النشيد السادس عشر

المعركة السادسة ومقتل فطرقل

مُجْمَلهُ

دخل فطرقل على أخيل ووقف لديه موقف الضارع الباكي يتوسل إليه أن يسلحه بسلاحه ليذهب لمقاتلة الطرواد، فأجابه أخيل إلى طلبه على شريطة أن لا يتجاوز الحدود بل يصد الطرواد عن السفن، ولا يتقدم إلى ما وراء ذلك، وكانت الأعداء قد تألبت على آياس وخارت قواه فجعل يتقهقر، وأضرمت النار بإحدى السفن وأخيل ينظر ذلك؛ فنادى فطرقل وهو يشك في سلاحه وأمره بسرعة المسير، فركب مركبة أخيل وإلى جانبه أفطوميذون رفيقه وحوذيه يسوق الجياد الخالدات، وجمع أخيل قومه المرامد وخطب فيهم ودعا وصلى فانقض بهم فطرقل على الأعداء فهزمهم، وأطفأ النيران المضطرمة بالسفن، وجرى أياس في طلب هكطور فاجتاز الطرواد وهم مدبرون الخندق، وفطرقل في أعقابهم يثير الكفاح ويعمل السلاح ولم يقف في وجه فطرقل من الطرواد إلا زعيم الليقبين، وكان زفس ينقذه من يد فطرقل لو لم تتصدَّ هيرا فتمنعه، فاحتدم غلوكوس الليقي وتقدم بقومه صيانة لجثة زعيمهم فما أغناهم ذلك من شيء بل انتهى الأمر بالتوائهم، واستيلاء الإغريق على أسلاب ذلك الزعيم، وأما جثته فطار بها أفلون إلى ليقيا، فثمل فطرقل بخمرة الانتصار، ولم يأخذ بأمر أخيل بل تعقب الأعداء في هزيمتهم، وهمَّ بتسلق أسوار المدينة فدفعه أفلون وأرسل إليه هكطور، فقتل فطرقل حوذي هكطور فتقدم أفلون بنفسه وضرب فطرقل وجرده من سلاحه، فبات أعزل لا يقوى على الدفاع فطعنه أوفرب وأجهز عليه هكطور، وجرى في طلب خيل أخيل، فأرخى لها أفطوميذ الأعنة فطارت به وتوارت.

وليست لتدرك بين الملا
عناقٌ بها زفس فيلا حبا

وقائع هذا النشيد أيضًا في اليوم الثامن والعشرين.

النشيد السادس عشر

بذاك الغراب استطار الوحى
وفطرقل نحو أخيل عدا
تساقط عيناه دمعًا سخينًا
كأسحم ماءٍ بصخرٍ جرى١
فهزت أخيل لرؤيتهِ
عواطف رفقٍ وفرط أسى
فمال إليه وقال: «إذن
أفطرقل قل لي علام الشجى

•••

شهقت كطفلٍ جرت تسرع
ومن دونها أمها تهرع
فتعلق في ذيل أثوابها
ومقلتها صببًا تهمع
وترسل طرفًا بليلًا إليها
عساه بذلتها يشفعُ
وتجذبها وهي ضارعةٌ
لتحملها فتكفَّ البكا

•••

أعندك من إفثيا خبر
له قومنا وأنا نذعر
فإن منتيوس ما زال حيًّا
بذلك قد أنبأ الأثرُ
وفيلا كذا بمرامده
عزيزٌ وإمرته ائتمروا
همامان لا شك موتهما
بلاءٌ علينا وأي بلا٢

•••

أم انتابك البث حزنًا على
لفيف الأخاءة مذ فشلا
تجاه عمارتهم جيشهم
جزاء مظالمه خذلا
فبح بحقي ضميرك لي
أحط بالذي رمته عجلا»
فقال وصعَّد أنفاسه:
«أجلْ يا أشدَّ قروم الورى

•••

دع الكيد فالخطب جلَّ وقد
تدفق نقع جراح العمد
ذيوميذ أقعده دمه
وأوذيس رب الطعان قعد
وأتريذ ألَّمه جرحه
كذاك أريفيل ألقى العدد
أحاطت بهم بسفائنهم
لضمد الجراح خيار الإسى٣

•••

وأنت على الكيد صلد الفؤاد
فلا كان لي قط هذا العناد
أيا فاسد الباس قل لي لمن
تعد اشتداد البئوس الشداد
إذا لم تزح عن لفيف الأخاء
عميم البلاء بيوم الطِّراد٤
فلالا فما أنت من بشرٍ
ولست ابن فيلا الفوارس لا

•••

وثيتيس ليست بأمك أصلا
بل اخترت في لجة البحر أصلا
ومن كبد الصخر كنت وليدًا
لأن فؤادك كالصخر فعلا٥
فإمَّا خشيت المقادير فيما
روت لك أمك عن زفس نقلا
فبي فابعثنَّ وفي إمرتي
لفيف المرامد أسد الشَّرى

•••

عسى بسلاحك إن أقبل
يخالوك وافيتهم تصطلي
فينجو الأخاء وطروادةٌ
تفرُّ وكربتنا تنجلي٦
ونكتسح القوم نكسأهم
لإليون بالبيض والأسل
فإنَّا وليس بنا من عياءٍ
نبدد جيشًا رماه العيا»

•••

لتلك أمانيه عن دفع نفس
إلى الحتف ساقته في يوم بؤس
فَأَنَّ أخيل وقال له:
«أفطرقل حدسك ليس بحدسي
فلست لأخشى المقادير فيما
روت لي أمي عن حكم زفس
ولكن بي غصة حرَّقت
فؤادي الكليم بحر اللظى

•••

وما زلت ألهب منذ انتصب
زعيم السُّرى وفتاتي اغتصب
وما هو إلَّا قريني مقامًا
وما هي الأجزاء النَّصب
حباءٌ حباني الأراغس لما
فتحت البلاد ونالوا الأرب
وأتريذ معتسفًا رامها
كأني دخيلٌ بذاك الحما

•••

ولكن لنغض عن الغابر
ونلهُ بموقفنا الحاضر
فإني وإن كنت آليتُ قبلًا
بأن لا ألين إلى الآخر
إلى أن تحيط بفلكي العدى
وتبدو لديَّ ظبا الباتر
فما كان للمرء مهما الْتَظَى
بأن يكمن الغيظ طول المدى٧

•••

فقم بسلاحي وسر بالمرامد
فقد أدرك الفلك جيش الطراود
وبالثغر قد حصروا قومنا
فضاق عليهم مجال المجاهد
وإليون خلفهم اندفعت
كأن لها النصر ألقى المقالد
وما لقيت بطلائعهم
تريكة آخيل تلقي السنا

•••

فلو أن أتريذ لم يعتسف
لما خلت جيش العداة يقف
وولوا وصرعى كتائبهم
ببطن حفائرنا ترتجف
وها هم أحاطوا بدرَّاعنا
وعنهم ذيوميذ عنفًا صرف
وليس براحته عاملٌ
يهيج احتدامًا لدفع الأذى

•••

وليس لأتريذ من قبح نطق
به نفثات الخبائث يُلقي
ولكن لهكطور صوتٌ دوى
يشقُّ الفضاء بغربٍ وشرقِ
وقد فاز بالنَّصر أعداؤنا
وضحوا وعجوا ونادوا بسبق
فَكُرَّ وقِ الفلك من نارهم
لبلغنا الوطن المرتجى

•••

لأمري ائتمر ومرامي أجر
فتحرز لي كلَّ مجدٍ وفخر
وتحمل لي بالجلال فتاتي
على تحف ونفائس غرٍّ
عن الفلك صدَّ العدو وعد
ولو زفس أولاك أعظم نصرِ
ولا تندفع في العدى مفردًا
فتبخس قدري بين الورى

•••

ولا يدفعنَّك طيش القتال
لإليون بالجيش تحت النبال
فربَّ إلاهٍ ولي العداة
كفيبوس أخلى الألمب وصال
إذن حالما الأمن تضمنُهُ
لأسطولنا وتصدُّ الرجال
فعد ودَع الحرب يضرمها
سواك وبادر إليَّ هُنا

•••

أيا زفس ربَّ العلى يا أثينا
وفيبوسًا السادة الأعظمينا
أبيدوا الطرواد فوق الأخاء
ة يفنوا برمتهم صاغرينا
ولا يبق حيًّا سوانا بإليو
ن تخلو وَدكًّا ندك الحصونا»٨
فذاك حديثهما ها هنا
وثمة عزم أياس ارتخى

•••

توالت عليه طعان العدى
وزفس قُوَى بأسه بدَّدا
وفوق تريكته انهملت
نبالهم شاسعات الصدى
ويسراه بالجوب قائمةٌ
يكاد من العي يلوي يدا٩
وما كل جيش العدى بقناه
بدافعه عنهم القهقري

•••

وفوق جوارحه العرقُ
من الجهد كالسَّيل يندفق
فشق تردد أنفاسه
عليه وقد كاد يختنق
وسيم على أزمةٍ أزمةً
وزاد على القلق القلقُ
ألا ليت شعري كيف الأوار
علا الفلك قلن قيان العلى١٠

•••

لآياس هكطور جريًا جرى
وعامله بالحسام برى
فأهوى السنان بثعلبه
يصلُّ صليلًا لوجه الثرى١١
فبات أياس بعودٍ ضئيلٍ
وفي سخط آل العلى شعرا
وقد خال زفس برى دونه
عماد القتال لنصر العدى

•••

لذاك التوى عن مرامي الظبا
وبالفلك أورى العدى اللهبا
بكل الغراب السعير فشا
وفي سطح وجهته نشبا١٢
فصاح أخيل لذا لاطمًا
بكفيه فخذيه مضطربا:
«بدار أفطرقل يا فرع زفس
بدار أيا فارسًا قد سما

•••

أرى الفلك بالنار تلتهب
وأعداؤنا جملةً وثبوا
فوا لهفي هل ينالونها
ويمنع في وجهنا الهرب
فقم بسلاحي إذن ريثما
أعبي كتائبنا واذهبوا»١٣
ففطرقل شك بزاهي سلاحٍ
ببرَّاق فولاذه قد أضا

