أسيُّس بن هرطاقس في النشيد الثاني، وفي الألف الأولى من أبيات الإلياذة وهي هي ونهرها وزعيمها بعد أربعة آلاف بيت في النشيد الثاني عشر.
-
وبفراسا هي البلدة الكثيرة الأنعام، وهي موصوفة بذلك في النشيد الحادي عشر في منتصف الكتاب، ويتكرر ذكرها بنفس الوصف في النشيد الثالث والعشرين أي: بعد نحو من خمسة آلاف بيت عربي أو ثمانية آلاف شعر يوناني.
-
وتينيذس البلدة المقدسة الموالية لآفلون، وهي كذلك في غير موضع.
وإن المجال ليضيق عن أمثلة ما تقدم، فإنها تفوق الحصر، وقد توخينا في الأمثلة الثلاثة السالفة الذكر بلادًا قليلة الشهرة، فإذا كانت وحدة المرمى فيها هذه فما بالك بالمدن الشهيرة كإليون.
وقل مثل ذلك في البحار والأنهار كالأوقيانس، وزنثُس، والإسكندر، وكل ما في الإلياذة من يبس وماء.
وإذا أردت إجمالًا سهلًا لهذا التفصيل، فخذ القسم الجغرافي في النشيد الثاني، واقتطع منه أية مملكة شئت من ممالكهم وأسماء زعمائها، ثم تصفَّح المعجم، فإذا رأيت تلك الأسماء قد تكرر ذكر شيء منها فإنما يتكرر بما لا يشذ عما مرَّ أمامك هذا إذا لم ينطبق عليه كل الانطباق، ولو فصلت بين الموقعين الأناشيد الطوال.
ارتباط أجزائها
ثم إذا تأمَّلت تماسك أجزاء الإلياذة وارتباطها بعضها ببعض رأيت أن ناظم النشيد الأول إنما هو ناظم النشيد الأخير، فكأنما هي مرقاة يصعد بك صاحبها درجةً بعد أخرى حتى تستقرَّ في آخرها وأنت متبين كل ما وراءك، فإذا بدأت بخصام آخيل وأغاممنون تطلعت إلى ما وراء ذلك الخصام، فيبسطه لك الشاعر بسطًا يزيد إيضاحًا كلما خطوت خطوة. فهناك جدال وخشية قتال، وحنقٌ واعتزال، ووساطة رجال، وينتهي الأمر بما ترتاح إليه نفسك شأن القصَّاص الذي يروي لك خبرًا واحدًا بنَفَسٍ واحد.
وإذ أمعنت في تواد آخيل وفطرقل بدا لك من خلال الفصول الكبار صديقان حميمان يتوادان؛ فيترافقان، فيغضب أحدهما لغضب الآخر فيتواليان في السراء والضراء، وإذا مات أحدهما فلا تنقضي أحزان الآخر حتى انقضاء حياته، وكل ذلك بحديث طويل تتخلله أحاديث أطول تكاد تشطُّ بقائلٍ واحد عن تلك الخطة المرسومة، فما الظن لو تعدد القائلون.
وقس على ذلك جميع حوادث الإلياذة.
وإذا رجعت بعد هذا إلى أعظم مظنَّةٍ لاعتراض المعترضين وهي إلصاق النشيدين الأخيرين بالإلياذة رأيت أنهم إنما أتوا بأوهن الحجج كما أثبتنا مسهبين في مقدمة النشيد الثالث والعشرين فلا نسوق البحث هنا إلا في ما لم يسبق لنا ذكره في ذلك الموضع.
خذ الألعاب في ذلك النشيد وانظر إلى أرباب كل ضربٍ من ضروبها ترَ أنها لم تُلصق بالإلياذة إلا لكونها جزءًا طبيعيًّا منها، وإن المتبارزين فيها لم يكن يصح سواهم لوقوف كلٍّ منهم موقفه.
ففرسان السباق أفميل وهو الذي قيل في خيله في النشيد الثاني:
وذيوميذوله مطهَّما آنياس، وقال عنهما الشاعر في النشيد الخامس:
وألحق نسبتهما هناك بجياد زفس أبي الآلهة. ثم لما أبرز الشاعر ذيوميذ في حلبة السباق أعاد تلك الذكرى.
ومنيلاوس وهو زوج هيلانة وأخو أغاممنون والمتسبب بحرب طروادة.
وأنطيلوخس بن نسطور الفتى الباسل صديق أخيل.
ومربون الحوذي الماهر. وهم جميعًا أجدر الفرسان بخوض ذلك الميدان.
وإنَّ ما قيل في السباق يمكن إطلاقه على النضال والطعان والحضر والصراع وغيرها.
فلسفتها وآدابها
وإذا أمعنت النظر في فلسفة الشاعر وخلائقه وآدابه رأيت أنه رمى فيها كلها إلى أمور خاصة برجل واحد، فهو وإن جارى أبناء زمانه في كثير من عاداتهم ومعتقداتهم فقد خالفهم في أمور أخرى لسلامة في ضميره ونظر بعيد في ترقيتهم، وهو حيثما جاراهم فلا ينحرف في مجاراته، وحيثما خالفهم فقد راعى ما انطبع عليه من آداب النفس التي جعلته أرقى أهل زمانه، فعصره عصر فسق وفجور وقد شجبهما حتى في نفس الآلهة وزمنه زمن بطش بالأسرى وقد طعن بقتلتهم وحسبك في هذا الباب أن تتصفح المواضع التي أفاض بها بمدح المرأة، وأتى على إطراء صفات الأمهات والزوجات والبنات والأخوات حتى السبيَّات في قرن كانت المرأة فيه من جملة المتاع وسلعة تشرى وتباع.
وهناك أدلَّة كثيرة أفاض بها الشراح بالنظر إلى التاريخ واللغة مما يضيق دونها المقام.
سبب الريب
ولا بد لنا في ختام هذا الفصل من كلمة بشأن منشأ الارتياب في آراء كثيرين من الكتبة والمؤرخين.
الإلياذة ومعارف عصرها
إذا قال الشعراء: «ما أحرى هوميروس أن يكون أمير الشعراء» قال العلماء: «وما أحرانا أن نتخذ ديوانه خزانةً نضد فيها معارف عصره من علمٍ وأدبٍ وصناعةٍ وتاريخٍ، فقد صرف الأدباءُ نظرهم عن جميع من تقدم من شعراء أمته، ولقَّبوه أبا الشعر، واتخذ العلماء والمؤرخون أقواله حجةً يرجعون إليها في استقصاء علوم القدماء».
وليس في الإمكان بسط الكلام على جميع ما أفاضوا به في هذا الباب، وإنما نلُّم به إلمامًا موجزًا مع إيراد أمثلة يسيرة نظنها وافية بالمرام. ونترك البحث في الشعر وأدبه إلى ما يلي من الفصول.
الإلياذة والتاريخ
لا شك أن هوميروس استقى من موارد طمسَ الزمانُ ذكرَها، فنقل ولا نعلم عمن نقل، ودوَّن حوادث كثيرة مما أثبتها الأثر وما لم يثبتها، ولكن ثبوت البعض يرجح في الظن ثبوت الكثير مما بقي، وقد أشرنا في الشرح إلى نبذٍ من الحوادث التاريخية التي لم يذكرها المؤرخون، فهو بهذا الاعتبار أول المؤرخين في قومه، وإن هيرودوتس الملقب بأبي التاريخ يستمد من معارفه، ويستشهد بقوله كلما أُغلق عليه أمرٌ واضطُر إلى إثبات حجة. وإذا رجعت إلى مؤلفات جميع المؤرخين من اليونان والرومان والإفرنج رأيتها مرصَّعة ترصيعًا بالشواهد الهوميرية مما يثبت لك علو مكانته في التاريخ.
الإلياذة والجغرافية
الإلياذة وسائر العلوم
أفردت في معجم الإلياذة بابًا لكل من العلوم التي طرق هوميروس أبوابها وألحقته بهذا الكتاب، وعيَّنت فيه الصفحات التي ورد فيها ذكر العلم المراد إرشادًا للمطالع.
وسترى منه أن الإلياذة أشبه بدائرة معارف جمعت بين سطورها جميع علوم العصر.
الطب
فإذا أخذت الطب مثلًا رأيت هوميروس أَلمَّ بجميع علومه من جراحة، وتشريح وفسيولوجيا، وبحث في النبات والعقاقير والصيدلة والعلاج، ووصف الأمراض والأوبئة.
الفلك
وإذا طلبت الفلك وعلم الهيئة ذكر لك كل ما بلغه منهما علم زمانه، فوصف السماء والأبراج وتطرق إلى التنجيم، فبحث في تأثير طوالع النجوم، وذكر الظواهر الجوية وفعلها في الأحياء.
الحرب
وإذا تطلعت إلى الحرب والفنون والعسكرية أفاض لك بتفصيلها إفاضةً تُدهَش لها، ففصَّل لك مواقف الجيوش وحركاتها بهجومها ودفاعها، وزحفها وتعبئتها، وأبان لك أسباب الظفر ووجوه الاندحار، ووصف أركان الحرب والتمرين العسكري، والحرس والكمين والمبارزات، وبحث في الأسرى، والأسلاب، والبدل العسكري، والتتريس والجواسيس، وديوان القضاء في المعسكر، والعيون، والأرصاد والطلائع، وبيَّن أحوال الحصار وإقامة الحصون وحفر الخنادق، ولم يغفل عن ذكر الخيم والمضارب، وأرزاق الجند وأطماعه. ولم يغادر شاردة إلا قيَّدها حتى الراية والنيران، والرقص الحربي والألعاب العسكرية.
ثم فصَّل لك أنواع القتال وأصناف الأسلحة والدروع، فوصف الشكَّة والخوَذ، والمغافر، والتروس والرماح والسيوف حتى الفؤُوس والمخاذف والحجارة.
السياسة والحكومة
وإذا تطرقت إلى السياسة بحث لك في الحكومة والملوك، وسلطتهم وما يعرض لهم وعليهم، وموقفهم تجاه الرعية وبالعكس، وحذَّر من الفوضى. وذكر خدع السياسيين وحيلهم. وأشار إلى الشرائع والمجالس والخراج والإقطاعات، وأحاط بأحوال الوفود والسفراء والتحالف، والتعاهد، والخطابة في الرعية.
الدين
وإذا رغبت في الوقوف على دين القوم أسهب لك بذكر معبوداتهم، ونسبتهم إلى العباد ونسبة الخلق إليهم، ووصفهم فردًا فردًا بين ذكرٍ وأنثى وأوضح صفة كلٍّ منهم بنفسه، وبالنسبة إلى زملائه، وهيَّأ لك مزاياهم كبارًا وصغارًا، وقسمهم إلى طبقات ودرجات مع بيان منزلة كل طبقة على حدة، وأتى على ذكر العبادات والصلوات والضحايا والأدعية. ووصف الروح ومصيرها، وبحث في عالم الأرواح، وسائر ما يتطلع إليه الراغب في الوقوف على أحوال العبادة في ذلك الزمان.
الفنون وسائر الأعمال
وقل مثل ذلك في الفنون الجميلة من نقش وغناء، وموسيقى وتصوير، وكل منقول ومعقول من معارف الإنسان وأعماله كالحراثة والزراعة، والتجارة والمعاملات حتى العرافة، والعيافة، والكهانة، وتفسير الأحلام.
الإلياذة والصنائع
وكأن هوميروس عني عناية خاصة بصناعات زمانه، فأسهب بوصف الكثير منها إسهابًا تخال إذا قرأته أنه كان ينتمي إلى كل فريقٍ من الصنَّاع.
فبينا تراه وشَّار سفن إذا به صانع مركبات، وبينا هو نجَّار حاذق إذا به بنَّاءٌ ماهر ومهندس، ثم تخاله صيقلًا، وحدَّادًا، وحفَّارًا، ونقَّاشًا، وخرَّاطًا، وصبَّاغًا وصائغًا، وليس هو بأعمال النساء أقل إلمامًا منها بأشغال الرجال، وحسبك من هذا تطريزه وغزله، ونسجه وحياكته.
سبب حياتها وخلودها
لم يكن هوميروس أول من نظم الملاحم أو منظومات الشعر القصصي، ولا مبتدعًا لطرق إنشادها، وأساليب ترصيعها بشواهد العلم والتاريخ، فتلك سليقةٌ ألِفتها أمتَّه، وأكثر الأمم في غوامض أيام البداوة والجاهلية، وقد حسبوا لمن تقدم من شعراء اليونان سبعين منظومة كملحَمَتيه منهما إلياذتان الكبرى والصغرى، وأوذيسية واحدة، وقد بادت جميع تلك المنظومات، ولم يقوَ على مكافحة الزمان سوى تينك المنظومتين، فقد بقيتا كلؤْلؤَتين برَّاقتين في قلادة الأدب، وكسفتا بأشعتهما سائر ما بقي من نظائرهما، وخلَّدتا لليونان مجدًا لا يمحوه تقادم العصور، وكرور الدهور.
ولم يشع شيوعهما بين البشر شيءٌ من المنظوم والمنثور إلا كتب الدين، ولا تزالان كما كانتا منذ ثلاثة آلاف عام في المقام الأول بين نتاج القرائح.
وليس ما تقدَّم من إبداعهما خلاصة العلم والسياسة وتوابعهما من أسباب ذلك البقاء في شيء فإن طلاب العلم، ولا سيما في العصور الغابرة فئةٌ ضعيفة تطلب العلم من أبواب أخرى تتلقنها من كتب وضعت لها، والعلم كل يوم في شأن يتقلب ويتغير، وينحط ويرتقي، فما صلح منه في الأمس لا يصلح في الغد، وما كان منه في اليوم صوابًا ساطعًا أصبح بعده خطأ فادحًا، فلا بد من أن تكون ثمَّة أسبابٌ ثابتة مغرسها في النفس، ومنبتها في القلب لا تتغير بتغير زمان، ولا تتأثر بترقٍّ وحضارةٍ.
فإن هوميروس إنما نقر على أوتار الأفئدة فأثارها، ونفخ في بوق الأرواح فأطارها، ومزج الحقيقة بالخيال مزجًا يخيل لك أنهما تآلفا فتحالفا، وسبر أعماق النفس في سذاجتها، وتحرَّى الفطرة في بساطتها، وهاج العواطف والشعائر، وتكلم بجلاء لا تشوبه مسحة التكلف، فأسهب موضع الإسهاب، وأوجز موضع الإيجاز، ومثَّل تمثيلًا ناطقًا، وفصَّل تفصيلًا صادقًا عن عقيدةٍ وإخلاص.
وإذا أضفنا إلى ذلك بلاغة الشعر، وتناسق النظم، ودقة السبك، ورقة المعنى، والسهولة والانسجام ذهبت عنك غرابة ذلك الخلود.
انتشارها ونقلها من اليونانية إلى سائر اللغات
اللاتينية
كان انتشار الإلياذة بين اليونان كانتشار نور الشمس عند بزوغها، فما كان يبرق منها بارق من فم الشاعر حتى يتهافت عليه كل رفيع ووضيع، ثم ما لبث أن تطرق هذا التهافت إلى الرومان، فنقلوها إلى لغتهم وترنموا بإنشادها، وشد شعراؤهم على التقاط دررها، وتحدي معانيها حتى أقاموا على تلك المعاني دعائم منظوماتهم الكبرى وفي مقدمتهم فرجيليوس كبير شعراء اللاتين.
الهندية والفارسية
السريانية
ولم تكن سائر الأمم أقل شغفًا بها، فعلق بها السريان كغيرهم، ونقلها ثاوفيلس الرهاوي إلى لغته شعرًا.
لغات الإفرنج
ولا تسل عما كان من علوق الإفرنج بها، فقد نقلت مرارًا شعرًا ونثرًا إلى كل لغة من لغاتهم حتى صارت أشهر كتاب عندهم جميعًا، وطبعت كل ترجمة منها مرارًا عديدة.
إغفال العرب نقلها إلى لغتهم
كان العرب من أحرص الملل على علوم الأدب، وأحفظهم للشعر، وأشغفهم بالنظم، ومع هذا فلقد يأخذك العجب لبقاء الإلياذة محجوبةً عنهم وهي منتشرة هذا الانتشار بين قبائل الأرض، ومنظومة بلغة ساميَّة كلغتهم يتناشدها الأدباء المقيمون بين ظهرانيهم في مقر الخلافة العبَّاسية.
وإن لذلك أسبابًا إذا تبينَّاها زال العجب لإغفالها في ما سلف مع وضوح الحاجة الماسَّة إلى تعريبها في هذا العصر، وإن مرجع تلك الأسباب إلى ثلاثة: الدين، وإغلاق فهم اليونانية على العرب، وعجز النقلة عن نظم الشعر العربي.
الإلياذة والنصرانية
اشرنا فيما مرَّ إلى إقبال أمم أوروبا على الشعر الهوميري، وقلنا: «لم يتخلل إقبالهنَّ فتورٌ إلا عقود أعوام معدودات في بَدء النصرانية». فإذا خذل المسيحيون هوميروس وهو معروف عندهم، ونبذوا شعرهُ وهو متلوٌّ في مجالسهم، فما أحرى المسلمين في أوائل الإسلام أن يطَّرحوه ولا أثر له في أذهانهم، ويعرضوا عن أقواله وهم لا يعرفون منها شيئًا.
كان هوميروس في ذروة مجده في الممالك الرومانية عند انتشار الدين المسيحي، فكان لا بد من تقويض أركان الوثنية، وهي ممثَّلة أصدق تمثيل في الشعر الهوميري، فبات إغفال ذلك الشعر ضربة لازب لحداثة عهد المسيحيين بدينهم ولزوم أخذهم به موردًا صافيًا لا تشوبه أساطير السلف من عبدة الأوثان، ولكن بعض الدُّعاة غالوا في اتخاذ الطرق المؤَدِّية إلى تلك الغاية؛ فاتَّهموا هوميروس بابتداع البدع وتحريف آي التوراة؛ ليصوغ منها ما وافق مذاهب قومه من القصص المستنبطة منها كعصيان الطيطان وطردهم من الجنة، وتلبُّس فرسيُّس بصورة موسى أول أمره، ومماثلة بليروفون ليوسف الصديق، وأمثال ذلك مما أشرنا إليه في الشرح، ولهذا كانوا ينادون بتحريمها خشيةً من أن تفسد عقيدة الناشئة المتنصرة، وكان من لوازم قولهم أن هوميروس لم يكن الناقل لخرافات الأولين بل الواضع لها المنادي بها.
وما رسخت قدم النصرانية في البلاد حتى أفرجوا عن هوميروس وإلياذته وسائر منظوماته، فانطلقت تلك الخرائد من عقالها، وبرزت بحللٍ قشيبة فعادت إلى اختلاب الألباب في مجالس الآداب.
الإلياذة والإسلام
وإنَّ ما قيل عن النصرانية في نشؤها يصدق على الإسلام في قرونه الأولى، إذ لا ريب أن أئمة الأمَّة لو فرضنا وقوفهم ذلك الحين على محتويات الإلياذة لما ارتاحوا إلى بثها بين العامة؛ لئلا تكون من مفسدات الإيمان.
وزد على ذلك أن العرب لم يكادوا يخرجون من مهامه البداوة حتى ملكوا الأمصار، وانتشروا في سائر الأقطار، وأسسوا الممالك الكبار، وما استقر الملك للأمويين في الشام حتى بدت لهم الحاجة إلى استخراج كتب العلم، وما توطدت دعائم الدولة العباسية في العراق حتى نظَّم الخلفاءُ مجالس النقَلة؛ لتعريب علوم المتقدمين من الفرس والهنود واليونان، فلاح لهم أنهم أحوج إلى العلوم منها إلى الشعر والأدب، وكانت حاجتهم الكبرى إلى علم الطب، ثم إلى علم الكلام للمناضلة عن الدين؛ فعمدوا إلى تعريب طب أبقراط وجالينوس، وفلسفة أرسطوطاليس ونظائرهما، وأغفلوا الإلياذة وجميع ما يجري مجراها من كتب الشعر والأدب.
ثم إنه ليس في لغات الأرض لغةٌ يربو شعرها على الشعر العربي، ويزيد شعراؤُها عددًا على شعراء العرب وهم جميعًا مخلصو الاعتقاد في شعرهم، وَرِعين في تعبُّده، فلا يخالون في الإمكان وجود شعرٍ أعجمي يجاري قصائدهم بلاغةً وانسجامًا، ودقةً وإحكامًا.
فهذا أيضًا كان من دواعي تقاعدهم عن الإقبال على شعر الأعاجم اكتفاءً بما لديهم من درر ذلك البحر الزاخر.
على أنني أعتقد أنه لو طال زمن عظمة الدولة العباسية أو لو تأخر زمن تَبَوء المأمون أريكة الخلافة جيلين لكانت بعض مقاطيع الإلياذة تتلى الآن في أندية الأدب، ولا يطعن بهذا القول قيام دولة الأندلس بعد حين، واشتغالها في الأدب، فإن الأمويين الأندلسيين تفننوا بآداب العرب، ورقوا درجاتٍ في مرقاة الشعر، ولكنهم لم يضاهوا العباسيين في بغداد بشيء من إقبالهم على التقاط فلسفة الأعاجم وتعريب كتبهم.
وبعد هاتين الدولتين لم تقم للعرب دولةٌ حريصة نظيرهما على اختزان العلوم من مخابئها، وادخار الآداب من مناشئها، فإن كلًّا من دولة الفاطميين بمصر، ودول المغرب كانت، منصرفة إلى مشاغل أخرى فضلًا عن قلة النقلة في أزمانها من المتضلّعين في لغات الأعاجم فوق لغتهم.
نقلَة العرب
- أولًا: أن معربي الخلفاء كابن الخصي، وابن حُنَين، وآل بختيشوع لم يكونوا عربًا، وإن تفقهوا بالعربية على أساتذتها، فلم يكن يسهل عليهم نظم الشعر العربي، وهم إنما كانوا بنظر العرب علماء أكثر منهم أدباء، وإن كانوا حريصين على آداب لغاتهم حتى حلَّوا جِيد السريانية بقلادة الإلياذة منظومةً شعرًا كانوا يترنمون به في مجالسهم، ولا يشذ عن هذه القاعدة إلا قليلون معظمهم من الفرس الذين تفرغوا لآداب العرب، فبرَّزوا فيها كابن المقفع، وهؤلاء أيضًا لم يكونوا في عداد الشعراء.
- وثانيًا: أن شعراء العرب أنفسهم لم يكونوا يحسنون فهم اليونانية، فلم يكن فيهم من يصلح لتلك المهَمَّة.
ثم إنه لا يخفى أن الشعر إذا تُرجم نثرًا ذهب رونقه، وبُهت رواؤُه». والظاهر أن هذا الحكم انطبق على تعريب الشهنامة، فأهملها الناس وإلا فما ذهبت ضياعًا، وبقيت أثرًا بعد عين نقرأُ عنها في كتب التاريخ، وليس في الأدباء من روى لنا منها حديثًا مذكورًا.
وخلاصة القول أنه مهما يكن من الحوائل التي كانت تصد الأدباء عن نقل الإلياذة، وتحول دون إبرازها للعامة فما بقي لتلك الحوائل أثرٌ في زمننا بل صار من لوازم العصر إِلباسُها حلَّةً عربيةً تجاري لغتنا لغات أبناء الحضارة، وخصوصًا أنَّ ما فيها من أساطير دين الوثنية قد باد أثرهُ، فصار من المحتوم أن يبقى خبرهُ عبرةً للمعتبر.
التعريب
حكاية المعرِّب في تعريب الإلياذة
سألني الجمُّ الغفير من أصدقائي الأدباء كيف عرَّبتُ الإلياذة؟ وما حداني إلى تعريبها؟ فكتبت الفصل الآتي، ولعله لا يخلو من فائدة لمن قُضي عليه أن يسير في مثل هذه العقَبة.
كلفت منذ الصغر بمطالعة الشعر القَصصي، ولا سيما ما تعلّق منه بالخياليَّات وعبادات الأقدمين، ولما كانت لغتنا تكاد تكون خلوًا من ذلك الشعر، وفروض الدروس تستنزف الوقت، ولا تبقي معها بقية لقراءة ما شذَّ من مثل ذلك عن معيناتها؛ فتحول دون استقاء المياه من مواردها كنت ألتقط ما سقط عرضًا من أفواه الأساتذة أو ورد شاهدًا في كتب التدريس، فاجتمعت لديَّ نبذ ضمَّنتها بعض قصائد لفَّقتها، ولم أُتم العقد الثاني من أعوام الحياة، ولا يطالبنني المطالع اللبيب بأمثلةٍ من تلك القصائد، فحسبي هزءُ نفسي بي دون هزئه إذ لا أتمالك من الضحك كلما خطر على البال شيءٌ مما علق في الذاكرة، فهنالك يمٌّ مختبطٌ اختلطت فيه آلهة الكلدان بآلهة اليونان والرومان، وأُنزلت معبودات مصر موضع معبودات الهند والصين، واشتبه الذكور بالإناث، والتبست الأعلام الإفرنجية بالأسماء اليونانية على نحوِ ما دوّن الكتبة في كثير من أخبارهم عن أمم القرون الخالية، وهذا ولا بدع شأن كل كاتب تطاول إلى فنٍّ دخله من غير أبوابه.
فلما حكمت نفسي، وأصبحت متصرفًا مطلقًا في استعمال أوقات العطلة أدركت أنني لم أعرف شيئًا مع سابق الظن بسعة الاطلاع، فانتهيت إلى حيث كان يجب أن أبتدئ، فعمدت إلى تلك المنظومات، ولم أكن بعد قرأت شيئًا منها قراءة صحيحة ما خلا «الفردوس الغابر» لمِلْتُن، وقرأُت جميع ما وصلت إليه كلَّ كتاب بلغته إذا كنت من قرائها، وإلا فبترجمته إلى لغةٍ أعرفها.
وكنت كلما قرأت منظومةً من المنظومات القديمة والحديثة زاد إعجابي بالإلياذة؛ لأنها وإن كانت أقدمهنَّ عهدًا، فهي لا تزال أحدثهن رونقًا، وأبهرهنَّ رواءً وأكثرهن جلاءً، وأوسعهن مجالًا، وأبلغهنَّ جميعًا. نسج صفوة الشعراء على منوالها فلم يبلغوا شأْوها، واستقوا من بحرها فملئوا بحارهم، ولم ينقصوها شيئًا.
فقلت: ما أحرى لغتنا العربية أن تحرر مثالا من هذه الدرة اليتيمة، فهي أولى بها ممن تناولها من ملل الحضارة، فليس في شعر الإفرنج ولغاتهم ما يوفر لها أسباب البروز بحلةٍ أجمل مما تهيئه معدَّات لغتنا، فالشعر اليوناني بلغةٍ قريبةٍ إلى الفطرة كلغتنا، والبحث في جاهلية قوم كجاهليتنا، وليس في شعراء ملَّةٍ من الملل من انطبقت معانيهم على معاني الإلياذة بالحكمة والوصف الشعري كالمتقدمين من شعرائنا.
فناجتني النفس بتعريبها مع علمي بخطورة الموقف، ووعورة المسلك وطول الشقة، وقلت: تِلك مَلهاة تقضي بها أوقات الفراغ، فإذا فتح الله وفسح في الأجل زففتها إلى القراء، وإلا فلا أقلَّ من أن أروّض نفسي بها وهي خير ما تروَّض به النفوس، وعزمت منذ نظمت أول بيت منها على أن لا أغادرها حتى آتي على آخرها.
تعريب الأصل
فخططت لنفسي خطَّةً، وقلت: لأنظمنَّ منها أمثلةً من حيث اتفق لي وأعرضها على الأدباء، فأتنسم ما يكون من وقعها في النفوس، وأتبين مواطن الخلل، فخيرٌ لي أن أتبينها قبل التوغل في العمل، فتوكلت على الله وعمدت إلى ترجمةٍ فرنسية منها كانت بين يديَّ، وألقيتها إلى جانب ترجمة إنكليزية، وأخرى إيطالية، وفتحت الكتاب الفرنسي من ثلثِهِ الأول، فإذا بأخيل وأغاممنون يتخاصمان، وأخيل ينهال على أغاممنون بالسباب والشتيمة، فنظمت الأبيات التي مطلعها:
فعربتها على الطريقة المألوفة في النظم، وكانت أول ما نظمت من الإلياذة. وذلك في أخريات سنة ١٨٨٧ بمصر القاهرة. ثم فتحت الكتاب من ثلثه الثاني، فإذا بي في معتركٍ عنيف في أول النشيد الخامس عشر فنظمت القصيدة التي مطلعها:
فكانت قصيدةً طويلة توثَّقت بها من اتساع اللغة للمعاني والقوافي، ونهجت فيها نهجًا جديدًا مما كنت أعددته في ذهني وستراه مفصلا في باب «النظم في التعريب».
ثم فتحت الكتاب من ثلثه الأخير، فإذا بي في الصفحة الثالثة من النشيد الثالث والعشرين، فرجعت إلى أوله، ونظمت منه نحو مئة بيت رجزًا مصرَّعًا ومقفَّى على أُسلوبٍ استحسنته وحسبته وافيًا بمرامي لتعريب كل النشيد على سياقه.
فحملت جميع ما تجمَّع لديَّ من القصائد الثلاث بمسودَّاتها، وجعلت أعرضها على من زارني وزرته من الأدباء والشعراء ممن أَلِف الشعر العصري، ومن نشأَ على انتهاج الشعر القديم، فاستحسنوا وجاملوا، فزدت بمجاملتهم نشاطًا، وأنست من بعضهم ريبةٌ وخشية عليَّ من الملل والقنوط؛ لوفرة ما يتبع هذا العمل الشاق من العناء الفادح، وكثرة ما يستلزم من النفقات لو مُثّل بالطبع، وليس قراء العربية وطلّاب أمثال هذا الكتاب ممن ينشط على المجازفة بمثل تلك النفقات، وشق النفس، وضياع الأوقات: على أن ذلك كان أقل ما تجزع له نفسي إذ أقدمت وليس بي جشع للربح من وراء هذا العمل بل أنا راضٍ بالخسارة لو حصلت ليس ذلك ترفعًا عن الكسب، ولكن لغرامٍ في النفس تستسهل الصعب في سبيله.
فقلت: لقد حان إذن أوان الشروع، فرجعت إلى أول نشيد وأخذت في النقل تباعًا حتى أكملته، ونظمت نصف النشيد الثاني، وكنت أثناء النظم أقابل الترجمات بعضًا ببعض، فأرى فرقًا يصعب عليَّ معه تبيُّن الرجحان لنسخة دون أخرى، فأوقفت النظم، وقلت: لا بد إذن من الرجوع إلى الأصل اليوناني إذ لا يصلح النقل من غير أصله.
وكانت معرفتي باليونانية قاصرةً إذ ذاك لا تكاد تتجاوز القراءة البسيطة، وبعض أصولٍ ومفردات لا تشفي غليلًا، فأخذت أبحث عن أستاذ يروي غلَّتي، فأرشدت إلى عالمٍ من الآباء اليسوعيين، وأبلغت أنه متضلعٌ باليونانية تضلُّعه بالفرنسية، وكنت أعلم أن الآباء اليسوعيين لا يسعهم التفرغ لإلقاء دروس خاصة خارج مدارسهم، فكان لا بد إذن من رضاء الأستاذ وأذن الرئيس، فوفقني الله إلى الحصول على الأمرين، فشكرت لهما هذه المنة، وجعل أستاذي يلقنني أصول اللغة، ويفسر لي فصولا من الإلياذة، وأنا مُكب على الدرس متفرغ للاستفادة، وبعد أن قضيت معه أشهرًا، وعلمت منه أنه يسعني أن أستتم الدرس وحدي، وأن أتناول تعريب الإلياذة من أصلها مع الاستعانة بكتب اللغة وتفاسيرها، فارقته شاكرًا ولبثت مدةً أجهد النفس بالمطالعة ثم استأنفت التعريب.
