الفصل السادس والعشرون

ثعلبة

وهنا يود القارئ أن يعلم ماذا جرى للفتى الضابط جوزف شندر بعد أن أقفل شباكه ونزل لمقابلة الفتاة خلسة.

ذلك أن فون درفلت ونينا فرست التي انتحلت اسم البارونة ليوتي جاءا إلى شارع فرتن وراقبا حركات الضابط والفتاة من شباكيهما، ولما شعرا أن الفتى الضابط وافى للوثوب إلى الحديقة، اتفقا على أن نينا تشاغل الفتى بأي أسلوب لتشغله ريثما يلعب فون درفلت دوره الذي مرَّ ذِكْره.

فلذلك تقدَّمت نينا وتلقته في طريقه قائلةً: مهلًا يا حضرة الماجور جوزف شندر، تحية وسلامًا.

فبغت الفتى إذ رأى سيدة حسناء تعترضه في الطريق وتناديه باسمه، وقال: عفوًا يا سيدتي، لا أرى وجهك واضحًا في هذا الظلام، فلا تؤاخذيني إذا كنتُ لا أتذكَّر مَن أنتِ.

– لا تستكد ذاكرتك فأنت لا تعرفني.

– إذن، إذا كنتُ أستطيع خدمة لك، فأرجو أن تعودي إليَّ غدًا صباحًا؛ لأني الآن في شاغلٍ عاجل.

ورام أن يتجاوزها، فأمسكت به قائلة: مهلًا، ما أنا التي في حاجة إليك، بل أنت في حاجة إليَّ.

– لا بأس نتكلم غدًا.

– بل الآن لأن الأمر عاجل.

– الآن أنا مضطر أن أسير في سبيلي، فبالله دعيني يا سيدتي.

– لا أدعك؛ لأني لم أعترض لك في هذا المكان وفي هذا الغلس إلا لكي أحذِّرك.

– تحذِّرينني! ممَّاذا؟

– أحذرك من الذهاب إلى حيث أنت ذاهب.

– كيف تدرين يا سيدتي إلى حيث أنا ذاهب؟

– أدري أنك ذاهب إلى هذه الحديقة.

فأجفل جوزف قائلًا: مَن قال لك؟ إنك مخطئة الظن بي؟

– سواء عندي أنكرتَ أو اعترفتَ، فعليَّ أن أحذِّرك من الخطر الذي في سبيلك هذا.

– ما الذي يحملك على تحذيري؟

– لعل الحامل عليه مصلحة مشتركة بيننا.

– لا أفهم هذه المصلحة.

– إذن اعدل الليلة عن مشروعك هذا، وهلم معي نتفاهم.

فأوجس جوزف وقال: إلى أين؟

– إلى حيث تشاء في غير هذا المكان.

– فتردَّد الفتى ثم قال: كيف تعرفينني يا سيدتي؟

– ستعلم، دعنا الآن نسير في طريقنا إلى حيث تشاء؛ لأن وقوفنا هنا يدعو إلى المظنة.

– ولكن ما هو الخطر الذي تحذرينني منه؟

– عجبًا لذكي مثلك يسأل هذا السؤال.

– لعلك مخطئة؛ إذ لا أرى أن مسيري يؤدي إلى خطر.

– ليس الخطر عليك وحدك.

– على مَن أيضًا؟

– على الفتاة التي تحاول أن تقابلها خلسة، وربما كان الخطر عليها أشد.

فوجف فؤاد جوزف وقال: أي فتاة؟

– يا لله، أَلَا تزال تتجاهل علاقتك بالفتاة أميليا التي تقطن في هذا المنزل؟

– عجبًا كيف تعرفين ذلك؟

– لا خفي إلا ويظهر.

– وما هو الخطر؟

– الخطر شديد قد يقضي بحرمانك رؤية الفتاة بتاتًا.

– يا لله! وهل تجنُّب هذا الخطر ينجَّيني من هذا الحرمان؟

– كذا أؤمل.

فأنس الفتى للسيدة وقال: وهل لكِ صلة بالفتاة؟

– ربما، والأفضل أن نبرح من مكان الخطر.

– إلى أين تذهب؟

– هل تريد أن نذهب إلى حانة هرمن.

– نذهب، فما هي ببعيدة، وفي زواياها مختلى لنا.

وفي دقائق قليلة كانا في زاويةٍ منفردة من تلك الحانة، فقال الفتى: ماذا تعرفين عن الفتاة؟

– بل ماذا تعرف عنها أنت؟

– بل قولي أنتِ.

– أقول إنها ليست ابنة المرأة المدعوة مرغريت ميزل التي تقطن معها.

– ابنة مَن إذن؟

– ماذا عرفتَ أنتَ عن أبويها؟

– لم أعرف شيئًا، فقولي لي ماذا تعرفينه أنتِ؟

– أعرف أن مرغريت ليست أمها، وإنما هي مربية لها ورقيبة عليها، وما هي بولية أمرها.

– إذن مَن هو ولي أمرها؟

– أناس في البلاط.

فاختلج الفتى وقال: في البلاط!

– نعم، والبارونة مرثا برجن تشرف عليهما؛ لهذا أقول لك إن الخطر شديد عليك وعلى الفتاة معًا؛ لأن البارونة في المنزل الليلة لأجل المراقبة، ذلك لأن إشاراتكما المتبادَلة أصبحت معلومة، ولو سِرْتَ في سبيلك الليلة لوقعتَ في فخٍّ.

فوجف الفتى وقال: لستُ أخاف.