•••

فأوثق خفين بالقدمين
بساقيه شدت عرًى من لجين
وألقى على صدره لأمةً
لآخيل روَّعة الفيلقين
وألقى حسامًا يرصِّعه
قتير لجينٍ على العاتقينْ
وجنته تلك ذات الوبالِ
تناولها ثم فيها اكتمى

•••

وتلك التريكة والعذبات
تطير بقونسها سابحات١٤
رماها على ثبت هامته
تذل لرؤيتها العزمات
وقام يهز قنيًّا ثقالًا
تخفُّ عليه لدى الأزمات
كذا غير صلد قناة أخيل
جميع سلاح أخيل حوى١٥

•••

فما كان في القوم غير أخيل
فتًى ذلك الرمح منهم يجيل
وعامله زانةُ قطعت
بقنة فليون عودًا ثقيل١٦
وخيرون أهدى لفيلا سلاحًا
على رقبات العداة وبيلْ
ومذ شك فطرقل أفطمذًا
لشد الجياد سريعًا دعا

•••

فتًى كان يوم انتياب الشدد
وليًّا وفيًّا له وسند١٧
وما كان يرعى فتًى مثله
من الصيد بعد ابن فيلا أحد
فهب لزنثس يقرنه
بباليسٍ ببهي العدد
جوادان عنقاء أمهما
وقد علقت من نسيم الهوا

•••

نعم تلك فوذرغةٌ وهي تسعى
على ضفَّة الأقيانُس ترعى
كذا حَمَلَتْ والجوادان شبَّا
كعاصفة الريح جريًا وطبعا
وللنير شدَّ فداس الذي
أخيل بإيتين نال سقعا
جوادٌ وإن كان رهن الردى
فجري جياد الخلود جرى١٨

•••

وبالخيم طار أخيل وصاح
يعبي مرامده للكفاح
فهبوا كسرب الذئاب الكواسـ
ـر يدفعه البأس دفع الرياح
ممزق فوق الذرى إيَّلًا
وأفواهها دامياتُ الصفاح
وتنضم جيشًا جرى والفًا
بسلط اللسان بماءٍ حلا

•••

فتنبذ في الماء تلك الدما
وتروي ولا ترتخي همما١٩
كذا حول فطرقل كبارهم
لفيفهم دار وانتظما
وبينهم خلُّ زفس أخيل
يحض الكماة حماة الحما
بخمسين فلكًا أتى بهم
بخمسين كل غرابٍ أتى

•••

بخمسة صيدٍ بهم وثقا
بإمرته كفل الفيلقا
فأولى جرائدهم نظمت
بإمرة مينستيوس اللقا
(هو ابن الجدول إسفر خيوس الـ
ـذي كان من زفسٍ انبثقا
ولكنما أمه فولدورا الـ
ـجميلة وابنة فيلا النهى

•••

ومن بعد ذاك الإلاه بغاها
بروس بن فيريرسٍ وحباها
فكانت له علنًا زوجةً
وشاع بأن فتاه فتاها)
وثانية الفرق انتظمت
لأفدور من جل بأسًا وجاها
هو ابن فُلِيْمِيلَةَ ابنةِ فيلا
س من ولدته بشرخ الصبا

•••

بديعة حسنٍ بمغنى الطرب
بها هرمسٌ بالغرام التهب
رآها تغني وترقص بين الـ
عذارى لدى ذات قوس الذهب٢٠
فقاتل أرغوص هام بها
وفي ذروة القصر فيها احتجب٢١
وأولدها ولدًا نابغًا
إذا ما عدا وإذا ما رمى

•••

ولما تبدَّى لشمس النهار
وثم إليثيةٌ بانتظار٢٢
إخكليس أكطور أنزلها
بمنزله بأجل شعار
وفي حجر فيلاس ظل الغلام
يشبُّ ربيبًا عزيز المنار
وثالثةُ الفرق اجتمعت
لفيندر بن ممال الفتى

•••

فتًى لم يفقه بهز القنا
بهم غير فطرقل إن طعنا
وفينكس رابع قوَّادهم
هو الفارس الشيخ إلف العنا
وخامسهم ألقميذ بن الفيـ
ـس من عاديات الوغى امتحنا
كذلك آخيل كتَّبهم
وصاح يثبتهم للوغى:

•••

«مرامدة ادَّكروا كم على
عداكم صديد الوعيد علا
فكلكم عاذلي كلَّما
حنقت وكلٌ قلى وتلا:
«أيا ظالمًا يا ابن فيلا فأمـ
ـك قد أرضعت مرةً وقلا
«تصلبت لبًّا وقسرًا حجرت
رفاقك عن أشرف الملتقى

•••

«هلم بنا للديار وإلا
فماذا التحامل حقدًا وغلا»
لتلك أقاويلكم جملةً
فدنكم جذوة الحرب تصلى
وتلك أمانيكم فليكرَّ
إليها الذي كان للكر أهلا»
فهبوا ولبَّوا مليكهم
كتائب رُصَّت كرصِّ البنا

•••

كصخرٍ بصخرٍ قد اتصلا
بحائط دارٍ سمت للعلى
وأُحكِم بناؤها رصفها
فلسيت تبالي بنوءٍ ولا
كذاك تألب جيشهم
وقد لاصق البطلُ البطلا
وبالخوذة الخوذة اشتبكت
وفوق المجن المجنُّ انحنى٢٣

•••

بهبتهم عذباتُ القوانس
تلاقت تموج بهام القوامس
وفطرقل شك وأفطمذٌ
وقد برزا لالتقاء الدَّراهس
همامان همُّهما واحدٌ
نكال العدو بصدر الفوارس
وأما أخيل فلمَّا استتم انـ
ـتظامهم للخيام انثنى

•••

هناك غطاء خزانته
أماط يؤج ببهجته
فتلك الخزانة قد أتحفته
بها أمه يوم غزوته
وقد شحنتها بأرديةٍ
تصد الهواء بهبته
وأكسية وطنافس غرٍّ
تشوق برؤيتها من رأى

•••

فأخرج كوبًا بديعًا سناه
به ليس يشرب خمرًا سواه
لزفس به الرَّاح ترفع صرفًا
وتهرق من دون كل إلاه
بنار الكباريت طهره
وغمَّسه بنقي المياه
ومن بعد غسل يديه به الخمـ
ـر سوداء صبَّ بكل اعتناء

•••

وبين السرى قام يرفعه
ويعلو لزفس تضرُّعه
يشير بعينيه نحو السماء
وزفس يراه ويسمعه:
«أيا زفس رب الددون ومولى الـ
ـفلاسج من بان مربعه٢٤
ويا ملكًا بددونه حيث أز
مهرَّ على القوم قرُّ الشتا

•••

وحيث سرى السلة السهد
رواتك من حولك احتشدوا٢٥
فلم يغسلوا لهم قدمًا
وغير الثرى ما لهم مرقدُ
دعوتك قبلًا فأعززتني
بذل الأخاء وقد جهدوا
ألا فاستجبني أيضًا ولا
تخيبني يا سميع الدعا

•••

فها أنا ما بين فلكي مقيم
فيزمع فطرقل خلي الحميم
يقود مرامدتي للوغى
فخوله نصرًا أزفس العظيم
وصلبه لبًّا فيعلم هكطو
ر هل هو كفؤٌ لرغم الغريم
وهل لا يكر ويبطش إلَّا
إذا ما وراء أخيل انبرى

•••

وشدده حتَّى إذا ما انتصر
وعن موقف الفلك زال الخطر
يأوب إليَّ هنا سالمًا
بعسكره وسلاحي الأغر»
لزفس دعاء أخيل رقى
وزفس وعى جابرًا وكسر
فخوَّل فطرقل صون الخلايا
وأما سلامته فأبى

•••

وأما أخيل فمذ أكملا
فروض عبادته قفلا
بموضعه الكوب أودع ثم
إلى باب خيمته أقبلا
وظل هنالك مرتقبًا
منازلة الجحفل الجحفلا
وفطرقل والجيش منتظمٌ
بإمرته للكفاح مشى

•••

كأنهم الدبر ثار يمور
وخشرمه بسبيل العبور
وثمة ولدٌ تحثحثه
ليبعث منتشرًا بالشرور
يمر على جهله عابرٌ
فيدفعه فعليه يثور
يذب عن البيض مستبسلًا
حديدًا لحماتِ شديد القوى٢٦

•••

سرى المرمدون بشدتهم
كذا انبعثوا من عمارتهم
وفطرقل يصرخ مذ أقبلوا
يعج الفضاء بضجتهم:
«مراميد ليس لقوم أخيل
بأن ينثنوا عن عزيمتهم
علينا ونحن سراه بأن
نجلَّ أجلَّ فتى بالسُّرى

•••

ليعلم أتريذُ ما اجترحا
بحط أشد قروم الوحى»
فهاجت لذاك حميتهم
وكلهم للقا طمحا
وكرُّوا وصاحوا وصيحتهم
صداها بفلكهم صدحا
وفطرقل يزهو وأفطمذٌ
بصدرهم ببهي الحلى

•••

فخار الطرواد وارتعبوا
لمنظر فطرقل واضطربوا
وخالوا أخيل ارعوى مقبلًا
عليهم وقد فاته الغضب
فكلهم التاع مستشرفًا
يرى كيف ينجو به الهربُ
ومعظمهم عجَّ حيث غراب
فروطسلاس الأبي رسا

•••

هنالك فطرقل حيث خطاه
وأرسل يقذف صلد القناه
فأدرك بالكتف فيرخم مولى الـ
ـفيونة صيد الجياد العتاه
بهم من أميدون من جدِّ أكسـ
ـيُّس خفَّ معتصمًا بقواه
فخرَّ وخارت كتائبه
وولوا شتاتًا بعرض الفلا