وكان بنفسي شيءٌ مما عرَّبته من النشيد الأول والثاني، فرجعت إلى إمعان النظر فيه ومقابلته على أصله، فرأيت خللا ألجأني إلى التنقيح والتصحيح، فكنت لا أحجم عن تغيير البيت والبيتين، وربما أعدت نظم مقاطيع برمتها، ولم يقع لي شيءٌ من هذه الإعادة في سائر الأناشيد إلا أن يكون في استبدال فقرةٍ أو شطر بغيرهما أو تغيير قافية بأخرى مما يقع لكل ناظم، وفي ما سوى ذلك كنت أجهد النفس بإحكام البيت على قدر الاستطاعة قبل كتابته.
ولم أكد أستقر في مصر حتى حدا بي حادي الأسفار التي ألفتها منذ الصبا فبرحت القاهرة سنة ١٨٨٨ وفي النفس شغفٌ بها وحنينٌ إليها، فانتهى بي التَّطواف إلى العراق بعد أن طرقت الهند، وأطراف العجم، فأقمت فيها زهاء سنتين اضطررت إلى طي الإلياذة في معظمهما، ولم يتسنَّ لي العود إليها إلا بضعة أسابيع، على أنني لم أجتمع بأديب منها إلا عرضت عليه شيئًا من منظومها وأدباءُ العراق مولعون بسماع الشعر.
ثم شخصت إلى الآستانة، واتخذتها مقامًا طيبًا لبثت فيه سبع سنوات كنت كثير التنقل في أثنائها بين الشرق والغرب، فيومٌ بسوريا، وسنة بأوروبا وأمريكا، والمرجع إلى الآستانة. وكانت الإلياذة رفيقي حيثما توجهت أختلس الأوقات خلسةً فلا تفرغ اليد من عمل إلا عدت إليها، ولطالما مرت الأسابيع والأشهر، وهي طي الحجاب ثم هببت بها من رقدتها وعاودت العمل، وكثيرًا ما حصل ذلك في رؤوس الجبال، وعلى متون البواخر وقطارات سكك الحديد، فهي بهذا المعنى وليدة أربع أقطار العالم.
وكنت حيث حللت أتوخى الاستفادة من أهل ذلك المحل، ولا سيما في الآستانة حيث هيأ لي حسن التوفيق أن اتصلت ببعض أدباء اليونان عشَّاق هوميروس وإلياذته كاستافريذس ترجمان السفارة الإنجليزية، وكاروليذس أحد أساتذة كلية خلكي اليونانية بالآستانة، وبعضهم من قراء العربية، فكنت أشاورهم في بعض ما التبس وأُغلق، وهم لا يضنُّون وأقرأُ لهم أجزاءً من المنظوم العربي فتعروهم هزة الطرب مستبشرين بتعريب أعظم منظومة لأعظم شعرائهم.
وهكذا ظللت بين وقوف ومسير إلى أول صيف سنة ١٨٩٥ فخرجت بعائلتي إلى مصيف فنار باغجه في ضواحي الآستانة، وظللت فيها أربعة أشهر فرغت في نهايتها من عناء التعريب.
كتابة الشرح
على أنني منذ شروعي في النظم كنت أطمح إلى ما وراء ذلك إذ لو عرضت الإلياذة على قراء العربية عاريةً من الشروح لما خالوها إلا هيكلا شعريًّا لا تربو فائدته على شيء مما بين أيديهم من الدواوين وما أكثرها في لغتنا.
فرأيت أن أعلق عليها شرحًا أنتهج فيه أسلوبًا جديدًا لم ينتهجه أحد من الشراح بغية أن يأنس القارئ العربي بالرجوع في نظره إلى أخلاق أمته في جاهليتها، وبعض حضارتها والمشهور من أساطيرها وعباداتها، والمأثور من آدابها وعاداتها ومناهج شعرائها وأدبائها، ومواقف ملوكها وأمرائها وساستها وزعمائها، والإعجاب باتساع لغته في الوضع لكل معنى من المعاني الفطرية مع عجزها في الحال عن تأدية بعض الأوضاع العصرية، وجميع ما يتناول وصف حالة العرب ولغتهم وحالتهم الاجتماعية. كل ذلك بالمقارنة والمقابلة مع ما كان من نظيره في الأمم الغابرة، ولا سيما في أمم اليونان، ويرتاح المطالع الإفرنجي من قراء لغتنا إلى الولوج في باب لا أظن أحدًا ولجه من قبل، فيبحث وينقب، ويسترشد فيرشد على ما جرى عليه في سائر الشؤُون، ونحن عن معظم ذلك غافلون.
ولهذا لم يكن لي بدٌّ من مطالعة الأسفار الطوال والمجلدات الضخمة من كتب العرب والأعاجم في الأدب والشعر والتاريخ، وإذا ألقيت نظرك على باب الشواهد في العجم في ذيل الكتاب ورأيت أنني اضطررت إلى الاستشهاد بمئتي شاعر عربي بين جاهلي، ومخضرم، ومولَّد فضلا عما نقلته من شعر الأعاجم عذرتني على ما أضعت من الوقت في شرح الكتاب إذ ربما قرأت ديوان الشاعر كله طمعًا ببيت واحد: ولو جمعت الزمن الذي صرفته في النظم لما زاد عن نصف مثله مما صرفته في تدوين الشرح.
وفي أوليات سنة ١٨٩٦ دعاني داعٍ حثيث إلى القاهرة، والنفس تشتاقها فانتهزتها فرصةً، وانتقلت بعائلتي إليها ولكن أمورًا هامَّة حالت دون تمثيل الكتاب بالطبع أخصها اشتغالي بعمل شاقٍ آخر هو «دائرة المعارف». ولكنني كنت اختلس أويقاتٍ يسيرة أرتب الشرح في أثنائها حتى انتهيت منه عام ١٩٠٢ فباشرت الطبع.
ولست بمعتذرٍ لأبناء وطني عن انقضاء كل هذا الزمن قبل إنجاز العمل الأخير، فقد أَلفنا التأَني والمطل، وإن الواحد منا ليشرع في طبع مئتي صفحة فتمر الأعوام ولا يتمُّها. على أن ابن الغرب تعتريه الدهشة لمثل هذا التراخي، وهو في بلاده لا يكاد يسمع بتأليف كتاب حتى يراه مطبوعًا تتداوله الأيدي، فلمثل هذا اللائم أقول: «إن الحالة عندنا على خلاف ما تعهد، فليس في بلادنا شركات تأخذ على نفسها طبع الكتب على نفقتها فتعد المال والرجال، بل لا بد عندنا وإن توفرت النفقات أن يتولى المؤلف في مثل هذه الأحوال طبع كتابه بنفسه، وإن استعان بصديق أو غيره على مراجعة مسودَّة فلا يغنيه ذلك عن أن يكون هو المصحح المنقح، وإذا زدت على هذا أن دواعي صحة الجسم تلجئني كل سنة إلى إيقاف العمل بضعة أشهر إذ أضطرُّ أن أبرح مصر إلى لبنان أو غيرها من بلاد الله اتَّضح أني أسرعت في طبع الإلياذة مع إبطائي في إعدادها».
المعجم والمقدمة
وفي منصرم ربيع السنة الماضية (١٩٠٣) كان الفراغ من طبع الإلياذة وشرحها، فحملت الكتاب معي إلى لبنان حيث قضيت الصيف، وانتهزت فرصة الفراغ والراحة لكتابة المعجم، وحالما وصلت القاهرة في آخر الصيف أخذت في إنشاء هذا الفصل وسائر فصول المقدمة: وهكذا فقد كان الفراغ من هذا الكتاب حيث كان الشروع فيه أي في قاهرة مصر، وأراني كما أسلفت لك لم أدَّخر وسعًا في تحبير تعريبه وتنميقه، ولم آل جهدًا في تطبيق شرحه وتنسيقه، فإن أحسنت وفيه منتهى جهدي فذلك من حسنات الاجتهاد، وإلا فحسبي أن أفتحه بابًا يلجه من وفقه الله إلى سبيل السداد.
أصول التعريب
لقد جرى الكثيرون من نقلة لغات الإفرنج إلى العربية على أصول ابتدعوها لأنفسهم، فشطُّوا بأكثرها عن منهج الصواب، فأجروا قلمهم بل هو جرى بهم مطلق العنان يحبر ما يريد دون ما أراد الواضع، فمن متصرفٍ بالمعنى يزيد وينقص على هواه فيفسد النقل ويضيع الأصل، ومن متسرعٍ يضنُّ بدقائق من وقته للتثبت من مراد المؤلف فيلتبس عليه فهم العبارة؛ فينقلها على ما تصورت له لأول وهلة، فتنعكس عليه المعاني على كُرهٍ منه، ومن ماسخٍ يلبس الترجمة ثوبًا يرتضيه لنفسه فيتقلب بالمعاني على ما يطابق بغيته، ويوافق خطته حتى لا يبقى للأصل أثرًا، ومن عاجزٍ يجهد النفس ما استطاع وهو وإن أجهدها ما شاء غير كفوءٍ لخوض هذا العباب.
ثم يقوم هؤلاء الكتَّاب ويسمُّون ما كتبوا تعريبًا، وأولى بهم أن يسمُّوه تضمينًا أو اختصارًا أو معارضةً أو مسخًا.
ولكنهم جميعًا أولى بالعذر والعفو من فئة أخرى يأتي الواحد منها على الكتاب فينقله كله أو بعضه، ثم يعرضه على الناس تأليفًا من نتاج قريحته، وهؤلاء هم السرَقة الدجَّالون.
على أن لدينا والحمد لله رهطًا من ذوي الذمة والعلم يتوخَّون الصدق، ويتحرَّون الضبط والأحكام، ويجيدون الرسم فيأتي مثالا صادقًا، فإذا نقلوا قالوا نقلنا وإذا تصرفوا قالوا لغرضٍ تصرفنا، وإن ضمَّنوا قالوا لأمرٍ ضمَّنَّا، وإن عارضوا قالوا لسببٍ عارضنا، فهؤلاء إذا صحت كفاءتهم هم الذين يجب أن يُصَدَّق خبرهم، ويُقْتَفَى أثرهم.
معرّبو العرب
وإذا رجعنا إلى النَّقلَة الأوائل رأينا أن زمرةً كبيرة منهم كانوا من هذا الفريق الأخير، وهم على تفاوت إجادتهم في تأدية المراد ممن قصد الفائدة الحقَّة وتوخى الصدق والدقة.
«وللترجمة في النقل طريقان: أحدهما طريق يوحنا بن البطريق، وابن الناعمة الحمصي وغيرهما، وهو أن ينظر إلى كل كلمة مفردة من الكلمات اليونانية وما تدل عليه من المعنى، فيأتي الناقل بلفظة مفردة من الكلمات العربية ترادفها في الدلالة على ذلك المعنى فيثبتها وينتقل إلى الأخرى كذلك حتى يأتي على جملة ما يريد تعريبهُ، وهذه الطريقة رديئة لوجهين: أحدهما: أنه لا يوجد في الكلمات العربية كلمات تقابل جميع كلمات اليونانية؛ ولهذا وقع في خلال التعريب كثير من الألفاظ اليونانية على حالها، الثاني: أن خواص التركيب والنسب الإسنادية لا تطابق نظيرها من لغة أخرى دائمًا، وأيضًا يقع الخلل من جهة استعمال المجازات وهي كثيرة في جميع اللغات. الطريق الثاني في التعريب طريق حنين بن إسحاق والجوهري وغيرهما، وهو أن يأتي الجملة فيحصل معناها في ذهنه ويعبر عنها من اللغة الأخرى بجملة تطابقها سواءٌ ساوت الألفاظ أم خالفتها، وهذا الطريق أجود ولهذا لم تحتج كتب حنين بن إسحاق إلى تهذيب إلا في العلوم الرياضية؛ لأنه لم يكن قيمًا بها بخلاف كتب الطب والمنطق والطبيعي والإلهي، فإن الذي عرّبه منها لم يحتج إلى إصلاح.
وإن هذين الطريقين اللذين أشار إليهما الصلاح الصفدي منذ زهاء ستة قرون هما المذهبان المعوَّل عليهما في النقل حتى يومنا، وليس وراءهما مذهب ثالث في التعريب الصحيح؛ أما الطريقة الأولى فهي كما قال رديئة: «إذا أُريد بها استجماع محصل المعاني» وهي أيضًا أنها تذهب بطلاوة التركيب فلا تبقي لها أثرًا، ولا تصلح للكتب التي تتداولها الأيدي من الخاصة والعامة، ولا ترتاح إليها نفس مطالع، وقلما تجد قارئًا يقوى على استتمام صفحة منها، ولكنها مع هذا مفيدة لطالب اللفظ دون المعنى؛ ولهذا جرى عليها بعض كتَّاب الإفرنج في بعض التآليف المراد بها تعليم اللغات، وانتهجوها في نقل كثير من كتب الأدب والشعر كمنظومات هوميروس وفرجيليوس إذا أُريد بها إفادة طلَّاب اليونانية واللاتينية دون طلاب الإلياذة والإنياذة، ويشترط لصحة فائدتها أمران: أولهما: أن يكتب الأصل بلغته ومردفًا في اللغة المنقول إليها، والثاني: أن يكون بإزائها ترجمة أخرى على الطريقة الثانية التي هي طريقة حنين؛ لاستجلاء المعنى، وإلا اختلطت المعاني على المطالع وغاب عنه فهم قوة العبارة؛ لأن الجمل على الطريقة الأولى تأتي مختلة التركيب مقلوبة الوضع، فما يجب تقديمه في لغة يجب تأخيره في أخرى، وما يجب إثباته في الأصل يجب تقديره في النقل وهلمَّ جرًّا، فلا طلاوة ولا إحكام، ولا إعراب، ولا انسجام.
أما الطريقة الثانية فهي التي عوَّل عليها الجمهور لحصول الفائدة فيها من الوجه المطلوب، وهو نقل المعاني ورسمها رسمًا صحيحًا ينطبق على لغة النقل ومشرب قرَّائها، فإذا قرأ المطالع فيها كتابًا معرَّبًا، فإنما هو يقرأُه عربيًّا، ولا يقرأه أعجميًّا كما يحصل في الطريقة الأولى؛ ولهذا يصح أن يقال: «إن طريقتنا إنما هي طريقة حنين بن إسحاق والجوهري».
مسلك المعرّب في تعريب الإلياذة
علمت مما تقدم أن المعرّب تحرَّى الصدق في النقل مع مراعاة قوام اللغة، وعسى أن يكون ممن كُتب لهم التوفيق، وأقول زيادةً للإيضاح أني وطنت النفس على أن لا أزيد شيئًا على المعنى، ولا أنقص منه، ولا أقدّم، ولا أؤخر إلا في ما اقتضاه تركيب اللغة، فكنت أعمد إلى الجملة سواءٌ تناولت بيتًا أو بيتين أو أكثر أو أقل، أسبكها بقالب عربي أجلو رواءه على قدر الاستطاعة، ولا أنتقل إلى ما بعدها حتى يخيَّل لي أني أحكمتها.
ولما كان الشعر العربي يختلف طولًا وقصرًا باختلاف أوزانه كان لا بد من حصول التفاوت في النسبة بين عدد أبيات الأصل، وعددها في النقل، وليس في اليونانية شطرٌ وبيتٌ كالعربية، فكل شطر منها بيتٌ تامٌّ كالرجز في عرف بعض العروضيين، إذ يعتبرون كل شطر منه بيتًا كاملًا، ثم إنه كثيرًا ما يحصل الترابط فيها بين بيتين وأكثر بما لا يجوز إتيان نظيره في العربية؛ ولهذا لم يكن في دائرة الإمكان أن يُنقل البيت اليوناني بيتًا أو شطرًا عربيًّا، إذ كلما كثرت أجزاء بحر الشعر العربي زاد اتساعه لاستيعاب المعاني، فالطويل والبسيط مثلا يستوعب البيت منهما ما لا يتسع له السريع والمنسرح، وهذان تامَّين يستوعبان ما لا يتسع له المجزوءُ من سائر الأبحر، فبهذه النسبة يمكن اعتبار كل بيت من الطويل والبسيط بمثابة زهاء بيتين من الأصل اليوناني، ويقرب منهما الكامل التامُّ، وكل بيتين من الخفيف والسريع، والمنسرح والرجز والمتقارب، والمتدارك والوافر، والرمل واحذَّ الكامل مقابل ثلاثة أبيات من اليونانية، فجاءت الأبيات العربية بين العشرة والأحد عشر ألف بيت نقلًا عن أصلٍ عددهُ بين الستة عشر والسبعة عشر ألف بيت.
وكنت أثناء مطالعتي ترجمات الإفرنج أنكر أمورًا كرهت أن ينكرها غيري عليَّ فاجتنبتها، مثال ذلك: تصرف البعض منهم تصرفًا غريبًا، فيبدلون معنى بآخر ولفظة بغيرها، ولهم في ذلك أعذارٌ تافهة أشرنا إليها في مواضعها، وأغرب من هذا ما يقدمون عليه من الحذف والإضافة، فقد رأيت في بعض المواضع أبياتًا كثيرة قضوا عليها بالحذف، وأبياتًا كثيرة حسَّنت لهم أنفسهم إضافتها حتى إن أحدهم حاك من أربعة أبيات أربعة وثلاثين بيتًا ضمَّنها معاني لم تخطر على بال هوميروس.
المحافظة على الأصل
فكان معظم همي أن لا أحجف مثل هذا الإحجاف، فلم أتصرف بشيءٍ من المعاني، وحافظت على الألفاظ ما أمكن فإن حذفت لفظة فهي إما من مكررات الأصل التي يحسن تكرارها في لغتها، ولا يحسن في لغتنا، وإما من الألفاظ التي يمكن استخراجها من المعنى، وقد يمكن أن تكون من الألقاب والكنى التي يستغنى عن إيرادها كل حين، وإن زدت لفظة فهي؛ إما مما يقتضيه سياق التعبير العربي، وإما قافية لا تزيد المعنى ولا تنقصه، وإن قدمت أو أخَّرت فكل ذلك في فسحة قصيرة يقتضيها السبك العربي، وكان هذا أعظم قيدٍ قيدت به نفسي.
اجتناب الوحشي والحوشي
ثم إني اجتنبت ما أمكن حوشيَّ الكلام ووحشيَّه؛ طمعًا بأن لا تحقرهُ الخاصة، ولا يغلق فهمه على العامة، وإذا اضطُررت إلى إثبات كلمة لغوية فتلك؛ إما لفظةٌ وضعية لا يمكن استبدالها بغيرها، وإما قافيةٌ لا يمكن العدول عنها، وإما تعبيرٌ ليس ما يفضله في الكلام المأْنوس.
الألفاظ التي لا مرادف لها في العربية
-
لآلهة اليونان طعامٌ وشرابٌ يعبَّر عنهما بلفظتين لا مرادف لهما في العربية، فعبَّرت عن الشراب بالكوثر والسلسبيل كما أوضحت في الشرح: وعبَّرت عن الطعام بالعنبر؛ لأن هذا لفظها باليونانية (Αμβροσια) وهو عندهم طعامٌ وطيب بآن واحد كما أوضحت.
-
وعند القوم آلهة وشبه آلهة كثيرون لا شبيه لهم عند العرب، فلم توضع لهم أسماءٌ خاصة بهم، فحيثما أتيت على لفظة من مثل هذا رجعت إلى معنى اللفظة اليونانية، وعرَّبتها بما رادف ذلك المعنى أو قاربه، فدعوت ربات الغناء ومنشدات الآلهة «القيان» والقينة في العربية الجارية المغنية، ودعوت ربات اللطف البهجات والخرائد، فاللفظة الأولى أخذًا عن مفاد المعنى، واللفظة الثانية تشبيهًا بالكلمة اليونانية التي تماثلها في اللفظ (Χαριτες)كما أوضحت في الشرح.
وأما الموصوفات العلوية الموضوعة لمعنى معيَّن، فقد سميتها بأسمائها التي تنطبق عليها في العربية، فسميت آلهة الفتنة «فتنة» ورب الهول «هولا» وإله الشقاق «شقاقًا» والساعات «ساعات» والصلوات «صلوات» وهلمَّ جرًّا.
التراكيب الوصفية
وفي الإلياذة تراكيب وصفية ملازمة لكثيرٍ من أعلامها، وقد يكثر تكرارها فيها إلى حيث يُكره ذلك في العربية كوصف آخيل بخفة القدم، ووصف هكطور بهز الخوذة، والقول في نسطور أنه راعي الشعب، وفي زفس أنه أبو الآلهة والبشر، ففي مثل هذه الأحوال خففت التكرار وانتقيت ألفاظًا حسبتها خفيفةً على المسمع العربي فقلت: طيَّار الخطى، وهيَّاج التريكة وما أشبه.
تعريب الأعلام
ثم إنه لم يكن بالأمر السهل تعريب الأعلام بما لا يمجُّهُ الذوق العربي وخصوصًا أني أعلم أن قارئ أمثال الإلياذة لا بد أن يستثقل في أول الأمر توالي أعلام أعجمية لم يألف سمعه شيئًا منها، ولكنه إذا نفر من تلاوتها أولا لا يلبث أن يألفها بعد تلاوة قصيدة أو بعض قصيدة.
وقد كانت لي هذه الأعلام في النشيد الأول عثرةٌ في سبيل إحكام النظم، فكان لا بد من وضع أصولٍ اعتمد عليها في سائر الأناشيد وليس في كتب العرب ما يماثل هذه الأصول، وإن في كتاب سيبويه بابًا للتعريب، ولكنه اقتصر في معظمه على تتبُّع بعض الألفاظ مما استعمله العرب من أعلام الأعاجم وغيرها، والنظر في ما ألحق منها بالبناء العربي كبَهرَج، وَجَوْرب، ودينار، وديباج، ويعقوب، وإسحاق، وما لم يلْحق به كَكُركم وخُرَّم، وخُراسان.
وجميع ما كتب الخفاجي في شفاء الغليل، وأبو حيَّان في ارتشاف الضَّرَب من لسان العرب، والثعالبي في فقه اللغة، والسيوطي في المزهر، وغيرهم ممن طرق هذا الباب لا يكاد يتعدَّى الألفاظ الفارسية وقليلًا من غيرها، ومحصله أيضًا أنه لم يضع العرب قواعد مطردة يمكن الرجوع إليها في مثل هذه الحال، وإذا أردنا القياس على ما جاء في الكتب العربية من الأعلام اليونانية زادت المعضلة إشكالًا، فإن أيدي النساخ قد لعبت بها كل ملعب هذا فضلا عن أنهم لم يجروا بها على نمطٍ معلوم في زمن من الأزمنة إلا في أحوال محصورة وأسماء مشهورة، وزد على هذا أن أكثر أعلام الإلياذة غير مذكور في كتب العرب، ولا ريب عندي أن المعرّبين والمؤرّخين توَخَّوا ما أمكن حسن التطبيق في تعريب الأعلام، ولكن عدم جريهم على خطة واحدة وسَنَنٍ معلوم ذهب بذلك الجهد ضياعًا، فقالوا مثلا: «أرسطاطاليس، وأرسطوطاليس، وأرسطاليس، وأرسطوليس» وبتروه أيضًا، فقالوا: «أرَسَط». وقالوا: «أسقليبيوس، وإسكولابيوس، وإسكليب، وأسقولاب» وأمثال ذلك كثيرة في النثر فما بالك لو نظمت شعرًا.
تلاعب النسَّاخ
وأما تحريف النساخ وتصحيفهم فمما لا يدركه حصر، فكثيرًا ما تقرأ فيلقوس، وفيلثوس، وفيلنوس، وقيلبوس، وقنلتوس، ويكون المراد فيلُّبس أبا الإسكندر، وتقرأ بودنطه، وتيرنطه، وبيريظه، وبورنطا والمراد البيزنطية، وخذ أي كتاب شئت من كتب التاريخ من البيروني، والمسعودي إلى ابن الأثير وابن خلدون حتى المقريزي، وانظر فيه إلى الأعلام اليونانية، فيُشكِل عليك إرجاعها إلى أصلها.
وكثيرًا ما نرى الاسم الواحد مكررًا في صفحات وهو في كل صفحة بهجاء مختلف عما قبله وما بعده، فإذا فتحت القرماني طبع بغداد صفحة ٢٣٦ وقرأت أنطياقوس، ثم رأيت أبطيحش بالباء والحاء فما أدراك أن المراد بهما أنطيوخوس إذا لم تكن هناك قرينة ترشدك.
ومن بلاء النسخ أيضًا تحويل الفكر من علَمٍ مشهور إلى علَم مشهور؛ فتضيع فائدة الرواية بجملتها كقولهم في يوليوس قيصر بولس أو بولوس، وأين بولس من يوليوس؟
عودٌ إلى تعريب الأعلام
بقي عليَّ أن أذكر الأصول التي جَرَيْت عليها في تعريب الأعلام:
جرت للإفرنج عادةٌ في نقل كثير من الأعلام اليونانية عن الأصل اللاتيني دون اليوناني، ولا سيما في أسماء المعبودات، فإذا أرادوا أثينا آلهة الحكمة، قالوا: «مينرفا» بلفظها اللاتيني، وإذا أرادوا فوسيذ أو فوسيذون إله البحار قالوا: «نبتون» والسبب في ذلك أن معبودات الرومان كانت تماثل معبودات اليونان من أوجه شتى، ولها عند كلٍّ من الفريقين أسماءٌ توافق روح لغته ومعانيها، وإذ كان الإفرنج أقرب عهدًا بالرومان، وقد تناولوا أسماء معبوداتهم عن اللاتينية على ما دوَّنها فرجيليوس وغيره من الشعراء والكتَّاب أطلقوا تلك الأسماء على الأعلام اليونانية أيضًا لمماثلتها لها في المفاد، على أن كثيرين من محققيهم قد أخذوا يرجعون إلى الأصل ويذكرون كل علّمٍ باسم لغته.
وهكذا فعلت في تعريب المعبودات، فسميت كل معبودٍ باسمه اليوناني، وإن كان لبعضها ذكرٌ في كتب العرب، فقلت: زفس ولم أقل زاويش كما قال أبو نواس: «ولا المشتري» وإن ورد بهذا اللفظ في كتب العرب، وقلت: «هرمس» ولم أقل: «عطارد» وقلت: «آرس» ولم أقل: «المريخ» كما قال: العرب أو بهرام كما قال العرب والفرس، وذلك؛ لأن مشتري العرب، وعطاردهم، ومريخهم، وبهرامهم هم غير أمثالهم عند اليونان، وليس لهم في كتبنا وصفٌ معيَّن ينطبق على المفاد اليوناني، ولم أتوسع في شيء من هذا الباب إلا باسم عفروذيت، فقد أُطلق عليها اسم الزهرة لقب الشبه بين الزهرتين في أساطير القومين.
وفي سائر الأعلام حفظت الأصل اليوناني مع مراعاة صحة اللفظ العربي على قدر الإمكان.
وتابعت العرب في الأسماء الشائعة، فأبقيتها على حالها، فلم أقل: «أَلِكْسَنْدَر» أو «ألكسندروس» على ما يقتضيه اللفظ اليوناني؛ بل قلت الإسكندر لإجماع العرب على كتابته بهذا الهجاء.
وجاريت الإفرنج وكثيرين من كتاب العرب بزيادة حرف الهاء في أوائل الأسماء المبتدئة بحرف علة ثقيل، فقلت: «هوميروس، وهَلْيُس، وهيرا، وهيبا» كما قالوا: «هيرودس، وهيرودوتس، وهِرَقل، وهيلانة» مع أنه لو روعي رسم الحروف اليونانية وعُلم أنه لا هاء فيها لوجب أن يقال: «إيرودس، وإيرودوتس، وإرقل وإيلانة». على أن العرب لم يراعوا ذلك في كل الأحوال؛ ولهذا قالوا: «أوميروس وأسيودس» بدل هوميروس وهسيودس.
ومثل ذلك يقال في زيادة العين في أوائل نحو عشرة أسماء، فإن ذلك يقربها إلى اللهجة العربية، فأخفُّ علينا أن نقول: عسقلاف من أن نقول: أسقلاف وعفروذيت بدل أفروذيت.
وجاريت الإفرنج وبعض العرب أيضًا في بتر بعض الأسماء، ولا سيما الطويل منها فقلت: طرطار بدل طرطاروس، وطفطام بدل طفطاميوس، ومريون بدل مريونس، وإسكمندر بدل إسكمندريوس، وفوسيذ بدل فوسيذون كما قال العرب: «هرقل» بدل «هرقليس»، و«تيوفيل» بدل «ثيوفيلوس» وخصوصًا أن ملازمة هذه السين للأعلام اليونانية كملازمة الحركة والتنوين للمعرفة والنكرة، ففي الحركة العربية غنى عنها.
الحروف التي لا مقابل لها في اليونانية
وليس في اليونانية طاءٌ ولا قاف، ومع هذا فهما كثيران جدًّا في الأعلام اليونانية واللاتينية المعرَّبة، فقالوا: «أنطيغونس، وأنطيوخس، وقبرس، وقسطنطين، وقيصر» بدلا من أنتيغونس، وأنتيوخس، وكيرس، وكنستنتين، وكيسار، وأخالهم أحسنوا بالنظر إلى انطباق تعريبهم على اللهجة العربية، فجازيت من سلك هذا المسلك وقلت بالطاء: طروادة وطرتا، وطيطان وأمثالها، وبالقاف قرونس، وقبريون، وقَليارُس، وربما اجتمع الحرفان كما في طفقير.
ويقال مثل ذلك في الصاد، فهي ليست من حروف اليونانية، ومع هذا فقد قلت: صوقوس كما قالوا: صولون وصوفيَّا.
واليونانية خلوٌ من حرف الدال، فكل دالٍ فيها ذالٌ، فراعيت في هذا الباب جودة اللفظ، وحافظت على إبقاء معرَّبات المتقدمين على حالها فقلت: «الإسكندر، والإسكمندر، وداماس، ودردانيا بالدال، وذريون، وذيتر، وذيفوب بالذال».
الحروف التي لا مقابل لها في العربية
تنافر السين والثاء
والثاء والسين كثيرتان في الألفاظ اليونانية، وقد تجتمعان معًا فيشكل على العربي لفظهما إذا كان أولهما ساكنًا، ففي مثل هذا قلبت الثاءَ تاءٌ فكتبت أغستين بدل أغسثين، وأثقل من ذلك اللفظ إذا وقعت الثاء بين سينين نحو مِنِسْثِس فكتبتها منستس، وأما إذا كان الساكن الثاني، فإني أبقيته على حاله لسهولة لفظه إذ لا يصعب مثلا أن يقال ثسطور.
الپاءُ والڤاءُ
طريقة ابن خلدون
ذلك ما أشار به ابن خلدون منذ خمسة قرون، وهو مقتبس من كتابة أهل المصحف، فلم يعبأ الكتَّاب بكلامه أو هم لم يشعروا بحاجة ماسَّةٍ إليه إذ كادت تنطوي صحف التعريب في الأعصر المتأخرة. على أن أبناء العصر أخذوا يشعرون بتلك الحاجة، فجعل بعضهم يميز بين رسم الحروف الأعجمية البحتة.
وليس عسيرًا علينا أن نستمد من الفرس كثيرًا من الحروف التي ليست في أوضاع العربية، فتسدُّ مسدَّ ما نقص عندنا من حروف الإفرنج؛ لأن الفارسية على ما لا يخفى أقرب بوضعها ومنشئها إلى لغات الغرب منها إلى اللغات الساميَّة، فلما عدل الفرس بعد الإسلام عن حروفهم الفهلوية إلى الحروف العربية رأوا أن حروفها لا تؤدي جميع منطوق اللفظ بلسانهم، فزادوا من عندهم حروفًا لما نقص عن مدلول لفظهم في لغة العرب، فرسموا الپاءَ والجيم، وفرقوا بين الجيم والزيم، وبين الكاف والگاف وزاد الترك الكاف الخرساء.
ولا يفوتنَّ المطالع اللبيب أننا إذا أشرنا باستعمال هذه الحروف، فإنما نشير بها في الأعلام الأعجمية المعرّبة ليس إلا، وهي على كل حال لا تصلح في الشعر إذ يجب أن يبقى على صبغته العربية؛ ولهذا استعملتها في الشرح دون المتن.
