الفصل السابع والعشرون

مآزق

في عصر اليوم التالي أذن الإمبراطور فرنز جوزف للبارونة ليوتي أن تمتثل بين يديه بناءً على رجاء كاتب سره الثاني فون درفلت؛ لأن الإمبراطور يثق أن هذا الخادم الأمين لا يرجو مولاه في أمرٍ إلا إذا كان واثقًا أنه يرضيه.

وكانت البارونة قد استوفت جميع صنوف التبرج تحاميًا لأنفة جلالته، فتلقَّاها راضيًا وتناول منها رسالةً في يدها قائلًا: هذه عريضة منك؟

– بل من أَمَة مولانا مدام كاترين شراط؟

فأبرقت أَسِرَّة الإمبراطور قائلًا: من مدام شراط! هل كنت عندها؟

– نعم يا مولاي، إني موفدة من لدنها.

– وأنت صديقتها؟

– صديقة مخلصة يا مولاي.

وفض الإمبراطور الرسالة وقرأ في سره:

مولاي صاحب الجلالة الأعظم

إني عبدة مولاي في حالة غضبه ورضاه، وإني مشمولة بآلائه في حالتَي العقاب والثواب، بَيْدَ أني أحسب كل مكان في الدنيا سجنًا لي، واحتباسي في منزلي الخاص في فينا هو حريتي المطلقة. فإذا رام مولاي استتمام عقابي فَلْيأمر بسجني في منزلي بقية حياتي؛ لأني مللت ترهات تريستا، ولا أرى منتزهًا في العالم يفرج كربي كما يفرجه إيوائي إلى منزلي الصغير في فينا.

وما من قوة تحت السماء تمنع مولاي أن يفعل ما يريد، والأمر له أولًا وآخِرًا.

إن رافعة هذه العريضة إلى أعتاب مولاي صديقة مخلصة وعبدة خاضعة؛ فحبذا أن يتعطف عليها مولاي بإجابة ملتمسها.

العبدة الخاضعة
كاترين شراط

وقد لاحظت نينا أي البارونة ليوتي أن عينَي الإمبراطور اغرورقتا وهو يقرأ الرسالة، ثم رفع نظره إليها وقال: متى عرفتِ كاترين يا بارونة؟

– عرفتها في هذا العام؛ إذ اتَّفَقَ أن كنا نلتقي في ملعب هيجي ونجتمع في مقصفه، وأخيرًا أصبحنا الواحدة عزاء للأخرى.

– إذن كاترين غير مسرورة في تريستا؟

– كلا البتة يا مولاي.

– كان في إمكانها أن تطوف في إيطاليا وسويسرا.

– لا تطيب لها الإقامة إلا في فينا يا مولاي.

– وأنتِ … ما هو ملتمسك يا بارونة؟

– إن ملتمسي يا مولاي لهو من رئيسة دير الراعي الصالح، فأتوسل إلى جلالتكم أن تأمروها بإجابته.

– ما هو ملتمسَك منها؟

– إن لي ابنة في الدير أُودِعت فيه رضيعة، وأود أن آخذها الآن والرئيسة تأباها عليَّ.

– عجبًا! لماذا تأباها؟

– لي أعداء يا مولاي يحملون الرئيسة على دحض بيِّناتي وبراهيني التي تُثبِت أن الفتاة ابنتي، مع أن الرئيسة نفسها تعرف حق المعرفة أني أمُّ الفتاة، فقبل الالتجاء إلى المحكمة أود اتخاذ الطُّرُق السلمية، على أن كلمة واحدة من جلالتكم هي فصل الخطاب.

وبعد أن فكَّر الإمبراطور هنيهة أدار إلى مكتبه وعَنْوَنَ ظرفًا باسم رئيسة دير الراعي الصالح، ثم كتب سطرًا على ورقةٍ وطواها، وعند ذلك قرع جرس التلفون فوضع الورقة من يده على الظرف وتناول السماعة، ثم أومأ إلى البارونة أن تخرج، فخرجت في الحال إلى البهو الخارجي. أما الحديث الذي دار في التلفون فهو:

– مَن؟ رئيس الوزارة؟

– نعم، هل جلالة الإمبراطور مَن أتشرف بمخاطبته؟

– أجل، ماذا حدث في مجلس النوَّاب؟

– الحزب الاشتراكي يُعِيد الكرة يا مولاي.

– تبًّا لهم من مشاغبين، ماذا يريد هؤلاء الأوباش؟

– مسألة الحلي يا مولاي.

فانتفض الإمبراطور وأكمد متغضبًا وقال: ما شأن هؤلاء الطغام بها؟

– يجدِّدون طلبها ويشدِّدون فيه.