•••

مقابسهم غادروا بالتهاب
وقد لهمت نصف ذاك الغراب
ففطرقل أخمدها والعدى
تبدَّد شملهم باصطخاب
وهبَّ الأخاء بتلك الخلايا
وهدة نعرتهم للسحابْ
عن الفلك شتَّ العدوُّ وقد
بدا فرجٌ بعد طول العنا

•••

كأن مثير الصواعق بدد
سحابًا به شامخ الطود يربد
فتبدوا الضواحي وشُمُّ الرَّواسي
وبطن الوهاد ونجدٌ وفدفد
وينفتح الجو والنور يلقي
بلب الرقيع شعاعًا توقَّد٢٧
ولكنما الحرب ما بلغت
بشدَّتها غاية المنتهى

•••

فطروادةً ساق حكم اضطرار
فغادرت الفلك تبغي الفرار
وظلَّت تذود وفي إثرها
على كل قرمٍ عميدٌ أغارْ
وفطرقل في صدر جند الأخاء
على عرليق السنان أطار
فأنفذ في حقه والجًا
إلى العظم فانقض فوق الثَّرى

•••

وخرَّ ثواس برمح منيل
وعن صدره الجوب كان أميلْ
وأمفقل رام مجيس ولكن
مجيس تلقَّى برمح صقيل
فبتَّت قلب شظيَّته
فخر غضيض الجفون قتيل
وأنطيلخٌ شق خصر أتمنـ
ـيسًا فلدى قدميه التوى

•••

فحرَّق ماريس موت أخيه
فخفَّ لجثته ليقيه
وقد كاد يطعن أنطيلخًا
ولكن بدا ترسميذ يليه
فبادر عاتقه بسنانٍ
فرى اللحم والعظم ينفذ فيه
فخرَّ وصلَّ بشكته
وعينيه غشى ظلام الردى

•••

كلا الأخوين رمى الأخوان
فمن ولد نسطور ذي الفضل ذان
وذانك فرعا أميسودرٍ
سليل خميرة هول الزمان٢٨
حليفا ودادٍ لسرفيذنٍ
وشهمان قرمان يوم الطعان
هما لأريبا كذا انحدرا
وقد غادرا قرع صم القنا٢٩

•••

كذاك أياس بن ويلوس كر
إذا إقليوبول حيًّا ظهر
تربَّك يبغي الفرار فوافى
أياس بماضي غرارٍ أغر
فواراه في جيده فقراه
وأخرج يلهب والقرم خر
وليقون رام فنيلا وكلٌّ
رمى وكلا العاملين نبا

•••

فكرَّا وكلٌ براحته
حسامٌ فخفَّ بضربته
فعامل ذاك أصاب التريكـ
ـة فانقضَّ من كعب قبضته
ولكن فنيلا فرى الجيد والرأ
س علق يهوي بجلدته
فغادره نور مقلته
وفوق الحضيض صريعًا هوى

•••

ومريون مذ أقبل السهل ينهب
أكاماس أدرك إذ همَّ يركب
فألقى بعاتقه طعنةً
فجندل عن طرفه النور يحجب
وإيذومنٌ إرماس أصاب
بفيه وفيه السرية غيَّب
فشققت العظم تحت الدماغ
وأسنانه فلقلت في اللثى

•••

فمن منخريه النجيع تفجر
ومن فيه والطرف بالدم محمر
ومن فوقه الموت ألقى سحابًا
كثيفًا بسترته قد تستر
وجيش الطراود ولَّى شتاتًا
وقد فاته البأس والذب والكر
وإثرهم انقض جند الأخاء
وكل زعيمٍ زعيمًا فرى

•••

كسرب ذئابٍ بشم الخبال
قد انقضَّ يبغي قطيع السخال
وقد فرَّقته الرعاة بجبلٍ
فيدهمه بفسيح المجال
ويبطش فيه يمزقه
وليس له مهجةٌ للنضال
فذا شأنهم وأياس حشاه
لإدراك هكطور فيه التظى

•••

ولكن هكطور وهو الهمام
وقد حنَّكته ضروب الصدام
أصاخ بسترة جنَّته
لقرع القنا وهزيز السهام
وقد شهد النصر رجحانه
لقوم العداة فهام وحام
تثبَّت يفكر في صحبه
يروم لهم نجوةً ترتجى

•••

فمن موقف الفلك بالعنف ثار
هديد الوغى وصديد الفرار
كما اندفع الغيم بالجو في يو
م صحوٍ به زفس نوءًا أطار
وفيلق إليون قد فرَّ حتى الـ
ـحفير بغير هدًى وقرارْ
بهكطورهم جمحت جرده
فألقته عنهم بعيد المدى

•••

وبينهم بات ذاك الحفير
لهم حاجزًا عن حثيث المسير
فكم من عجالٍ به سحقت
وقد غادرتها الجياد تطير
وفطرقل يُنخي كتائبه
لسحق جيوشِ العدى ويغير
فولَّوا بعرض الفلا شرَّدًا
وقد ولولوا والفؤاد وهى

•••

فعجَّ عجاجهم للسَّحابْ
وفطرقل يطلب لبَّ العباب
فكم فارسٍ بات تحت العجال
وقد خرَّ يخفق فوق التُّراب
وكم فرسٍ غادر المركباتِ
تخبُّ ووجهة إليون آبْ
ولم تك جردُ أخيل لتعبا
بذاك الحفير العميق الهوى

•••

تعدَّتهُ كالبرق رامحةً
من الجرف للجرف سابحةً
سلاهب خلدٍ بنو الخلد كانت
لفيلا الفوارس مانحةً
ومهجةُ فطرقل ما لبثت
لإدراك هكطور طامحةً
ولكن هكطور والخيل شطت
به جامحات الصدور نأى

•••

وخيلهم وهي منطلقه
تغير وتصهل مندفقه
كأن الغيوم بيوم خريفٍ
بنوءٍ على الأرض منطبقه
فيهمر زفس السيول انتقامًا
من الخلق إذ تنبذ الشفقه
وتقضي القضاة بمجلسها
ولا قسط في حكمها والقضا

•••

وقد فاتها حمقًا أن تهاب
بني الخلد إن نهضت للعقاب
فتطغى مجاري المياه وتطمو الـ
ـسيولُ وتنقض فوق الهضاب
تغادر شمَّ الجبال زعابًا
إلى البحر يعلو لظهر زعاب
تعيث وتفسد في الأرض حتَّى
عنا النَّاس يصبح طرًّا هبا٣٠

•••

وفطرقل بين الصدور صدر
وساق إلى الفلك تلك الزمر
على رغمهم دون عودتهم
لإليون حال وأجرى العبر
وجندهم بين مرسى الخلايا
وسيموسٍ والحصار حصر٣١
وصال وأوَّل صولته
على أفرنوس الهمام سطا

•••

بدا صدره تحت جنَّته
وفطرقل خفَّ بطعنتهِ
فجندله لا حراك به
وأهوى يصلُّ بشكته
وثنى بثسطور إينفس لما
تلملم من فوق سدَّته
تضعضع خوفًا فأرخى العنان
وفطرقل في إثره مضى٣٢

•••

بصفحة وجنته الرمح ألقى
فغاص وشقَّ النَّواجذ شقَّا
ومن ثمة اجترَّه بالسنان
عن العرش بالرمح يلصق لصقا
كما اصطاد بالشص من فوق صخرٍ
فتى سمك البحر والشص دقا
فألقاه والرمح يفغر فاه
على وجهه ثم عنه اغتدى

•••

فإريال ألفى إليه ابتدر
فبادره قاذفًا بحجر
فحل ببطن تريكته
وهامته شقَّ ثم انحدر
فخرَّ صريعًا ومن حوله الـ
ـحمام مبيد الحياة انتشر
ومن ثمَّ أتبعه بقرومٍ
على بعضهم بعضهم قد ثوى

•••

فمنهم إريماس أمفوطروس
وإيفلط إيفيسٌ إيخيوس
وإطلوفلتم فريس كذاك
فليميل أرغيس إيفوس
فلما رأى صحبه سرفذون
بهم لعبت عاديات البئوس
تحدَّم يصرخ في قومه:
«فوا عاركم يا بني ليقيا

•••

قفوا لا تفرُّوا علام الوجل
فإني أطلب هذا البطلْ
لأعلم من ذا الذي عاث فينا
ومنا العديد الوفير قتل»
ترجَّل يعدو وفطرقل لمَّا
رآه ترجَّل ثم حملْ
كأنهما عندما اصطدما
عقابان من فوق صخرٍ نتا

•••

يهبَّان هِبَّة مظفر
بعقف المخالب والمنسر٣٣
يصرَّان صرصرة ويشبَّا
ن من فوق ذيَّالك الحجرِ
وزفس بعزلته راقبٌ
فهاج به الرفق بالبشر
فقال لهيرا شقيقته
وزوجته: «آه حل القضا

•••

أرى سرفذون أحبَّ العباد
إليَّ بعامل فطرقل بادْ
ينازع قلبي أمران إمَّا
مواراته عن مجال الجلادْ
وإلقاؤه وهو حيّ مفدى
إلى قومه في خصيب البلاد
وإما السماح بمقتله
فيبلغ فطرقل منه المنى»

•••

فقالت: «وأي مقال تقول
أيا ابن قرونس قيل القيول
فتًى من بني الموت حكم الردى
رماه وأنت تجوز الأصول
فأنفذ مرامك إن رمت لكن
بنو الخلد لا يظهرون القبول
فدونك مني مقالة حقٍ
فألق مقالي بسامي الحجى

•••

إذا سرفذون إلى الأهل حيَّا
أعدت فآل العلى تتهيَّا
وتطلب إنقاذ أبنائها
من الحتف مثلك شيئًا فشيئا
فإن أنت أحببته سمتهم
على مضض الكيد غيظًا وغيَّا
فخل حنوَّك واأذن إذن
ففطرقل ينفذ حكمًا مضى

•••

فإن غادرته الحياة وباد
مر الموت فورًا وعذب الرقاد
إلى ليقيا يحملاه سريعًا
لإخوته والصحاب البعاد
فيدفن في اللحد حرًّا كريمًا
ونصبُ الكرام عليه يشادْ
فذاك جزاء الأولى جاهدوا
وماتوا كرامًا ونعم الجزا»