ولبعض كتَّاب الترك طريقةٌ حسنة في الدلالة على حركات ألفاظهم التي لا يمكن التعبير عنها بالحركات العربية، ذلك أنهم يتخذون من الفتحة فتحتين ثقيلةً وخفيفة، وكذلك من الكسرة كسرتين، ومن الضمة أربع ضمَّات اثنتين ثقيلتين، واثنتين خفيفتين يسمُّون واحدةً من كل من الثقيلتين والخفيفتين مبسوطة والأخرى مقبوضة، وباختلاف رسم هذه الحركات قائمةً أو منحيةً أو مقلوبةً فوق الحرف أو تحته تجتمع لديهم ثماني حركات يستتمون بها التعبير عن جميع ما يقتضيه منطوق لسانهم.
وليست العربية في حاجة إلى شيءٍ من ذلك للدلالة على منطوق ألفاظها فحركاتها كافيةٌ وافية، ولكن الحاجة فيها إلى ما يمثل بعض منطوق اللغات الأعجمية كما تقدم.
وإن في استعمال هذه الحركات مع الحروف الفارسية مسهلًا كبيرًا للدلالة على أصل كثيرٍ من الحروف الأعجمية، وقد لا يصعب مع التوسع بها قليلًا، والاصطلاح على أوضاع لسائر حروف الأعاجم التي لا نظير لها في العربية والفارسية أن يتوصل كتاب العرب إلى الدلالة على منطوق جميع الحروف في سائر اللغات، وإن كان النطق ببعضها يظل مستحيلًا على من لم يألف قراءة اللغة المعرَّبة أعلامها، والتلفظ بحروفها الأصلية، وعلى كل حال لا يجوز الإكثار من هذه الاصطلاحات، ولا يسوغ استعمالها إلا في أحوالٍ خاصة.
النبر
التصرف بالحروف والحركات
ولم أتصرف في الحروف والحركات إلا فيما ندر، ووجهتي في ذلك تقريب اللفظة لمسمع القارئ العربي دون أن أعبث بمادة الأصل كما قلت مثلا: صفيَّة تعريبًا لاسم أنثى أصلها صفِيُّو أو سفيو.
وأما حروف العلة التي نعبر عنها بحركاتٍ فقد تحاشيت تغييرها عن مواضعها كما وقع في كثير من كلام العرب في الشعر، ولا سيما المولدين منهم كقول ابن هانئ:
وكان حقه أن يقول هِرَقْل، فغلبته القافية، وأمثال هذا كثيرة في شعر المتنبي وأبي تمَّام وغيرهما.
الألفاظ المعرّبة من اليونانية
وقد نبهت على الكلمات اليونانية الأصل كالأسطول والمينا، والليمان، والنوتي، وما يشتبه في كونه يونانيًّا كالعفريت والعنبر وما يشابه اليونانية كالخريدة.
هذا جلُّ ما توخيته؛ إحكامًا لتعريب الإلياذة وحاشا أن أزعم الفلاح بكل ما توخيت أو أدعي الصلاح بكل ما تحريت، ولكنه لا يريبني أن أدَّعي إخلاص النية، وصدق الاجتهاد، فقد أتيت ما أتيت وأنا واثقٌ من نفسي أنها لم تدخر جهدًا في هذا السبيل.
النظم في التعريب
لا بد للشارع في تعريب منظومة كالإلياذة أو نظم ملحمةٍ على مثالها من أن يقف طويلًا، ويتردد برهةً قبل أن يعين أوزان منظومته وقوافيها، وليس لنا في أوضاع السلف أصولٌ نرجع إليها في مثل هذه الحال، وهيهات أن يتسنى وضع مثل هذه الأصول فيتقيد كل بحر من بحور الشعر ببابٍ من أبوابه أو تتعين كل قافية من القوافي لمعنى من المعاني، فقد نظم العرب كل معنى على كل بحر وكل قافية وأجادوا، والقريحة الجيدة نقَّادةٌ خبيرة إذا طرقت بابًا انفتح لها ملء رغبتها، فتقع على البحر والقافية وهي لا تعلم من أين تأَتَّى لها أن تقع عليهما، وإنما هو الشعور الشعري يدفعها إلى حيث يجب أن تندفع.
فالشاعر المجيد إذا تصوّر أمرًا، فإنما يتصوَّر له ذلك الأمر على كماله فتهيئُ له السليقة جمال الشكل كما هيَّأَت له جمال المعنى، فيجتمع له أحكام التناسب بين اللفظ والمعنى، والوزن والقافية، فكل بيت بنى عليه قصيدته، فهو الأساس الذي يصح أن يستند إليه ويبني عليه.
ولا يخرج عن هذه القاعدة إلا الشعر المنظوم لأغراض معلومة، ودعت الحاجة إلى تقييده بقيود لا مناص لهُ منها كالأراجيز المنظومة في العلوم، وبعض الموشحات والأغاني المربوطة بأنغامٍ معينة، فالشاعر مقيد فيها بنمطٍ لا يتيسر له العدول عنه إلى غيره.
وفي ما سوى ذلك فالشاعر مطلق اليدين يتصرف بالشعر كيف شاء، وله أن يرتضي ما تيسر له من الأوزان والقوافي، وهي في الغالب تبرز له من نفسها بشكلها الأنيق وقوامها الرشيق.
على أن قريحة الشاعر، وإن كان مجيدًا ليست كيد النسَّاج تنطلق في العمل أيَّان حركها العامل، فقد يضطرب الجنان، وينحبس اللسان، والذهن وقَّاد، وقد يكون القلم سيالًا، فيجف فيه المداد، فالإمساك عن النظم في مثل هذا الاعتقال خيرٌ من إجهاد النفس فلا يلبث العقال أن ينحل من نفسه، وإذا طال الخمول، فليشحذ الشاعر قريحته بتلاوة جيد الشعر، فهو كالجلاء للسيف الصدئ.
ولكنه قد يحصل خلاف ما تقدَّم، فتتراكم المعاني وصورها، وتتدفق التخيلات تدفقًا يكاد يذهب بها شتاتًا، فيتهيَّأُ للشاعر رسم مطلعه ببيتين أو أكثر على أبحر مختلفة، فيحار في الاختيار، ويميل إلى الاسترشاد.
أوزان الشعر وأبوابه
ولهذا رأيت أن أذكر في ما يلي ما تيسر لي استخراجه من شعر العرب بالنظر إلى ترابط بحور الشعر بمواضيعه وأبوابه، فقد راعيت هذا الترابط في بعض الأناشيد؛ فأدَّت تلك المراعاة إلى فائدةٍ يحسن التعويل عليها في بعض الأحوال.
ولا شك أن العروضيين نظروا إلى أبحر الشعر من هذه الوجهة، ولكنهم لم يزيدوا على تسميتها بأسماء تنطبق توسعًا على مسميات مواضيع القصائد المنظومة عليها فقالوا: هذا طويل، وذاك بسيط، وذلك خفيف أو سريع وهلمَّ جرًّا، ووقفوا عند هذا الحد.
ولكنه يستفاد من هذه التسمية أن لكل بحر ساحلًا يقف عنده، ويرشد اسمه إليه فإذا قلنا: هذا بحرٌ طويل علمنا أنه لا يسوغ أن ننظم عليه الأهازيج والموشحات والأغاني، وإذا قلنا: هذا بحرٌ مقتضب أو مجتث علمنا أنهما لا يصلحان للمنظومات على إطلاقها، ولا يصح فيهما تدوين الروايات والتواريخ.
ولو أردنا أن نضع أصولًا وافية لهذا البحث لوجب أن نرجع إلى منظوم نوابغ الشعراء، ونقابل بين أبوابه وبحوره؛ فتظهر لنا أغلبية كل وجه من كل بحر، وهو بحث طويل لا يتسع له هذا المجال.
فحسبنا إذًا فتحًا لهذا الباب أن ننبه إليه، ونذكر موجزين خلاصة ما اتضح لنا بالتطبيق والمقابلة.
وقول عبدة بن الطبيب:
ومثال شعر المولدين قول ابن زريق:
وقول أبي تمَّام:
وإذا دخلهُ الحذذ وجاد نظمهُ بات مطربًا مرقصًا، وكانت به نبرةٌ تهيج العاطفة كقولهم:
وهو كذلك إذا اجتمع فيه الحذذ والإضمار كقول المخبل السعدي:
وقول الحارث اليشكري:
وقول المهلهل:
وحسبك من شعر المولدين مرثية أبي الحسن الأنباري:
ومرثية المتنبي:
وقصيدة ربيعة بن مقروم:
والفرس يصرِّعونهُ كالرجز، وعليه نُظمت شهنامة الفردوسي.
تلك هي الأبحر العشرة التي نظمتُ عليها الإلياذة، فقد ترى النشيد كله بحرًا واحدًا، وقصيدة واحدة، وقد تتعدد فيه الأبحر والقصائد على مقتضى ما تراءى لي من سياق الكلام.
القوافي
القوافي والأوزان اليونانية والإفرنجية
إذا سمع العربي لفظة «شعر» علم فورًا أن المراد به بالنظر إلى اللفظ الكلام المقفَّى الموزون، ورسخت في ذهنه القافية رسوخ الوزن، وليس الأمر على هذا الإطلاق في سائر اللغات إذ ليس في اليونانية ولغات الإفرنج أبحر وتفاعيل، فإنما هذه من خصائص لغة العرب، ومن حذا حذوهم من أبناء الشرق كالسريان، والفرس، والترك، وأما بنو الغرب، فلهم أقيسة وأوزان خاصةٌ بهم، فالقياس عبارة عن عد الأجزاء أو المقاطع التي يتألف منها الشطر أو البيت، والغالب فيها أن تكون اثني عشر مقطعًا، وهو ما يسمونه بالإسكندري نسبة إلى إسكندر دوبرناي، وهو أشبه شيء برجز العرب، وهذا القياس البسيط يقوم عند الإفرنج مقام جميع أبحر الشعر وتفاعليه عند العرب، وأما الإلياذة وما جرى مجراها من الشعر اليوناني ففيه الوزن تزيد أجزاؤُهُ وتنقص بحسب التفاعيل، فهناك أسباب خفيفة وثقيلة تتألف منها أوتاد مجموعة ومفروقة تقوم مقام التفاعيل العربية، والأساس في كل ذلك طول المقطع أو قصره، وكون حرف العلة القائم مقام الحركة في العربية ممدودًا أو غير ممدود، وبعبارة أخرى يراعى في المقام الأول موضع النبرة من اللفظة.
وأما القافية فليست من لوازم الشعر في كل اللغات، فالفرنسوية لا يصلح شعرها بدون قافية والإنجليزية فيها الشعر المقفَّى وغير المقفى، ومثلها الإيطالية والألمانية، فبهذا الاعتبار نُقلت الإلياذة إلى لغات الإفرنج بالشعر المقفى كترجمة بوب، والشعر غير المقفى كترجمة مُنتي، وأما الأصل اليوناني فهو موزون غير مقَفَّى وقافية كل بيت قائمة بنفسها لا تراعي فيها المماثلة لأية قافية كانت من القصيدة أو النشيد.
القوافي في لغة العرب
والعربية لا يصلح شعرها بدون قافية؛ لأنها لغةٌ قياسية رنَّانة يجب أن يراعى فيها القياس والرنة، وفيها من القوافي المتناسبة ما يتعذر وجود نظيره في سائر اللغات، فلا يسوغ لها أن تبرز عُطُلا مع توفر ذلك الحلي الشائق، فإذا اقتصر الإفرنج على صوغ شعره كالرجز العربي لكل شطرين قافيتان متناسبتان ينتقل منهما إلى غيرهم، واضطُرَّ إلى تكرارهما بعد حين أو لو اختار أن يعري شعره من القوافي بتاتًا، فعذره في ذلك أن لغته هكذا خُلقت، بل لو أجهد نفسه في مواضع كثيرة لتعذر عليه تعزيز قافيتين بثالثة، والشاعر العربي بخلاف ذلك، فإن كثيرًا من ضروب القوافي تنهال عليه انهيال الغيث، وإذا انحبست فلا تنحبس إلا لقصر باع أو لقرع بابٍ ضيق أو لتجاوزه الحد في إطالة القصيدة المنظومة على قافية واحدة.
تناسب القوافي والمعاني
وقوافي الشعر كبحوره يجود بعضها في موضع، ويفضله غيره في موضع آخر وحسبك دليلا أن جميع قراء الشعر يطربون لبعض القوافي دون البعض الآخر، وإذا نظم شاعرٌ واحد قصيدتين على بحرٍ واحد بمعنى واحد، ونَفَس واحد، فلا ريب أن القافية الغناء تميل بالسامع إلى إيثارها على أختها، ولا ريب أن اختيار قافية القصيدة أبعد مثالًا من اختيار بحرها، وذلك بنسبة ما يربو عدد القوافي على عدد البحور والمرجع في ذلك إلى سلامة الذوق وغزارة المادة، فالقريحة الجيدة في غنى عن أصول توضع لها بهذا المعنى لو فرضنا من الممكن وضع مثل هذه الأصول، فهي من نفسها تقع على القافية والبحر بلا جهد ولا تردد. ومع هذا فلا بأس من إيراد بعض ملاحظات تتراءى للناظم أثناء النظم، وللقارئ أثناء المطالعة.
الشعر كالنغم الموسيقي والقافية رستهُ أو قرارهُ، فحيثما جاد النغم وتناسق إلى منتهاه حسُن وقعه في الأذن وانشرح له الصدر، وطربت له النفس، فكل نغم أطرب أرباب الصناعة وذوي الأذن السمَّاعة، فهو الحسن، وهكذا الشعر فلا يحسن وقعه في نفوس قرائه وسامعيه ما لم يكن جيدًا، وقد يُستهان بالمعنى البليغ لضعف قافية أو وقوعها في غير موضعها.
القوافي الضيقة والثقيلة
وأول ما يجدر بالشاعر اجتناب القوافي الصعبة الضيقة، فإنه يُضطر معها إلى استعمال الكلام المنبوذ والوحشي المهمل، ويضيق في وجهه باب التصرف بالمعاني على ما يتصورها، فيعضل عليه النظم وعلى قارئه الفهم، ولنضرب لذلك مثلًا نابغة من نوابغ الشعراء أبا الطيب المتنبي. فخذ قصيدته التي مطلعها:
وقابلها بمعظم شعره فيبدو لك من استغلاق العبارة والتكلف ما يحملك على الظن أنها ليست من نظمه لو لم تكن مثبتة في ديوانه، وإن أردت برهانًا أقرب فانظر في محبوكات صفي الدين الحلي، وكلها منظومة في باب واحد، واقرأ الثائية، والخائية والظائية، وإن كنت صبورًا جَلدًا فأتمم قراءتها من أولها إلى آخرها، وقل لي بعد ذلك رأيك فيها.
ففي مثل هذا المأذق الضيق يضطر الشاعر إلى اتخاذ جميع البيت تتمةً للقافية مع أن الغرض من القافية أن تكون تتمةً للبيت مندمجةً في معناه، فإذا كُره في القافية وهي كلمةٌ واحدة أن تكون حشوًا للبيت، فكم يُكره أن يكون جميع البيت حشوًا للقافية ما لم يكن مبنيًّا عليها لغرض مقصود.
رنَّة القافية
وكما أن العرب نظموا جميع المعاني على جميع البحور، فقد كان هذا شأنهم في القوافي، فلم يقيدوا قافيةً بباب من الأبواب، وخيرٌ للقوافي أن تبقى مطلقة يتخير منها الشاعر ما شاء فتأتيه أرسالًا، فإن سلم ذوقه جاءته منقادة طوعًا فحلَّت محلَّها، وإلا فلا يسلم الذوق كرهًا.
ولكنه يجوز للباحث أن يلقي نظره على منظومات الشعراء، ويمحصها بالنقد والمقابلة، فإذا فعلنا ذلك بدا لنا مثلا: أن القاف تجود في الشدة والحرب، والدال في الفخر والحماسة، والميم واللام في الوصف والخبر، والباء والراء في الغزل والنسيب، وإنما هو قولٌ إجمالي إذا صح من باب التغليب فلا يصح من باب الإطلاق؛ لأن مناحي التحول من نغمةٍ إلى أخرى في قافية الحرف الواحد أكثر من أن تحصى، فنغمة الراء مضمومة تختلف عنها مكسورةً ومفتوحة، وهي وما قبلها متحرك غيرُها وما قبلها ساكن أو ممدود بحرف علة، ورنَّتها في بحرٍ تختلف عنها في بحر آخر، وهكذا إلى ما لا نهاية له.
وغاية ما يقال في هذا الباب أن المعاني الشعرية كاللآلئ المنثورة لا مرشد إلى إحسان نظمها في سِمطها خيرٌ من سليقة الناظم، فإن جادت الصناعة بهرت البصر وإلا جاءت ركامًا بعضها فوق بعض، وذهب خلل بنائها بنضارة روائها.
جوازات الشعر
ليس المقام مقام بحثٍ في بيان اللغة وعروضها، ومع هذا فلا بد لي من إيراد نبذةٍ يسيرة في ما رأيت اجتنابه وإتيانه من الجوازات الشعرية؛ استتمامًا لبيان النهج الذي نهجته في التعريب.
لو أراد الشاعر أن يحتجَّ لكل خطأ يرتكبه في النظم بشاردةٍ من شوارد شعر العرب لما عدم سبيلًا إلى التخلص من معظم ما يتورط فيه عجزًا وجهلا، على أن الطويل الباع القويم اليراع تأبي نفسه أن يتورَّك على شذوذٍ فارط وقِدْحٍ ساقط، ولو كان صاحبهما من شيوخ الشعراءِ كامرئِ القيس، وزهير بن أبي سلمى. فأيُّ شاعر مجيد يرتضي جزم المضارع بغير جازم بناءً على ورود ذلك في معلقة زهير بقوله:
ومن يُقبل على إيراد المتنافرات في شعرهِ اقتداءً ببيت فذٍّ لامرئِ القيس إذ قال:
بل من يقدم اليوم على قبض مفاعيلن الأولى من أحد شطري الطويل كما جاء في الشطر الثاني من بيت امرئِ القيس بآخر لفظة «عقاص»، ومثله قول طرفة:
وقول الشنفري وقد قبضها في الشطر الأول:
ولا تخلو قصيدة من شعر الجاهليين من مثله، جاز لهم ذلك لنغمةٍ كانت لهم في تلاوة الشعر يضيع معها الفرق في الطويل بين مفاعيلن ومفاعلن، وليست للمولدين تلك النغمة إلا في شيءٍ من إنشاد أهل العراق، ويضارعهم بها الفرس في إنشاد الشعر العربي والفارسي إذ يمرُّون على ياء مفاعيلن مرًّا خفيفًا، فلا يُشعر بحذفها إذا حُذِفت وقد يسكنون اللام ولا حرج.
وقد ضبط العروضيون جوازات الشعر، ولكنَّ لكل ناظم ضعفًا من وجه، فتكثر استباحتهُ في ضروبٍ لا يستبيحها غيره، ويمتنع الواحد عما لا ينكره الآخر؛ ولهذا رأيت أن أذكر ما أنكرت، وما لم أنكر من تلك الجوازات:
استبحت صرف ما لا ينصرف حيث اقتضاه الوزن بلا تكلف إلى منعه.
قصرت الممدود قليلا، ولم أستبح مد المقصور مطلقًا.
لم أصل المقطوع إلا بهمزة أنَّ بعد لو، ولم أقطع الموصول إلَّا في أول الشطر وهذا قليل جدًّا.
لم أشدد المخفف، ولم أخفف المشدَّد إلا إذا كان حرف قافية.
لم أسكن المتحرك إلا في ضمير الغائب والغائبة بعد الواو كما في «وَهُوَ» و«هيَ» ولم أحرك الساكن إلا حيث وجب تحريكهُ في الدرج لالتقاء الساكنين أو في القافية لإطلاقها، أو ما جاز تحريكه على الإطلاق كالميم اللاحقة بالضمير نحو «هُمْ» و«كُمْ».
لم أجتنب تحريك العلم المنادى إذا اقتضاه الوزن.
لم أستجز إخلاس حرفٍ في ما سوى «أنا» وحروف العلة الساقطة طبعًا بدرج الكلام قبل الساكن كالواو والياء في «أولو الحكمة» و«ذوي العلم».
لم أُشبع إلا ما جاز إشباعه كهاء الضمير الغائب الساكن ما قبلها نحو منه أو وجب كالهاء المذكورة المتحرك ما قبلها نحو «به».
سكَّنت في موضع أو موضعين السين الواقعة في آخر العلَم الأعجمي نحو أوذيس؛ مجاراةً لمن يحسب أن هذا الحرف مع ملازمته لأكثر تلك الأعلام يصح اعتباره حركةً بنفسه.
وأما ما فرط في كلام العرب من غريب المسوغات كمنع صرف المتصرف، وتذكير المؤنث، وتأنيث المذكَّر، وفك المدغم فيجب أن يعتبر شاذًّا، ولا يجوز أن يقتدى بشيءٍ منه.
عيوب القافية وسنادها
وهذا النوع الأخير كثيرٌ في كلام النوابغ من المتقدمين والمتأخرين، ومع هذا فقد اجتنبت في تعريب الإلياذة جميع أنواع السناد جائزها ومكروهها.
تكرار القافية
وأما تكرار القافية فليس من مذهبي وإن أجازه العروضيون، فلم أستبحه في النظم، ولم أكرر قافيةً واحدة في كل الإلياذة بلفظها ومعناها طالت القصيدة أو قصرت، ولا يستثنى من ذلك إلا حيث تكررت الأبيات في الأصل، ووجب إعادة العبارة بنصها أو حيث كان النظم رجزًا أو متقاربًا مصرَّعًا، فهنالك كل بيت قائم بنفسه تتقطع القافية بانتهائه، فإذا اتفق تكرارها بعد أبيات، فكأنما هي واقعة في قصيدة أخرى.
التجنيس
لم أَتوخَّ التجنيس في شيءٍ من النقل بل ربما نبذته إذا ظهر منه ثقَل أو تكلف، فإنهُ أسمج شيء في الشعر إذا تسقَّطه الشاعر تسقُّطًا.
قال لي صديقٌ من علية الأدباء، وقد جرى أمامه ذكر البيت القائل:
هذا بيتٌ لشاعرٍ نفاخر به الشعراءَ، فوالله لو خُيِّرت بين أن أُشنق أو يُنسب لي هذا البيت لاخترت الشنق، ينبئك هذا بمبلغ الانقباض الذي تحدثه في النفس أمثال هذا التكلف، ومع هذا فقد أَثبتُّ ما جاءَ عفوًا في الكلام بلا تلمُّس مثال ذلك:
ذلك هو النهج الذي آليت على نفسي أن أنهجهُ في كل الكتاب، وإني أبرأ إلى الله من العصمة، فإذا فرضت مني فارطةٌ على خلاف ما ذكرت، فإنما تلك هفوةٌ زلَّ بها القلم، وجلَّ ربك ولي العصمة والسداد.
ضروب النظم في التعريب
بقي عليَّ تتمةٌ لهذا الباب أن أذكر ضروب النظم التي جريت عليها في تعريب الكتاب:
فقد يأتي الضرر من حيث يُرجى النفع، فإن اتساع القوافي في اللغة العربية من جملة أسباب التضييق على الشعراء إذ مهما طال الشاعر باعًا، فلا يأتي على عددٍ معلوم من الأبيات حتى يكاد يستنزف القوافي السائغة؛ ولهذا كان من المستحيل نظم الألوف المؤلَّفة على قافية واحدة، وهذا من جملة أسباب ضعف الشعر القصصي في العربية، وإذا فرضنا وجود قافية تتسع لمثل هذا المجال، فالأذن تملُّ توالي النغمة الواحدة لأطيب الألحان، فهذه تائية ابن الفارض الكبرى وقلَّ من يقرؤُها مع أن حفَّاظ شعره يعدُّون بالألوف كما أبنَّا في موضعٍ آخر، وإذا لجأنا إلى الرجز في مثل هذا السياق الطويل فلدينا من سائر البحور ما يفوقهُ جزالةً في بعض المواقف، وقوةً في مواقف أخرى.
زارني صديقٌ من نوابغ شعراءِ العصر، وقال: «بودِّي نظم الحادثة التاريخية الفلانية، وهي تستغرق نحو خمسمائة بيت في سياق واحد، وإنه ليعز عليَّ أن ألتزم قافيةً لمثل هذا العدد، ولا أحب أن أنظمها رجزًا، والمقام لا يؤذن بتقطيعها قصائد» قلت: وما قولك لو جعلتها نشيدًا مسبَّعًا أو مثمنًا لا تستعيد القافية فيها إلا مرةً كل بضعة أبيات، فتتخللها قوافي أخرى تطيب لها نفس القارئ، فلا يَملُّها ويتسع لك المجال فتتخلص من العَسف والتكلف، فاستحسن وأظنه فعل.
ولهذا نوَّعت النظم على طرق شتى متبعًا الخطة التي تقدم بسطها، ومراعيًا لكل ضرب من ضروب النظم مقامًا حسبتهُ ينطبق عليه، فربما قطعت النشيد قصائد مختلفة، وربما نظمته قصيدة واحدة، ووسَّعت لنفسي في استنباط ضروبٍ غير مطروقة، ولكنني لم أخرج بشيءٍ منها عن أصول الشعر واللغة.
فاستعملت النظم الشائع من قصائد وتخاميس وأراجيز، وسلكت مسالك أخرى دعوتها بأسماء رأيتها تنطبق عليها وهي:
المثنَّى
وفيه تبنى القصيدة على قافية يُرجع إليها في كل بيتين مرة، وعروض البيت الثاني فيه مطلقة من القافية على نحو ما اصطلح عليه المتأَخرون في الرباعي أو الدوبيت الأعرج ومثاله:
وهكذا إلى آخر القصيدة.
والمربَّع
ومثاله:
•••
المثمَّن أو المربَّع المسمَّط
ومثاله:
•••
والموشَّح المسبَّع
ومثاله:
•••
والموشح المثَمَّن
ومثاله:
•••
•••
وفيه المنظومة مبنية على قافيتين، وهما هنا الألف المقصورة، واللام كما ترى وله لازمة في أوله يبنى عليها، وتؤَسَّس قافيته في ختام الدور الأول ببيتين، وأما في سائر الأدوار فببيت واحد.
والموضح المُردَف
ومثاله:
•••
والمستطرَد
وهو ما تبنى القصيدة فيه على قافيتين فأكثر، يُرجع إلى كل واحدة منها كلما استُطرِد إلى الموضوع الذي قيلت في أوله، مثال ذلك محاورة آخيل وفينكس فخطاب آخيل بقصيدة سينية من المثنى:
وجواب فينكس بقصيدة رائية من المثنَّى أيضًا:
وهكذا فكلما تكلم أحدهما رجع إلى قافيته، وقد يقع هذا الاستطراد في غير الخطاب، والجواب كأن يكون بين الخبر والإنشاء أو غير ذلك مما يقتضيه المقام.
مصرّع المتقارب
وعلاوةً على ذلك استحسنت تصريع المتقارب كما فصَّلت في الفقرة الأولى من النشيد السادس بعد المطلع الآتي:
مصرَّع الرجز ومقفَّاه
وجمعت في النشيد الثالث والعشرين بين مصرَّع الرجز ومقفَّاهُ التصريع للإنشاء والتقفية للخطاب، واتَّبعت هذا النسق في كل النشيد المذكور.
الإلياذة والشعر العربي
الشعر القديم
لقد يُعجز الباحث في تاريخ الشعر العربي أن يرجع ببحثه إلى ما وراء قرنٍ قبل الهجرة، وإن مُعظم ما عزاهُ بعض الكتَّاب إلى من تقدم ذلك العهد ليس إلا من باب التخرُّص، فلا يصحُّ وضعهُ موضع ثقة بل يجب نبذهُ والحكم بأنهُ إنما وُضع لتتمة حديث أو تنميق رواية، وكأن فطرة العرب الشعرية تدفعهم إلى ترصيع كل روايةٍ من رواياتهم بأبياتٍ ينقلونها من حيثُ تيسر لهم النقل، وإن أعياهم ذلك عمدوا إلى وضع شيء مما تجود به قرائحهم؛ ولذلك كانت جميع تآليفهم مشحونةً بالشواهد الشعرية مما يجوز الحكم بصحة نقله وما لا يجوز، فإذا ساغ لنا الآن أن نقول بصحة مآخذ الشعر الجاهلي الحديث من المهلهل بن ربيعة إلى زهير بن أبي سلمى، فإنه قيل في زمنٍ كان فيه الشعر في إبانه، وسوق عكاظ في رَيْعانها، والحفَّاظ والرواة منبثون كأسلاك البرق يدوِّنون وينقلون، ويحرصون على ادِّخار مسموعهم ومحفوظهم، والقراءة مألوفة والكتابة معروفة، والشعر بمنزلةٍ يُحسد عليها فيُختزَن اختزان الدرِّ المنضود، ومع هذا فإن بعضهُ لا يخلو من النقد والشُّبُهات، ولكن من لنا بدليلٍ واحد يثبت صحة إسناد الشعر المرويِّ عن شعراء القبائل البائدة، وكهَّانها من طسم وجديس، وعاد وثمود، ومن ذا الذي يثق اليوم مثلًا أن مهدًا الكاهنة هي القائلة يوم أنذرت قوم عاد بالهلاك:
وأقلُّ ما يقال في هذه الأبيات أنها بلغةٍ ما قطُّ نطق بمثلها قوم عاد بل هي دون لغة بني الجاهلية المشهور شعرهم بيننا.
وليست أمثال هذه الرواية بالشيءِ المذكور إزاء الشعر العربي المنسوب إلى قدماءِ الأعاجم، ثم إلى آدم أبي البشر، وأمِّنا حواء ثم إلى الملائكة وإبليس وأشباه هذا مما هو غير خليق بالذكر، ولا يجدر بالكاتب أن يتكلف عناء الإشارة بإطراحه، على أنه يجب التنبيه أن جهابذة كتاب العرب عمومًا قد أنكروا على العامة القول بصحة إسناد هذه الروايات. ومن كلام ابن عباس: «من قال أن آدم قال الشعر فقد كذب على الله ورسوله».
أصلهُ
لكن الكتُّاب كسائر الناس يندفعون بسائقة الطبيعة إلى التطلع إلى أصل كل مجهول، فلما بحث كتَّاب العرب في الشعر بحثوا في أصله، وجعل كلٌّ منهم يستخرج حجَّة مما يحسنه لهُ اجتهادهُ، فقال قائلٌ منهم: «أوَّلُ من هذَّبه عديُّ بن ربيعة، واستنبط من لقبه دليلًا فقال: إنه لقب بالمهلهل؛ لأنه أوَّل من هلهل الشعر وقصد القصائد، وقال الغزل». وذهب بعضهم إلى أن أول شعراء العرب هو ربيعة، وقيل بل هو مضر، وصعد آخرون إلى ما وراء ذلك الزمن بأحقاب، فقالوا بل هو عادٌ أبو القبيلة المشهور، وقيل بل ثمود، وقيل بل حمير، وأمثال هذه الأقوال مما لا يتجاوز الأساطير الموضوعة ويأباه العقل، ويعجز النقل عن إثبات شيء منه.
على أنه إذا ثبت لدينا فساد هذه الروايات فلا يثبت مطلقًا أن العرب لم يقولوا الشعر قبل القرن الخامس للميلاد، فإن طبيعتهم وطبيعة بواديهم وحواضرهم كانتا لعهد الهجرة، وقبلها بقرنٍ على ما كانتا عليه قبل عشرات من القرون، فقد يصحُّ الفرض أن النهضة الشعرية كانت تتفاوت ارتقاء وارتخاء بين زمنٍ وزمن، ولكنه لا يصح القول أن جذوتها لم تلتهب إلا لهذا العهد القريب، فارتقاءُ بلاغة الشعر متقدمٌ على ارتقاء بلاغة النثر لملازمة الأفكار الشعرية للفطرة البشرية، وإذا كان الشعر مدوَّنًا قبل الإلياذة بعصور في لغات الهنود والمصريين، وبلادهم معتقلة بقيود الحضارة فما بالك بالعرب، وهم في بداوتهم وجاهليتهم يطوفون في عالم الخيال فلا قيد ولا عقال يطرقون البوادي والقفار، فينقرون فيها على ما شاءوا من الأوتار، ويسامرون النجوم فلا يستر الجو عنهم شيئًا من بهائها، وهم جميعًا بين هائم وهاجعٍ، وهاجمٍ ومدافعٍ، ومنافر ومفاخر، وكل تلك الأحوال تهيج السليقة الشعرية حتى في الأفئدة الخاملة، وهم هم اليوم في باديتهم أولئك الرعاة الغزاة منذ ألفي عام والشعر على تغير لغته وزوال إعرابه ما زال أنيسهم وسميرهم في الحل والترحال، وسيظل كذلك إلى ما شاء الله.