– أَلَا تخاف على الفتاة التي تحبها؟

– ما ذنبها؟

– ذنبها أنها تخالس فتى مقابلات سرية غير مشروعة؛ فقد أنجيتها الليلة من عقاب هذا الذنب، وأنجيت نفسك من هجرها فينا كلها إلى حيث لا تعود تدري أنتَ مصيرها.

فتنهَّد الفتى وقال: إني أشكر لطفك جدًّا يا سيدتي، إلى الآن لم تعرفيني باسمك الكريم.

– وماذا تستفيد من معرفة اسمي إذا قلتُ لكَ أني أُدعَى جوليا هارتمان مثلًا؟

– الحق أني لا أعرف جوليا هارتمان.

– إذن حسبك أني صديقة ناصحة لك.

– أشكرك، قلتِ أن ثمة مصلحة مشتركة بيننا. تُرَى ما هي؟

– هي هذه، أنت تحب الفتاة …

– جدًّا جدًّا وهي تحبني أيضًا.

– حسنًا، ويهمك قبل التمادي بهذا الحب أن تعرف حقيقة أمرها؟

– نعم، قد يهمني.

– بل يهمك جدًّا أن تعرف كلَّ مَن كان ذا علاقة بها لئلا تفضي علاقتك بها إلى مشكلة مستحيلة الحل.

– كذا كذا.

– ويهمك أيضًا أن تكون أنت وولي أمر الفتاة على وفاقٍ، وإلا استحال عليك الوصول إلى الفتاة.

– بالطبع بالطبع، إن الطريق الموصول إلى الفتاة هو ولية أمرها؛ فهل في وسعك أن توفِّقيني مع البارونة برجن؟

– هذا يستحيل.

– لماذا؟

– لأن مصلحة البارونة تقضي بإقصاء الفتاة عن كل إنسان.

– إذن ما العمل؟

– الوسيلة الوحيدة هي رد الفتاة إلى تحت ولاية وَلِيِّ أمرها الشرعي الحقيقي.

– تعنين أن البارونة مختلسة الفتاة اختلاسًا.

– نعم، وولي أمرها الحقيقي لا يدري أين هي؟

– وهل أنتِ تعرفينه؟

– أعتقد أني أعرفه، بَيْدَ أني لا أقدر أن أقول شيئًا قبل أن أتثبت من الحقيقة. فماذا تعرف أنتَ عن الفتاة؟

– لا أعرف غير الظواهر.

– هل اجتمعتَ بالفتاة؟

– نعم، ولكن فترات قليلة سرًّا.

– أَمَا سألتها عن أمرها؟

فتردَّد الفتى وقال: لعلها لا تعرف غير الظواهر أيضًا.

– عليك أن تقول لي كل ما عرفته لكي تسهِّل لي المشروع الذي اتفقنا عليه.

– أي مشروع؟

– مشروع رد الفتاة إلى وَلِيِّ أمرها الشرعي.

– إلى الآن لم أفهم مصلحتك في كل ذلك يا مدام.

– عفوًا، لك حق أن تستوثق مني، فما أدراك أن أكون أنا ذات صلة كبيرة بالفتاة؟

فحملق جوزف في المرأة وقال: تعنين …؟

– لا أقدر بأن أصرِّح لك الآن أكثر مما صرَّحتُ، وإنما أحذِّرك من التمادي بحب الفتاة قبل أن ينجلي لك كل غامض من أمورها، وإلا وقعت في ورطة حبك وقعة مهلكة. فلكي تنجو من هذه الورطة يجب أن تتفق معي، وأن تقول لي كل ما تعرفه عن الفتاة تسهيلًا لعملي بهذا الشأن.

– إن ما أعرفه عن الفتاة قليل جدًّا قد لا يفيدك.

– ما هو؟

– هو سر استأمنتني عليه الفتاة.

– من مصلحة الفتاة أن تقول لي هذا السر، ولعل في هذا السر مفتاح مشروعنا.

وما زالت تحرجه حتى قال: إن الفتاة لا تعرف نفسها إلا ربيبة دير الراعي الصالح، ومنذ سنتين سلَّمتها رئيسة الدير إلى مرغريت ميزل، وإنها لا تعلم لها أبًا ولا أمًّا، وإنها مسرورة جدًّا مع مرغريت.

– وهل ذكرتْ لكَ البارونة برجن؟

– لا، وإنما هي ترى سيدةً تزور مرغريت نادرًا، ولكنها لا تعرف اسمها، بَيْدَ أنها لاحظت أن هذه السيدة تنفق عليهما بسخاء.

فهزت نينا رأسها قائلة: طبعًا. أهذا كل ما تعرفه عن الفتاة؟

– لا أعرف أكثر، وإنما حتمت الفتاة عليَّ ألَّا أبوح بكلمةٍ من ذلك.

– لا تَخَفْ إني صديقة مخلصة للفتاة وبالتالي لك، فكُنْ مطمئنًا، إني أخدمكما خدمة عظمى، وجل ما أطلبه منك أن تكتم حتى عن الفتاة خبر اجتماعنا هذا، وأن تتئد في مقابلة الفتاة وتحاذِر ما استطعت لئلا تُفسِد مشروعنا، وسنجتمع حين أرى اجتماعنا لازمًا. إلى الملتقى الآن. حاذر أن تذهب الليلة إلى غير منزلك.

أما الفتى فعاد إلى منزله، وأما نينا فاجتمعت بفون درفلت، وقصَّ عليها ما حدث وأراها صورة الفتاة، فتحايلت عليه وأخذتها منه على وعدٍ أن تردَّها إليه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