•••

فأذعن زفس لها ثمَّ أمطر
على الأرض طلًّا من الدم أحمر٣٤
قيامًا بإجلال فرعٍ حبيبٍ
سيردى غريبًا وفطرقل يفخر
فكرَّا وفطرقل ثرسملًا
رمى بالصفاق فمن فوره خر
تلا سرفذون بسوق الجياد
وكان حليف الصبا المرتضى

•••

وعامله سرفذون قذف
ولكن بكتف فداس وقف
فخرَّ لوجه الثرى صاهلًا
وقد زهقت روحه وارتجف
فأزعج مصرعه الفرسين
فشبَّا ونيرهما قد قصفْ
وصرع عنانيهما التف فاستـ
ـل أفطمذٌ سيفه وانتضى

•••

وخف وبت رباط الجواد
فعادا لروعهما والطراد
وعاد الكميان للضرب والطعـ
ـن في حومة الحرب قرمي عناد
رمى سرفذون مثقفه
فعن كتف فطرقل يسراه حاد
ولكنَّ فطرقل عامله
أطار وما إن أطار سدى

•••

ففي سرفذون السنان انتشب
على عضل القلب حيث انتصب
فأهوى يصر أمام العجال
بأسنانه والحضيض اختضب
كملولةٍ أو كصفصافةٍ
وباسقةِ الأرز فوق الهضب
بها نفذ الحد في كفِّ وشا
ر فلكٍ متين الجذوع برى٣٥

•••

وخرَّ كثورٍ بصدر الصوار
عتا وعليه الغضنفر ثار
ومن تحت صكَّةِ أنيابه
يخور إلى أن ترجَّ القفار
كذا خر مولى بني ليقيا
ومن كفِّ فطرقل ألفى البوار
ولكنَّه بتجلُّدِهِ
علا صوتُهُ بجهيرِ النِّدا:

•••

«ألا يا غلوكس خير أليفِ
لذا الحين حين الصدام العنيفِ
لئن كنت ذا مهجةٍ وجنانٍ
فلا تَصبُ إلَّا لقرع السُّيُوفِ
أثر بقيول بني ليقيا
لدى سرفذون أوار الحتوف
وذودنَّ عني وللحرب ألهِبْ
قُلوبَ السُّرى بسعير الجذى

•••

وإلَّا وبهم العدى صرعوني
وجندلت في وجه هذي السفين
سأورثك الدَّهر خزيًا وعارًا
إذا ما العدى شِكَّتي سلبوني»
ومن ثم أخمد أنفاسه
وأغمض عينيه ستر المنون٣٦
وفطرقل داس على صدره
لينتزع العامل الممتهى٣٧

•••

فأخرج يعلق ذاك العضل
بحد السنان وروح البطل
وهم المرامد في عجلٍ
ليستوقفوا الجرد تحت العجل
عتاقٌ وغادرها فارساها
فحثحثها للفرار الوجل
وأما غلوكس فالتاع بثًّا
لذاك الندا وحشاه انفأى٣٨

•••

لقد بسط الكفَّ فوق الذراع
وليس به قوةٌ للدفاع
فما زال يؤلمُهُ نبل طفقيـ
ـر لما تسلق فوق القلاع
فألفت يدعو أفلُّون ربَّ السِّـ
ـهام: «ألا رب جد باستماع
فحيث تكن أنت يبلغك صوتُ
كئيبٍ تلهَّف مثلي أنا

•••

أفي ليقيا كنت أرضِ اليسار
أم اخترت إليون دار قرارْ
فأنت ترى ألمي وجراحي
وسيل دمٍ من ذراعي فارْ
تثقلُ كتفي من هز رمحي
إذا ما علا بالبدار الغبار
وذا سرفذون العميد ابن زفس
وما صانه زفس ألفى التوى٣٩

•••

فآلامي الآن سكن وخفف
وبأسًا أنلني والدم جفف
لكي استحثَّ بني ليقيا
وحول القتيل الرماح نكثف»
دعا فاستجيب الدعا ومسيل
الدماء على الفور بالجرح أوقف
وآلامه سكنت وحشاه
ببأس شديدٍ ذكا واصطلى

•••

فمالت به هزَّةُ الطرب
لما نال من بلغة الأرب
بصيد بني ليقيا طافي يستنـ
ـهض البهم للذَّود والطلب
وبين الطَّراود جال فمال
لفوليدماس الهمام الأبي
وأنياس ألقى فحثَّ وخفَّ
إلى آغنور الفتى المُجتبى

•••

وهكطور وافى بقلب الحديد
يؤج فصاح بصوتٍ شديد:
«أشأنك هكطور عن حلفائـ
ـك تغضي وصيد سراهم تبيد
بحبك قد هلكوا وعداهم
عن الأهل والدَّار بون بعيد
فذا سرفذون المليك الذي
حوى البأس والعدل غضًّا ذوى

•••

أريس براحة فطرقل قد
رماه وحرَّقنا بالكمد
ألا ما كررتم وقلبكم الـ
ـتياعًا بحرِّ الأوار اتقد
ألا ما خشيتم أن المرامـ
ـد ينتزعون زهيَّ العدد
ويولونه الذُّلَّ منا انتقامًا
لبهمٍ أبدنا بغر الظبا»

•••

فهدَّ الطَّراود ذاكي اللهف
على سرفذون وفاض الأسف
فقد كان وهو دخيلٌ بهم
لهم منعةً من عوادي التلف
مشى إثره البهم جيشًا وليس
له بهم شبهٌ أو خلف
فهاجوا وهكطور في صدرهم
تحدم غيظًا يحث الخطى

•••

ولكن فطرقل بين الأخاء
عدا يستحثهم للقاء
وأقبل يدعو الأياسين لكن
فؤاد الأياسين يذكو اصطلاء:
«ألا الآن دونكما الذود مذ كنـ
ـتما خير كل قروم البلاء
فذا سرفذون الفتى من إلى الـ
ـمعاقل قبل الجميع رقى

•••

عسى أن نفوز بجثته
نجردها لمذلَّته
ونفري بحد الغرار الأولى
يذبُّون من جند عصبته»
فهبَّا ومن كل صوبٍ تكثَّـ
ـف جيشٌ يجيش بهمته
وحول القتيل اصطدامٌ عنيفٌ
وعجٌ مخيفٌ وصلُّ الشبا٤٠

•••

بنو ليقيا ولفيف الطراود
وجندُ الأخاء وجيش المرامد
جميعهم اندفعوا دفعة
بصلصلةٍ ووحي متصاعد
وزفس على فرعه حسرةً
تحرَّق يبغي اشتداد الشدائد
فأحدق فيهم وقد كيد كيدًا
وأسبل ستر ظلامٍ دجا٤١

•••

ففي البدء جيش القتيل اندفق
وصدَّ الأخاء الحداد الحدق
فبين المرامد خر إفيجـ
ـيُّس بن أغكليس فخر الفرق
لقد كان قبلًا ببوذيةٍ
فغادرها تحت جرمٍ سبقْ
مضى فاتكًا بابن عمٍ له
وعند ثتيس وفيلا التجا

•••

إلى حرب طروادةٍ سيَّراه
لآخيل خرَّاق جيش الكماه
لقد رام سلب القتيل وهكطو
ر فورًا بجلمود صخرٍ رماه
وهامته بتريكته
لشطرين شقَّ فألفى رداه
ومن فوره خرَّ فوق القتيل
وحرَّق فطرقل فرط الشدَّا٤٢

•••

حكى مذ مضى في الطلائع صقرا
لديه الزَّرازير يفررن فرَّا
وسرب العقاعق من وجهه
شتاتًا تساق به حيث كرَّا
فسعديك يا ابن منتيوس هزَّمـ
ـت كلَّ فتًى هالعًا مقشعرا
بني ليقيا والطراود طرَّا
قهرت انتقامًا لإلفٍ كبا

•••

وعنق ابن إيثيمنٍ إستنيل
دققت بصخرٍ قذفت ثقيلْ
ففرَّ الطراود في وجههم
كذلك هكطور ولَّى ذليل
إلى أن أبينوا على روعهم
على بعد مرمى سنانٍ صقيل
على العنف يرمي به طاعنٌ
بدار الوغى أو بعرض اللُّهى٤٣

•••

ولكن غلوكس ثم انثنى
وعاد فأعمل شهب القنا
وأصمى بثكليس خلوكون من
بهيلاذةٍ ناعمًا سكنا
وما كان بين الطَّراود من
حكاه بهم ثروةً وغنى
لقد كاد يرمي غلوكس لمَّا
وراء العداة حثيثًا سعى

•••

فعاد غلوكس والرُّمح زج
وفي الصَّدر حدُّ السنان ولج
على بأسه خرَّ فارتجَّت الأر
ضُ والتهبت بذويه المهج
ولكنَّ جيش العدى فرحًا
تكثَّف من حوله وابتهج
وأمَّا الأخاء فلم ينثنوا
بل اندفعوا كزعابٍ طغا٤٤

•••

ومريون بين العدى ظفرا
بقرمٍ بلوغونسٍ شهرا
هو ابن أنيطور كاهن زفس
بإيذا ومن مثله وقرا
أصيب على مقتل الأذن فانقـ
ـضَّ لا رمقٌ فيه فوق الثَّرى
فبادر أنياس يطعن مريو
ن لكنَّ ذاك السنان هفا٤٥

•••

لقد كان مريون مستترا
بجنَّته عندما ابتدرا
فمال عن الرمح والنَّصل زلَّ
ومن خلفهِ للحضيض سرى
وظلَّ هنالك مرتعشًا
على ذلك العزم إذ خدرا
رمته ذراعٌ لها البأس ينمي
فأنفذ لكن ببطن النقا٤٦

•••

وأنياس صاح مغيظًا: «أجل
أمريون فاتك سهم الأجل
وإلا فمهما تفوَّقت رقصًا
لو النَّصل وافاك عزمك فل»٤٧
فقال: «أأنياس هيهات تصمي
جميع العداة وأنت بطل
وأنت رهين الحمام عسى
أصيبك مهما حشاك عسا٤٨