طموسه
لا ريب بعد ما تقدم أن الشعر العربي القديم دَرَسَ أثره، وطَمس خبره، وأن ما يُنقل منه لأيامنا حديث الوضع من مخترعات الكتَّاب، ولعله يأتي زمن يتوصل فيه الباحثون في عاديَّات الأيام الخوالي إلى اكتشاف شيءٍ مما قد يكون عُلِّق منه لغَرض، ولكن افتراض حصول ذلك قليل الجدوى بالنظر إلى لغة الشعر العربي من عهد شعراء الجاهلية المعروفين حتى يومنا؛ لأنه إذا وجد شيءٌ من الشعر الراقي إلى ما فوق القرن الرابع للميلاد، فإنما يكون بلغة غير لغة امرئ القيس، وإذا كانت لغة أصحاب المعلقات ونظائرها يُشكل فهمها على معظم قرَّاء العربية مع جميع القيود التي قيدت بها اللغة من عهدهم، فما يكون مبلغ فهمنا من لغة تلك العصور، ولا ضابط لها ولا قيد.
عُكاظ
وهو معلومٌ أيضًا أن منطوق لغة العرب كان يختلف ويتباعد بتباعد القبائل؛ ولهذا كثرت المترادفات في اللغة العربية إلى ما لا نظير لهُ في لغةٍ أخرى، ولو طال الأمد على تلك الفوضى، ولم تقم سوق عكاظ لباتت لغة العرب لغاتٍ لا يتفاهم أصحابها، وانفصلت كلٌّ منها عن الأخرى انفصال العربية عن شقيقتيها العبرية والسريانية، فلما عظُم شأن السوق العكاظية، وأخذ الشعراء يؤمُّونها من أطراف البلاد يتناشدون فيها، ويتنافسون كان معظم همهم انتقاء الألفاظ الفصيحة المشهورة عند أكثر القبائل طمعًا بكثرة المستحسنين لشعرهم، فاشتركت الألفاظ وعمت التعابير المألوفة بين الجميع، فاتَّقت اللغة شر التفرق، وأمنت ألفاظها من التبعثر بين شتيت القبائل.
وقد كان ذلك شأن العرب في اختيار الفصيح من الكلام في نظائر عكاظ كذي المجاز في الجاهلية، ومِربد البصرة في الإسلام.
القرآن ولغة قريش
إذا ثبت أن لعكاظ ونظائرها فضلًا في تمحيص ألفاظ اللغة، فالفضل العظيم في استحيائها واستبقائها إنما هو للقرآن، فهو الذي أحكم تراكيبها، وأبدع في تنسيق أساليبها، وصعد بالبلاغة إلى أوج مراقيها، بل هو الذي جمع جامعتها، وهذَّب عبارتها، ولما ارتفع منار الدين الإسلامي كانت اللغة العربية تنتشر بانتشاره على وتيرةٍ واحدةٍ في مشارق الأرض ومغاربها، ولا عبرة بما كان يعتور لغة العامة من الركَّة واللكنة بمخالطة الأعاجم، ويُعد عهد الجم الغفير من الجالية العربية بالانقطاع عن أصولها، فإن القرآن كان ولا يزال رائد الكتَّاب يرجعون إليه في مواضع الإشكال، ويتمثلون بعبارته، ويتفقهون ببلاغته، فكان من مُعجزة حفظ اللغة العربية الفصحى على أسلوب واحد منذ ثلاثة عشر قرنًا مع تفرق حَفَظتها وتشتت المتكلمين بها.
وفضل القرآن على الشعر العربي يكاد يضاهي فضله على لسان العرب؛ لأن بلاغة التعبير تهيج الفطرة الشعرية سواءٌ كانت العبارة نثرًا أو شعرًا؛ ولهذا كثر لفظ القائلين في أوائل الإسلام أن القرآن كلامٌ شعري، فجاءَت الآية بتكذيبهم وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ فلذلك أجمع أئمة العرب على أن الشعر لا يُعدُّ شعرًا ما لم يكن مقصودًا بالوزن، فإن جاءت العبارة موزونةً على غير قصد فليست من الشعر في شيء، وأمثال ذلك كثيرة في القرآن والحديث، فمن الآيات القرآنية فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ، ووَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا، ولَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ، ومن الحديث: «هل أنت إلا إصبعٌ دُمِيَت وفي سبيل الله ما لَقيَت».
وإنَّ للإفرنج اسلوبًا نثريًّا في الكتابة يتعمدون في تنميق العبارة بما لا يجوز إتيان مثلهِ في النثر البسيط، ويتوخَّون فيه إثارة العواطف والخوض في عالم الخيال، ومذهبهم فيه بخلاف مذهب العرب إذ يعدُّونه من فنون الشعر، وإن تجرَّد من القالب الشعري، ولم يقصد به الوزن والتقفية.
وإذا كان اللسان العربي خلوًا بعرف العرب من هذا النوع من الشعر، فإن في القرآن من البلاغة ما لم يجتمع لهُ نظير في نثرٍ ولا في شعر، فلا غرو إذن أن يكون هو الناهض بهذا اللسان، تلك النهضة التي وطَّدت أركان فصاحته، وهذَّبت مقول الشعراء حتى أَربَّت بلاغة التركيب وجزالة اللفظ في شعر المخضرمين والمولَّدين ممن أكثروا من تلاوته وسماعه على مثله في شعر من تقدمهم من فحول الشعر الجاهلي — قال ابن خلدون: «وكلام الإسلاميين من العرب أعلى طبقةً في البلاغة من كلام الجاهلية؛ لأنهم سمعوا القرآن، وحفظوه، وهو في أعلى طبقةٍ من البلاغة وحفظوا الحديث أيضًا؛ ولذلك نجد شعر حسَّان، والحطيئة، وجرير، والفرزدق، وذي الرمة والأحوص، وبشَّار أبلغ من شعر امرئ القيس، والنابغة، وعنترة، وابن كلثوم، وزُهَير ونحوهم».
وخلاصة القول أن لغة الأعراب في البادية، ومنطوق سائر العرب في حواضرهم ما زالا يتراوحان بين الصعود والهبوط، والتقارب والتباعُد حتى هذبهما شعراء عكاظ، وأتى القرآن فكان فيه القول الفصل والمنهج القويم، والحجة الكبرى والأساس الوطيد.
وإذ كانت عكاظ بين نخلة والطائف في الحجاز، ولقرَيش الحجاز منزلةٌ لا تعادلها منزلةٌ بين العرب، ولهم سدانة الكعبة كان الشعراء الوافدون من اليمن، وبادية الشام، وهضاب نجد، وبُرَق تهامة، وسائر أطراف البلاد العربية يتشبهون جهدهم بلغة قريش المُضرية، وكان إذ ذاك اللغة المعوَّل عليها بين أكثر قبائل الحجاز، ونجد فقويت وما لبثت أن فازت بالغلبة في منظوم الشعراء، ثم جاءَ القرآن فأحكمها ذلك الإحكام الذي يُدهش له الأعجمي فضلًا عن العربي، وهُجر ما سواها من لغات سائر القبائل في النثر والشعر إلا بقية من الأصول النحوية والاصطلاحات التركيبية.
وكانت لغة قريش تزداد رسوخًا في أذهان الشعراء وشيوعًا بين العرب كلما دانت قبيلةٌ منهم بالدين الإسلامي بعد سماع آي القرآن، ولا سيما بعد أن قام الشعراء القُرشيون فأخذوا بأطراف البلاغة، فكان لهم القِدح المعلَّى في الشعر كما كان لهم من قبل في رفعة القدر.
وهو غير خاف أنه كان لقريش بصرٌ في الشعر في الجاهلية، ومع هذا فلم تكن لهم فيه مقامات عالية ولم يرتفع شعراؤهم بطبقتهم إلى طبقة نوابغ الشعراء من سائر القبائل؛ لأن العرب كانت تقر لهم بالتقدم في كل شيء إلا الشعر، ولما استنهضتهم بلاغة القرآن، وأقبلوا على النظم وأجادوا فيه أيما إجادة، ونبغ منهم الفحول كعمرو بن أبي ربيعة كبيرهم والحارث بن خالد المخزومي، والعرجي، وأبو دهبل، وعبيد الله بن قيس الرقيات أقرَّت لهم العرب بالشعر أيضًا.
وأما سائر قراء العربية والمتكلمين بها بعد حين من ملل الأعاجم ممن دان بالدين الإسلامي أو انتشرت بينهم قبائل العرب، فما عرفوا إلا لغة القرآن والحديث، وما تبعهما من كتب الفقه وعلم الكلام مما استُمدَّ جميعًا منهما، ومعظم ذلك من لغة قُريش، وإذا رجعنا إلى علم النحو الذي يقوم عليه عماد التركيب والتعبير في اللغة رأينا أنه إنما نشأ بفضل القرآن؛ لأنه وُضع قبل كل شيء لضبط القراءات القرآنية، ثم لما كُتبت أسفار اللغة وسائر العلوم العربية وغير العربية كان القرآن والحديث مرجعًا للاستدلال على صحة التعبير، وإحكام التركيب، وضبط المفردات، فكانت لغة قريش في كل ذلك هي اللغة السائدة؛ فحفظها الشعراء وأصبحت في شعر المخضرمين والمولَّدين أنقى منها في شعر أبناء الجاهلية إذ قلَّ الخليط فيها من سائر لغات العرب، وهكذا صارت لغة جميع كتَّاب العربية من عرب وأعاجم، ولا عبرة بما طرأ عليها من الخلل والانحطاط وزوال الإعراب بين عامَّة المتكلمين بها، فإن الفساد يتطرَّق بمرور الزمان إلى كل لسان، وحسب العربية مزيَّةٌ على سائر اللغات الحيَّة أنه ليس بينهنَّ لغةٌ غيرها حفظت أصول شعرها وكتابتها منذ أربعة عشر قرنًا، وبقيت واحدةً في جميع أطراف الأرض بين العرب وغير العرب، والمسلمين وغير المسلمين.
مقابلة بين لغة قريش المُضَرية ولغة الإلياذة اليونية وكيف عاشت الأولى وتلاشت الثانية
قد يُفهم من عنوان هذا الفصل أننا لا نقصد فيه المقابلة بين لساَني العرب واليونان بالنظر إلى ما بينهما من الصلة أو الشبه والاختلاف في المنشأ والوضع والاشتقاق والتركيب، فتلك أمورٌ ليس هذا موضع البحث فيها، ولكنه لا بدَّ لنا من النظر إلى سبب تلاشي لغة الإلياذة لزمن يسير من استحكامها، وبقاء لغة قريش حيةً طوال هذا الدهر.
إن سنَّة النموِّ والتحول وتفرِّع الأصل الواحد إلى أصولٍ شتَّى تشمل اللغات كسائر المخلوقات، فقد قلنا: إن لسان العرب في الجاهلية تفرق إلى فروع كاد كلٌ منها يقوم لغةً بنفسه، ويمتنع التفاهم بين أصحابه، فجاء القرآن وأزال الخلاف، وأوثق عرى الارتباط، فسادت اللغة القرشية، وهكذا كانت لغة قدماء اليونان فروعًا كثيرة مرجعها إلى فرعين كبيرين الدُّوري واليوني يتكلمهما سكان قلب بلاد اليونان ومستعمراتهم في صقلية وبعض بلاد إيطاليا وغيرها، فهما بمثابة لغة نجد عند العرب مع ما يتبعها من أطراف الحجاز. ويلحق بهما فرعٌ ثالث هو الأيولي، وكان لغة فريق من سكان آسيا الصغرى وتساليا وتوابعهما، فمنشآت فنداروس وثيوكريتس كانت باللغة الدورية، ومنظومات هوميروس وهسيودس كانت باللغة اليونيَّة، وإن بين اللغتين على تقاربهما فرقًا يضاهي نظيره بين لغات جنوبي الحجاز ونجد واليمن، وكلما كانت تمتد فتوحات اليونان ويكثر الاختلاط كان يطرأ على تينك اللغتين تغيرٌ يبعدهما عن وضعهما، وكان كلٌ من الشعراء والكتَّاب ينطق بلغة زمانه ومكانه حتى باتت لغة كل من بني الفرع الواحد تتميز عن الأخرى بالتعبير والتركيب، فاللغة اليونية مثلًا هي التي نطق بها هوميروس في أخريات القرن التاسع للميلاد، وهي التي كتب بها ثوكيذيذس وهيرودوتس في القرن الخامس وديموسنتينس في القرن الرابع، ومع هذا فالفرق بين لغتهم ولغته غير يسير بل قد تجد فرقًا بين لغة أبناء كل قرنٍ وآخر، حتى لقد ذهب كرتيوس في تاريخ اليونان إلى أنه في زمن الإسكندر لم يكن يحصل التفاهم بين المكدونيين واليونان، وقال فلوطرخوس: «إن فيلبس وابنه الإسكندر جنحا إلى إيثار لغة جيرتهما على لغة قومهما فعدلا إليها في بلاطهما وبطانتهما».
وعلى الجملة فقد ظلَّ هذا التغيُّر يتعاظم حتى باتت اللغة اليونانية الحديثة لغة قائمة بنفسها، ولها أصولٌ بعضها أقرب إلى اللغات الحديثة منها إلى لغة الإلياذة؛ ولهذا ترى نوابغ كتَّاب اليونان العصريين مع شدة ما بهم من الغيرة على إحياء اللغة اليونانية القديمة والتشبه بها في بعض ما ينشئون لم يغنهم كل ذلك عن نقل إلياذة هوميروس وأشباهها بالترجمة إلى اللغة اليونانية الحديثة، فكأنهما لغتان منفصلتان.
وأما العربية فليس هذا شأنها، فإن أصول اللغة ما زالت على ما نطق به شعراء الجاهلية، وغاية ما يشكل فهمه على قرَّائها مفرداتٌ لم تألفها العامة، ومترادفاتٌ متشابهات وتعابير غير مأنوسة في عصرنا.
ولكن التباعد بين لغات العامة محصورٌ في الكلام العامي، فالحجازي واليمني والنجدي، والعراقي، والمصري، والسوري، والمغربي، وإن اختلفت مصطلحاتهم في كل قطر من أقطارهم فهم جميعًا يكتبون بلغةٍ واحدة على أصول لا تختلف شيئًا بين إقليمٍ وإقليم، وجميع هذه الأصول مبنيَّةٌ على أصول لغة القرآن.
وإن اختلاف منطوق العامة غير خاصٍّ بالعربية، بل هو يتناول جميع اللغات الحية حتى إذا نظرت إلى أرقاهنَّ كالفرنسية والإنجليزية رأيت فرقًا بيِّنًا في كلام العامة بين منطوق أبناء قُطرٍ وقُطر، وإن اتحدت أصول اللغة الفصيحة بين جميع الناطقين بها من أبناء تلك اللغة وغير أبنائها، وإذا رجعنا بالتخصيص إلى اليونانية الحديثة رأيناها على توحُّد لغتها الكتابية متشعِّبة فروعًا بمنطوق عامَّة أبنائها، فلغة أثينا غير لغة إكريت، وكلتاهما تختلفان عن لغات ساقس، وقبرس، وجزر الأرخبيل، وآسيا الصغرى.
وخلاصة ما تقدم أن اللغة العربية أطول اللغات الحيَّة عمرًا، وأقدمهن عهدًا والفضل في كل ذلك للقرآن، فالإلياذة وبلاغتها وسائر منظومات هوميروس وهسيودس على علوِّ منزلتهما لم تقم للغة اليونية دعامةً ثابتة حتى في بلادها، ولم تقوَ على مقاومة التيار الطبيعي، ولكن القرآن وطَّد أركان لغة قريش في بلادهم وأذاعها في جميع البلاد العربية، وسائر البلاد التي طال فيها عهد الاحتلال الإسلامي أو كثرت مخالطة العرب الضاربين في أقطار الأرض للجهاد والتجارة.
أطوار الشعر العربي
هذا بحثٌ لو تعمَّدنا الإفاضة فيه لاضطررنا إلى التثبت من أحوال كل عصرٍ من عصور العرب، والنظر في شئون الشعراء وطرائفهم وفنونهم، ومناحي نظمهم، والرجوع إلى مراميهم في شعرهم، وطرق معائشهم، وبيان أنواع اقتباسهم من الأعاجم واقتباس الأعاجم منهم بالنقل والملابسة إلى غير ذلك مما يؤَدي إلى تدوين سفر طويل، ومع هذا فلا بد من أن نلمَّ بالموضوع إلمامًا إجماليًّا؛ لئلا يفوتنا استجماع أطراف الحديث الذي توخَّيناه، وعسى أن يكون لنا في مستقبل الزمن متَّسعٌ لإعادة النظر فيه أو ينهض إليه باحثٌ من أدبائنا، فيلجه من جميع أبوابه ويوفِّيه حقه بما لا يتيسر في هذا المقام.
من الكتَّاب من يقسم الشعراء بالنظر إلى أزمانهم إلى ثلاث طوائف أو طبقات أولها شعراء الجاهلية ثم المخضرمون، وهم الذين أدركوا الجاهلية والإسلام، ثم المولَّدون وهم سائر الشعراء، ومنهم من يزيد طبقةً رابعة وهي طائفة المحدثين، فيحصر المولّدين في فئة قليلة من أبناء أوائل الإسلام كالفرزدق وجرير والأخطل، ويجعل جميع من أتى بعدهم في عداد المحدثين.
وإننا ناحون في بحثنا نحو أصحاب التقسيم الأخير بالتسمية دون الترتيب، ومستدركون ما يجب استدراكه؛ لاختلاط الطبقات الثلاث الأولى بعضها ببعض وواضعون حدًّا فاصلًا بين كل طائفةٍ وأخرى، وباحثون في تماسك هذه الحلقات، وأسباب ترقي الشعر العربي حينًا من الدهر، ثم انحطاطه في كلام المحدثين حتى أيام النهضة الأخيرة غير مغفلين في كل ذلك أوجه المقابلة مع منظوم صاحب الإلياذة.
النهضة الجاهلية
ليس بالأمر السهل تعيين الزمن الذي بدأت فيه نهضة الجاهليين لاندثار منظوم الشعراء مما تقدم على الشطر الأخير من القرن الخامس للميلاد أو ما تقدم على الهجرة بقرنٍ ونصف قرن، على أنه لا ريب أن النهضة الجاهلية المتصلة بالإسلام بدأت قبل الهجرة بقرنين أو أكثر؛ لأننا إذا قرأنا شعر المهلهل والشنفرى، والمثقَّب العبدي والبراق بن رَوحان، وغيرهم ممن تقدم على الهجرة زهاء قرن وربع أو ما يُنيف رأينا فيه من البلاغة وحسن الانسجام ما لا يجوز الحكم معه أنهم كانوا في طليعة شعراء العرب بل لا بد من أن يكونوا نسجوا على منوال نوابغ سبقوهم، ولكن لنا من وجه آخر مساغًا للحكم أن تلك النهضة لم تستحكم إلا في القرن الأول قبل الهجرة، ولم تبلغ أوج علاجها إلا في بضعة عقودٍ من السنين الملاصقة للإسلام، ودليلنا على ذلك أن شعر مُعظم المتأخرين في الجاهلية كلبيد بن ربيعة، وزهير بن أبي سلمى، وعنترة العبسي، والأعشى، والنابغة الذبياني أرقى من شعر معظم المتقدمين عليهم في الزمن كالبراق وأبي دؤاد، والحارث بن عباد وأمثالهم، ولا يضعف هذا الحكم نبوغ بعض المتوسطين بين الفريقين كامرئ القيس، وطرَفة بن العبد، والحارث بن حلِزة اليشكري، وعمرو بن كلثوم، وغيرهم ممن لاصق الأوَّلين، ونبغ في منتصف القرن السادس للميلاد فكانوا نبراس تلك النهضة، وقادة زمامها إذ يتيسر لنا بهذا الاعتبار أن نعين زمن استحكام النزعة الشعرية في نحو ذلك العهد أي: سنة ٥٣٢ للميلاد أو قبل الهجرة بتسعين عامًا، وهو زمن نبوغ امرئ القيس أول أبناءِ الفريق المتوسط بين متقدمي الجاهليين ومتأخريهم.
ومما يؤيد هذا القول أن كتَّاب العرب قَسَّموا الشعراء إلى طبقات باعتبار جودة الشعر، كما قسموهم إلى طبقات بالنظر إلى التاريخ، فجعلوا أصحاب الطبقة الأولى من متأخري الجاهليين ومتوسطيهم كأصحاب المعلقات جميعًا، والنابغة، والأعشى الأسدي، وعديِّ بن زيد، وعبيد بن الأبرص، وأميَّة بن أبي الصلت، وعدُّوا سائر من تقدمهم في الطبقة الثانية إلا المهلهل، فإنهم اختلفوا بين أن يكون من الثانية أو الأولى.
الحدُّ الفاصل بين شعراء الجاهلية والمخضرمين
إذا حسبنا لاستحكام النزعة الشعرية الجاهلية تسعين عامًا، وجعلنا طليعتها امرأ القيس، فإننا نحسب لطور الشعر الجاهلي بأسره مئة وخمسين عامًا أولها سنة ٤٧٢ للميلاد وآخرها سنة الهجرة النبوية، وزعيم جنده عديُّ بن ربيعة الملقَّب بالمهلهل، وهو معلومٌ أن بعض شعراء الجاهلية أدركوا صدر الإسلام، وماتوا في زمن النبي كزهير، وهو الذي قيل فيه أن النبي نظر إليه يومًا وعمره مئة سنة، فقال: «اللهمَّ أعذني من شيطانه» قيل فما قال بعد ذلك شيئًا من الشعر، ومنهم من مات في زمن الخلفاء الراشدين كعمرو بن معدي كرب، ومنهم من عمَّر حتى انقضت دولة الراشدين، وقامت دولة بني أمية؛ كلبيد المتوفي في خلافة معاوية، وعمره على ما قيل مائة وخمس وأربعون سنة، فأمثال هؤلاء يحصل الإشكال في تعيين طبقتهم، فتلتبس بين طائفتي الجاهليين والمخضرمين.
وقد قيل في تفسير المخضرم هو من ذهب نصف عمره في الجاهلية ونصفه في الإسلام، أو هو من أدرك الجاهلية والإسلام على الإطلاق تشبيهًا بالناقة المخضرمة التي قُطع طرف أذنها كأن ما ذهب من عمره في الجاهلية ساقطٌ لا يعتدُّ به، وقلَّ من ينطبق عليه القول الأول من فحول شعراء الجاهلية كلبيد العامري الذي عمَّر طويلًا في الجاهلية والإسلام، وأما الذين أدركوا الجاهلية والإسلام فكثيرون؛ كزهير، والخنساء، والحطيئة ممن نبغ في الجاهلية، وأبى ذؤيب العجلي، وكعب بن زهير، وحسَّان بن ثابت ممن نبغ في الإسلام؛ ولهذا نظر البعض في تعيين الطبقة إلى القرب والبعد من الإسلام، فكان زهير عندهم جاهليًّا، ولبيد مخضرمًا، وربما وضعوا لبيد في طبقتين، فقالوا: «هو جاهلي ومخضرم» وعندنا أنه إذا صح أحد هذين القولين بالنظر إلى الشاعر وصفته، فلا يصحُّ شيءٌ منهما بالنظر إلى الشعر وصبغته، وإلا لوجب أن نجعل معظم المخضرمين في طبقة الجاهليين أيضًا، فتختلط الطبقتان مع أن لكل منهما مزيَّةً خاصةً بها على ما سنبينه في ما يلي.
فلذلك وجب اعتبار الصبغة الشعرية في أقوال أمثال هؤلاء، فمن قال الشعر قليلًا في الإسلام أو لم يقله عُدَّ جاهليًّا كزهير، ومن ربا قوله في الإسلام بعد أن أسلم وحفظ القرآن ككعب ابنه فهو مخضرم، ويقال مثل ذلك في حسَّان بن ثابت شاعر النبي فهو زعيم المخضرمين، وإن قضى نصف عمره في الجاهلية، وقال فيها الشعر الحسن.
على إنني لا أعلم بأي مساغٍ يُعدُّ لبيد والخنساء من المخضرمين، فأما لبيد فإن جميع شعره ولا سيما معلقته من لباب الشعر الجاهلي، ولم يرووا له في الإسلام إلا بيته القائل:
وقيل: إن الخليفة عمر استنشده أيام خلافته من شعره، فانطلق وكتب سورة البقرة في صحيفة ثم أتى بها، وقال: «أبدلني الله هذه في الإسلام مكان الشعر» فسُرَّ عمر بجوابه، وأجزل عليه العطاءَ.
وأما الخنساء فجميع شعرها قبل الإسلام وبعده فخرٌ ورثاءٌ، ونفسه واحدٌ وصبغته واحدةٌ، وكله جاهليٌّ ولا وجه لعدها بين المخضرمين إلا أن نحسب من الشعر حماسياتها النثرية المسجَّعة كقولها لأبنائها يوم وقعة القادسية: «يا بنيَّ إنك أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، والله الذي لا إله إلا هو إنكم لبنو رجل واحد كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما هجنت حسبكم، ولا غيَّرت نسبكم، واعلموا أن الدار الآخرة خيرٌ من الدار الفانية، اصبروا، وصابروا، ورابطوا، واتقوا الله لعلكم تفلحون، فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها، وجلّلت نارًا على أرواقها، فتيمموا وطيسها وجالدوا رئيسها، تظفروا بالمغنم والكرامة في دار الخلد والمقامة».
فإن في هذا الكلام مسحةً من بلاغة المخضرمين، ولكننا قد قدمنا أن العرب لا تعد هذا الكلام من الشعر في شيء؛ لأنه غير مصوغ في القالب الشعري، وإن كانت معانيه شعرية، فالخنساء ولبيد وأمثالهما في عُرْفِنا يجب أن يعدوا من شعراء الجاهلية بالنظر إلى شعرهم، وإن صح أن يُحسبوا من المخضرمين بالنظر إلى امتداد حياتهم.
وهو ثابتٌ أيضًا أنه في أوائل الإسلام حصلت فترةٌ في الشعر، فاسكتت الشعراء ثم هبُّوا إليه هبَّة جديدة، وألبسوه ثوبًا قشيبًا، قال ابن خلدون: «إن الشعر كان ديوانًا للعرب فيه علومهم وأخبارهم، وكان رؤساء العرب ينافسون فيه، وكانوا يقفون في سوق عكاظ لإنشاده، وعرض كل واحد منهم ديباجته على فحول الشبان وأهل البصر، حتى انتهوا إلى المناغاة في تعليق أشعارهم بأركان البيت الحرام، ثم انصرف العرب عن ذلك أول الإسلام بما شغلهم من أمر الدين والنبوة والوحي، وما أدهشهم من أسلوب القرآن ونظمه، فسكتوا عن الخوض فيه زمانًا ثم استقر ذلك، وأونس الرشد في الملة، ولم ينزل الوحي في تحريمه وسمعه النبي، وأثاب عليه فرجعوا إلى دينهم منه».
فهذه الفترة التي ذكرها ابن خلدون وغيره من مؤَرخي العرب هي الحدُّ الفاصل بين الطَّور الأول والطَّور الثاني من أطوار الشعر العربي، فجميع ما تقدمها شعرٌ جاهلي، ويلحق به قليلٌ مما تأخر عنها من قول شعراء الجاهلية الذين أدركوا الإسلام وأسلموا، وبقي شعرهم على صبغته الجاهلية الصرفة كعبدة بن الطبيب كلما سنثبت في الفصل التالي بإيراد مثالٍ من شعره في الإسلام.
الطبقة الأولى
خاض العرب في الجاهلية عباب بحر الشعر، وولجوا كلَّ بابٍ من أبوابه فوصفوا وترسلوا، وتغنَّوا وتغزَّلوا، ومدحوا وهجوا، ورثَوا ودونوا الأخبار، وضربوا الأمثال ووضعوا الحكم، وتنافروا وتفاخروا وشاعرهم مندفعٌ في كل ذلك بسائقة الطبيعة يفكر في محسوسٍ بين يديه، ومنظورٍ أمام عينيه، وعاطفةٍ بين جنبيه، وشعيرةٍ تختلج في صدره، وصورةٍ مرسومةٍ في مخيلته منعكسةٍ عن طرُق معيشته وفطرته. لا يتطلَّع إلى ما وراءَها ولا يتكلف الزخرفَ والتنميق.
وكانوا يسددون قولهم نحو كبد الحقيقة فلا يخطئونها، ويقولون الشعر عن شعورٍ حيٍّ، ولا يتخطَّون إلى ما وراء مشهودهم ومعقولهم فجاءَ شعرهم مثالًا صادقًا لبداوتهم وحضارتهم، حتى لو اندثرت جميع أخبارهم وآثارهم، وما بقي إلا شيءٌ من شعرهم لتيسر للباحث أن يستخرج منه وصفًا كاملًا لجميع أحوالهم كما استخرج الباحثون كثيرًا من غوامض جاهلية اليونان من شعر هوميروس.
ويسري هذا الحكم على جميع شعراء الجاهلية من عبدة الأوثان واليهود والنصارى، ومن أدرك الإسلام وأسلم أو لم يسلم، وهم في ذلك سواءٌ في اليمن ونجد، والحجاز، والعراق وبوادي الشام، وسائر أطراف بلاد العرب، فالشاعر منهم إما بدويٌّ عريقٌ في البداوة، وإما حضريٌ لاصقٌ بأبناءِ البادية، وكلاهما متخلقٌ بأخلاق الجاهلية ينزع إلى رسم الحقيقة رسمًا ناطقًا، فإذا روى حادثةً بسطها بسطًا جليًّا، وألمَّ بها إلمامًا واضحًا يغنيك عن التخرص والتنقيب نظير ما فعل هوميروس في إيراد كل حوادثه، وإليك مثالًا قول المهلهل بعد وقعة السلَّان إذ حضرها مع أخيه كُليب، وفرَّ ابن عنق الحية من وجهها:
وإذا وصف شيئًا فإنه يستجليه على علَّته، ويستتم تبيان حالته على طبيعته كقول عبدة بن الطبيب يصف ناقته ويشبهها بالثور الوحشي المتذعر أمام الكلاب:
وهذا الشعر وإن كان مقولًا في أوائل الإسلام، فقائلهُ جاهليُّ وليس في شعر أبناء الجاهلية ما يفوقه تمثيلًا لنزعتهم الشعرية، ومثله قول بشر بن عوانة في الأسد:
وهذا هو بالنفس نسق هوميروس في استتمام مزايا موصوفاته، وإن هذه الإفاضة في التمثيل ضعفت كثيرًا في شعر المخضرمين ومن وليهم.
وقد كان ذلك أسلوب الجاهليين في جميع ما مثَّلوه بشعرهم مما يتناول أحوال الحرب والسلم، والعادة والخلق، والمعيشة في الإقامة والتسيار.
وإذ كان محسوسهم خشنًا ومطالعاتهم غير ممتدَّة كثيرًا إلى ما وراء الحروب، وأخبار القبائل كان معظم شعرهم في ما وافق ذلك المحسوس وتلك المطالعات، فأَفاضوا في وصف البوادي والقفار، وأكثروا من وصف معيشتهم وأحوالها ومدح الكرم والوفاء وقرى الضيف، وأسهبوا في ذكر ما لديهم وحواليهم من سلاح وخيلٍ وإبل، وما أشبه من معدَّات زمانهم ومكانهم.