– هل يريدون أن نوزِّعها عليهم؟ لعنة الله عليهم.

– بل يريدون أن يَرَوا الإمبراطورة محلَّاة بها كلها في حفلة عيد ميلادها غدًا.

فاكفهرَّ الإمبراطور وبقي نصف دقيقة ساكتًا، ثم قال: مَن اقترح هذا الاقتراح الوقح؟

– اقترحه متسنرا وفروسن وفرنر وترمي، ويمكنني أن أقول إن جميع أفراد الحزب، وأيَّدهم كثيرون من الأحزاب الأخرى، كأن الحملة مدبَّرة من قبلُ، وهي حملة شديدة جدًّا.

– عجبًا عجبًا! أَمَا استطاع أحدٌ من المخلصين أن يُصمِت هؤلاء المشاغبين؟

– إنهم كالذئاب الضارية لا يريدون أن يسمعوا غير كلامهم، ولا يمكن إسكاتهم إلا بالوعد بإجابة مطلبهم، كأنهم لا يثقون أن الحلي موجودة في حوزة جلالتها. وقد حاولنا أن نُفهِمهم أن البحث في هذا الموضوع في مجلس النواب أمرٌ معيب، فلم يرعووا.

– ورأيك؟

– رأيي أنه يحسن بجلالتها أن تتحلى بالحلي غدًا لكي يراها جميع المدعوين.

– أَلَا يمكن العدول عن إجابة هذا الطلب لكيلا يطمع هؤلاء المشاغبون بمزيد التداخل بأمور العرش الخصوصية؟

– لا لا، أخاف من سوء العقبى يا مولاي.

– أي عقبى؟

– أخاف من شبه ثورة.

– والآن؟

– أود أن تأمرني بوعدهم؛ لأنهم لا يستكون إلا على هذا الوعد.

– تبًّا لهم من أشرار، عِدْهم وسأعلم كيف أؤدب أهل الفتنة.

ثم رد الإمبراطور بوق التلفون إلى مكانه واستلقى على كرسيه والغضب يوري زنادًا من عينيه، وبقي يفكِّر برهة ثم ضغط زرًّا، فدخل الحاجب، فقال له: استدع في الحال الكولونل هان فرنر.

ثم دار إلى مكتبه وعَنْوَنَ ظرفًا باسم مدام كاترين شراط، وكتب على ورقةٍ سطرين، وفيما هو يطوي الورقة نقر الحاجب على الباب ودخل يقول: مولاي الكونت الدر فون كيس يلتمس الامتثال الآن لأمرٍ معجل.

– دَعْه يدخل.

فخرج الحاجب والإمبراطور لا يزال مُمْسِكًا بالورقة وهو يقول لنفسه: ماذا يريد هذا النذل الآن؟ لقد قبض راتبه أول أمس، هل يحمل هذا الزنيم مكيدة؟

عند ذلك دخل الدر فون كيس وانحنى ووقف، وأما الإمبراطور فتكلف الهشاشة له وقال: خير إن شاء الله يا كونت.

– لا أنال من يدي مولاي إلا الخير. علمت أن كاترين تطلب أن يذهب ابننا من المدرسة رأسًا إليها، الأمر الذي لا أحتمله، فأريد أن يكون ابني عندي في الإجازة المدرسية، فأرجو من جلالتكم أن تأمروا أن يبقى ابني عندي.

فابتسم الإمبراطور وقال: لا يكون إلا ما يرضيك يا كونت.

– أرجو من جلالتك أمرًا يمنع سفر الغلام؛ لأنه سيسافر غدًا.

عند ذلك نُقِر الباب الآخَر وأطلت إحدى وصيفات الإمبراطورة وقالت: مولاي، جلالة الملكة تلتمس مقابلة جلالتكم.

فوقف الإمبراطور في الحال مبغوتًا، وألقى الورقة التي كانت في يده على الظرف وأومأ إلى الكونت أن يخرج، فتقهقر الكونت يريد الخروج إلى أن بلغ إلى الباب، وكان الإمبراطور قد خرج من الباب الآخَر المؤدِّي إلى البهو الخاص، حيث كانت الإمبراطورة تنتظره. فلما رأى الكونت أن المكان قد خلا له وحده، تقدَّمَ بخفةٍ إلى مكتب الإمبراطور وهو يلتفت إلى هنا وهناك، وفحص ما على المكتب بنظره، ثم أمسك ورقةً، فرأى تحتها ظرفًا معنونًا باسم رئيسة دير الراعي الصالح، ثم أمسك الورقة الأخرى وإذا الظرف الذي تحتها معنون باسم زوجته مدام كاترين شراط، ففتحها بيد ترتجف فرقًا، ولكنه سمع أو توهم أنه سمع حركة فطواها بسرعة كما كانت من غير أن يقرأها وألقاها على ظرف رئيسة الدير، ثم غطى ظرف مدام شراط بالورقة التي كانت على ظرف رئيسة الدير، فعل ذلك عمدًا أو عن ارتباك الله أعلم. بَيْدَ أنه فعله بأسرع من لمح البرق وخرج، لم يَبْقَ في الغرفة بعد خروج الإمبراطور منها أكثر من نصف دقيقة.