•••

فإمَّا زمتك طبا أسلي
وقد أدركتك انتهى أملي
فلا شك تهبط في فشلٍ
لآذيس روحك والفخر لي»
ولكنَّ فطرقل سيءَ فقال
يؤنب مريون بالعجل:
«علام أخي ذا المقال المهين
وأنت بلوتك سامي النُّهى

•••

أتزعم أن حديد الكلام
يصد الطراود يوم الصدام
فماذا بدافعهم عن قتيلٍ
حواليه تصطك لامٌ بلام
ولن يرجعوا عنه حتَّى يضاف
صريعًا لذاك الهمام همام
فللحرب فعلٌ وللسلم قولٌ
وهذا أوان الوغى لا اللغا»٤٩

•••

فخفَّ ومريون في الإثر خف
كربٍّ وللجيشِ جيشٌ زحف
وفي السهل للبيض والسمر قرعٌ
بفولاذهم وإهاب الحجف٥٠
كأن بأذرع حطَّابةٍ
بغابٍ فئوسًا صداها قصف٥١
وحول القتيل استطار العجاج
وويل الدما والنصال همى

•••

من الرأس غشَّاه حتى القدم
فما كان يبصر بين الرمم
وفيلق كل فريقٍ لديه
بهدَّته الكفاح ازدحم
كأنهم بالربيع ذبابٌ
يطنُّ طنينًا ببيت النَّعم
وقد حام من حول ألبانها
إذا ما الإناء رآه امتلا٥٢

•••

وزفس بشامخ تلك الذرى
عن الحرب ما حوَّل النظرا
ولكنَّه لم يزل راقبًا
بمقتل فطرقل مفتكرا
يجيل بأمرين هاجسه
أيدفع هكطور مستعرا
فيقتله فوق ذاك القتيل
ويسلبُ منه سلاحًا زها

•••

أم الحرب عنفًا شديدًا يزيد
وفيها قروم الرجال يبيدْ
فعوَّل أن يستحث إلى الفتـ
ـك بالبهم إلف أخيل العميد
فيدفع هكطور والجيش طرَّا
لإليون من تحت قرع الحديد
لذلك أوهن هكطور قلبًا
فهبَّ لمركبهِ واعتلى

•••

وولى ونادى بهم بالفرار
وأوجس من زفس عنه ازورار
درى أنَّ كفَّة ميزانهِ
أميلت ودور الدَّوائر دار
وعزمُ بني ليقيا خار حتَّى
غدوا لا يقرُّ لهم من قرارْ
وراعهم صرعُ ملكهم
فوَلَّوا وقد جلَّتِ الأُربى٥٣

•••

رأوه طعين الحشا جندلا
ومن فوقه جثث النُّبّلا
حواليه خرَّ الصَّناديد لما
قضى زفسُ أن يدْلَهِمَّ البلا
فجرده قوم فطرقل شكَّـ
ـتهُ وإلى فلكهم أرسلا
فصاح بفيبوس زفس:«إذن
ألا يا وليَّ الوداد كفى

•••

إلى سرفذون الأمير الخطير
سر الآن فورًا وجدَّ المسير
فإن جئته فامضينَّ به
إلى عزلةٍ قرب ماءٍ غزير
وطهرهُ من دنيس الدم حالًا
وأنزلهُ في ماء ذاك الغدير
وبالعنبر ادهنه ثم اكسه
ملابس لا يعتريها الفنا

•••

لا سرع قادة كل العباد
إلى التوأمين الرَّدى والرقاد٥٤
به ألقِ يحتملاه سريعًا
لإخوته والصحاب البعاد
فيدفن في ليقيا ضمن لحدٍ
ونصبُ الكرام عليه يشاد
فذاك جزاء الأولى جاهدو
وماتوا كرامًا ونعم الجزاء»٥٥

•••

فلبى أفلُّون طوعًا يسير
ومن طور إيذة هب يطير
أتى سرفذون وسار به
إلى عزلةٍ فوق سيلٍ غزير
وطهره من دمٍ دانسٍ
ونقَّاه في ماءِ ذاك الغدير
وطيَّبَهُ عنبرًا وكساه
ملابس لا يعتريها الفنا

•••

لأسرع قادة كل العباد
إلى التوأمين الردى والرقاد
به راح يلقي فطارا به
لإخوته والصحاب البعاد
ليدفن في اللَّحدِ حرًّا كريمًا
ونصب الكرام عليه يُشادْ
فذاك جزاء الأولى جاهدوا
وماتوا كرامًا ونعم الجزا

•••

وفطرقل أفطمذا والخيول
وراء العدى حثَّ فوق السهول
وبالنفس ألقى لتهلكةٍ
وضلَّ ضلال الغبي الجهول
فلو لأخيل ارعوى ما انبرت
عليه عوادي الحمام تصول
ولكن زفس إذا ما نوى
فما للورى رد ما قد نوى٥٦

•••

فقد يدفع الفارس البطلا
ليوليه الذلَّ والفشلا
لذلك فطرقل حث وأغرى
ليبلغ في كره الأجلا
ألا قل أفطرقل من آخرًا
ومن أنت جندلته أوَّلًا:
عدا وبأذرست ثم بأوطو
نووس وإيخيكلوس بدا

•••

كذاك ابن ميناس فيريم ثما
فلرتس ثم إفستور أصمى
وإيلاس موليًا ميلنفًا
وسائرهم للهزيمة همَّا
وكان الأخاءة إليون يفتـ
ـتحون بهمَّة فطرقل رغما
ولكن رقى الحصن فيبوس ينوي
له الشرَّ والحصن منه وقى

•••

ثلاثًا لركن الحصار اندفع
وفيبوس عنه ثلاثًا دفع
براحته صدَّ جنَّتهُ
فما ارتدَّ عن عزمه وارتدع
بل انقض رابعةً كإلاهٍ
فما خال إلَّا الدويَّ ارتفع
وفيبوس صاح: «ألا عدْ أيا فر
ع زفس فما لك ذا المنتسا٥٧

•••

فما دك إليون في الغيب لك
ولا لأخيل الذي فضلك»
تقهقر فطرقل مضطربًا
لخشيته سخط ذاك الملك
وهكطور في باب إسكيةٍ
على جرده فاكرٌ بالدرك
أيدفعها للجهاد أم القو
م يجمع للذود خلف الربى

•••

وإذ كان يفكر مضطربا
إليه أفلون اقتربا
دنا وحكى خال هكطور آسـ
ـيُّسًا فرع ديماس منتدبا
شقيق لإيقاب من ثغر سنغا
رسٍ بفريجا بشرخ الصبا
وصاح: «علام اعتزلت الكفاح
أهكطور ليس بشأنك ذا

•••

فلو زفس لي بقواك حكم
لأوليتك الآن مرَّ الندم
فعد وجيادك حثَّ عسى
وفطرقل ترمي بحدٍّ أصم»
لعل أفلوز يوليك نصراً
وفطرقل ترمى بحدٍّ أصم
ومن ثم عنه الإلاه توارى
وكالبرق بين الجيوش سرى

•••

وهد قلوب الأخاءة هدَّا
وطروادةً بالولاء أمدَّا
وفي قبريون بن فريام صاح
يردُّ الجياد إلى الحرب ردَّا
فساط وهكطور من دون كل الـ
أراغس يقصد فطرقل قصدا
ولكنَّ فطرقل ما ارتاع بل
ترجَّل محتفزًا للقا

•••

بيسراه عامل رمحٍ متين
كذا حجرٌ خشنٌ باليمين
رماه فأخطأه ومضى
إلى قبريون أخيه الأمين
فأدركه وهو مستمسكٌ
بصرع أعتَّه بالجبين
فقض العظام على الحاجبين
وعيناه طيرتا للبرى٥٨

•••

فخر عن الخيل كالبرق يسري
إلى الأرض يهوي كابر قعرِ
وفطرقل صاح به ساخرًا:
«فيا للباقته كيف يجري
فلو من سفينته واثبًا
إلى اليم غاص للجَّةِ بحر
لصاد حلزَّا ولو صدع النَّوءُ
يكفي الجماهير شرَّ الطوى٥٩

•••

لئن غاص بالبر من تي العجال
فغاصة طرواد نعم الرجال»
ومن ثمة انقضَّ فوق القتيل
كليثٍ بقلبِ الحظائر صال
فيدركه السهم في صدره
ويلقي به بأسه للوبال
فويحك فطرقل من صائلٍ
على قبريون تهيج صلا٦٠

•••

وهكطور عن خيله نزلا
وفي طلب الجثَّةِ اقتتلا
كليثين بينهما ظبيةٌ
بها فتكا فوق طودٍ علا
كِلا البطلين يهيج احتدامًا
ليعمل في نده الأسلا
فهكطور بالرأس مستمسكٌ
وفطرقلُ بالقدمين كذا

•••

وحولهما اصطدم الجحفلان
بنقعٍ علا تحت قرع الطعان
كأن الصبا عرضت للجنوب
بغابٍ تشامخ فوق القنان
تزعزع دردارها والقرا
نيا وكذا الزَّان بين الرعان٦١
فيلتفُّ غصنٌ بغصنٍ فينـ
ـقضُّ بين حفيفٍ وقصفٍ دوى

•••

كذا اشتبكوا والوغى التحما
يثيرُ بهبَّتهِ الهمما
طعانٌ تشقُ الدُّروع وغيثُ
سهام بعرضِ الفلا التطما
وصخر يقض الترائك حول الـ
ـقتيل الذي خرَّ هامي الدما
سها عنهم تحت عثيرهم
وللدَّهر عن جرده قد لها

•••

تساوت مراميهم ما استوت
براح بقلب السما وعلت٦٢
ولمَّا دنا آن حل الثيار
ومالت فجندُ الأخاء ارتمت٦٣
ورغم القضاء بجثتهِ
خلت وبها للبراح جرت٦٤
وشكته انتزعت وانثنت
وفطرقل كيد العداة انتوى٦٥