ومع هذا فإن لغتهم وإن كانت فيها شيء كثير من خشونة معيشتهم، فقد كانت متسعة للغرام، والحكَم الرائعة، والحماسة ووصف الشعائر والأخلاق، فتلك جميعها أمورٌ منطبعة في فطرة الجاهلي انطباعيًّا في نفوس أعرق الخلق في الحضارة، بل ربما كانت أصفى وأنقى في أذهان أبناءِ البادية، فأيُّ شعر في الفخر والحماسة أسمى من قول السموأل:
وأي قول في الحكمة أحسن من قول زهير:
وإليك مثالًا في الغزل من يتيمة سوَيد بن أبي كاهل اليشكري:
وهم وإن لم يبلغوا في الغزل رقة المتأخرين، فلهم بوصفه سذاجةٌ لقول كثيرًا من المعنى في الكلام القليل، ولا سيما أثناء مزجه بذكر الحروب كقولهم في ما ينسب إلى عنترة:
تلك كانت على الجملة منازعهم في شعرهم، وذلك هو نتاج قرائح الجاهلية، وأنت ترى أن أصحاب تلك القرائح لم يكونوا أبناء جاهلية جهلاء من الجهل بل ما أحراهم أن يكون أُطلق عليهم ذلك لشيوع عبادة الأوثان بينهم، ولعلَّ هذا هو المراد بما جاء في سورة المائدة: أفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ إذ قالوا في تفسيرها الملة الجاهلية.
وقد أوردنا من قولهم فضلًا عما تقدم أمثلةً شتى من مرادفات أقوال هوميروس في شرح الإلياذة.
ومدة هذا الطور الشعري زهاء مئة وخمسين عامًا، ومن صفوة فحوله امرؤ القيس وطرفة بن العبد، والحارثة بن حِلزة، وعمرو بن كلثوم، وعنترة العبسي، وزهير بن أبي سلمى، ولبيد بن ربيعة وهؤُلاء هم أصحاب المعلقات، والنابغة الذبياني، والمهلهل والأعشى الأسدي وعديُّ بن زيد، وعبيد بن الأبرص، وبشر بن أبي خازم وأميَّة بن أبي الصلت والسموأل والشنفري ودريد بن الصمَّة.
ومزيته البساطة والبداهة، واقتفاءُ الفطرة، وتمثيل الحقيقة في رسم الطبيعة، فهو في جميع ذلك أعلى طبيعةً من شعر المتأخرين من العرب، ولا يفوقه شيءٌ من شعر المتقدمين من سائر الأمم حتى اليونان والرومان.
الطبقة الثانية
علمتَ أن النهضة الشعرية كانت في رَيعانها عند ظهور الإسلام، فجاء القرآن وأسكت الشعراء، وما أسكتهم إلا ليزيد نهضتهم استحكامًا ويملأ حوافظهم ببلاغته الخلَّابة، فاندفعوا اندفاع السيل المنهمر، وأذهانهم ملأى بما ادخرت من الشعر الجاهلي، وما ضمَّت إليه من البلاغة القرآنية، فاجتمعت لهم بداهة الفكر، وسموُّ التصوُّر ودقة التعبير.
- أولًا: لأن النفحة القرآنية أثارت نفوسهم إثارتها للمخضرمين؛ لقرب عهدهم بها، فنَفَس حسَّان ونفَس الفرزدق واحد، وجرير يماثل كعب بن زهير، ومثله الأخطل وإن كان نصرانيًّا، بل ربما علت طبقة شعراء الدولة الأموية عمن تقدمهم من المخضرمين في البلاغة لشبوبهم عليها وتأصُّلها في نفوسهم.
- وثانيًا: لأن الشعراء كانوا أعزَّ نفسًا وأرفع شأنًا في الدولة الأموية منهم في الدولة العباسية وما وليها، وسببه أن الدولة الأموية قامت على كُره من الفريق الأعظم من المسلمين، فكانت في حاجة إلى استمالة الشعراء، فدلُّوا وعزُّوا ولم يهينوا كما هانوا بعد ذلك الزمن إذ باتوا يطلبون الزلفى تقرُّبًا من الخلفاء وبطانتهم طمعًا بمال وجرًّا لمغنم، وشتان ما كرامة المتزلّف والمترفع، فحسَّان مدح النبي ولكنه مدحه شغفًا بمناقبه، وتصح المشاكلة بينه وبين الفرزدق في مدح زين العابدين علي بن الحسين، ولكنها لا تصحُّ بينهما وبين مُدَّاح معظم المولَّدين والمُحدثين.
- وثالثًا: لأن شعراء العرب حتى أواخر الدولة الأموية لم يألفوا ترف الحضارة المتسرب إليهم من الرومان والفرس بالمخالطة، فبقيت مسحة الفطرة الجاهلية ظاهرة في شعرهم، فهم والمخضرمون طبقةٌ واحدة لا يتخللها فاصل.
ثم إنه بالنظر إلى معنى لفظة المخضرم في عُرف كتَّاب العرب لا ينكر إطلاقها على شعراء الدولة الأموية؛ لأنهم قد يعنون بها كل متوسط بين عصرين كما أطلقوها على مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية يريدون بهم الذين أدركوا الثانية من شعراء الأولى، فلا بأس علينا بهذا الاعتبار أن نطلقها توسعًا على شعراء الدولة الأموية لتوسط كثيرين منهم بين الخلفاءِ الراشدين ودولة بني أمية، والتصاق الباقين بهم.
فيبقى علينا النظر في المتأخرين من شعراءِ بني أمية الذين أدركوا دولة بني العباس، فأمثال هؤلاء يقال فيهم ما تقدم في متأخري الجاهليين الذين أدركوا الإسلام، فمن ربا شعرهُ في دولة الأمويين، وبقيت فيه صبغة المخضرمين كان مخضرمًا، ومن ربا شعره في دولة العباسيين، فكان قولهُ أميل إلى الرقة منه إلى البلاغة كان مولَّدًا، ولا يخرج عن هذا التعريف إلا نوابغ قليلون كبشَّار بن بُردْ الذين عاصر الدولتين، ولبس الحلتين، وفصَّل من الشعر ما شاءَ لما شاءَ فكان من أبلغ المخضرمين بقوله:
ومن أرق المولَّدين شعرًا بقوله:
ومثل بشَّار في المخضرمين مثل النابغة الجعدي في الجاهليين، فللنابغة شعرٌ جاهليٌ عريقٌ في البداوة، وهو القائل أيضًا:
وليس في شعر المخضرمين شيءٌ ينطبق على المعاني القرآنية ويمثل بلاغتها كهذه الأبيات.
وقد كان شعر المخضرمين آية في علو الطبقة ومتانة السبك يربو بهما على ما تقدم عنه، وما تأخر من سائر الشعراء، ولكن مبلغهم من الرقي في الحضارة أضعف فيهم نزعة المتقدمين الفطرية، فقصروا فيها عن المتقدمين، ولم يمكنهم من التأَنق في المعيشة بما استتب للعرب بعدهم من مزيِّنات العمران، فلم يدركوا شأو المولدين بالرقة والتصرف بالمعاني، وفي ما سوى ذلك كان شعرهم غاية الغايات.
ولا فرق في ذلك بين شعراء النبي والخلفاء الراشدين كحسان بن ثابت وكعب بن زهير، وشعراءِ الدولة الأموية كذي الرمة وعبيد الراعي بل ربما كان شعر الدولة الأموية أعرق في البلاغة كما تقدم، وفي ما يلي من أمثلة شعرهم ما يؤيد هذا القول.
قال حسان يمحد النبي ويفتخر:
ودونك مثالًا من مشوبة كعب بن زهير التي مطلعها: بانت سعاد … وقد وجَّهها إلى النبي يعتذر إليه، فأمَّنه بعد أن كان أهدر دمه.
فقد جمع في هذه الأبيات القليلة بين الاعتذار والحكمة، والمدح والفخر بأبدع أسلوب، وأبلغ عبارة.
ومن قول الأخطل في الهجو:
وقد زعم الأخطل أنه أهجى العرب بهذين البيتين.
ومن أمثلتهم في النسيب قول ذي الرمة:
ومَن أبلغ من الإمام علي بن أبي طالب إذ قال مبتهلًا لله تعالى:
فهذا جلُّ ما يمكن إيراده في مثل هذا الموضع من شعر أبناء هذه الطبقة ومزيته، كما ترى بلاغةٌ في المعنى، ومتانةٌ في التعبير، وإحكام في التركيب مع مَيلٍ إلى الرقة، وتلك أيضًا من مزايا الإلياذة، فإن بلاغة الأصل لا تفوقها بلاغةٌ في الكلام اليوناني، فإن ظهر تقصيرٌ في التعريب فتبعتُهُ على المعرب دون المنشئ، وإن فيها من متانة التعبير ما لا يفوقه شيء في شعر جميع الأمم، ولا سيما في مشاكلة الألفاظ للمعاني، وحكاية الأصوات مما أشرنا إليه في مواضعه.
ومدة هذا الطور الشعري مئة وخمسة وثلاثون عامًا تبتدئ من الهجرة، وتنتهي بقيام الدولة العباسية.
وعروة وصله من الطور الأول أو طبقة الجاهليين النابغة الجعدي وأمثاله، ومع الطور الثاني أو طبقة المولدين بشَّار بن بُرد.
وفحوله في صدر الإسلام حسان بن ثابت، وكعب بن زهير، وعبد الله بن رواحة، ومالك بن نُوَيرة، والعباس بن مرداس، والنمر بن تولب، وأبو ذؤيب العجلي، وفي عصر الدولة الأموية القطامي، والأخطل النصرانيان، وجرير الخطفي والفرزدق وعبيد الراعي، وذو الرمة، والكميت بن زيد، وأرطأة بن سمية، والأعشى بن ربيعة والأعشى التغلبي.
الطبقة الثالثة
قامت الدولة العباسية سنة ١٣٢ للهجرة (٧٥٠م) والسلطنة الإسلامية موطدة الدعائم مشيدة الأركان، وغزاة العرب ضاربون في المشارق والمغارب يقوضون ما تداعى من مباني الفرس والرومان، فينبذون الأنقاض البالية، ويشيدون على أساس الحزم دولةً قيض الله لها أن تكون دولة العزَّة والسلطان في ذلك الزمان، فامتلأت خزائن الخلفاء بكسب المجاهدين وجباية الأموال، وتسرب ما فاض منها إلى بيوت المقرَّبين وصنائعهم من أميرٍ وفقير،ٍ وعميد وشريد، فذاقوا حلو حضارة الدولتين الهاويتين، وتبدلوا مرقعة عمر ذلك الدثار الرثّ الذي ضمَّ بين رُدينه عماد الإسلام والمسلمين ببزَّة الخز والديباج، وعُلالته من لبنٍ وتمرٍ، وأيسر الإدام بشهي طعامٍ لُماظته الفالوذج والسكباج، وذلك الرَّحل على بعيرٍ قارح يمتطيه الخادم والمخدوم، وهما سواءٌ في شرع الإسلام بالسروج الموشَّاة على الجياد المطهمة تحفُّ بها مواكب الحشم والغلمان، فعلت القصور ووُشيت الخدور، وزها الرياش، وانبسط المعاش، والشعراء من أفراد تلك الأمة يرقون رُقيَّها في معارج العمران.
زعموا أن شاعرًا بدويًّا من رعاة الماشية ممن دبَّ وشبَّ بين الكباش والنعاج قدم حاضرةً عامرةً، فأكرمه صاحبها فمدحه بهذين البيتين:
فهمَّ بعض أعوان الأمير بقتله، فقال الأمير: «خل عنه فذلك ما وصل إليه علمه ومشهوده، ولقد توسمت فيه الذكاء فليقم بيننا زمنًا، وقد لا نعدم منه شاعرًا مجيدًا». فما أقام بعض سنين في سعة عيش، وبسطة حال حتى قال الشعر الرقيق الآخذ بمجامع القلوب، وهو في زعم بعضهم صاحب الأبيات التالية:
ومهما يكن قدر الصحة من هذه القصة المرويَّة على أساليب مختلفة، فإن فيها إشارة بيِّنة إلى تأثير الأحوال بأفكار الرجال، وفعل الحضارة بقرائح الشعراء.
وهذا كان شأن الشعراء في زمن الدولة العباسية، فإنهم رتعوا في أرجاء ذلك الملك الفسيح متربعين بعد شظف العيش على الطنافس الوثيرة في المنازل الأنيقة أمام الحدائق الغناء، وخلفاؤهم يصعدون بالأمة في سلم المدنية يحرصون على استثمار ذلك الفتح المبين؛ فيدَّخرون ما تلقَّوه عمن تقدمهم، ولا يألون جهدًا في إحكامه وإلقائه حتى بهروا الغرب بما تجمع لديهم من ذخائر السلف النفيسة، وإن التحف الغراء التي كان هارون الرشيد ينفح بها شارلمان من غرر تلك الكنوز، ومن جملتها ساعته التي تلقاها سلطان المغرب آية من الآيات لا تبقي مجالًا للريب في مبلغ الثروة العباسية، واستحكام النهضة وسريانها من العراق إلى مصر والشام والأندلس، وسائر البلاد التي طرقها المسلمون.
فلا بدع، وكل ذلك مشهود الشعراء أن تتثقف أذهانهم وتتروَّض نفوسهم، وتتسع مداركهم، ويرق تصوُّرهم ويمرحوا في روضٍ من الشعر أريض يجولون فيه جولةً لم تتوفر أسبابها لسلفائهم.
ولهذا لم يكن لشاعرٍ جاهلي أو مخضرم أن يبدع إبداع الرقاشي بقوله:
أو يرق رقَّة أبي نواس بقوله:
فلا ريب أن هذين القولين أوقع في النفس من قول عنترة:
فإذا أبدع عنترة بهذا الوصف في زمانه بين قومٍ يهيمون في الفلوات على ظهور الإبل بين مضارب البادية، فإنه لا يطرب جلساءَ أبي نواس والرقاشي في محافل الأنس، ومغاني التأَنق والعيش الرغيد.
وقد بلغ المولّدون الدرجة القصوى من التصرف بالمعاني، وجزالة اللفظ ودقة السبك، فصعدوا بالشعر درجةً لم يبلغها المتقدمون، وهيهات أن يدركها المتأخرون، وكان هذا ديدن الفريق الأعظم منهم في جميع الأبواب التي طرقوها، فأيُّ غزلٍ أرق من قول أبي نواس:
وقول البحتري:
وأي تشبيه أبدع من قول ابن المعتز في القلم:
وقولهُ:
ومثله قول ابن الرومي في قوس الغمام:
وأيُّ كلام في المدح أطلى من قول ابن هانئٍ:
ومن تُرى أعلى كعبًا بالحكمة والزهد من أبي العلاء، وهو القائل:
ومن أبدع إبداع أبي الطيب بالتصرف بالمعاني، وجمع شتاتها، ويكفيك قولهُ:
وإن المقام ليضيق عن الاستزادة من هذه النفائس، فإن ما أوردناه منها ليس إلا ذرَّة من دُرَّة.
نظرةٌ في شعر المولّدين
لم يكن لفريقٍ من الناس أن يدعي الكمال حتى الشعراء، والمولدون مع بلوغهم من البلاغة، وإحكام الصنعة أقصى الدرجات فإنهم يؤاخذون، ولا سيما المتأخرين منهم على مغامز ترجع إلى خلالٍ أربع:
-
الخُلَّة الأولى: اقتضاب الوصف الشعري فلا تبرز الحقيقة جليَّة على فطرتها في كثيرٍ من
شعرهم، ويستثنى من ذلك الحكَم والأمثال، وكذلك الأبحاث العلمية التي
ليست من لباب الشعر، ويندر أن شاعرًا يعمد إلى وصفٍ فيستتمهُ ويرسمهُ
رسمًا جليًّا كاملًا كما رأيت في أسد بشر، وثور عبدة، فترى الأفكار
متزاحمة والمعاني متلازَّة في منظوماتهم، فتختلُّ اللُّحمة بينها،
وتأتي متراكمة، فيفوت السامع شيء كثير مما تصوِّروه وقصَّروا في
تصويره، فهم بهذا الاعتبار قد عدلوا عن منزع الفطرة، وأبعدوا عن
البداهة الجاهلية، وتحوَّلت معهم المقاصد الشعرية إذ بات مرماهم فيها
جرَّ المغانم، ودفع المغارم.
وإن كلامنا في كل ذلك إجماليٌّ لا يؤخذ منه خلو شعر المولدين جميعًا من بدائع الوصف التام، وإجادة التصوير فقد تجد في شعر المولدين ما يضاهي منحى الجاهليين، وإن رمت مثالًا لذلك فاقرأ قصيدة المتنبي التي مطلعها:
في الخدِ إن عزم الخليط رحيلًامطرٌ تزيد به الخدود نحولا -
الخُلَّة الثانية: تبذُّ لهم في المديح حتى جعلوا الشعر صناعة للتكسب، ومهنة للاسترزاق
فكاد يمتهن الشعر، وتنحط طبقة الشعراءِ في عيون عظماء الأمة، ولو تتبعت
أقوال فحولهم؛ كالبحتري، وأبي تمام، والمتنبي ما رأيته يتعدَّى المدح
للمحسن إليهم، والهجاءَ للممسك عنهم، بل ربما هجوا ممدوحهم، ومدحوا
مهجوَّهم؛ طمعًا وتشفيًا كما كان شأن المتنبي مع كافور.
ولا يستثنى منهم سوى أفرادٍ خرجوا ترفُّعًا من موقف الذلَّة والمسكنة، إما لسعةٍ في حالهم، ورفعة في درجتهم الموروثة كابن المعتز، وأبي فراس، فذلك من أبناءِ الخلفاءِ، وهذا من نسل الأمراء، وإما لحكمة فطروا عليها، وأَنَفة في طباعهم وزُهد في نفوسهم كالمعري، وما أقل أمثاله بين المتقدمين والمتأخرين؛ ولهذا كان المعري يرجح كثيرًا في ميزان الرجال على المتنبي وأمثاله مع أن الرجحان بيِّن للمتنبي في ميزان الشعراء.
-
الخُلَّة الثالثة: ابتذال الغزل ووصف الغرام حيث لا محرك إليه إلا التوطئة للمديح،
فجاءَ أكثر ما نُظم من هذا القبيل غير مثير للعاطفة، ولا مؤَّثر في
النفس، وإن كثُر فيه الحنين والأنين بخلاف ما يقصد به شخص معين كما
رأيت في قصيدة ابن زُريق.
وهو ثابتٌ أن التوطئة بالغزل ليست من بدَع المولَّدين بل هي خطةٌ درج عليها الشعراء من أيام الجاهلية، على أن الجاهليين لم يبتذلوها ولم يتعمدوها إلَّا في أحوال مخصوصة كان يزدان بها شعرهم، ولم يصف شاعرهم في أكثر المواقف إلا غرامًا برح به كما ترى في غزليات امرئ القيس وعنترة، وإذا تعدَّى تلك الخطة فلم يتعدَّاها إلا قليلًا، بخلاف المولدين إذ كانوا يتكلفون الغزل تكلفًا كأنه من لوازم الاستهلال.
والظاهر أن كثيرين من ذوي الرؤية والنقد كانوا ينكرون تلك الطريقة حتى في إبَّان الزمن العباسي.
قال الإبشيهي: «مدح أبو العتاهية عمرو بن العلاء٩٤ فأعطاه سبعين ألفًا، وخلع عليه خلعًا سنية حتى أنه لم يستطع أن يقوم، فغار الشعراء منه فجمعهم وقال: يا لله العجب ما أشد حسد بعضكم لبعض إن أحدكم يأتينا ليمدحنا، فيتغزل في قصيدته بخمسين بيتًا فما يبلغنا حتى يذهب رونق شعره» قد تشبب أبو العتاهية بأبيات يسيرة ثم قال:إني أمنتُ من الزمان وصَرفهِلما علقتُ من الأمير حبالالو يستطيع الناس من إجلالهجعلوا له حرَّ الوجوه نعالاإن المطايا تشتكيك لأنهاقطعت إليك سباسبًا ورمالافإذا وردنَ بنا وردنَ خفائفًاوإذا صدرنَ بنا صدرنَ ثقالاوإذا أردت دليلًا محسوسًا على صحة هذا النقد فخذ قصيدتين من مختار شاعرٍ واحدٍ وطأ الشاعر بالغزل في إحداهما، وولج الموضوع توَّا في الأخرى فتبدو لك فورًا مزية مطلع الثانية على الأولى.
فمن مختار ابن هانئ قصيدته في مدح المعز ومطلعها:
فمن في مأتمٍ على العشاقِولبسن الحداد في الأحداقِوبكين الدماءَ بالعنم الرطــب المقنى وبالخدود الرقاقِوقصيدته في المعز أيضًا ومطلعها:
ما شئت لا ما شاءت الأقدارُفاحكم فأنت الواحد القهارُوكأنما أنت النبي محمدٌوكأنما أنصارك الأنصارُومن مختار المتنبي قوله في سيف الدولة مستهلًا:
لعينيك ما يلقى الفؤَاد وما لقيوللحب ما لم يبق مني وما بقيوما كنت ممن يدخل العشق قلبهولكن من يبصر جفونك يعشقِوقوله في مطلع آخر قصيدة قالها وهي في سيف الدولة أيضًا:
فدى لك من يقصر عن هداكافلا ملكٌ إذن إلا فداكاوإن قلنا فدى لك من يساويدعونا بالبقاء إن قلاكاأفلا تُراك تؤثر مطلع رائية ابن هانئٍ وكافية المتنبي على قافيتيهما.
ولا يجب أن يستفاد مما تقدم أننا ننكر التوطئة على الإطلاق، فإنها إذا جادت ووقعت في موضعها ووافقت موضعها، فإنها تشق شغاف القلب وتذكي شرارة النيرة، فتهيم بها البصائر كما يقع لسامع قصيدة أبي تمام التي مطلعها:
السيف أصدق أنباء من الكتبفي حده الحد بين الجد واللعبِبيض الصفائح لا سود الصحائف فيمتونهنَّ جلاء الشك والريبِفقد أراد مدح المعتصم العباسي على إثر فوزه ذلك الفوز المبين، وتنكيله بجيوش الروم وفتحه عُمورية، فوطَّأ لمدحهِ توطئة استهلها بما تقدم، وما أجملها توطئة لمثل ذاك المديح.
ومما يُحمد عليه المولدون بهذا المعنى توطئتهم للرثاء بالزهد وأشباهه.
-
الخُلَّة الرابعة: تجاوزهم في المجون وبذاءَة التعبير إلى ما لا يستبيحه أدب المجالس،
ويغضُّ من قدر الشعر ومنزلة الشعراء، وهذا أيضًا ليس من بدع المولّدين
بل سبقهم إليه شعراء الجاهلية والمخضرمون حتى أودعه امرؤ القيس معلقته،
وفي أهاجي جرير والأخطل والفرزدق ما لا يُعد مفخرة لأمثال أولئك
الفطاحل، ولكن الجاهليين كانوا يأتونه عفوًا على البداهة، فاستمسك به
المخضرمون وأوغلوا فيه إيغالًا أدَّى بالمولدين إلى التفنن به تفننهم
في سائر ضروب الشعر، وفحشوا فيه فحشًا فاضحًا، ومن ذا الذي يقرأ أهاجي
أبي تمام لمقران، والمتنبي لابن كيغلغ، ومجونيات الصفي الحلي، ولا ينكر
أن تشان بدائع منظوماتهم بتلك السفاسف الهجينة، وأغرب من هذا أن كثيرًا
من تلك البذاءات ممتزحٌ بدررٍ من المعاني تضيق عنها أرحب القرائح، فإذا
قرأت قصيدة المتنبي التي يستهلها بقوله:
لهوى النفوس سيرة لا تُعلمعرضًا نظرت وخلت أني أَسلمُ
فإنك ترى فيها من غرر المعاني، وأبكار الأفكار ما جرى أكثره مجرى الأمثال، وتنوقل جيلًا بعد جيل في أندية الأدب وحسبك منها قوله:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقلهوأخو الجهالة في الشقاوة ينعمُوالناس قد نبذوا الحفاظ فمطلقينسى الذي يولي وعافٍ يندمُلا يخدعنك من عدوٍ دمعهوارحم شبابك من عدوٍ ترحمُلا يسلم الشرف الرفيع من الأذىحتى يراق على جوانبه الدمُوالظلم من شيم النفوس فإن تجدذا عفة فلعلة لا يظلمُومن البلية عذل من لا يرعويعن جهله وخطاب من لا يفهمُومع هذا فإنك لا تتمالك من الإنكار على الشاعر خلط هذه النفائس بتلك الخسائس.
وأقبح من كل ذلك تشببهم بما لم يشرعه الله، ولم يسق إليه الطبع، ولم يفش قبلهم في شعر الجاهليين وإنما هو بدعةٌ اقتبسوها بملابسة المدنية الجديدة، فما أوغل إمامهم أبو نواس في ذلك النهج البذيء حتى هبوا إلى تحديه.
والظاهر أن ذلك التراخي كان مندمجًا بروح العصر فانتهجه الشعراءُ، وسلك مسلكهم صفوة الأدباء كالبديع الهمذاني والحريري، وسمَّوه أحماضًا كأنه فكاهةٌ مستملحةٌ يتطلبها كل أديب أريب؛ ولهذا قال الحريري في مقدمة كتابه: «وما قصدت بالأحماض فيه إلا تنشيط قارئيه».
ذلك ما يعاب عليه المولدون ما خلا رهطًا منهم سما أدبا، وتهذب عقلًا ونفسًا.
أما إلياذة هوميروس فهي على ما وصلت إلينا نقيَّةٌ من تلك المغامز لا يؤاخذ صاحبها على شيء من هذا الخلال الأربع، أما الخُلَّة الأولى فلأن الشاعر جاهلي وحيثما تصفحت شعره رأيته أبدع في الوصف ورسم الحقائق، وأما الثانية والثالثة، فلأنهما مخالفان لطبعه، وذلك بادٍ في كل منظومه، وأما الرابعة فقد تحاشاها الشاعر لسموٍ في أدبه مع ما كان فاشيًا في عصره من الاستسلام للشهوات كما أثبتنا في ترجمته؛ ولهذا جاءت إلياذته نقية لا يتخللها شيءٌ مما تحظر قراءَته حتى على الغادة العذراء.
مناهج المولدين في أبواب الشعر وفنونه وأساليبه
لم يقتصر المولَّدون من الشعر على نظمه بل نظروا فيه ومحَّصوه، وانتقدوه، وعارضوه بعضًا ببعض، وبحثوا فيه بحثًا علميًّا، ووضعوا أصوله وبوَّبوا فصوله، وجمعوا مختاره، وعينوا فنونه ووازنوا بين الشعراء، وكتبوا في كل ذلك الأسفار الطويل بين نثرٍ وشعرٍ مما لا يتسع له بحثنا.
وقد جعلوا الشعر بالنظر إلى معناه أبوابًا حصرها أبو تمام في عشرة، وأبلغها ابن أبي الإصبع العدواني إلى ثمانية عشر، وهي: الغزل، والوصف، والفخر، والمدح، والهجاء، والعتاب، والاعتذار، والأدب، والزهد، والخمريات، والرثاء، والبشارة، والتهاني، والوعيد، والتحذير، والملح والسؤال، والجواب، وزادوا عليها الزهريات، والحكم، والمجون، والحماسة، وهي أشرفها عندهم وأجادوا في كل ذلك.
وأكثر من كلِف منهم بذلك متأخروهم كالحريري، وابن الفارض، وصفي الدين الحلي، وأن تخميس الصفي لحماسية السموأل من أجود ما قيل بهذا ومطلعها:
وفي ديوان ابن الفارض كثير من الدوبيت واللغز كقوله:
وقوله ملغزًا في بقله:
وللحريري ألغاز وأحاجي، ومعميات، وأحسنها بل أحسن ما قيل بهذا المعنى يائيتهُ الطويلة التي مطلعها:
دور
كانوا ينهجون هذا النهج في طوال الموشحات، ولهم في ما سوى ذلك طرقٌ كثيرة تغنَّوا عليها، وخالفوا فيها أوزان الشعر المشهورة، وتراهم ينقرون في بعضها على أوتار الأفئدة كما ترى في قول ابن أبي بكر الأبيض في مطلع موشح:
وقول عبادة القزاز:
هذا الذي يقوله المؤرّخون في أصل الشعر العامي، والذي نراه أنه أقدم من ذلك العهد بل نخاله معاصرًا للشعر الجاهلي، وللبغداديين أيضًا من هذا النوع القُوما، قيل كانوا ينشدونه عند السحور في رمضان سمي بذلك من قول المغنين «قوما نسحر قوما» وجعلوه على وزن هذه الكلمات الثلاث، وتفرع عنه فروع دعوها الزهري والخمري وغيرهما، ولهم غير ذلك من الشعر العامي مما لا محل لذكره.
وجرى كثيرون من شعراء المولدين مجرى أبي العتاهية في جمع الحكم والأمثال في القصائد الغرَّاء، فمنهم من نظمها مجرَّدة عما سواها من المقاصد كأبي الفتح البستي في النونية المعروفة التي مطلعها:
ومثلها لامية ابن الوردي:
ومنهم من أودعها قصائد قيلت لمقاصد معلومة كما فعل ابن دُرَيد في منظومته المعروفة بالمقصورة الدريدية، وقد أراد بها مدح الشاة ابن ميكال وولديه ومطلعها:
ومن هذا القبيل قصيدة الطغرائي المعروفة بلاميِّة العجم، إذ قالها لغرضٍ في نفسه، ومزج فيها الحكم بالفخر كما ينبئك مطلعها:
وأبناء هذا الفريق الأخير من الشعراء يتجاوزون حد الحصر، ويندر أن ترى شاعرًا لم يودع شعره شيئًا من الحكم والأمثال بل كان كثيرون منهم يوطئون بها للمدح والهجاء، والوصف والرثاء، فتقوم لديهم مقام التوطئة بالغزل.
ويقال في الجملة: إن المولدين مع تبذُّلهم في المدح طرقوا جميع أبواب الشعر مما تقدم ذكره، ولكنهم قلَّما اقتصر الشاعر منهم في القصيدة الواحدة على بابٍ واحد بل كانوا يمزجون مزجًا يُمَلُّ أحيانًا، ولكنه يُطرب أحيانًا كثيرة ولا سيما في القصائد الطويلة التي لا بد من تفكيه سامعها بما يثنيه هنيهة عن مرمى الشاعر، وربما جمع شاعرهم بين الغزل والحكم والأمثال، والزهريَّات والفخر، والمدح في قصيدةٍ واحدة وأطربك في كل ما قال لبلاغته، وطلاوة شعره وحسن تصرفه، وحسبك مثالًا من ذلك قصيدة ابن الرومي المسماة حديقة الشعر، وهي التي مدح بها إسماعيل بن بلبك في ما ينيف على مئتي بيت، فبينا تخاله مستهلًا بزهريةٍ، فيقول:
إذا بك تراه متغزلًا، فيقول:
فإذا أسكرك بنشوة تلك الصهباءِ وقف خطيبًا واعظًا، فقال:
ثم إذا تخلص إلى المدح أودعهُ المعاني الشائقة، والحكم الرائعة، وإذا انتقل منه إلى العتاب وطلب النوال ألبس ذلك جلبابًا بهيًّا، واختتم بما لا يصلح سواه أن يكون تاجًا لتلك الغادة الهيفاءِ فقال:
وهكذا فإنه يظل يرتقي بك درجةً بعد أخرى، وهو يهيجك طربًا حيثما وقف بك ويحوم حول مطلبه حتى يلجئك إلى استتمام سماعه فلا تشعر إلا وقد أتيت على قصيدته برمَّتها، وأنت مشغوف بطلاوتها فقلت: «هلَّا زادني منها رحمه الله».
وهذا المنزع بعينه هوميروس في إلياذته، ولو لم تكن حديقة ابن الرومي خليةً من أخبار الشعر القصصي لقلت هي شطر من تلك الملحمة التي خلب بها هوميروس عقول رواته وقرَّائه، وكأني بابن الرومي وفيه لمحةُ من كنيته التي كان يعيَّر بها في زمانه إلى جرثومةٍ في أصله أو عرفانه كانت تحمله على تحدِّي هوميروس في كثيرٍ من أساليبه ومعانيه وتشبيهاته.
وللمولدين أقوالٌ ساحرةٌ في التشابيه والكنايات والاستعارات، وكانوا كلما أبعدوا عن الحقيقة فقصروا فيها عن الجاهليين أوغلوا في الخيال، ففاقوا المتقدمين بسعة التصوِّر وضروب المجاز.
علوم الأدب عند المولّدين
ليس من شأننا هنا التعرض لجميع ما تنطوي عليه علوم الأدب في عرف بعض العلماء من نحوٍ وتصريفٍ، ولغةٍ واشتقاقٍ وأمثالها بل نقصر الكلام على ما كان منها خاصًا بالشعر كالعروض أو ملازمًا له كالبديع والبيان.