أما الإمبراطور، فلما خرج إلى البهو الخاص رأى الإمبراطورة مستلقية على كرسي مكفهرَّة، فاضطرب وقال: ما الخبر؟

فناولته ورقةً وقالت بصوتٍ خافت: اقرأ.

فقرأ:

إلى جلالة الإمبراطورة التي يحبها الشعب كله، إذا كنت لا تتحلين غدًا في حفلة عيد ميلادك بالحلي التي رآها الشعب في ملعب فولكس، فاعلمي أنك تعرِّضين العرش إلى الخطر، وربما كانت حياة بعض الناس في خطر.

الإمضاء
الشعب

فقرأ الإمبراطور وهو يكفهر وقال: كيف بلغتْ إليك هذه الرسالة؟

– في البريد كسائر الرسائل العادية.

– وماذا تقولين فيها؟

– أقول إني أود إرضاء الشعب.

– وهل تجهلين أن هذه الحركة كلها مكيدة من أفراد معلومين؟

– ربما كانت كذلك، على أن الشعب كله أصبح متحركًا بمكيدة أو بلا مكيدة، فلا فرق في نتيجة تحركه، فهل تستسهل حركة الشعب.

– لا، وغدًا تتحلين بالحلي نفسها، وإنما يصعب عليَّ جدًّا أن أكون مأمورًا للشعب بسبب مشاغبة بعض الأشرار.

– وأنا يصعب عليَّ ذلك، وإنما الحق علينا لأننا نوجد سببًا لمشاغبة المشاغبين.

– كفى، لك أن تعودي الآن إلى خدرك مطمئنة، وغدًا تكون الحلي عندك.

ثم عاد الإمبراطور إلى غرفة مكتبه الخاص وهو ينتفض من الغيظ، وضغط على الزر فدخل الحاجب، فسأله: هل جاء الكولونل هان فرنر؟

– ها هو يا مولاي؟

ودخل الكولونل فقال له الإمبراطور: تسافر الليلة إلى تريستا وتدفع هذه الرسالة إلى صاحبتها وتعود في الحال.

ووضع الإمبراطور الرسالة التي على الظرف المعنون باسم كاترين شراط في الظرف وختمه ودفعه إلى الكولونل قائلًا: الأفضل أن تسافر في أوتوموبيل لكي تصل الليلة.

– سمعًا وطاعة.

– ستستلم علبة ثمينة جدًّا.

– أحرص عيلها قبل حياتي.

– غدًا يجب أن تكون هذه العلبة هنا.

– لا يحول دون ذلك إلا موتي الفجائي يا مولاي.

فابتسم له الإمبراطور قائلًا: عمر طويل إن شاء الله.

وخرج الكولونيل ثم استدعى الإمبراطور البارونة ليوتي، فدخلت فقال لها: هذا كتاب إلى رئيسة الدير وهي لا تتردد في تنفيذ طلبك.

وتناول الورقة ووضعها في الظرف المعنون باسم الرئيسة، ودفعه إلى البارونة قائلًا: ما هو عنوانك يا بارونة؟

– الفون درفلت يعرفه جيدًا يا مولاي.

– ربما احتجت إليك لأمر، فأود أن يكون فلت عالمًا بمكانك دائمًا.

– إني أضحي بحياتي في خدمة مولاي.

– بارك الله بك يا بارونة.

ثم خرجت البارونة والرسالة في يدها، وبقي الإمبراطور يفكِّر فيما فاجأه من الحوادث إلى أن نبهَّهَ نَقْرُ الحاجب على الباب، فأذن له فدخل قائلًا: مولاي إن الكونت الدر فون كيس لا يزال ينتظر أوامرك.

– استدعه، خير لهذا النذل أن يموت. لا أدري متى كان هذا الوغد ذا عواطف حتى يتوق إلى ابنه؛ فلا ريب أن وراء الأكمة ما وراءها.

فدخل الكونت وبادره الإمبراطور قائلًا: دَعِ ابنك يذهب إلى زيارة أمه الآن، وبعد إسبوع اطلبه منها، فلا بد أن ترسله إليك، كُنْ مطمئنًا.

فانحنى الكونت وخرج.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