•••

ثلاثًا كآريس كرَّ يصيح
بصوتٍ دوي في الفضاء الفسيح
ثلاثًا ثلاثة صيدٍ رمى
وأقبل رابعةً يستبيح
فويبك فطرقل قد قُضِي الأمـ
ـرُ فاليوم قتلك حتمًا أبيح
وفيبوس وافاك منحدرًا
بظل السحاب بطيِّ الخفا

•••

ومن خلفه جاء مستترا
لذلك فطرقلُ ما شعرا
وألقى على ظهره يده
فعيناه ألهبتا شررا
ودحرج للأرض خوذته
أمام خطى الخيل فوق الثَّرى
فصلَّتْ ودنست العذباتُ
بنقع الحضيض وسيل الدما

•••

تريكة آخيل تلك وما
إلى الأرض قط هوت قدما
ولم تك إلا لذاك الجبين الـ
ـذي بالفخار سما عظما
وزفس قضى أن تجلل هامـ
ـة هكطور لمَّا هنا أقدما
ولن تلبثنَّ له غير حينٍ
لأنَّ الحمام إليه دنا

•••

وعاملُ فطرقل في كفِهِ
تسحق ينذر في حتفهِ
وجنته بحمائلها
أميلت إلى الأرض عن كتفه
وحلَّت عن الصَّدر لأمته
بصرف أفلُّون لا صرفهِ
فأوقف يهلع رعبًا وخارت
قواه وغشَّى حجاهُ العمى

•••

وثمة كان فتًى دردني
تفوَّق في فتيةِ الزَّمنِ
بأوفرب فنثوس يُعرَفُ وهو
أخو البأس والعدو والحُصُن٦٦
لقد كان وهو يكرُّ فتًى
تحنكه ساحةُ المحن
رمى عن صدور العجال من الصيـ
ـد عشرين قرمًا لظهر الحثى٦٧

•••

فذلك ذلك فطرقل قد
أتاك وظهرك بالرُّمح قد
وذلك أول قرمٍ رماك
ولكنه خاب فيما قصد
فعامله اجترَّ ثم جرى
يفر إلى قومه وارتعد
لقد سمته الرعب حتى اتقى
وإن كنت أعزل لا تتقي

•••

ولكن فطرقل هد قواه
سنان القناة وروع الإلاه
لذاك تنصَّل خوف المنون
إلى صحبه لائذًا بسراه
وهكطور لمَّا رآه جريحًا
تقفَّاه بينهم ورماه
فشق الصفاق لأحشائه
فخر وقلب ذويه ذكا

•••

كأن على الشم خرنوص بر
دهاه على الورد ليثٌ فكر
وفي طلب الوشل اقتتلا
فما انكفأ الليث حتَّى انتصر٦٨
كذلك هكطور فطرقل أصمى
وهدَّ به صائحًا وافتخر:
«زعمت أفطرقل أن لك الجـ
ـوَّ من فوق إليوننا قد خلا

•••

أخلت بدكِّ معاقلنا
تفوزُ وسبي عقائلنا
لقومك بالفلك تحملهنَّ
أفاتك طعن ذوابلنا
تعست ألم تدر أن بهكطو
ر تنساب جرد صواهلنا
ليرفع عنهنَّ ذلَّة رقٍّ
برمحٍ بقلبِ العداة مضى

•••

هلكت فرح مطعمًا للصقور
فهلَّا كفاك أخيل الثبور
كأني به قال حين الوداع
بتلك الخيام مقال الغرور:
«إلى الفلك فطرقل لا عود ما لم
تمنِّ العداة بأدهى الشرور
«تمزق عن صدر هكطور درعًا
كستها الدماء خضيب الكسا»

•••

أجل قوله ذاك مذ أرسلك
وأنت اغتررت بما قال لك»
أجاب على زفرات المنون:
«على العجب فوزك قد حملك
بصولة زفس وفيبوس فطرق
ل لا بأس هكطور حتما هلك
هما عرَّياني من عدَّتي
وإلَّا أريتُك قطع الطُّلى٦٩

•••

بعشرين هكطور مثلك لا
أبالي إذا ما الغبار علا
أصلمهم وسنان قناتي
شحيذٌ لهم يحملُ الأجلا
فإن الردى وابن لاطونة
وأوفرب هم علتي والبلا٧٠
وما كنت أنت بطعنك لي
سوى ثالثٍ قد تلا ووني٧١

•••

ومني خذ نبأ صدقا
ففطرقل بالحق قد نطقا
فما أنت بعدي حيٌّ طويلًا
فإن الردى بك قد أحدقا
وقد حان حينك فاشق به
قريبًا بكف أخيل اللقا»٧٢
ومن ثم أسبل ظلَّ الظَّلامِ
عليه ستارَ الرَّدى فطفا٧٣

•••

هوت روحه صببًا تستطير
لرب الجحيم بوادي الزَّفير
هنالك تندب حكم القضاء
وتلك القوى والشَّباب النضير
وهكطور ما زال يزري به:
«علام بحتفي كنت النذير
فمن قال عمرُ ابن ثيتيس لا
بحد قناتي قبلي انقضى»

•••

وعاملهُ اجترَّ من صدره
وألقاه فيه على ظهرهِ
وفي نفسه قتل أفطمذٍ
فأقبل ينقضُّ في إثره
ولكنَّ إلف أخيل بخيل
أخيل توارى على قهره
وليست لندرك بين الملا
عتاقٌ بها زفس فيلا حبا