فالمولّدون هم الذين فتحوا باب البحث في صناعة الشعر، وقيَّدوا شوارده، وفصَّلوا قواعده، وشاركهم في ذلك النحاة والأدباء وعلماء اللغة، فضبطوا الأوزان ووزنوا المعاني، وصيروا قرض الشعر علمًا بعد أن كان ملكةً لا ضابط لها إلا القياس السماعي.
وقد كان ذلك القياس يكفل استبقاء تلك المَلَكَة أيام كان العرب في معتصمهم يتخالطون في البوادي والحواضر، وتجمعهم سوق عكاظ كل عام، فتُقَوِّمَ ما اعوجَّ من منطقهم، ولا يخالطهم الأعاجم مخالطةً تعبث بلسانهم على أن إيغالهم في أطراف المعمور، وانتشار لغتهم انتشارًا لم يكن انتشار اليونانية واللاتينية بإزائه شيئًا مذكورًا، وامتزاجهم بسائر الملل كل هذا أحدث انقلابًا ألجأهم إلى تقييد أصول الشعر على إثر تقييد أصول اللغة.
العروض
فكان أول ما استلفت نظرهم ضبط الأوزان، فوضع الخليل بن أحمد علم العروض نحو سنة ١٥٠ للهجرة أي: في أوائل العصر العباسي عصر المولِّدين.
ويقول بعض المتقدمين من كتَّاب العرب: «إن العروض علمٌ خاصٌ بالعربية، وأن الخليل استنبطه، ولم يسبقه إليه أحدٌ في لغةٍ أخرى مع أن أرسطوطاليس ضبط قواعده للغة اليونان، وله فيه تأليفٌ يعوَّل عليه» ولأكثر اللغات قواعد ضابطة لأصول الشعر وعروضه، ويؤخذ من قول ابن خلّكان في ترجمة الخليل أنه ألمَّ باليونانية، وفك معمَّى أرسل إليه فيها، ولكنه لا يثبت من كل ذلك أن الخليل وقف على كتاب أرسطوطاليس في العروض واعتمد عليه، وخصوصًا أن العروض العربي مختلف في جميع أوضاعه عن عروض اليونان، ومن جرى مجراهم، وعلى كلٍ فإن للخليل فضلًا على الشعر العربي يضاهي أبي الأسود الدُّؤلي على نحو اللغة بل يربو عليه؛ لأنه لم يكن للخليل مرشدٌ إلى استنباطه، ولا شريكٌ فيه، ولا يكبُر على الخليل أن يكون مستنبطًا بلا دليلٍ سابق يسترشد به؛ لأن الاستنباط كان في طبعه، وله مما خلا العروض استخراجاتٌ كثيرة تدلُّ على سعة عقل لمَ يقدرها ابن المقفَّع قدرها إذ قال: «علم الخليل أكبر من عقله».
والغريب أنه كاد يبلغ بهذا العلم حد الكمال منذ فكر فيه وضعه إذ قيَّد جميع البحور التي انتهجها العرب، ولم يُزَد عليها من بعده إلا بحرٌ واحد هو المُحدَث أو الخَبب، ويقال له: المتدارَك أيضًا؛ لأن الأخفش تداركه على الخليل، ولا عبرة بما استعمل المولَّدون من الأوزان الفارسية كمنقول الفاريابي والدُّوبيت، وما عدلوا به عن الأوزان المألوفة في الموشحات والأغاني، وما زادوا فيه من تقييد العلة والزحاف، فذلك عرضٌ ينفسح للتسوع فيه مجالٌ رحب؛ ولهذا يصحُّ أن يقال: إن علم العروض خُلق كاملًا؛ لأن الخليل أحكم تمثيل جميع القوالب الشعرية وتطبيقها على جميع منظوم العرب في الجاهلية.
البديع
رأيت أن المولدين تفننوا في الصناعة الشعرية، ونهجوا مناهج لم يسبقهم إليها الجاهليون والمخضرمون، وتلاعبوا بالألفاظ والمعاني، فمست الحاجة بعد صوغ تلك القوالب إلى توشيتها والنظر في إحكام زخرفها، فوضعوا علم البديع بفرعيه اللفظي والمعنوي، فكان اللفظيُّ ألصق بالشعر منه بالنثر، والمعنوي يتناول جميع فنون الإنشاء من شعرٍ ونثرٍ على حدٍّ سواء.
وأول من كتب في البديع فيما نُقل إلينا شاعرٌ كُلِفَ بأنواع التشابيه والاستعارات، فكان قوله فيهما حجة الكتَّاب والشعراء ألا وهو ابن المعتز العباسي، ولم يكن بين المولدين من هو أولى منه بوضع هذا الفن، فكتب في صنعة الشعر، ووضع رسالة في البديع كانت أساس هذا العلم، وذلك في أوائل الشطر الأخير من القرن الثالث للهجرة أي: بعد أن وضع الخليل علم العروض بأكثر من قرن.
ولا بدع أن يكون واضع هذا العلم شاعرًا، وإن كان العلم بنفسه غير خاصٍ بالشعر كالعروض، فالعلماءُ والشعراءُ يتعاونون على إحياء الأدب، فالشاعر صنَّاجة جيش العلماء، والعالم نبراس جند الشعراء.
وهكذا فإننا نعدُّ من مآثر المولّدين وضع علمين عربيين استنبطاهما استنباطًا بالنظر إلى العربية، وهما: العروض، والبديع اللفظي.
البيان
أما البيان بما يشمل من علم المعاني والبديع المعنوي فليس من وضع العرب بحصر المعنى، وإن كانوا طبقوه على التراكيب العربية، فقد استمدُّوا أصوله من اليونان والسريان والفرس كما استمدوا المنطق من كتاب أرسطوطاليس وغيره من علماءِ المتقدمين، وكان للفرس في البيان اليد الطولى، ولجعفر البرمكي كلامٌ فيه ما زال يُنقل عنه، على أن للمولدين فيه النظر العالي والفضل الواسع بما أحسنوا في تبويبه، وأحكموا في ترتيبه حتى ألبسوه حلةً عربية، ومع هذا فلم يبلغ حتى يومنا درجة الكمال التي بلغها العروض والبديع اللفظي.
فهذه علومٌ ثلاثة وضعها المولّدون إحكامًا للصناعة الشعرية وأساليب الإنشاء، وليس من شأننا أن نتطالَّ إلى ذكر سائر العلوم التي لها علاقةٌ بالشعر قريبةٌ أو بعيدة، فهي كثيرة ولا سيما في هذا العصر حيث لا غنى للشاعر عن الإلمام، ولو قليلًا بكثير من العلوم.
أطوار شعر المولَّدين ومزاياه
كانت مخالطة المسلمين للأعاجم في عصر العباسيين على خلاف ما كانت عليه لعهد الدولة الأموية، فإن الأمويين كانوا لأغراضٍ ليس من شأننا البحث فيها يترفعون في أغلب الأمور عن الأجانب، فظلوا على قربهم منهم بعيدين عنهم بالمجالسة والمحادثة والامتزاج، فخفي عنهم كثيرٌ مما كانت معرفته غير ضارة، وأما العباسيون فاختلطوا بالأعاجم اختلاطًا مكَّنهم من استطلاع خفاياهم وقرَّبوا إليهم كل ذي جاهٍ وسياسةٍ، وعلمٍ وأدب، وأجزلوا العطاءَ لكل عضوٍ مفيد في ذلك الملك الواسع سواءٌ كان عربيًّا مسلمًا أو يهوديًّا عبرانيًّا أو نصرانيًّا سريانيًّا أو فارسيًّا أو يونانيًّا، فأحاطوا بكل معارف زمانهم وألِف أبناء دولتهم أنواع معيشة البشر، فاتسعت على أثر ذلك معارف الشعراء وتفننوا في صناعتهم على وجوه لا عهد للمتقدمين بها.
وهذا كان شأنهم في جميع البلاد التي ملكوها، والشعراءُ على مذهب ملوكهم يقتبسون من كل وادٍ ونادٍ، فعمَّت النهضة الشعرية وكانوا جميعًا فيها سواء.
ولكن زمن تلك النهضة طال كثيرًا واتسع نطاقها اتساعًا عظيمًا، فظهر فرقٌ في منظوم الشعراء بالنسبة إلى الزمان والمكان، وهو ما نريد إجمال الإشارة إليه.
على أنه لا يجب أن يؤخذ من قولنا أن المولدين يُقسمون بالنظر إلى الأزمنة والأمكنة إلى طبقاتٍ تنفرد كلٌّ منها بمزية خاصة بها إذ قد ترى شاعرين بينهما قرون، ونهجهما واحد، وأساليبهما متفقة، ومعانيهما متقاربة، وقد نشأ كلٌ منهما في بلاد، فإنما نحن ناظرون إذن إلى النزعة الغالبة في كل عصرٍ وقُطر.
فإذا أمعنت في شعر المولدين بالنظر إلى الزمان رأيت شعار المتقدمين منهم الرقة والرواء، وظل هذا شأنهم حتى أواخر القرن الثالث للهجرة أي: نحو ١٧٠ عامًا، والباعث الأعظم لذلك ولوجهم في ترف العيش، ونضارة الحضارة، وهم وإن ظلَّ كثيرون منهم في عيشٍ خشن إلا أن من لم يتمتع منهم فقد نظر وخبر، وقد يَفْضُل وصف الرقيب وصف الحبيب، وأوَّل من مهَّد ذلك السبيل مخضرمو الدولتين؛ كبشَّار بن بُرد، ومروان بن أبي حفصة، وتابعهم خلفاؤُهم كأبي العتاهية وأبي نواس والبحتري، وما زالوا على ذلك حتى قام ابن المعتز، وابن الروي، وبهما خُتم ذلك العصر الزهي عصر الرونق والبهاء، فإذا قرأت شعر جميع من تقدم ذكرهُ رأيته يسيل عذوبةً وسلاسةً، وقد تميز برقته وانسجامه.
وتبعتهم الطبقة الثانية من المولدين، وكانت أدمغة الشعراء قد امتلأت حكمةً وفلسفةً مما نضج من ثمار العلم، فأوغلوا في المعاني الدقيقة وتطلبوا الأفكار السامية وصاغوا للتشبيه قوالب شائقة من الكناية والاستعارة، فوسعوا أبواب المجاز وأخذوا بناصية الخيال فقربوه من الحقيقة، وشعارهم في كل ذلك سمو التصور، وكان هذا ديدنهم من المتنبي وأبي فراس الحمداني وابن هاني، وأبي العلاء المعري، وأبي إسحاق الصابي، وأبي إسحاق البستي، والشريف الرضي حتى الخفاجي، وابن زيدون الأندلسي في مدة زهاء ١٧٠ عامًا كمدة الطبقة الأولى.
ثم أتت الطبقة الثالثة في أواخر القرن الخامس للهجرة، والشعر بحكم البناء موطد الأركان والعلوم البيانية مفصلة القواعد، فعمدوا إلى تنميق الشعر والتفنن بزخرفة وتوشيته بأنواع البديع، والمجيدون منهم يحكمون رصف المعنى الدقيق باللفظ الرشيق، ولكن بعضهم أفسدوا بهجة المعاني بتوخي التجنيس، ومع هذا فقد كان منهم نوابغ لا يكادون ينحطُّون منزلةً عمن تقدمهم كالطغرائي (وهو متوسط بين هذي الطبقة والطبقة الثانية) وابن خفاجة الأندلسي وابن قلاقس الإسكندري، وابن النبيه المصري، وابن الفارض، والبهاءُ زهير المصري، والشاب الظريف، وصفي الدين الحلي خاتمتهم، وطالت مدة هذه الطبقة من المولدين نحو ٢٦٠ عامًا أي: إلى حوالي سنة ٧٣٠هـ، فكان عصر المولدين جميعًا ستمئة عام.
وأما بالنظر إلى المكان فأبناءُ البلاد العربية ظلوا جانحين إلى البساطة الجاهلية؛ لانطباع تلك الأخلاق في نفوسهم، وبرز المصريون في الرقة والعذوبة لدماثةٍ في خلقهم، ورقةٍ في طبعهم، وغلبت البلاغة والمتانة في العراقيين لشدَّةٍ في فطرتهم وملابستهم لأهل البادية، ومال الأندلسيون وسائر أهل المغرب إلى التفنن بأساليب الشعر، ووصف الغياض والرياض لنضارة أرضهم، ووقف السوريون بين المصريين والعراقيين، فجمعوا بين رقة الأولين وبلاغة الآخرين، ولكنهم لم يبلغوا مبلغ فريقٍ منهم في إحكام صنعته.
طبقة المُحْدَثين أو المتأخرين
ليس في عصر المتأخرين ما يستوقف النظر، فهو عصر الانحطاط والتقليد فإن الدول العربية كانت قد دالت، وتغلب الأعاجم على ممالك الإسلام، ولولا القرآن لبادت لغة قريش المضرية كما تقدم وبانت في عداد اللغات الميتة، وقامت في إثرها لغاتٌ لا يتفاهم أصحابها، والعباسيون وهم أصحاب ذلك اللواء الخافق بين المشرقين كانوا قد هبطوا من سماء مجدهم لقرونٍ خلت، ولكن أسس العلم أرسخ من أسس الدول، فالدول تدول وملكها يزول، وتبقى معالم حضارتها وعرفانها، ولولا ذلك لانطفأت جذوة النهضة العباسية في أواخر القرن الثالث للهجرة حين لم يبق للعباسيين من حقيقة السلطان إلا طيف خيال، ولكان شاعرهم ابن المعتز آخر من أسلم تلك الراية البيضاءَ بيد الجلَّاد الذي تولَّى قتله، ولكن قاهر الدول ومبيدها يذل دون إبادة معارفها؛ ولهذا تعاقبت الأحقاب وشرارة النهضة العباسية لاهبة تتضرَّم في أفئدة الشعراء تضرُّمها في عقول العلماء، ولم تخمد إلَّا بعد أن بلغت الحد المقضي لكل مفطورٍ ومنظور.
ومع هذا فإن تلك الجذوة ما زالت ترسل قبَسًا تذكو به قريحة شاعرٍ حينًا بعد حين حتى لا تخلو الأرض في زمنٍ من شعراء العرب، وحسبك النظر إلى ابن نُباتة المصري في القرن الثامن، وابن حجر العسقلاني في القرن التاسع، وعبد الباقي المعروف عند الترك بملك شعراء الروم في القرن العاشر، وابن معتوق الشهاب الموسوي في القرن الحادي عشر، وعبد الغني النابلسي في القرن الثاني عشر.
ويقال مع ذلك إجمالًا أن الانحطاط في الشعر العربي أخذ يظهر قبل انقضاء عصر المولدين، وبات التقليد شعار المتأخرين، وحبذا لو كان تقليدًا صحيحًا بل هو شوَّه وجه الشعر، ولا سيما في القرنين الأخيرين إذ بات شاعرنا، ولا إلمام له بأحوال عصره فضلًا عن أحوال المتقدمين يتحدَّى امرأ القيس، فيضرب في البوادي والقفار، وهو في بيتٍ موصد الأبواب، ويسوق الظعن وهو على متن قطار البخار، ويترنم ببهجة الرقمتين وينيلهما من كرمه صفات جنة عدن، ولا يدري أنهما مطمئنان من الأرض في بادية قفرة تقتله أشعة الشمس إذا وقف إليهما ساعة واحدة، وهو لو فطن يتنقل في موطنه في روضٍ أريض، وجناتٍ تجري من تحتها الأنهار، حتى لو أردت أن تستدل من شعرهم على شيء من حالة مجتمعهم لأعياك ذلك، وغاية ما يرتسم في ذهنك صورٌ مشوَّهة لا يُعلم لها رأسٌ من ذيل.
ولما كانت الكنانة فارغة من سهام المعاني عمدوا إلى قذف الألفاظ مزوَّقة بحليةٍ يتسترون من ورائها وما هم بمتسترين، حتى كأن قدماء العروضيين كانوا ينظرون إليهم عندما وضعوا للشعر ذلك التعريف الناقص، فقالوا: «هو الكلام المقفَّى الموزون» ولم يزيدوا.
الشعر العصري
لم يبق للشعر بعد تلك الرقدة الطويلة إلَّا أن يهبَّ هبةً جديدة بطورٍ جديد، وروح حية، وفي الأمة والحمد لله بقيةٌ متأهبةٌ لولوج ذلك الباب الرحب، وهي شاغرةٌ منذ نصف قرن بوجوب مجاراة الزمان، وعالمةٌ أن التصدي لمصادمة تيَّار الترقي غرور عاقبته الزيغ والخذلان؛ ولهذا شرع النوابغ من أبناء هذا العصر في تعديل الخطة، فكانت لهم اليد البيضاء، وأسفر جهدهم عن إبراز الشعر الرقيق بالثواب الأنيق، وما هو إلا قَبسٌ فاض من غرَّة هلالٍ سيتكامل بفضلهم بدرًا إن شاء الله.
الملاحم أو منظومات الشعر القَصصي
بحث العرب في أبواب الشعر وضروبه وفنونه، ودعوها جميعًا بأسماء تنطبق عليها، ولكنه لم يتصل بنا أنهم وضعوا اسمًا لمنظومات الشعر القصصي من نظائر الإلياذة إلا أن يكون ذلك ما استحدثه أهل المغرب، وسمَّاه بعضهم بالملاحم، وهو عندهم كالملاعب بالشعر العامي ما تضمن من المنظوم أحوال أمةٍ أو قومٍ وفُصلت فيه وقائع الحروب والتاريخ، ولعلهم أخذوا ذلك من التحام القتال، والملحمة في اللغة: الوقعة العظيمة، وربما قُصد بها الإحكام من لَحَمَ الأمر بمعنى: أحكمهُ؛ لأن من ألقاب صاحب الشريعة الإسلاميَّة «نبيُّ الملحمة» وقالوا في تفسيرها: «نبيُّ القتال أو نبي الصلاح، وتأليف الناس كأنه يؤَلف أمر الأمَّة.
ويقول العرب أيضًا: أَلحم فلانٌ الشعر، وحاكه بمعنى: نظمه تشبيهًا لبيت الشِعر ببيت الشَّعر، وبالثوب المَحُوك كأنهم يريدون الإشارة إلى تأليف أجزائه بإحكام اللُّحمة بينها، ومنه الملحمات لمختاراتٍ سبعٍ من قصائدهم سيأتي ذكرها.
ومهما يكن من النسبة المعنوية بين لفظ المُلحمات والشعر القصصي، فالنسبة بينه وبين الملاحم أظهر؛ ولهذا سمَّينا إلياذة هوميروس وأشباهها بالملاحم تفاديًا من استحداث لفظة لم يسبق لها استعمال بين الكتَّاب.
ضروب الشعر عند الإفرنج
فإذا نظرنا على هذا القياس إلى الأصل الشعري في بعض أسفار التوراة واتخذناها مثالًا جاز لنا أن نُلحق سفر أيوب بالشعر القصصي، ونعتبره ملحمةً من صفوة الملاحم، ونلحق الزبور ونشيد الأنشاد بالشعر الموسيقي، وهما من أبدع الأغاني والقصائد التي نطق بها البشر.
إلا أنه لا يترتب على ما تقدَّم أن منظومات الشعراء يجب أن ينتمي كلٌّ منها إلى قسمٍ من هذه الأقسام، ويلصق به غير متجاوزٍ إلى ما سواه، بل قد يكثر التداخل بينها، ولا سيما في منظوم البلغاءِ، فإلياذة هوميروس ملحمةٌ من الشعر القصصي بالنظر إلى ما تضمنته من سرد الوقائع والأخبار، وما تجاوزت به إلى ما وراء الطبيعة من شئون الآلهة وملابستهم للبشر في أعمالهم، وإيضاح حقائق الفضائل والرذائل بطريق الإخبار، ولكن فيها قطعًا من أبدع ما قيل في الشعر الموسيقي، وحسبك منها رثاء آخيل لفطرقل، وتفجعه عليه في مواضع مختلفة منها، وأن وداع هكطور لزوجته في النشيد السادس ما زال على قِدمه المثال الذي ينسج على منواله أرباب الشعر التمثيلي، وليس بين المتقدمين ولا المتأخرين من أدرك شأوه، وأجاد إجادته فيه مع كل ما أحسنَ راسين الفرنسي في روايته «انذروماخ».
ويقارب هوميروس في الضرب على جميع الأوتار شكسبير الإنكليزي، فالمشهور عنه أنه من أنصار الشعر التمثيلي، ومع هذا فإذا أخذت مثلًا رواية «هَمْلِتْ» رأيت فيها من معاني القصائد والملاحم ما يوقفك دهشة وإعجابًا، وقل مثل ذلك في رواية «السيد» لكُرنَي الفرنسي «وأنذروماخ» السالفة الذكر، وفوست لغوته الألماني، وأشباه ذلك من منظوم نوابغ الإيطاليين وغيرهم.
وهو معلومٌ أيضًا أن الشائع عن العرب بين الإفرنج أنهم لم يضربوا إلا على وتر الشعر الموسيقي، ولم يتخطَّوا في النظم إلى ما وراء القصائد والأغاني، ولكنه قولٌ مبالَغ فيه بل زعمٌ موهومٌ فيه كما سنبين في باب «ملاحم العرب».
ملاحم الأعاجم
قد يتبادر إلى الذهن أن رسم الظواهر أقرب إلى الفطرة وأيسر تناولًا من رسم الخوافي الكامنة في النفس؛ ولهذا كان الشعر القصصي في أكثر الملل متقدمًا على الشعر الموسيقي وفنونه، والصواب أن الأغاني والقصائد أَقدم من الملاحم والملاحم أقدم من التمثيليَّات لأن أَقدم ما نطق به الإنسان من الشعر إنما كان أَغنية يتطرب بها، أو أنشودةَ تقذفها النفس إشعارًا بعاطفةٍ من نحو حب ودعاء وغيظٍ ورجاء، أو ملهاة ينشدها الكبير ليتلهَّى بها الصغير، فهذه القطع الصغيرة تقدمت بلا ريبٍ على المنظومات الطويلة من أشباه الإلياذة إذ لا تتوفر معدات نظم الملاحم إلا في الشعوب الراقية بعد أن تألف نظم المقاطيع القصيرة مئاتٍ من الأعوام، ولكن قد يمكن أن يكون ارتقاء الشعر القصصي متقدمًا على ارتقاءِ الشعر الموسيقي، وأن تقدم الموسيقى بالوضع كما أن ارتقاء بلاغة الشعر متقدمة على بلاغة النثر، وإن كان النثر متقدمًا بالوضع. أما التمثيليات فهي من نتاج الملاحم فجاءَت متأَخرة عنها بالطبع؛ لأنهُ كان أَيسر على الشاعر في غابر الأزمان أن ينطق بلسان جميع ممثَّليه كما هي الحال في الملاحم من أن يجعل كلًا منهم ينطق بلسان نفسه في محل مُعدٍّ لذلك كما هو الواقع في التمثيليَّات.
والشعراء في جميع الملل يجارون المؤَرّخين في تدوين الوقائع، وهم وإن قصروا عن المؤرخين في تعيين المواقيت وتفصيل الحوادث إلا أنهم يسبقونهم في تعريف الشعائر والأخلاق، ووصف أحوال المجتمع البشري وتبيان علاقة الخالق بالمخلوق؛ لهذا لم يكن في الأمم قديمها وحديثها أمَّةٌ أدركت شأوًا مذكورًا في الحضَارة إلا وقام نوابغ الشعر القصصي يبسطون أحوالها، ويجيدون الرسم بنافذ الكلام بما يفوق إجادته بقلم الرسَّام.
فلقدماء المصريين شعرٌ كثير يستدلُّ عليه من عاديَّاتهم، وإن كان الزمان قد أباد ملاحمهم الطويلة، فإن في ما وجد من القطع المتبعثرة بين الآثار ما يدلُّ على أنها كانت ذات شأنٍ خطير، وحسبك منها شعر نبتاهور.
وللهنود ملاحم بقي بعضها ولا تزال «المهابهارتا» آية في بابها وقد تُرجمت منها قطعٌ كبيرة إلى لغات الإفرنج.
وللعبرانيين ملاحم لا يزال بعضها في التوراة، ولقدماءِ الجرمانيين والسكنديناڨـيين ملاحم كانوا يحلّونها محلًّا رفيعًا.
واليونان كانوا منذ القدم مشغفين بالشعر القصصي، ولهم فيه منظوماتٌ كثيرة قبل ملحمتي هوميروس أشرنا إليها في موضعها.
والرومان ساروا على إثر اليونان، فأبدعوا في هذا الفن وقد أشرنا مرارًا إلى إنياذة فرجيليوس.
وقام الإفرنج على أثار تينك الدولتين، وتغنَّوا قرونًا بمنظومات رولان في فرنسا، وهيلدبراند ونيبولنغن في ألمانيا إلى أن قام نوابغ المتأخرين كدنتي الإيطالي، وملتُن الإنكليزي ومن حذا حذوهما.
ثم إذا انثنينا إلى ملل الإسلام من غير العرب رأينا أنها ليست بالأقل حظًّا من هذا الفن، وهذه شهنامة الفردوسي في أخبار ملوك العجم مما يعجب به وُيحسد عليه، وقد ذكرناها في غير موضع من هذا الكتاب.
وإن للفرس اليد الطولى في هذا الفن، ولهم فيه غير ملحمة الفردوسي منظومات كثيرة كشهنامة القاسمي الكونابادي التي نظم فيها وقائع الشاه إسماعيل وأهداها إلى الشاه طهماسب، وجعلها نظيرةً لتيمورنامة الهاتفي، ومثلها شاهية مجد الدين البابري النسائي في وقعة الخوارزمي.
ملاحم العرب
ولكن الأخذ بهذا القول ليس مما يضم دُرَّة يتيمة إلى خزائن الأدب العربية، فيزيد في مفاخر العرب أو يفيد لغتهم فائدة تذكر لهم وتؤَثر عنهم، فالأصل العربي في عالم الغيب وهو على فرض المحال لو وجد لما كان فيه من عربية مُضَر شيءٌ يعوَّل عليه، ولما وُجد بين العرب من يفكُّ منه عبارةً واحدة؛ لاختلاف أوضاع اللغة ومبانيها في ذلك العهد البعيد، فهي بهذا الاعتبار آرامية أو عربيةٌ أخرى أقرب إلى عبرية التوراة منها إلى عربية قريش.
ومن يعلم بالنظر إلى أيوب نفسه إلى أي فريق من القبائل كان ينتمي، وما كانت حالة العرب والعربية في أيامه، ومن كتب أو استكتب ذلك السفر من قومه أو غير قومه، والحاصل أن إلماعنا إلى ذلك السفر إنما هو قبيل التذكرة والحرص على الإشارة إلى أمرٍ خطير.
ثم إذا رجعنا إلى الشعر القديم المنسوب إلى قدماء العرب في اليمن ونجد والحجاز، فلا نلبث أن نتحقق أنه من النظم الموضوع حديثًا لغرضٍ كما أوضحنا، وزد على هذا أنه لا يربو على عددٍ معلوم من المقاطيع، وليست جميعها على شيءٍ من الشأن في الشعر قصصيًّا كان أو موسيقيًّا، وأيضًا فلا فائدة من الإلماع إلى ما سبق من النظم في اللغة اليمنية الحميرية التي هُذَّبت وكُتِبت قبل لغة قريش بقرون، فالبحث إذن يجب أن يكون في الشعر الباقي باللغة العربية المضرية.
نظرةٌ في الجاهليتين جاهلية العرب وجاهلية اليونان
إن أقدم ما اتصل بنا من الشعر الجاهلي الجلي مقولٌ معظمه في مثل المواقف التي قال فيها هوميروس إلياذته، فهنالك شياطين وجنيَّات تلقن الشعراءَ فصيح الكلام تلقين القيان لهوميروس، وفي مثل ذلك يقول الأعشى:
وجهنام تابعة عمرو بن قطن، ولكلٍ من فحول شعراء الجاهلية جنيَّةٌ أو شيطان يلقنه الشعر، وهنالك ملوكٌ كبار على قبائل صغار تتكاثف وتتحالف؛ دفعًا لعار وأخذًا لثأر، فتثور حرب البسوس بين بكر وتغلب، وتتلاحم عبس وفزارة على إثر سباق داحس والغبراء، ويكادون يفنون بعضهم بعضًا كما كاد يفنى الطرواد واليونان وحلفاؤهم، وهنالك أيامٌ تتصاول وتتجاول فيها قبائل منهم، فيشتهر أمرها ويذيع ذكرها كيوم الكلاب، ويوم الجفار، ويوم النسار ويتغنى الشعراء بحديثها تغني هوميروس بيوم القناطرة ويوم الأيتول والكوريت، وما أشبه ذلك مما يفوق الحصر.
وإذا نظرت إلى الأشخاص دُهشت لما يبدو لك من الشبه في الأحوال والأقوال، فمن بطلٍ كعنترة ترتجف لصوته القبائل ارتجافها لصوت آخيل يُغاظ مثله، فيعتزل القتال فينكل العدو بقومه حتى يهبَّ من عزلته، فيفعل فعل آخيل في عودته، ومن خطيبٍ كنسطور يقف واعظًا موقف قس بن ساعدة، فيرشد ويرغب ويرهب، ومن أخوةٍ وأخوات، وأزواج وزوجات، وبنين وبنات، وآباء وأمهات يقولون ويفعلون في جاهلية العرب نظير قولهم وفعلهم في جاهلية اليونان مما ستراه بالمقابلة في تعاليق الشرح، ولو اتسع لنا المقام لما عدمنا سبيلًا إلى إبراز نظيرٍ لكلٍ من رجال الإلياذة ونسائها.
ملاحم الجاهليين
ليس في وقائع عرب الجاهلية وأيامهم ما يضاهي خطورةً وقائع الحرب الطروادية، ولكن تلك الوقائع لا تخلو بنفسها من شأن نسبي مذكور، فلا بد إذن من اتخاذ إحداها مثالًا للمقابلة، وإن أوَّل ما يستلفت الأنظار حرب البسوس.
تلك حربٌ تناقل العرب أخبارها، وتناشدوا شعرها على مرَّ القرون حتى أيامنا هذه، وصاغوها بقوالب شتى لا يصلح قالبٌ منها لصوغ الملاحم التامة كالإلياذة، ومع هذا فإن جميع ما قيل فيها من الكلام المنظوم أقرب نسبة إلى الشعر القصصي منه إلى الموسيقي، فكل قصيدة منها قطعةٌ من ملحمة، ولكن تلك القطع غير ملتئمة؛ لفقدان اللحمة بينها فهي كالحجارة المنحوتة قد أحكمت صنعتها، وبقيت ملقاة في أرضها غير مرصوصة بالبناء، ثم إذا نظرت إلى أشهر الرجال والنساء فيها رأيتهم جميعهم شعراءَ، فكليب يقول الشعر، ومثله زوجته جليلة وأخوه مهلهل، وكذلك مرّة شاعر، وابنه جساس شاعر، وكلُّ ذي شأن في القصة من غريب وقريب شاعر كالحارث بن عُباد، وجحدَر بن ضبيعة، فمجموع شعرهم أشبه من هذه الوجه بالشعر التمثيلي؛ لأن لكل حادثة شاعرًا ينطق بها بخلاف نهج شعر الملاحم كالإلياذة إذ ترى هوميروس فيها ينطق بلسان الجميع.
وقد يخال الباحث في هذا التقارب، ثم ذلك التباعد بين منظوم الجاهليتين أنه ربما كانت قصة حرب البسوس ملحمة في أصلها، ففقدت منها أجزاء أدَّت إلى تفرق ما بقي، ولكنه يتضح لدى الإمعان أن ذلك لم يكن، وإن العرب في الجاهلية لم ينظموا الملاحم الطويلة المحكمة العرى مع توقُّد القرائح، وتوفر معدات الفصاحة في اللغة؛ لأن ذلك النسق في النظم لم يكن في طبعهم فلم يتخطَّوا إلى ما وراءَ الطبيعة، وكانوا مع عبادة الأصنام يميلون إلى التوحيد، وكان التسليم للأحكام العلوية من سننهم قبل الإسلام، فلم يوغلوا في التخيلات الشعرية إلى النظر في أحوال الآلهة وما يترتب على ذلك من تفرُّع البحث الواحد إلى أبحاث متعددة على ما هو شأن الأمم الآرية، وكلُّ ما يرى من الشبه بين أحوالهم وأحوال قدماءِ اليونان إنما هو من المظاهر التي ألفت بينها طرق المعيشة الجاهلية، وإذا نظرت إلى حالة اليونان بما كانت عليه مع تلك الخشونة من الانتظام والدربة رأيت أنهم كانوا أيام حرب طروادة أقرب شبهًا بالعرب في أيام الخلفاء الراشدين، ثم كانوا في أيام هوميروس أي في زمن نظم الإلياذة قد بلغوا من الحضارة مبلغًا لم يكن للعرب في جاهليتهم منه إلا النزر اليسير، فلم يسع أبناءَ الجاهلية أن يتجاوزوا بنظمهم أحوال فطرتهم وطرق معاشهم، فكانوا ينتقلون بالشعر من باب إلى آخر انتقالهم من حيٍ إلى حيٍ يجيدون في كل ما يقولون، ولكنهم لا يطيلون المقام، فلا يشيدون المنازل الفسيحة المشيدة الأركان.
وليس من اللازم أن يكون شعر جميع الأمم على نسق واحد بل ربما كان هذا التباين من الأسباب المؤَدية إلى إبراز أنواع الجمال كافةً على اختلاف صوره وأشكاله، فالشاعر القصصي من اليونان وخلفائهم كان إذا قص حادثةً رواها كلها شعرًا، وأما الشاعر العربي فينشد الشعر حيث يحسن وقعه، وأكثر ما يكون ذلك في الوصف والخطاب والجواب، ويقول الباقي نثرًا، وفي هذه الطريقة نوعٌ من التفكيه المأنوس، وهي طريقة شعراء البادية حتى يومنا، جلستُ مرةً إلى حلقة شاعر منهم ينشد على نغم ربابته، فشرع في مقدمةٍ نثرية قصيرة حتى بلغ إلى وصف حسناء، فجعل يتغنى بالشعر على نغم آلة الطرب، فلما استتم قصيدته رجع إلى الكلام النثري بضع دقائق حتى بلغ وصف وقعة بين قبيلتين، فرجع إلى الإنشاد وهكذا ظل يتراوح قوله بين نثر وشعر نحو ثلاث ساعات، وذلك أيضًا شأن القصَّاصين في كثير من الحواضر العربية.
فلا سبيل إذن للزعم بوجود ملاحم لعرب الجاهلية على نحو ما يراد منها بعرف الإفرنج، ولكن للجاهليين نوعًا آخر من الشعر القصصي مما يعز وجوده في سائر اللغات، وذلك في الملاحم القصيرة المقولة في حوادث مخصوصة، فجميع شعراء الجاهلية وبعض المخضرمين قد سلكوا هذا المسلك وأجادوا فيه، ولو تصفحت كتاب الأغاني، ومفضليات الضبي، وأمثالهما من كتب الأدب والشعر رأيتها ملأى بهذه المنظومات الغراء، وحسبنا بيانًا لذلك أن نلقي في سبيلنا نظرةً على جمهرة أشعار العرب.
جمهرة أشعار العرب
هو كتابٌ ألفه أبو زيد محمد بن أبي الخطَّاب القرشي المتوفى سنة ١٧٠ للهجرة، وشرح فيه المنظومات التي اختارها العرب من نفائس شعر الجاهليين والمخضرمين، وجعلوها سبع رتبٍ في كلٍ منها سبع منظومات، وقد أوردها المؤَلف ببعض خلاف في الترتيب عن المتواتر المشهور، فجعل النابغة والأعشى بين أصحاب المعلقات، وحذف معلقة الحارث اليشكري فكانت المعلقات ثماني والمجمهرات ستا، وهي في ما يلي مرتبة على ما هو شائع بين كتَّاب الأدب والتاريخ.
المعلقات ودعيت كذلك أخذًا من قولهم أنها كانت معلقة بأركان البيت، وأصحابها: امرؤ القيس، وزهير بن أبي سلمى، والحارث بن حلزة، ولبيد بن ربيعة، وعمرو بن كلثوم، وطرفة بن العبد، وعنترة العبسي.
والمجمهرات ولعلها دُعيت كذلك تشبيهًا لها بالناقة المجمهرة، وهي في اللغة المتداخلة الخلق كأنها جمهور الرمل أي: إنها عالية الطبقة محكمة السبك، وأصحابها: النابغة الذُّبياني، وعُبيد بن الأبرص، وعديُّ بن زيد، وبشر بن أبي خازم، وأميَّة بن أبي الصلت، وخداش بن زهير، والنَّمر بن تَولَب.
والمُنتقيات أي: المختارات، وأصحابها: المسيَّب بن علس، والمرقَّش، والمتلمِّس، وعروة بن الورد، ومهلهل بن ربيعة، ودريد بن الصمة، والمتنخل بن عويمر الهذلي.
والمُذَهَّبات أي: المكتوبة بماء الذهب، وأصحابها: حسان بن ثابت الأنصاري، وعبد الله بن رواحة، ومالك بن عجلان، وقيس بن الخطيم الأوسي، وأحيحة بن الجلّاح، وأبو قيس بن الأسلت، وعمرو بن امرئِ القيس.
والمراثي: وأصحابها: أبو ذؤيب الهذلي، ومحمد بن كعب الغنوي، وأعشى باهلة، وعلقمة بن عبدة الحميري، وأبو زُبيد الطائي، ومتمم بن نويرة، ومالك بن ريب النهشلي التميمي.
والمشوبات، وهي التي شابها الكفر والإسلام، وأصحابها: النابغة الجعدي، وكعب بن زهير، والقطامي، والحطيئة والشماخ بن ضرار، وعمرو بن أحمر، وتميم بن أبي مقبل.
والمُلحَمات، ولعلهم أرادوا بهذه التسمية الإشارة إلى إحكام نظمها، وإلحام شعرها كما تقدم، وأصحابها: الفرزدق، وجرير الخطفي، والأخطل التغلبي، وعبيد الراعي، وذو الرّمّة، والكميت، والطرمَّاح بن حكيم الطائي.
فهذه تسع وأربعون منظومة لتسعة وأربعين شاعرًا إذا تصفحتها تبينت لك في كثير منها مزايا هذه الملاحم القصيرة المختصة بلغة العرب، ولا سيما ما قيل منها في الجاهلية كالمعلقات، فإنك ترى فيهن من سرد الحوادث وتفصيل الوقائع، وتمثيل المشاهد وبداهة الفكر ما يعدُّ في أعلى طبقات الشعر القصصي، وفيهن أيضًا من بديع التصور والسذاجة، وحسن التصرف البديهي، وإجادة الرصف، وإبداع الوصف، وإحكام التشبيه ما يسمو بهنَّ إلى أرفع درجات الشعر الموسيقي، فهن بهذا المعنى قد جمعن بين محاسن الطريقتين في الشعر العربي كما جمعت إلياذة هوميروس بين أطراف المحاسن في الشعر اليوناني.
فالمعلقات إذن رأس الملاحم العربية، وأقربهن إلى منظومات الشعر القصصي على ما يراد به في العُرف معلقة الحارث بن حلزة؛ لإفاضته في وقائع بكر وتغلب، وتغنيه بفوز قومه ونكال عدوه، ومفاخر عشيرته على ما يماثل تغني هوميروس في الإلياذة، وتليها بهذا المعنى معلقة عمرو بن كلثوم ثم معلقة زهير.
ويلحق بالمعلقات باعتبار أنها ملاحم عربية مجمهرة بشر بن أبي خازم، وأمية بن أبي الصلت، ومنتقيات مهلهل بن ربيعة، ودُريد بن الصمة، والمتنخل بن عويمر، ومذهبة قيس بن الخطيم، ومشوبة النابغة الجعدي، وملحمات الفرزدق، والكميت والطرماح.
وأنت ترى أن معظم أصحاب الملاحم من الجاهليين، وإن أحسنها المعلقات وجميع أصحابها من أبناء الجاهلية، وقد عرا الشعر القصصي بعدهم ضَعفٌ أَلمعنا إليه فلا حاجة إلى التكرار.
ملاحم المولَّدين
إذا قصَّر المولّدون عن الجاهليين بالبداهة الفكرية، فقد رأيت أنهم فاقوهم بسموِّ التصوُّر والرقة، وصعدوا فوقهم درجات في سلم البلاغة بفضل القرآن، ولو لم تتغير مناحي شعرهم لما تقدم بسطه من الأسباب لأبدعوا في جميع الأساليب الشعرية، ولكنهم لم يستتموا الاقتباس، وإلَّا فلو استرشدوا ببعض السور القرآنية كسورة يوسف، وسورة مريم وسورة الأنبياءِ مما يعد نبراسًا نيِّرًا للملاحم لفاقوا الجاهليين بالشعر القصصي كما فاقوهم بالشعر الموسيقي.
ومع هذا فإن للمولدين نوعًا من الملاحم خاصًّا بهم، وهو المقامات المسجَّعة بما يتخللها من الشعر كمقامات الهمذاني والحريري، ولكن التجرد فيها للإغراب في اللفظ يحول الفكر فيها عن التصرف بالمعنى على أن للفظ أحيانًا رنَّاتٍ مطربةً بنفسها، وهذا النوع من الإنشاء من خصائص اللغة العربية، وإن كثرة القوافي في اللغة تسوق إلى التسجيع حتى لقد يكون ذلك حيث لا مسوِّغ له كالأبحاث العلمية، والتفاسير القرآنية حتى كتب التاريخ التي لا يستحسن فيها الإكثار من الشعر والسجع.
ويلحق بالمقامات القصص التي يمتزج بها الشعر والنثر كقصة عنترة العبسي، وكثيرٍ من القصص التي تتداولها العامة في جميع البلاد العربية.
فهذه وأمثالها مما لا يعد من نفائس الشعر القصصي ولا الموسيقي.
هذا جلُّ ما يمكن إيراده بالإيجاز عن ملاحم العرب، وهي كما ترى جامعةٌ بين أعلى طبقات الشعر وأدناها.
الحقيقة والمجاز
التشبيه والكناية والاستعارة
نظر هوميروس إلى الحقائق نظرة الباحث الخبير، فتجلت له من وراء حجاب الخيال، وأمعن في أحوال الطبيعة حسيَّها ومعنويها، فبرزت له بأبهى مظاهرها، فاستوحى قيانه، فأوحين إليه وحي الآلهة للأنبياء.
عمد إلى الرسم غير متكلف ولا متأنق والصدق مرماه، والبداهة دليله فسلك سبيلًا عدلًا غير ذي عوجٍ، فما تعثَّر ولا أضلته المجاهل.
رأى أن الحقيقة في غنى عن التستر والتبرُّج، فذلك يخفي جمالها، وهذا يشوب كمالها، فأبرزها على فطرتها فإذا بها فتانةٌ للقلوب، خلَّابةٌ للبصائر.
علم أن معارضة الأشباه والنظائر من مزيلات الأوهام المقربات إلى الإفهام فأكثر من التشبيه والمقابلة حتى ألمَّ بكل أحوال البشر، وسائر المخلوقات، وإن أحسن شيء في تشبيهاته حلولها جميعًا محلها، فإذا تجلت له الصورة رسمها بصراحةٍ واتساق غير مداجٍ، ولا محاذر فأطنب وأوجز، وصعد وهبط على ما يقتضيه الموقف.
فإذا وصف فارسين متساويين شدةً وبأسًا شبههما بليثين كما قال في هكطور وفطرقل، وهما يقتتلان حول جثة بطلٍ طروادي:
وإذا وصفهما وقد ذلَّ أحدهما للآخر شَبَّه أحدهما بالليث، والآخر بالظبي كقوله في متيلاوس وفاريس:
وإذا بدت له الشدَّةُ قبل النزال، وحب البروز من الاعتزال رأى أن الجواد العتي المنقطع على مربطه أقرب إلى تلك الصفة من الليث، فحلَّه من عقاله وأجراه جري جواد امرئ القيس.
وإذا نزل به إلى ساحة القتال، فانهزمت من وجهه الأبطال عدل عن التشبيه بالحيوان الفرد إلى ما هو أوقع في النفس، فمثَّله بالسيل الجارف.
وأبرز لك بالتشبيه الصادق جميع صفات البشر، وما يقابلها من صفات الحيوان بجميع حالاته، فنظر إلى الكبير منها والصغير، والقوي والضعيف، والوحشي والداجن، فوصف الأسود، والذئاب، والخرانيص، والمها، والظبي، والأيلة وغير ذلك مما يستذلَّه الإنسان، والخيل، والحمير، والبغال، والكلاب، والبقر، والمعز، والغنم، وغير هذا مما دخل في حظائر الناس.
وتناول الطيور من النسور والعقبان إلى البط والأوز، والرهو والغرانيق، والزرازير والحمام، وانعطف إلى الزحافات والدبايات، والديدان، وانتهى إلى الهوام والحشرات، فوصف الأفاعي وشبَّه بالصراصر والزنابير، والنحل والذباب، وإِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا.
ولقد عابه بعض المتسرِّعين على التشبيه بصغار الحيوان، ولكنك إذا نظرت إلى كل ما قال فيها علمت أنه إنما ذكر الشيء الحقير؛ ليستخرج منه الأمر الخطير وتلك عبرةٌ يجب أن يُنظر إليها بعين الإعظام والإكبار، فأي تشبيهٍ لعصبةٍ تذود عن حوضها، وتتفانى في الدفاع عن العرض والمال أوقع من قوله قول الشنفرى مشبهًا بالنحل والزنابير:
وأي تمثيلٍ لجيشٍ كثيف يمور، وجندٍ من حول زعمائها تدور أصحُّ من قوله قول عنترة مشبهًا بالذُّباب:
ثم إنه نظر إلى الطبيعة، فتناول بتشبيهاته منها كل ما يلوح للناظر، ويروق الخاطر، فوصف النار من القبس والشرار إلى الحريق الذي يلتهم الغاب، ويدمر المدن الكبار، ووصف الأهواء والأنواء من النسيم العليل إلى الزوبعة، والعاصفة، والإعصار الوبيل، وجميع المهاب من صبا ودبور، وجنوب وشمال، والسحب والأمطار من البخار المتصاعد حتى الغيم المتلبد، ومن القطر إلى الغيث المدرار، والسيل الهدَّار، وأحاط بالبروق والرعود، وظواهر الجو من قوس قزح حتى الشهب الثواقب، وضرب في الفيافي وصعد الجبال، فمثَّل بالتشبيه جميع ما فيها من شجر، وغاب، وصخر، وتراب، ووصف الورقة الجافة، والشجرة الشمَّاء، وارتقى إلى عالم الأفلاك، واتخذ ما شاءَ لموصوفاته من شمسها وقمرها، وثوابتها، وسيَّاراتها، ثم خاض عباب البحر فأخذ بناصية حيتانه، ونينانه، وسائر سكانه من حيوان وجان، وتلقى عجاجه، واستقبل أمواجه، ومثله صافيًّا وساكنًا ومشتدَّا، ومربدَّا ومزيدًا مرعدًا، وجال الأقطار وعبر الأنهار، فولج جوف الأرض فمثَّل ما فيها، وما تحتها، وما فوقها وما يكنفها من ماءٍ وهواءٍ.
وإذ فرغ من ذلك مد بصره إلى أحوال البشر، فأخذ يقابلها بعضًا ببعض فما ألهاه الملك الوقور، والزعيم الجسور عن الجندي الفقير والطريد الكسير، وما أغفل عاملًا ولا صانعًا، ولا تاجرًا، ولا زارعًا، وتطرق إلى الشئون البيتية فما غادر أبًا، ولا أمًّا، ولا زوجًا، ولا زوجةً، ولا أخًا، ولا أختًا، ولا ابنًا، ولا ابنةً، وألمَّ بكل قريب ونسيب، وبحث في أطوار الحياة، فمثَّل حالة الشيخ، والكهل، والشاب والطفل، وهو في كل ذلك مستنفرٌ إلى الخير منفرٌ من الشر يشتد موضع الشدة، ويرق موضع الرقة، فيقف بك تارةً ترقب العواصف والأنواء، وقد اكفهرَّ الجوُّ واضطرب اليمُّ، ومادت الجبال، وزلزلت الأرض زلزالها، ثم ينثني بك طورًا، وقد هاج العاطفة، واستنزل الحنان بالتمثيل النافذ، والتشبيه السهل الممتنع، فترى وصفه في معظم ذلك غريب الصنعة قريب التناول، فأي وصف للائذ أصدق من لياذ الطفلة بأمها إذ يقول:
وأي تمثيل أصدق وأرقُّ من قوله مشبهًا موت فتىً غض الإهاب في مقتبل الشباب، وقد مال رأسه على صدره وهو يُحتضر:
ومن مزايا شعره أنه كان يطلق عنان التصور في التشبيه، فلا يوقف القول إلا حيث وقف الخيال، فقد يتناول تشبيهه أبياتًا، وتندرج طيه تشبيهات أخرى، وقد يشبِّه في شطر أو بعض شطر، وهذا أيضًا من مزايا الشعر الجاهلي التي أسلفنا أنها ضعفت في المولدين، وإن أجادوا الرسم كابن المعتز ما خلا أفرادًا قليلين تناولوا المعاني، فألمُّوا بجميع أطرافها كابن الرومي.
وكان مبغضًا للإغراب باللفظ والمعنى لا يقول إلَّا ما ترضاه الخاصة وتفهمه العامة، ينتحي مجاراة الفطرة وإنطاق الطبيعة يسعى إلى الحقيقة، ولا يتوخَّى المجاز، فلا يتطلبه في شعره، ولا يتجنبه إذا عبَّر عن فكره؛ ولهذا كان كالجاهليين من العرب كثير التشبيه قليل الكنايات والاستعارات لا يأتي المجاز إلا مرسلًا، فجاءَ جميع ما ورد منه في شعره آية في بابه على قلته كقوله: وأغمض عينيه ستر المنون، وقوله: أو تفغر الحرب المهدمة الفما. وأمثال ذلك من الاستعارات البسيطة السهلة.
البديهيَّات
أما بديهياته فحدث عنها ولا حرج، فلقد تراه يخوض بحر المعاني، فينثر ما التقط منها من أبكار الأفكار، ثم يلفت يمينًا وشمالًا فيدرك بعين بصيرته ما طرق فكر سامعيه، فمدُّ بصره إلى مخيلة ذوي الألباب منهم، ويستخرج ما ارتسم في أذهانهم بسياق الحديث فيعبر عنه ببداهة ترتاح إليها النفس ويطمئن الخاطر، فإذا أتى مثلًا على وصف وقعةٍ التحم فيها القتال، وتلاحمت الرجال وتعالى الصياح، وتألق السلاح علم أنه يخيل للسامع شيءٌ من البديهيات المطروقة فقال له:
أو قال:
أو قال:
وأمثال ذلك من المعاني التي لا يحتاج فيها إلى شحذ ذهن وإعمال فكرة، وهي مع هذا ليست مما يستهان فللمعنى البديهي إذا حلَّ محله خف على الطبع، وقد يؤثر بحسن وقعه على كثرته تأثير المعاني المبتكرة على قلتها.
النقل والسرقة وتوارد الخاطر
يسوقنا واجب الاستطراد في هذا البحث إلى مؤاخذة بعض الباحثين في الشعر العربي إذ يضعون البديهيات موضع المبتكرات، فينكرون على كل شاعر متأخر أن ينتحل معنى سبق إليه، فيخلطون بين السرقة وتوارد الخاطر، فلهذا لا نرى رأي صاحب «الإبانة عن سرقات المتنبي» بقوله: إن ابن الرومي، وأبا الهندي، ومحمد بن هاشم العاري، والمتنبي تناقلوا بعضُ عن بعض معنى طول الليل، فقال ابن الرومي:
وقال أبو الهندي:
وقال العاري:
وقال المتنبي:
فهذا من المعاني البديهيَّة التي تتوارد فيها خواطر الشعراء وغير الشعراء، وإنما الفرق في التصرف فيها أَفلا ترى أن كلا من الأربعة تصرف تصرفًا مخالفًا للآخر.
ومثله قول صاحب «الموازنة بين أبي تمَّام والبحتري» أن أبا تمام كان ناقلًا لما قال:
أخذهُ من قول جرير في رثاء الوليد بن عبد الملك:
أو من قول مريم بنت طارق وهي ترثي أخاها:
وما أحرى هذا المعنى أن يكون شائعًا في أمَّةٍ صفا جوُّ أرضها، وسامرت القمر والنجوم طول ليلها، فليس هذا كلهُ من باب النقل، وإنما النقل في مثل ما استشهد به صاحب الإبانة من قول المتنبي:
فهو مأخوذ من قول ابن الرومي:
ومثله لما استشهد به صاحب الموازنة من قول أبي تمام:
فإنه منقول عن أبي نواس إذ قال:
وأما شعراء اللاتين والإفرنج فلم يحاذروا مثل هذه المحاذرة في نقل أمثال هذه المعاني، ولا سيما بالنظر إلى الإلياذة، فإنهم أغاروا عليها غارة شعواء فطوقوا بمعانيها أجياد منظوماتهم من الملاحم إلى التمثيليَّات إلى القصائد، فنقلوا ونسخوا ومسخوا، وسلخوا واقتبسوا وعارضوا، وضمَّنوا وتصرفوا وهم في الغالب لا يضمرون السرقة بل يفاخرون أن يعلم أنهم تحدَّوا هوميروس حتى لو نظرت إلى تلك المنظومات لرأيت المعاني الهوميرية مزدحمة فيها بتصرُّف أو بغير تصرف، ولا سيما مما أبعد فيه هوميروس ببصره، فاستنبطه بالتصور من المماثلات البديعة أو استخرجهُ بالتشبيه من مكنونات الطبيعة كقوله في مثل معنى امرئ القيس بوصف جواده:
فنقله فرجيليوس إلى «إنياذته» اللاتينية فقال (ن١٢).
وأخذه عنه تاسو الإيطالي فقال «في أورشليمه»: (ن١٨)
ومثله قوله بلسان زفس بعد مشاجرة بينه وبين أخيه فوسيذون أسفرت عن ارعواء فوسيذون واستكانته:
فأخذه مِلتُن الإنكليزي لوصف ارتداد جبريل عن إبليس، فقال في «فردوسه»:
وكثيرًا ما نقلوا عنه التصورات الغريبة، والمعاني الطويلة المتشعبة بأصولها وفروعها، وتصرفوا فيها كما نقل فولتير الفرنسي نجوى زفس للطرواد إذ قال:
•••
فقال فولتير منصرفًا ومتفننًا في مقدمة منظومته «كاتيلينا»:
وإن أمثال هذه المنقولات عن المعاني الهوميرية مما يملأ الأسفار، ولم يُعب عليها هؤلاء الشعراء إلا من تعمَّد السرقة، وشفَّ نهجه عن ادعاءِ الابتكار على نحو ما نرى الكثيرين من المتطفلين على الشعر في هذا العصر.
فعل الحضارة في استهجان المستحسن واستحسان المستهجن في التشبيه والمجاز
إن ممَّا بُهت له بعض المتأخرين من نقلة الإلياذة، وأشكل عليهم في لغاتهم تشبيه الإنسان في بعض أحواله بأنواع من الحيوان ينظرون إليها بعين المهانة، ويضعها هوميروس موضع العزة والكرامة، وهذا ولا ريب من نتائج طول العهد بالحضارة، ولا أعلم أهي حسنةٌ لهذه الحضارة تُمدح عليها أم سيئةٌ تؤاخذ عليها، وإنما اعلم أن في أصنافٍ كثيرةٍ من الحيوان مزايا يعز على الإنسان أن يتصف بأحسن منها، ولا أذكر حيوانًا تقادم العهد على وضعه موضع الحس والهوان كالكلب، فقد عرَّض هوميروس بذكره مرارًا للسباب والتحقير، وهكذا فعل أكثر الكتَّاب من المتقدمين، وفي شعر العرب، وكلام مؤرخيهم وأدبائهم من هذا المعنى ما لا يدركه حصر، فلا يكادون يشيرون إلى شخص يريدون إزدراءه أو شتمه إلا قالوا «هذا العلج الكلب» و«هذا الكلب البذيء» وما أشبه، فكأنهم تناسوا جميع ما في هذا الحيوان الأمين من كرم الخلال، وأغاروا على شيءٍ من الدناءَة فيه، وإن كان لم يستأثر بها دون سائر الحيوان ناطقًا كان أو غير ناطق، ومع ذلك فقد وفَّى هوميروس كل صفة حقها، فهو إذا وصف الكلب بالبذاءة فما أغفل سائر ما فيه من الخصال، فأطرأ أمانته ومهارته في تقفي القنيصة، وبسالته في تأثر الضواري، وفعل فعله شعراء الجاهلية مما عرضناه بشعر هوميروس في موضعه.
وأما ما بقي من الحيوانات فقد اقتطع منها هوميروس صفاتٍ حميدةَ وصف بها كبار قومه وكرامهم، وهو ما أردناه بقولنا: «إنه أشكل على بعض كتَّاب الإفرنج، وثقل عليهم نقله إلى لغاتهم». فإذا شبَّه رجلًا صبورًا بالحمار رأيتهم يتثاقلون بنقل الكلمة بل ربما أكلوا الحمار برمَّته كما فعل پوپ في النشيد الحادي عشر، وعذرهم في ذلك أنه يشوِّه وجه ترجمتهم، وإذا شبه هوميروس عظيم القوم بالثور عظم عليهم الأمر وحسبوها ورطةً يجب التملص منها، وربما بدَّلوا حيوانًا بحيوان، فجعلوا الخنازير دببةً، والكلاب ذئابًا، وهم يزعمون أنهم لطَّفوا المعنى ولا أخالهم فعلوا.
ولستُ بمنكرٍ أن الانقلاب الذي طرأ على مفاد التعبير عندهم قد أصابنا منه شيء كثير، فليس منا من يستحسن تشبيه كريمٍ قوي الجنان رابط الجأش بالحمار، ولا تشبيه باسلٍ مغوار بالخنزير على أن اليقين أن أبناء الجاهلية من كل قومٍ لم يكن هذا شأنهم أيام كانت الفطرة تأخذ بالظاهر ولا تتكلف التأويل، وتتشبث بالحقيقة مهما ثقلت.
وحسبنا أن نرجع إلى أيام جاهليتنا، وما وليها من مُقتبَل الإسلام ونتصفح معاجم لغتنا فنرى أن هوميروس لم يأتِ شيئًا فريًّا، قال في أساس البلاغة: «الثور الفحل من البقر والسيد، وبه كنّي عمرو بن معدي كرب». ومما يذكر هنا استطرادًا أن الثور لا يزال لقبًا مكرَّمًا في السودان، ويقال مثل ذلك في الجَدَع بمصر، وهي من الجَذَع، وفي محيط المحيط الجذع من البهائم قبل الثني والشاب الحدث، ومنه قول دُرَيد:
وفي كتب اللغة الكبش الحمل وسيد القوم وقائدهم، والمنظور إليه فيهم ومنه قول لبيد:
وقول أسد بن ناعصة:
والقرم الفحل ثم استُعمل للسيد العظيم على التشبيه له بالفحل، وقد اجتمعا في قول المتنبي بمدح سيف الدولة:
أي: نمازح منك سيدًا صارت الرجال بالنسبة إليه كالنياق بالنسبة إلى فحول الجمال.
والرُّت الخنزير الذكر، وأجرى مجازًا على الباسل المقدام، فيقال: هو رتٌ من الرتوت، وهو من رتوت الناس أي: من عليّتهم وسادتهم «أساس».
والقبُّ الجمل والرئيس والملك، والفنيق الفحل المكرَّم من الإبل لا يؤذى، ولا يُركب، والسيد المسنّ من المعز والرئيس، والأصيد الملك والبعير الذي فيه داء الصيد، وهلمَّ جرًّا.
ويقال مثل ذلك في بعض ما برز من أعضاء الحيوان كالناب والخرطوم، والأنف والقرن، فهي وإن كانت مما قد يستهان به الآن لم يوضع أكثرها في الكلام عن الناس إلا للرفعة والسيادة، فإذا راجعت كتب اللغة قرأت: الخراطيم أسياد القوم، أنياب القوم ساداتهم، ومنه قول الشاعر:
القرن السيد تشبيهًا بقرن الثور لبروزه، أنف القوم سيدهم، ومنه قول الحطيئة في بني أنف الناقة:
ولا عبرة بما قيل إن العرب كانت تعيِّر بني أنف الناقة بذاك اللقب.
وليس النعت بهذه الأوصاف مما خُصَّ به بنو الجاهلية بشعرهم، بل اتصل منه شيء بشعراء التابعين والمولّدين حتى أنه ليندر أن ترى شيئًا من هذه الألفاظ في كلام المؤَرِّخين كقول العتبي في السلطان محمود بن سبكتكين، وأقبل كالفحل الفنيق، ولا تكاد تجد مؤَرخًا لا يقول قول ابن خلدون: «وكان فحل ذلك الشول، وكبش تلك الكتائب إلخ» وأمثال هذه الألفاظ لا تثقل على مسمع العربي حتى يومنا، بل لا يزال بعضها مما يحلى به جيد الكلام.
وإننا بهذا الاعتبار نقسم هذه الألفاظ إلى أربعة أقسام: ما أُهملت حقيقته وجازه كالرَّت والقَبَّ، فلا نرى من يستعملها لإنسانٍ ولا لحيوان.
وما بقيت حقيقته ومجازهُ كالفحل والكبش فهما وإن كانا موضوعين للحيوان، فقد يوصف بهما الإنسان وصف تكريم، فنقول: «هو فحلٌ من فحول الشعراء، وكبشٌ من كباش الهيجاء».
وما أُهملت حقيقته وبقي مجازه كالجَدَع عند العامة في مصر، فهي إنما تستعمل للإطراء، وإن كانت لا تزال على معناها الوضعي في أماكن أخرى.
وما أهمل مجازه، وبقيت حقيقته كالثور والحمار وهو أكثرها، فما منا من يرضى أن يلقب حمارًا، ولو قيل له ذلك كان لقب مروان بن محمد الخليفة الأموي الحازم، لُقَّب به على ما أجمع المؤَرخون؛ لصبره ورِباطة جأشه وشجاعته، قال القرماني: «ويقال في المثل فلانٌ أصبر من حمار في الحروب، وهو أيضًا اللقب الذي لقب به يعقوب ابنه يساكر في التوراة، وليس من يسرَّه أن يكنى بالثور، وإن كانت تلك كنية عمرو بن معدي كرب سيد العرب، وما من أحد يرتاح أن يقال له أنف الناقة، وإن وضع الحطيئة ذلك اللقب موضع رفعة وإجلال، وقد تأبى أن يعرَّف أحدنا بالجمل، وإن عُرِّف به ابن عم النبي حمزة بن عبد المطلب، على إننا من وجه آخر لا نرى غضًّا من قدر من يُلَقَّب بالسرحان، وإن كان ذلك لقب الذئب أو يكنى بأبي خالد، وإن كانت تلك كنية الكلب».
مزية العربية على لغات الإفرنج في هذا الباب
لما كنت قد آليت على نفسي أن لا أحرّف الكلام عن مواضعه، وأن لا أعبث بوصفٍ أو تشبيهٍ، فأميل به عن أصله الوضعي تفاديًا من ثِقَل على الآذان عمدت إلى نهجٍ بقي بالمرامين: استبقاء الأصل على وضعه، ونبذ الألفاظ التي باتت بعرف الحضارة من باب الحوشي الساقط في المدح، فلا يُمدَح بها كبيرٌ ولا صغير، وفي لغتنا والحمد لله متسعٌ فسيحٌ لمثل هذا المجال بخلاف لغات الإفرنج التي لا محاد لكتَّابها عن استعمال اللفظة بعينها، وإلا اضطرُّوا إلى تبديلها أو إغفالها أصلًا.
فإذا عرض لي مثلًا تشبيه رجلٍ باسلٍ بالخنزير الذكر ينفسح لي بابٌ في كتب اللغة لانتقاء كلمة أخرى، فأقول الرُّت أو الخرنوص فلا أغير شيئًا من المعنى، وأكفي مئونة أنفة القارئ، وإذا اضطررت إلى استعمال لفظة الحمار بمقام المدح، وهو تشبيه شبه به إياس البطل الباسل عمدت إلى كلمة أخرى فقلت «الجأب» وهو الحمار عينه.