هوامش

(١) أي: كالماء الأسود المنبثق من الصخر، ولا يخفى أن الماء لا يكون أسود، وإنما أراد الماء المنفجر من الصخر الأسود فيشف عن الصخر فيظهر بلونه، وذلك على نحو ما جرت به عادة العرب من تشبيه الدمع بالدم والعندم، واستعارتهما له إشارةً إلى حمرة العين، وأكثر ما يكون ذلك في كلام المولدين، كقول عز الدين الموصلي:
ملفقُ مظهر سري وشان دمي
لما جرى من عيوني أو وشا ندمي
وأحسن منه قول الآخر:
ولئن بكيناه يحق لنا
أولًا ففي سعة من العذر
فلمثله بكت العيون دمًا
ولمثله جمدت فلا تجري
(٢) منتيوس والد فطرقل، وفيلا والد أخيل كما علمت، ولقد قدم أخيل على نكبة قومه جزعه على أبيه وأبي حبيبه فطرقل، يدلك ذلك على منزلة برهم بالوالدين.
(٣) الإسى: جمع آسى الأطباء.
(٤) قال معن بن أوس:
ستقطع في الدنيا إذا ما قطعتني
يمينك فانظر أي كفٍّ تبدلُ
وفي الناس إن رثت حبالك واصلٌ
وفي الأرض عن دار العلى متحولُ
إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته
على طرف الهجران إن كان يعقلُ
وأقرب من هذا لقول هوميروس قول جرير:
بأي نجاد تحمل السيف بعدما
قطعت القوى من محمل كان باقيا
بأي سنان تطعن القوم بعدما
نزعت سنانًا من قناتك ماضيًا
(٥) تشبيه الفؤاد بالصخر والحديد وما أشبه كثير في كلام الشعراء، كقول عنترة:
خلقت من الحديد أشد قلبًا
فكيف أخاف من بيض وسمرِ
ومثله قوله:
خلقت من الجبال أشد قلبًا
وقد تفنى الجبال ولست أفنى
ومن هذا القبيل قول بعضهم:
أمرُّ بالحجر القاسي فألثمه
لأن قلبك قاسٍ يشبه الحجرا
(٦) قال المعرى:
تهاب الأعادي بأسهُ وهو ساكنٌ
كما هيب مس الجمر قبل اضطرامه
وقوله:
ويضحي والحديد عليه شاكٍ
وتكفيه مهابته النزالا
ومثلهُ قول عنترة:
ولو أرسلتُ رمحي مع جبانٍ
لكان بهيبتي يلقى السباعا
(٧) قال الرضي:
لويت إلى ود العشيرة جانبي
على كظم داءٍ بيننا متفاقمِ
ونمت عن الأضغان حين تلاحمت
جوائف هاتيك الندوب القدائمِ
وأوطأت أقوال الوشاة أخامصي
وقد كان سمعي مدرجًا للنمائمِ
وسالمت لما طالت الحرب بيننا
إذا لم تظفرك الحروب فسالمِ
(٨) جرى على ألسنة القوم منذ القدم ذكر تواد أخيل وفطرقل وتواثقهما مجرى الأمثال، حتى لقد روي أنه لما شخص الاسكندر لزيارة أضرحة أبطال اليونان الهالكين بحرب طروادة أخذ إكليلًا، فوضعه على قبر أخيل فعمد صديقه هفستبون إلى إكليل آخر فوضعه على قبر فطرقل إشارة إلى أنه مقيم على ولاء الإسكندر إقامة فطرقل على ولاء أخيل. ويروى عن الإسكندر إذ ذاك قوله: إن أخيل أدرك منتهى السعادة بصديق كفطرقل يتفانى بحبه حيًّا، وشاعر كهوميروس يخلد ذكره ميتًا. وإن لنا هنا بمحاورة أخيل وفطرقل رسمًا ناطقًا رصعه الشاعر بلآلي تصوراته فمثل البطلين تمثيلًا.
يتفطر فؤاد فطرقل لهفًا على مصاب قومه فيقبل على أخيل فتخنقه العبرة، فتهز أخيل عواطف الرفق لرؤيته على تلك الحال، وهو الفتى الصلد الفؤاد الذي لم يهتز رفقًا لصرع الألوف من قومه وتمزيق فيالقهم، فكأن تلك العبرات المتساقطة من مقلتي حبيبه كانت أحر على فؤاده من نيران الأعداء اللاهبة بسفن اليونان، ثم بادره بالخطاب فكان أول ما افتتح به كلامه بعد سؤاله عن حاله ذلك التشبيه الذي يتدفق رقة وحنانًا، وهو وإن يكن مرَّ على بصر كل شاعر قبل هوميروس وبعده، فلم نر أحدًا أفرغه بذلك القالب البديع على سذاجته غير هوميروس، ومن ذا الذي لم ير طفلة تعلق باكية بثوب أمها لأمر تروم، فلا الأم تقوى على صدها بالعنف مهما كانت شواغلها، ولا الطفلة تعرف ملاذًا غيرها تلوذ إليه، فلا تجد لأمها عذرًا عن قضاء حاجتها، وهي في نظرها المصدر والمآل القادرة القاهرة المطيعة المطاعة في كل الأحوال، ثم أخذ أخيل يستطلع فطرقل طلع أمره فافتتح بالسؤال عن والد صديقه، ثم عن والده فيلا، كأنهما الشاغل الصحيح الذي يشغله وثنى استطرادًا بالسؤال عن قومه، كأنه إنما فعل ذلك رعاية لحبيبه.
أما فطرقل فلم يكن يهجس في صدره إلا أمر واحد صرف نفسه إليه بِكُلِّيتِها، وهو استنفار أخيل لنصرة قومه فأراد أن ينهال عليه بالتونيب والتنديد بدالة الود، فوطأ بتعظيم المصاب، فذكر ما ألمَّ بزعماء الجند مبتدئًا بذيوميذ لما كان يعلم من علو منزلته في نظر أخيل، وأتى خلسةً بين الأواخر على ذكر أغاممنون بلقبه أتريذ دون اسمه، وذلك اللقب كما علمت يتناول أغاممنون وأخاه منيلاوس كأنما أراد أن يخفف ثقل وطأة ذلك الاسم على مسامع أخيل. وباقي كلام فطرقل مع ما فيه من التوبيخ والتهكم يشف عن إكبارٍ لبأس أخيل عظيم؛ إذ يلقي بين يديه فوز الإغريق واندحارهم فهو وحده كفؤ لصد جيش عجزت عنه الدول المتألبة والكتائب المتكتبة، وأعظم من ذلك أنه إذ أراد أن يسد على أخيل جميع المخارج رغب إليه إذا أبى إلا الاعتزال أن يقلده سلاحه، وينفذه لنجدة القوم، فتأخذ الأعداء الرعدة لمرأى ذلك السلاح ظنًّا منهم أن أخيل قد أقبل وما بعد هذا إطراءٌ للمخاطب وتفانٍ للمتكلم.
وأما أخيل فأول ما شرع به جوابًا على هذا الخطاب دفع تهمة فطرقل؛ إذ رماه بالجبن بقوله:
فأما خشيت المقادير فيما
روت لك أمك عن زفس نقلا
فبي فابعثنَّ وفي إمرتي
لفيف المرامد أسد الثرى
ثم أعاد عليه سبب اعتزاله حقدًا على أغاممنون، وكأن عبارات فطرقل أصابت منفذًا في فؤاده، فأجابه إلى بعض ما سأل وأذن له بتقلد سلاحه، وهنا هاجته الحمية فتحفز وتحمس وافتخر بما له من البأس، ولم يذكر بالشماتة إلا ذيوميذ وأغاممنون؛ أما الأول: فلأنه كان مقدامًا مغوارًا يؤخذ مما تقدم أنه كان بينه وبين أخيل شيءٌ من التحاسد الخفي؛ إذ لم يكن ذيوميذ من اللاجئين إلى استرضاء أخيل. وأما الثاني: فلسابق سخطه عليه. ولهذا وصفه بعبارة تحقير أجلَّ عنها ذيوميذ، ولما انتهى أخيل من تلك المقدمة أخذ يلقي أوامره على فطرقل فحظر عليه بعد صد العدو عن السفن أن يندفع بطيش القتال إلى ما وراء الحصون؛ لأنه إنما كان يود أن يكون هو القاتل لهكطور الفاتح لبلاده فضلًا عما كان يخشى من أن لا يكون فطرقل كفؤًا لتلك الصدمة فيقتل فيكون الرزء رزئين؛ قتل الصديق الحميم، وذهاب السلاح سلبًا للعدو اللدود، ولم تكد تمر على مخيلة أخيل تلك الهواجس حتى زاحمته بلابل الأفكار، وعاودته قوارس الكيد فختم داعيًا باضمحلال صديقه وعدوه، وهو شأن اللدود الذي يطوحه كيده إلى الإيقاع بما طالته يده فيعمي الغيظ باصرته وبصيرته وذلك مصداق جانب من صفات ذلك البطل الباسل.
(٩) الجوب: الترس. والتريكة: الخوذة.
(١٠) القيان: ربَّاب الإنشاد انظر رسمهنَ ١. هنا مثال آخر لانتقالات هوميروس البديعية عندما يشرع في شرح أمر خطير.
(١١) ثعلب الرمح: عوده.
(١٢) الغراب: السفينة، ووجهته مقدمها أو صدرها.
(١٣) رأينا فيما مضى كم تزلف القوم إلى أخيل، وأتوه صاغرين مستجبرين، فكانوا كأنهم يكلمون صخرًا أصم، ولم يلن بعض اللين حتى استصرخه فطرقل بهامي العبرات، وما هو هنا إن رأى بعينه اللهب المضطرم بالسفن حتى استفزته الحمية من تلقاء نفسه فَأَنَّ وتلهف وانقلب يستعجل فطرقل ويكتب جنوده، كل تلك مشاهد أعدها الشاعر بدقة شعوره، فأفاد المطالع أن الأمور تؤتى من أبوابها، فما وساطة ألف وسيط بمؤثرة تأثير عاطفة يثيرها صديق حميم، وما أثارة تلك العاطفة بشيء إزاء تمثيل المشهد حيًّا يراه الإنسان بعينه.، وإن رؤية فقير ذي عاهة يتضور جوعًا وهو عارٍ بقارعة الطريق لتكلمك كلامًا لا تستوفيه بلاغة ألف شفيع يندب لديك حالة ذلك المسكين.
(١٤) التريكة: الخوذة. والعذبات: أهدابها المتدلية. والقونس: بيضة الخوذة.
(١٥) أي: إنه استلأم بلأمة أخيل (أي: درعه) وتقلد كل سلاحه إلا قناتهُ، فقد كان يصعب اعتقالها لثقلها إلا على أخيل، تلك مزية أخرى من المزايا التي تفرد بها أخيل.
(١٦) فليون: جبل بتساليا.
(١٧) قوله: فتًى، أي: أفطميذ.
(١٨) لما كان دأب الشاعر أن يميز أخيل في كل شئونه، فقد ألبس مركبته من الزخرف حلة شائقة، وجعل جواديها زنثس وباليس من جياد الخلد، ثم جعلهما من نتاج العنقاء (وهي في الأصل «هربية» Αρπψα مخلوق خرافي ذو جناحين) والنسيم، ثم قرن إليهما احتياطًا جوادًا ثالثًا من جياد الخيل الفانية، وأشار إلى أن أخيل نال ذلك الجواد الشهير بإحدى غزواته.
والاعتقاد بوجود خيل من نتاج الريح قديم ذكره بلينيوس وغيره، وليس عندنا مما يشبهها بعض الشبه إلا الفرس المسحور بألف ليلة وليلة، وأما عنقاء مغرب أو العنقاء المغرب فهي عند العرب طائر معروف الاسم مجهول الجسم، كانوا يستعيرونها للإخبار عن الأمر الباطل، وفي ذلك يقول أبو نواس:
وما خبره إلا كعنقاء مغربٍ
تصور في بسط الملوك وفي المثل
يحدث عنها الناس من غير رؤيةٍ
ترى صورة ما أن نمرَّ وأن تحل
ولهذا اتخذناها لتعريب «الهربية» اليونانية الدالة على الطائر الخرافي السابق الذكر.
(١٩) لم يكن له بعد أن تمادى على المرامدة زمن العطلة، وهم يتحرقون لنصرة قومهم إلا أن يشبههم وهم واثبون للكفاح بالذئاب الكاسرة، ويستطرد إلى ذلك الوصف الرائع.