وإذا آنست رنة خشنة على الأذن بذكر الكلاب بهذا اللفظ قلت: «النواهس» و«الغضف» و«الضراءُ» وما أشبه.
وإذا خشيت هجنة بأن يقال: قطيع البقر قلت: «الصوار» وهو هو.
ولزيادة الإيضاح أضرب لك مثلًا واحدًا مما سترى أشباهه بمطالعة الإلياذة:
أطرأ الشاعر بسالة هكطور في واقعة فشبهه وهو يتعقب الأعداء بالكلب الذي يتأثر الأسد المذعور أو الخنزير البري، فقال:
فأراني لو قلت: ككلبٍ كبيرٍ قد تأثر ضيغمًا أو خنزيرًا الخ لما زدت على المعنى ولا أنقصتُ، ولكن شتان ما وقع هذا التعبير، وما ذاك على المسامع.
الخاتمة
الشعراء
قال بعضهم:
نظر صاحب هذين البيتين إلى الشعر العربي من حيث إنه دليل البلغاء وحجة اللغويين، وشاهد الخطأ والصواب، ولكنه لو أراد الزيادة لقال: إن سلطان الشعراء يمتدُّ إلى ما فوق ذلك، وإن الشعر ريحانة النفوس ومبدد البئوس، وقد كان في غابر العهد سجل الحكمة، ومنهل النغمة، ومحط الفخار، ومطمح الأبصار، وأن شاعرًا واحدًا كان يرفع قبيلةً ويخفضها، ويعزُّها ويذلُّها فينفذ كلامه في الإحساس، ولا نفوذ أحكام الآمر المستبد بالناس، وأن سلطة الشعراء في الجاهلية كانت تباري سلطة الرؤَساء، والقبائل تستثمر سلائق الفتيان أيان توسمت فيها الذكاء استثمار بني الحضارة كل غرسٍ زهي، وفرعٍ زكي، فإذا نبغ فتاهم، وقال قولًا نافذًا تباشر به الكهول والشبان والشيوخ والولدان، وخرجت النساء بالمزاهر وغنين ورقصن، وقلنَ أزف الفرج فقد صينت الأعراض، وحفظت الأنساب، وارتضت الأحساب وحُمي الذمار وتخلدت الآثار، وطارت البشائر فأقبلت الوفود من سائر العشائر كأنهم في يوم نصرٍ عظيم.
ولطالما قال شاعرهم أبياتًا، فتناقلتها الركبان وأومضت وميض البرق فبهرت الأنظار، وقضت الأوطار. قالوا: إن الأعشى الأكبر كان يأتي سوق عكاظ في كل عام فيتجاذبه الناس في الطريق للضيافة طمعًا بمدحه إياهم في سوق عكاظ، فمرَّ يومًا ببني كلاب، وكان فيهم رجل يقال له المحلّق فقير الحال، ضيق المعاش، وله ثماني بنات لا يخطبهنَّ أحد لمكان أبيهنَّ من الفقر، وخمول الذكر، فقالت له امرأتهُ ما يمنعك عن التعرض لهذا الشاعر وإكرامهِ، فما رأيت أحدًا أكرمهُ إلَّا وأكسبه خيرًا، فقال: ويحك ما عندي إلا ناقتي، فقالت يخلفها الله عليك، فتلقاه قبل أن يسبق إليه أحدٌ من الناس، وكان الأعشى كفيفًا يقودهُ ابنه، فأخذ المحلق بخطام الناقة، فقال الأعشى: من هذا الذي غلبنا على الخطام فقال: فتى شريفٌ كريم، ثم أتى بهِ منزلهُ وأكرمهُ، ونحر الناقة وجعلت البنات يدرنَ حولهُ، ويبالغن في خدمته، فقال: ما هذه الجواري حولي، فقال المحلق: بنات أخيك، وهنَّ ثمان نصيبهنَّ قليل، فقال الأعشى: هل لك حاجة، فقال: تُشيد بذكري فلعلي أُشهر فتخطب بناتي، فنهض الأعشى من عنده ولم يقل شيئًا، فلما وافى سوق عكاظ أنشد قصيدته التي أنشأها في مدحه، وهي التي يقول فيها:
فاشتهرت القصيدة، ولم تمضِ على المحلق سنة حتى زوَّج بناته، ويسرت حالهُ وإن في كتب العرب من أخبار شعراء الجاهلية ما لا تُعد هذه الرواية بجانبه أمرًا خطيرًا.
وكان المولَّدون مع تبذّل الجم الغفير منهم، وانحطاط منزلتهم عن شعراء الجاهلية ينالون بشعرهم أبعد المطالب. روى ابن خلّكان أنه قدم بين يدي المأمون نصر بن منيع، وكان قد أمر بضرب عنقهِ، فقال نصر يا أمير المؤمنين: اسمع مني كلماتٍ أقولها، فقال: قُل فأنشأ يقول:
فعفا المأمون عنه.
وأما الأموال التي كان يستدرها الشعراءُ بشعرهم فمما يفوق التصوُّر، وهم وإن كانوا يجازون بها أحيانًا محاذرةً من هجوهم، وإلجامًا لألسنتهم، فكثيرًا ما كانوا ينالونها بما أطربوا، وأرقصوا، وخلبوا العقول. ذكروا أن ابن باجَّة التجيبي آخر فلاسفة الإسلام بالأندلس أنشد أبا بكر الصحراوي صاحب سرقسطة موشَّحًا في مدحه، فأطربه حتى كاد يفقده الرشد فما بلغ قوله:
حتى شق الممدوح ثوبه من شدة الطرب، وحلف لا يمشي ابن باجَّة إلا على الذهب، فخاف الشاعر عاقبة الأمر، فجعل في نعله ذهبًا ومشى عليه.
تلك كانت منزلة الشعراء عند العرب في سالف الزمن، وتلك هي أيضًا منزلتهم في سائر الملل، فإن في أخبار شعراء الفرس ما يضاهي أخبار شعراء العرب، وقد علمت أن اليونان ما زالوا يصعدون بهوميروس حتى أخرجوه من مصاف البشر، وأحلوه بين الآلهة، وبنوا له المعابد. وكانوا يتعاكظون ويتنافرون، ويتنافسون، ويتحمسون على نحو ما كان يفعل العرب في سوق عكاظ، وشعراؤهم في كل ذلك كخيل الرهان «فالسابق السابق منها الجواد». ذكروا أن فنذاروس الشاعر الموسيقي الذي نبغ بعد هوميروس بأربعة قرون كان إذا جلس للإنشاد في الحفلات الأولمبية وغيرها تحمَّس له الشعب، وشقت نعرتهم كبد السماء، وكلَّلوه بأكاليل الظفر، فلما مات أخذوا الكرسي الذي كان يجلس عليه في موقف الإنشاد ووضعوه بين أنصاب الآلهة وشاد له أهل ثيبس هيكلًا، وأقاموا له فيه نصبًا، وهو بعدُ حي، ولما اكتسح الإسكندر بلدة ثيبس، ودمر بيوتها أمر أن لا يُمس بيت فنذاروس بسوء.
وكم من شاعر أثار خواطر أمَّة بأسره،ا فاستنفر وأجيب واستصرخ فتألبت له جيوش الكلام، فغلبت كتائب الحسام، وفي الأثر أن صاحب الشريعة الإسلامية كان ينصب لحسَّان بن ثابت منبرًا في المسجد يقوم عليه ينافح عنه، فكان ذلك على قريش أشد من وقع النبل، وإن حسَّانًا قال له: «لأسلك منهم (أي: من قريش) سلَّ الشعرة من العجين، ولأفرينَّهم فري الأديم» فصبَّ على قريش من هجائه شآبيب شرٍّ، فقال له: «شفيت يا حسان وأشفيت» ثم قال: «حسان حاجزٌ بيننا وبين المنافقين».
وليس العهد ببعيد بما كان من نفوذ سهام الشعر البليغ في بلاد المغرب من عهد بيرُن إلى هذه الأيام.
ولسنا بآملين في هذا العصر أن يثب شعراؤنا إلى تلك المنصة الشامخة، وإنما نطمع أن يظلوا سائرين بنهضتهم سيرًا حثيثًا، ويجاروا تيار الترقي فلا يطمو عليهم، ولهم في ذلك الفوز والفلاح، وللأمة الخير والصلاح.
اتساع العربية للشعر
قال أبو بكر الخوارزمي: «من روى حوليَّات زهير، واعتذارات النابغة، وحماسيَّات عنترة، وأهاجي الحطيئة، وهاشميات الكميت، ونقائض جرير، وخمريَّات أبي نُواس، وتشبيهات ابن المعتز، وزهريات أبي العتاهية، ومراثي أبي تَمَّام، ومدائح البحتري، وروضيَّات الصنوبري، ولطائف كشاجم، ولم يخرج إلى الشعر فلا أشبَّ الله قرنه» وهو كما ترى قول متحمْسٍ مولَع بالشعر، وقد أنالته الفطرة منه حظًّا وافرًا، وإلا فالخروج إلى الشعر متعذرٌ على من لم يكن ذلك في طبعه، على أن هذا القول صادقٌ على من كان الشعر في سجيَّته، فإن مطالعة نفيس الشعر تشحذ الذهن، وتهذب اللفظ وتجلو المعنى، فتستقيم بذلك وجهة الشاعرة المطبوع.
واللغة العربية شعريَّةٌ بطبعها؛ لتفرُّع مفرداتها، وتنوُّع اشتقاقاتها القياسية على أسلوبٍ لا يُرى له مثيل في اللغات الآرية، والقوافي مزدحمة فيها ازدحامًا يسهل النظم، وهي بخلاف ما يزعم بعض الأعاجم جزلة التركيب محكمة الانسجام، وفيها من طرق الحذف والتقدير، والتقديم والتأخير ما ينفسح معه المجال للشاعر لصوغ عبارته على قوالب شتى، وتلك مزيةٌ تمدح عليها اللغة في الشعر، وإن عيبت في النثر حيث يُقصد الجري على نمطٍ واحدٍ جلي، وهي على الجملة متسعة للشعر أكثر منها للنثر، فشعرها منذ القديم أرفع طبقةً من معظم نثرها، وجيده أسهل مثالًا من جيد النثر حتى لقد تجد النثر شعرًا في كثيرٍ من الأحوال.
ولا شك أن الزمان قد طوى كثيرًا من ألفاظها الوضعية، ولكن ما بقي منها فوق حاجة الشعراء لتأدية المعاني الفطرية والأفكار البديهية، والأوصاف الخلقية والحقائق الحِكَمية، وسائر ما توحى تدوينه قدماء الشعراء كهوميروس، وفنذاروس، وفرجيليوس وهوراس، فهي بهذا المعنى لا تقصر بشيء عن لغة الإلياذة اليونانية المشهورة بجزالة تركيبها، ورقتها وانسجامها، وإحكام وضع المفردات فيها.
مقابلتها باليونانية
ولا ترجح اليونانية على العربية إلا باتساعها لمشاكلة الألفاظ للمعاني، وتوفر أسباب النحت فيها لصوغ الألفاظ المركبة، وفي ما سوى ذلك لا أخال لها رجحانًا بل ترجح العربية في اتساع المفردات، وتشعُّب طرُق التركيب، والخروج بقياس الاشتقاقات إلى ما لا نهاية له من المعاني.
ثروتها وألفاظها الوضعية
ولقد بدا لي أثناء التعريب من ثروة العربية في الألفاظ الوضعية القديمة ما أغناني عن الانحراف بالمعنى على نحو ما اضطُرَّ إليه بعض نقَلة الإفرنج على ما تقدَّم في الفصل السابق، ورأيت من المماثلة بين اللغتين في دقة الوضع ما يُدهش له الناظم والناثر، وينبئك ذلك أن العرب لم يغفلوا وضع شيء من الألفاظ الدالة على جميع مطالعاتهم ومحسوساتهم حتى أصبحت مفردات اللغة في زمنهم رابيةً على حاجة التعبير، ولا سيما في الحسيات، وما هذا النقص البادي الآن في إحكام التعبير، وخصوصًا في المعنويَّات إلا نتيجة إهمال الخَلف اقتفاء آثار السلف.
وهو معلومٌ أن الإلياذة نظمت في زمنٍ كانت أحوال المعاش فيه قريبةً لأحواله بين قدماء العرب؛ ولهذا كان على المعرّب أن يقابل معانيها بما رادفها من لغة العرب بلا انحرافٍ ولا تأويل، واللغة متسعةٌ لذلك، فإذا وصف الناظم السلاح، وهو سلاح العرب ففي اللغة لفظةٌ بل ألفاظٌ للدلالة على كل ما قال من الشكَّة أي: السلاح الكامل إلى الحجر فلا يُعدم الناقل وسيلةً للتعبير عن كل ما ذكر من السيوف، والمدى ومناصلها وأغمادها، والرماح والزِّجاج، وكعوبها وأسنتها وصعادها، والدِّلاص والأبدان والدروع وحلقها، وزردها وقُتُرها، والخوذ، والترائك والمغافر وبيضها وقوانسها وعذباتها، والتروس والجواشن وحرابيها وحمائلها وهُدَّابها، والقسي وما لازمها من النبل المقذَّذ، والسهم المريش والوتر والفُوق والفَرض والسرية والنيزك، وسائر ما أهمل أو كاد يهمل من معدَّات الهجوم والدفاع كالفأس والمخذفة والفطيس، وإذا أتى على ذكر الخيل فما من لغةٍ أوسع من العربية بأوصافها، وتمثيل عدوها وجريها وتطبيقها، وتقريبها وحُضرها وارتفاعها، وإذا ذكر الحروب وعليها مدار الإلياذة، فلم تتفنن أمةٌ فوق العرب بوصف القتال والنزال، والمجاولة والمصاولة، والمشق والرشق والحذف والقذف، والمماصعة والنفح بالمناصل والضرب بالمغاول، والوخز بالعوامل، وقس على ذلك جميع ما تناول وصف الأحوال المعاشية والروابط القومية، والأحكام العرفية، والمناظر الطبيعية من وهادٍ وهضاب ومطرٍ وسحابٍ، وبحرٍ وبر، وزرعٍ وضرعٍ، وماءٍ وهواءٍ، وأرضٍ وسماء بل قد تجد خزانة العربية أجمع، وثروتها أوسع بما حوت من الألفاظ المفردة التي لا يعبَّر عنها في لغات الأعاجم إلا بعبارات، وإني موردٌ لك الآن أمثلةً ما عُبر عنه في اليونانية بكلمتين فأكثر، ويتيسر رده في النقل العربي إلى كلمةٍ واحدة في الأفعال والأوصاف والموصوفات، ذلك كالسَّلهب للجواد الطويل، والأجيد للجواد الطويل العنق، والأجرد للفرس القصير الشعر، والقبُّ للخيل الضامرة، والقياديد للخيل الطويلة، والتَّبيع والتبيعة لولد البقرة لحولٍ واحدٍ، والحولي لابن سنة من ذوات الحوافر وغيرها، والسديس للذي أتم خمس سنين، والجبهاء للعريضة الجبهة. والأكبس لمن أقبلت جبهته، وأدبرت هامتهُ من الناس، والطَّحُور للقوس البعيدة المرمى، والزِّجاج والمطارد للرماح القصيرة، والثلَّة لجماعة الغنم والمعز، والرَّعيل للقطعة من الخيل، والصوار لقطيع البقر، والدسيع لمفرز العنق من الكاهل، والوتيرة لما بين المنخرين، والبأديل للحم بين الأبط والثندوة أو لحم الثدي، وصرَّح بمعنى رمى ولم يُصِب، وأمثال ذلك مما سترى منه في الإلياذة شيئًا كثيرًا.
الحقيقة والمجاز في بعض ألفاظ اللغتين
الفرق بينهما في نسج العبارات
وبين اليونانية والعربية فرقٌ كبير في نسج العبارات وتركيب الجمل من حيث التقديم والتأخير، وصيغ الاشتقاق والجموع والحروف، والنحت وتركيب الأسماء، ولكن نهج كل لغة حسنٌ في بابه، وأسباب الفصاحة متيسرة لأبناء كل لغة إذا أحكموا الرصف على نهجهم.
المترادفات وتعدد معاني اللفظ الواحد
ولكن للعربية مزيتين في مفرداتها تقصر اليونانية وسائر اللغات عن مجاراتها فيهما، وهما كثرة المترادفات في الألفاظ الدالَّة على المعنى الواحد، وتعدد المعاني للفظة الواحدة، فقد ذكروا عشراتٍ ومئاتٍ من الألفاظ الموضوعة لمسميات معيَّنة من الحيوان كالأسد والحية، والبعير والناقة والفرس والثور، والكلب والهر والمأكولات كالتمر واللبن والعسل، والمشروبات كالماء والخمر، والسلاح كالسيف والرمح، والصفات كالطويل والقصير، والكبير والصغير، والشجاع والجبان، والكريم والبخيل، وغير ذلك من مألوفهم كالنور والظلام، والشمس والقمر، والسحاب والمطر، والتراب والحجر، ولهم مثل ذلك في الأفعال، فقد عدَّ أحدهم أكثر من ألف فعل يمكن إطلاقها على معنى واحد، ويقابل ذلك تعدد معاني اللفظ الواحد، فإذا تصفحت معاجم اللغة، وقرأت باب الخال والحال، والعين، والعجوز وأمثالها تولَّاك العجب لكثرة معاني كل كلمةٍ منها.
ولقد يعلم اللبيب أن كل تلك المترادفات لم توضع في اللغة على نية الوضع بل وقع ذلك اتفاقًا: إما لمنقولٍ عن الأعاجم، وإما لاختلاف المدلولات في لغات القبائل المتباعدة، وأما للمح صفةٍ مقصودة يتغير بها المعنى تغيرًا طفيفًا لا يُشعر به لوحدة المسمى، فالخمرة مثلًا إنما سميت كذلك لاختمار موادَّها، فإذا قيل الراح لُمح إلى الروح والارتياح أو الرحيق نُظر إلى صفائها وطيب رائحتها، أو السلسبيل قُصدت سهولة مساغها وهلمَّ جرَّا، ولكن هذه المميِّزات فُقدت في الاستعمال، وأصبحت المترادفات متشابهةً يقوم كلٌ منها مقام الآخر مع أنه لا يوجد في الأصل ترادفٌ تامٌ في مفردات اللغة إلا في ما صدر عن لغتين لقبيلتين مختلفتين؛ كالليث والورد للأسد أو نُقل من لغة الأعاجم إلى العربية مع بقاءِ اللفظ العربي فيها كالمينا من اليونانية للفرضة البحرية.
وإن للناظم فائدةً من هذا الاتساع إذ يتيسر له أن يلتقط من هذه المترادفات ما وافق بحره وقافيته، فقد اتفق لي أثناءَ التعريب أن استعملت كثيرًا من أسماء الأسد كالليث والغضنفر، والضرغام والقسورة، والهزبر والورد والضيغم، ولكن هذه الفائدة لا تذكر في جنب ما يلقيه هذا التراكم من العثرات في سبيل المنشئِ الناثر والطالب الراغب في الإحاطة بأوابد اللغة وشواردها حتى لقد يرتبك بها الشاعر في بعض الأحوال، ومن ذا الذي تحثُّه الدعوى إلى زعم الإلمام بجميع هذه المترادفات بل أي حافظةٍ تعي خمسمئة اسمٍ للأسد، ومئتين للحية، ومئتين وخمسين للناقة، وما عسى أن تكون الجدوى من وجود أربعمئة اسمٍ للداهية، ونعم القول قول الثعالبي: «إن تكاثر أسماء الدواهي من الدواهي». فأمثال هذه المترادفات عبءٌ ثقيل على كاهل اللغة، فإنما يحسن حفظها في مطوَّلات المعاجم للرجوع إليها في استجلاءِ غوامض الكلام والشعر القديم ضنًّا بذلك الذخر الثمين أن يتشتت وتذروه عوامل الغموض والنسيان، ولكنه لا يجدر بالطلَّاب والكتاب أن يتشبثوا بوحشيها ومهملها؛ لئلا تستغلق عبارتهم، وتجهد قريحتهم على غير جدوى، فيَتعبون ويُتعبون، وتثقل روحهم على روح المطالع.
الألفاظ المهملة
وقد جرت للعرب منذ القديم عادةٌ حميدة في مجاراة الزمان وسنن الطبيعة، وإهمال ما تقادم العهد على نبذه، فكانوا يتحاشون في شعرهم ونثرهم إيراد الألفاظ المهملة في عصرهم، وفي روايات الأصمعي كثيرٌ من كلام الأعراب المتوغلين في البداوة مما لم يكن يفهمه أهل زمانه؛ لإهمال النطق به والعدول عنه إلى مرادفٍ أسهل وأطلى، وأيضًا فإنهم لم يكثرون من استعمال الألفاظ الدالة على معاني مختلفة إلَّا في ما شاع من معانيها مطَّرحين ما غمض منها أو احتاج إلى تأويل؛ ولهذا كان شعر المولدين أقرب مما سواه إلى فهمنا، لقرب عهده منا وخلوه من كثيرٍ من غوامض الكلام، ويتلوه شعر المخضرمين ثم شعر الجاهليين، فحسبنا أن نتبع خطتهم فنبلغ بالنظر إلى عصرنا ما بلغوا بالنسبة إلى عصرهم، فيسقط ما قضى عليه الزمن بالسقوط ويبقى ما صلح للبقاء.
عجز العربية عن تأدية المعاني الحديثة
يؤخذ مما مرَّ أن العربية قد خُصَّت بثروةٍ في مفرداتها واتساعٍ في طرق تعبيرها تفاخر بهما سائر اللغات القديمة والحديثة، ولكن تلك الثروة وذلك الاتساع قد يمسيان بالإهمال وسوءِ الاستعمال ضيقًا وفقرًا، فإذا شكونا الزيادة فما أحرانا أن نشكو النقصان، فقد مرَّت القرون وتعاقبت الأجيال واللغات الحديثة جاريةٌ مع العلم والحضارة جري الشقيق الشفيق، والعربية كانت حتى هذا الزمن القريب ثابتةً في موقفٍ واحد كأن باب الاجتهاد قد أوصد في وجهها، وليس في سنن الخلق ما يوجب ذلك الإيصاد بالنظر إلى اللغة، بل إذا تتبعنا خطة السلف من عهد الجاهليين إلى انقضاءِ العصر العباسي رأينا أبناءَ هذه اللغة عاملين على تمحيصها وتهذيبها، وإبداعها كل ما بدر وصدر من نتاج العلم أو اقتضته ملابسة سائر الملل، فكانت في مقدمة اللغات اتساعًا لكل مادةٍ ومعنى، ولم تكن تضيق عبارة ناظمٍ ولا ناثر عن تأدية كل مقادٍ عصري، فما بالها وهي لا تزال ذلك البحر الزاخر تضيق الآن عن كثير من التعبيرات العلمية والصناعية والسياسية، ولا مسميات فيها لكثيرٍ من أسماءِ الاختراعات، والآلات الحديثة والأدوات البيتية، أَفكان يرضى قدماءُ العرب بهذا النقص، وقد وضعوا الأسماء العديدة لخشبات الصنَّاع والقدور والقصاع، والدلاءِ وحبالها والناقة وعقالها والملوك، والزعماء والعوارف والوفود والفيوج، والأحلاف والأحزاب والأنصار والطلائع والسرايا والعهود والمواثيق، وسائر ما دعتهم إليه حاجةٌ أو عرف.
ولا ينحصر هذا النقص في ما تقدَّم بل يمتد إلى كثير من المعاني العصرية والتعبيرات الخيالية، والتصورات التي استحدثها الزمان، فالعربية في حاجة إلى نظرٍ في كل ذلك، وهو أمرٌ طبيعيٌ لا مناص منه إذ لو نُشر هوميروس، وامرؤ القيس، وأرادا تمثيل جميع هذه الأحوال بلغتيهما لاضطربت عبارتهما، وأشكل عليهما التعبير، ولو ركب النابغة سفينة البحار لما أجاد بوصفها إجادته بوصف سفينة البر، أي: ناقته الضاربة في فيافي البيداء.
نقل الألفاظ الأعجمية واستحداث الألفاظ العربية
وكان شغف العرب بلغتهم يدفعهم إلى الحرص عليها، ومباراة الأعاجم بها فما بدت لهم ثغرةٌ إلا وسدُّوها ولا حليةٌ إلا وزينوها بها حتى أنه لم يكن يثقل على طباعهم أن ينقلوا إليها مئات من الألفاظ الأعجمية، ثم ردُّوها إليهم ألوفًا مؤلفة، بل لم يستنكفوا من التصرف ببعضها، وصوغ الأفعال منها وتصريفها، وإن كانت غير مصرَّفة في الأصل، فقالوا «فلسفة» و«تفلسف» و«زنديق» و«تزندق» و«طِراز» و«طرَّز» و«دهقان» و«دهقن وتدهقن».
ولكن هذا الأخذ عن الأعاجم لم يكن إلا نزرًا يسيرًا بجانب ما استخرجوه من مفردات لغتهم، وطبَّقوه على المعاني المستحدثة، ولا سيما في العلوم التي لم يكن لها أثرٌ في الجاهلية، والاصطلاحات التي اقتضاها انتظام أحكامهم وتوغلهم في الحضارة، فإنهم لما شرعوا في وضع العلوم العربية؛ كالصرف والنحو، والمعاني والبيان، والبديع والعروض، والدينية كعلم الكلام والتفسير والفقه والحديث، والعلوم الطبيعية والرياضية، وسائر ما نقلوه من كتب الأعاجم كالفلسفة والمنطق، والطب والفلك، والحساب والهندسة والجبر، والكيمياء شرعوا في كل ذلك، وليس في لغتهم إلا شبه شيءٍ مما يشير إلى مدلولاته، فما كان أيسر عليهم من أن يستخرجوا من لغتهم أوضاعًا استكملوا بها جميع مدلولاتهم العلوم العربية والدينية، ومعظم مدلولات العلوم الطبيعية، واتسعت لغتهم لكل ذلك حتى عوَّل الأعاجم على كثير من موضوعاتهم، ونقلوها إلى لغاتهم «الجبر، والسمت، والقلي، والنظير، والكحول، والسموم».
نهج العرب وتوسعهم في اللغة
ولما اتسعت أحكام سياستهم، وتغيرت طرق معاشهم، وازدادت تصوراتهم بما رأوا، وسمعوا، وقرءوا، وكتبوا وضعوا أسماء وأفعالًا لكل ما استحدث لديهم من طعام وشراب، ولباس، ومتاع، ونظام حكومة، وطريق سياسة، وتوسعوا في المعاني الشعرية والأساليب الإنشائية، فكانت اللغة تجاريهم في النمو والسعة.
اصطلاحاتهم
وإن أردت التثبت من توسعهم في ذلك الاستحداث، فدونك كتب اللغة فلا تكاد تجد صفحة منها خاليةً من الاصطلاحات الموضوعة بعد الإسلام، وإليك أمثلةً منها:
الدَّور الحركة، وعود الشيءِ إلى ما كان عليه … والدَّور عند الحكماءِ والمتكلمين والصوفية هو توقُّف كل من الشيئين على الآخر … وقياس الدَّور عند المنطقيين هو أن تؤخذ نتيجة القياس وتضم إلى عكس إحدى مقدمتيه … والدّور في الحميَّات عند الأطباءِ عبارةٌ عن مجموع النوبة أو زمانها … والدور عند الموسيقيين القطعة المستقلة من الشغل … وعلم الأدوار علم الموسيقي … والدور عند الشعراء القطعة من الموشح ونحوه…
الدرجة المرقاة … ودرجات الأمزجة عند الأطباء مراتبها في الشدة والضعف … والدرجة عند أهل الجفر وأرباب علم التكسير تطلق على حرفٍ من حروف سطر التكسير … وعند أهل الهيئة تطلق على جزء من ٣٦٠ جزءًا من منطقة الفلك … ودرجة الكوكب عندهم هي مكانه من فلك البروج، ومنها درجة طلوع الكوكب، ودرجة غروب الكوكب، ودرجة ممر الكوكب …
الحال … عند الحكماء كيفية مختصةٌ بنفس أو بذي نفس … وتطلق عند الأطباء على ثلاثة: أمور الصحة، والمرض، والحال المتوسطة … وعند الأصوليين على الاستصحاب … وعند السَّالكين على ما يَرِدُ على القلب من طرب أو حزن أو بسط وقبض … وعند النحاة على لفظٍ يدلُّ على الحال أي الزمان … وعند أهل المعاني على الأمر الداعي إلى التكلم على وجهٍ مخصوص …
وإن من تصفح كتاب «التعريفات» أو الكشَّاف للتهانوي يرى أن تعريف قسمٍ من هذه الاصطلاحات قد اضطر العلماء إلى تأليف المجلدات الضخمة.
سبب وقوف اللغة
والحاجة أم الاختراع، فلما كان أبناء هذه اللغة مشتغلين بها كانوا يتقدمون فتتقدم، ويرتقون فترتقي، فلما وقفوا وقفت، وانحصرت سجلاتها في خزائن أفرادٍ من العلماء معدودين، وما كان وقوفها لعجزٍ فيها أو نفاد في معدن جوهرها الوضاح، ولكنها عوامل قاهرة أصابت أهلها، فأقعدتهم معظم هذا الزمان، وما هبَّت نسمات النهضة الأخيرة في مصر وسوريا حتى أسرع أبناء القطرين إلى استخراج تلك الكنوز الدفينة، ولو تتابعت التآليف العلمية التي فتح لها محمد علي وخلفاؤه أرحب الأبواب، وتواصل تدريس العلوم العالية بها، أو لو لم تُصَب سوريا بما أصيبت به مصر من ضرورة التقاعد عن وضع المؤلفات العلمية؛ لانتقال الدروس في تلك العلوم إلى اللغات الأجنبية لما أعوزنا الآن تعبيرٌ في علمٍ من العلوم أو فنٍ من الفنون، ولما رأيت ناشئة هذا العصر إذا احتاجت إلى تعبيرٍ علمي عمدت إلى لسان أعجمي.
النهضة الأخيرة ومستقبل اللغة والشعر
ولكن تيار الأفكار إذا اندلع بأمة قضَّ السدود، وتجاوز الحواجز، فإن أبناء العربية شاعرون أن حياتهم بحياة لغتهم، وقد علموا الآن أنهُ لا مُعين لهم غير أنفسهم على بلوغ أمنيتهم منها، فإذا أخلصوا النية فلا حائل يصدهم عن النهوض بها، ولا ننكر أنهم أعادوا الكرَّة فوثبوا بها وثبةً جديدة في هذه الآونة المتأخرة، وهذه سجلاتهم وجرائدهم قد صعدت في مرقاة الكمال درجاتٍ لا عهد لهم بها قبل أعوام، وأصبح الكثير من اصطلاحاتها الحديثة «كالمجلة والجريدة والصحافة والمنطاد» مقبولًا عند الخاصة والعامة كأوضاع القدماء، وإن في مؤلفات الكتَّاب والأدباء ما يعدُّ لهم فخرًا في هذا الموقف الحرج، وأعظم من كل ذلك انتشار الميل إلى المدارس الوطنية، فلغة البلاد لا تحيا إلا بمدارس البلاد.
والشعر من توابع اللغة ولوازمها، فإذا ارتفع شأن اللغة فبشر الشعراءَ، على أن مطلب الشعراء يختلف عن مطلب العلماءِ والمؤَلفين، فحاجة الشاعر أيسر وموادُها أوفر، وذخيرته في دماغه، فإذا جلاها العلم كانت له، ولبني لغته موردًا صافيًا ومنهلًا عَذبًا، وفي الأمة والحمد لله فطاحل خرجوا عن جادة التقليد البحت، فمالوا ميل الزمان وأخذوا يسعون إلى استجلاء المعنويَّات سعي رصفائهم إلى استجلاء الحسيات، وما هي إلا جولةٌ وأختها مدةً من الزمن حتى تستعيد صناعتهم مقامها الشامخ، ومجدها الباذخ.
هوامش
Trojanishe Alterthümer 1874;
Atlas Trojanischer Alterthümer 1875.