(٢٠) ذات قوس الذهب من ألقاب أرطميس.
(٢١) قاتل أرغوص، هو: هرمس، وأرغوص هذا هو من ولد أيناخوس ورابع ملوك أرغوس، كان الغالب عندهم في المنازل الكبيرة أن يجعلوا غرف النساء في أعالى البناء، وبعبارة أخرى كان الحرم في الطبقة العليا، قال أفستاثيوس: كان اللقدموثيون يدعون الغرف العليا أوا (ωα) ومعناها أيضًا البيض، ولعل الخرافة القائلة: إن هيلانة ولدت من بيضة نشأت من هذا المعنى.
(٢٢) إليثية ابنة هيرا، كانت في اعتقادهم تحضر ساعة المخاض حتى تلد المرأة، ولعلها ليليت أوميليتا البابليين ربة الليل والولادة.
(٢٣) مرَّ هذا الوصف في النشيد الثالث عشر.
(٢٤) بان هنا بمعنى بعد، والمربع: المقام، والددون، والفلاسج: امتان.
(٢٥) السلة: رواة زفس أو مفسرو أوامره. كان الكهنة ينتحلون هذا اللقب لأنفسهم في الاستخارة وغيرها.
(٢٦) الحمات: ج حُمة، إبر النحل والدبر، جماعة النحل والزنابير، والمراد هنا الزنابير، وخشرمه خليته أو بيته، من معجزات هوميروس أنه إذا شبه أمرًا كبيرًا بشيء صغير هيأه بصورة تنطبع في النفس، فما تشبيه الجنود البواسل بالأسود الكواسر بأوقع في النظر من تلك الزنابير الحقيرة، وهي تأثره تلك الثورات وكلٌّ منها.
يذب عن البيض مستبسلًا
حديد الحمات شديد القوى
وللشنفري أبيات جميلة بهذا المعنى أوردناها في النشيد الثاني.
(٢٧) كل ذلك إشارة إلى انفراج الأزمة عن الإغريق.
(٢٨) الخميرة: حيوان خرافي مر ذكره ورسمه في النشيد السادس.
(٢٩) أريبا: محل الظلمات في الجحيم.
(٣٠) يرى بعض الشراح إشارة في الأبيات السالفة إلى الطوفان الذي كان يعتقده القدماء، وهو موافق لما نصت عليه التوراة، وسببه هنا كسببه هناك تمادي الناس في الغي والشرور.
(٣١) الخلايا: السفن، والحصار: السور، أي: حال فطرقل بين الطرواديين وإليون، وحصرهم بين مرسى السفن ونهر سيمويس.
(٣٢) أي: فأذن لفطرقل أن ينفذ حكم القدر القاضي بموت سرفيذون قتيلًا بساحة القتال — كان سرفيذون أعظم محتدا وأشرف مولدًا من جميع زعماء الفريقين؛ لأنه لم يكن من أبناء زفس بطل سواه في تلك الحرب، ولهذا أطال الشاعر في حكاية مقتله كما سترى، وأطنب في ما مضى وما سيأتي من مدح صفاته إجلالًا لقدره، فهو حيثما ظهر الفتى الباسل والقائد الحكيم، لا يشوب محامدهُ منقصة، فما هو بحقد أخيل ولا بتسرع ذيوميذ، وهو مع فصاحته بالكلام رجل بطش وإقدام، ولقد غاظ مقتله زفس فوق مقتل كل بطل سواه حتى أراد أن يحول عنه حكم القضاء السابق النافذ بقتله فتصدت لزفس زوجته هيرا وأثبتت له أنه لا بد من نفوذ القضاء المبرم وإلا لقامت قيامة الأرباب، وسعى كل منهم في الإفراج عن ولده، وهنا بحث للشراح طويل في القضاء والقدر باعتقاد الأقدمين، فقالوا إن كان نفوذ القضاء حتمًا، فليس لزفس وهو الذي سطر لوحه المحفوظ أن يمحوه، وإلا فلا معنى لوجوده، وليس المقام مقام إطالة في هذا الباب فقد تقدم لنا كلام بهذا المعنى، ولهوميروس كلام كثير يشير إلى أن أعمال البشر إنما هي الباعث على انصباب الويلات وتفاقم الشرور.
(٣٣) المظفر: الآخذ بظفره.
(٣٤) لقد مرت على حرب طروادة وزمن هوميروس ألوف السنين، وعامة الناس لا تزال تعتقد أن المطر المحمر دليلًا على غضب إلاهي، مع أن رد ذلك الاحمرار إلى أسباب طبيعية قديم جدًّا، وقد مر بنا مثل هذا المطر الدموي في النشيد الحادي عشر.
(٣٥) أي: إن القتيل سقط سقوط إحدى هذه الشجر وقد قطعها بناء السفن.
(٣٦) كثيرًا ما يستعمل هوميروس أمثال هذه الاستعارة للتعبير عن الموت، كقوله: أسبل الموت سترهُ وخيم ظلام الحمام، ومن هذا القبيل قوله قبل أبيات: ومن حوله انتثر الحمام مبيد الحياة، وكلها استعارات لطيفة يألفها الذوق، ولها في العربية أمثالٌ من أرقها قول بعضهم:
ورنقت المنية فهي ظلٌّ
على الأبطال دانية الجناحِ
قال في أساس البلاغة: فيه بيان جلي أن ترنيق المنية مستعار من ترنيق الطائر (أي: رفرفته وخفقه بجناحيه)؛ حيث جعل المنية كبعض الطير المرنقة بأن وصفها بوصفه من التظليل ودنو الجناح.
figure
هيرا زوجة زفس.
(٣٧) الممتهى: الصقيل
(٣٨) انفأى: انفطر.
(٣٩) التَّوى: الهلاك.
(٤٠) الشبا: حدود المناصل، وهي جمع شباة.
(٤١) في الأصل: «سترة ليل دجا»، إشارة لطيفة إلى الغبار المنتشر من تلاحم القوم حول القتيل.
(٤٢) الشدا: الحر، ويراد به هنا الغيظ.
(٤٣) اللهى: جمع لهوة، والمراد بها هنا الألعاب والملاهي.
(٤٤) أي: كالسيل المتدفق.
(٤٥) هفا أي: طاش.
(٤٦) النقا: الرمل.
(٤٧) يقول له ذلك تهكمًا عليه، لأن قوم مريون الأكربتيين كأنهم مشهورين بالرقص.
(٤٨) عسا: غلظ واشتد.
(٤٩) اللغا: الكلام، وفي الأصل «ما هذا أوان القول بل أوان الفعل»، وهي عبارة جرت مجرى الأمثال في أكثر اللغات يقول اللاتين: Non verbes, sed facto opus est. ومن هذا القبيل قول العرب في أمثالهم: هذا أوان شدكم فشدُّوا. وقولهم: هذا أوان الشد فاشتدي زيم.
(٥٠) إهاب الحجف: جلد التروس.
(٥١) حطابة: جمع حطاب.
(٥٢) قد تقدم لنا مثل هذا المعنى، وهو من التشابيه التي عيب عليها الشاعر على غير حجة، ثبتة راجع ما قلناه بهذا الصدد (ن٢)
(٥٣) أي: عظمت الشدة.
(٥٤) قال في النشيد الرابع عشر: إن الموت والرقاد أخوان، وزاد هنا أنهما توأمان.
(٥٥) في أقاصيص اليونان إن سرفيذون قاتل أخاه مينوس على ملك اكريت، فغلبه مينوس عليها فبرحها وبعض أشياعه إلى ليقيا وغلب زعماء بعض أطرافها عليها، واستقل بها ملكًا وتوفي بها وكان قبره معروفًا في تلك الأزمان. وإذ كان من شأن هوميروس أن لا يخرج بشعره في شيءٍ عن روايات عصره التاريخية صاغ لدفنه في ليقيا بعد مقتله في طروادة ذلك القالب الجميل.
وليس في الأمر غرابة؛ لأن القدماء كانوا كأبناء زماننا حريصين على دفن جثثهم في بلادهم ولعين بإقامة الأنصاب عليها؛ ولذلك أمثلة شتى في أهرام مصر وتوراة الإسرائيليين وكتب العرب، فإن إبراهيم الخليل ضم يوم وفاته إلى مدفن امرأته سارة، وحفيده يعقوب استحلف ابنه يوسف أن لا يدفنه في مصر، فأرسله إلى مدافن آبائه في بلاده، ولم يرو للعرب ولعٌ وشغفٌ بمثل هذا، كاليهود والمصريين بل كانوا إذا بعدت الشقة أبقوا الميت في مكانه، كما استبقوا هاشمًا جد صاحب الشريعة في غزة عند وفاته بها، ومع هذا فكان يستحب عندهم جمع الأقارب في موضع. قال صاحب مشكاة المصابيح في الحديث: ويستدل على ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام: «ادفنوا إليه من مات من أهلي». وفي الحديث عن جابر أنه قال: لما كان يوم أحد جاءت عمتي بأبي لتدفنه في مقابرنا فنادى منادي رسول الله : «ردوا القتلى إلى مضاجعهم» كل هذا يدل على أنهم كانوا يستحبون جمع موتى العشيرة إذا لم يكن هناك مشقة وعناء. وأما إقامة النصب على القبور فلم ترو عن عرب الجاهلية، ومع هذا فقد رُوي استحسان جعل علامة على القبر يعرف بها، وذلك كما روى صاحب (مشكاة المصابيح): لقوله عليه الصلاة والسلام: «أعلم بالحجر قبر أخي».
(٥٦) قال السموأل:
ولسنا بأول من فاته
على رفقه بعض ما يطلبُ
وقد يدرك الأمر غير الأريب
وقد يصرع الحولُ القلبُ
ولكن لها آمر قادرٌ
إذا حاول الأمر لا يُغلبُ
وما أحسن ما تمثل به الخليفة عمر وهو على المنبر:
هوِّن عليك فإن الأمور
بكف الإله مقاديرها
فليس بآتيك منهيُّها
ولا قاصرٌ عنك مأمورها
وقال عبد الله بن يزيد الهلالي:
ما أقرب الأشياء حين يسوقها
قدر وأبعدها إذا لم تقدرِ
(٥٧) أي: تلك الشقة البعيدة.
(٥٨) البرى: التراب.
(٥٩) الطوى: الجوع شبه سقوطه من سدة المركبة يهوي إلى الأرض بالصياد الواثب من السفينة إلى قعر البحر، ثم قال: لو وثب تلك الوثبة لصاد من المحار ما يقري الجماهير، ولم يعبأ بتلاطم الأمواج واستطرد بقوله في البيت التالي إن كان هذا غوصه بالبر من ظهر المركبة، فلا ريب أن في الطرواد غاصة مهرة، وفي هذا الكلام من التهكم على القتيل ما لا يخفى. ولهذا ذهب البعض إلى أن هذا التشبيه دخيل في ثنايا الأصل خصوصًا أن ليس من شأن فطرقل أن يتهكم هذا التهكم وهو القائل قبل أبيات:
علامَ أخي ذا الكلام المهين
وإني بلوتك سامي النهى
(٦٠) الصلاء: النار فكأنه قال تتحرق.
(٦١) الرعان: الجبال، ج رعن، وما قبل ذلك أسماء أشجار.
(٦٢) براح: علم للشمس.
(٦٣) أي: لما مالت الشمس للمغيب. هكذا كانوا يعبرون عن ساعات النهار راجع شرح النشيد الحادي عشر.
(٦٤) للبراح، أي: للعراء.
(٦٥) انتوى: بمعنى نوى.
(٦٦) جمع: حصان.
(٦٧) الحثى: التراب.
(٦٨) الوشل: الماء.
(٦٩) الطلى: الرقاب.
(٧٠) ابن لاطونة: أي فيبوس.
(٧١) وني: فتر وضعف.
(٧٢) كانوا يعتقدون أنه إذا احتضر المرء خفَّت نفسه، وأدرك المغيبات فتنبأ ولهذا أنبأ فطرقل ساعة موته بموت هكطور قتيلًا بذراع أخيل.
(٧٣) طفا: مات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