الفصل الخامس والثلاثون

رجة في قلب البلاط

ندع تريستا ونعود بالقارئ إلى فينا.

في منتصف الساعة التاسعة ورد تلغراف إلى فون درفلت ثاني سكرتير الإمبراطور هذا نصه:

مكيدة هائلة؛ محتال بزي ضابط سبق الرسول ومعه الأمر الرسمي بلا غلاف، فأخذ العلبة الثمينة، وجاء الرسول ومعه الغلاف وفيه أمر لرئيسة الدير بشأن البارونة ليوتي. فتدبَّرْ.

الإمضاء: ك. ش.

فلما اطَّلَع فون درفلت على التلغراف، وقف مرتعبًا وتلا التلغراف مرارًا وهو يفكر في الأمر، وأخيرًا لم ير بدًّا من رفعه إلى جلالة الإمبراطور، فأسرع واستاذن في الدخول وألقى التلغراف بين يدي مولاه. فلما اطَّلَع الإمبراطور على التلغراف استشاط غضبًا وقال: يا لله! هل أصبح كل مَن حولي خونة ضدي! كيف كان ذلك؟!

فقال فون درفلت متهيِّبًا: في المكيدة أصبع البارونة مرثا برجن يا صاحب الجلالة.

– يا لله من هذه الشيطانة اللئيمة! ولكن هل يمكن أن الكولونل فرنر يمالئ هذه الشريرة ضدي؟

– لا أظن يا مولاي، إن الكولونل لا يحيد قيد شعرة عن الإخلاص لجلالتكم.

– أَلَا يمكن أن تكون البارونة ليوتي ماكرة وخداعة، وهي التي لعبت هذا الدور الفظيع؟ وإلا فكيف يُبدَّل الأمر الذي في يد الكولونل فرنر بالأمر الذي أخذته المرأة مني لرئيسة الدير؟ إن التلاعب بأوامري لوقاحة أقل عقاب عليها السجن المؤبد.

– إني واثق تمام الثقة يا مولاي بأن البارونة ليوتي بريئة من تهمة الخيانة لجلالتكم، ولا أبرِّئ من هذه المكيدة البارونة مرثا برجن.

– لا أبرِّئ البارونة برجن، ولكن هذه البارونة لا يمكن أن تقوم بالمكيدة وحدها، فلا بد أن يكون معها خونة ممالِئون لها.

– أجل إن فرنند فرغتن من أكبر أعوانها، وهو بلا شك شريكها في الخيانة والمكيدة؛ لأني علمت أنهما كلاهما يجتمعان سرًّا في منزل منعزل في وسط حديقة في شارع فرنز.

فحرق الإمبراطور الأُرَّم وقال: لعنة الله على فرغتن هذا، فإنه المعول الذي ينقب تحت أركان العرش.

– وللبارونة صنيع آخر يا مولاي يُدعَى الماجور جوزف شندر، وأظن أنه هو الضابط المحتال الذي أشير إليه بهذا التلغراف.

– مَن هذا الماجور شندر؟

– هو أحد رجال الحرس يا مولاي.

– يا لله! وهل في حرسي خَوَنَة أيضًا؟

– أجل يا مولاي، إنه يجتمع بالبارونة برجن في ذلك المنزل الذي تتآمر فيه البارونة مع أعوانها وصنائعها، وقد تثبتُّ أنه كان مساء أمس معها هناك؛ فلا بِدْعَ أن تكون قد ولَّتْه تنفيذ هذه المكيدة الفظيعة.

– عجبًا! كيف يجسر هذا الخائن أن يترك واجبات وظيفته العسكرية ويذهب إلى تريستا لتنفيذ جريمة؟

– إنه في إجازة شهر يا مولاي.

فزمجر فرنز جوزف قائلًا: سيكون الإعدام قصاص هذا الخائن. وما شأن ذلك المنزل الذي يأوي إليه أولئك الخَوَنَة؟

– إنه لسرٌّ مجهول يا مولاي، فإن فيه امرأة وفتاة لا قرابة بينهما على ما يظن، والبارونة برجن مسيطرة عليهما، وكأنها جعلت هذا المنزل مكان مؤتمراتها وملتقى لمَن يريد اللقاء سرًّا كاﻟ …

– كَمَنْ؟

– كالبارونة فتسيرا يا مولاي.

فسخط الإمبراطور قائلًا: البارونة فستسيرا!

– أجل يا مولاي، فإنها تختلف إلى ذلك المنزل أيضًا.

فحمي غضب الإمبراطور جدًّا وقال: وبالطبع يذهب البرنس رودلف إلى ذلك المنزل أيضًا. بعد هذه الدقيقة لن يجتمع بها البرنس. يجب أن ترحل هذه الفتاة عن مملكتي كلها اليوم وستتبعها البارونة برجن على الأثر. إني أريد أن أنظف البلاط من هؤلاء الخونة، ولكن كيف حدثت هذه المكيدة الفظيعة؟

وكان فون درفلت يكفهر وقلبه ينتفض فقال: إنها لمكيدة شيطانية يا مولاي لا يمكن فهمها قبل أن يحقق أمرها، إني أخاف أن تذهب الحلي إلى زاوية المجهول وتتحول حفلة المساء المنتظرة إلى شبه فتنة في البلاط. فحبذا أن يعجِّل مولاي بإصدار أوامره للبحث عن ذلك المحتال قبل أن يدهور الحلي حيث يتعذر الحصول عليها في حينها، ولا يخفى على جلالتكم أن غرض أولئك الخَوَنَة إيجاد ذريعة جديدة لإثارة شغب المشاغبين من النوَّاب الاشتراكيين.

فلما سمع الإمبراطور هذا الكلام اشتدَّ تقطيبه، وكادت مقلتاه تثبان من وَقْبَيْهما وقال: صه، لا أعهد أن في المملكة مَن يجسر أن يقف لدى إرادتي التي هي السلطة والقانون والتنفيذ جميعًا، وسيعلم أولئك الخونة والمشاغبون أي مصير يصيرون.

وكان الغضب قد أخذ من فرنز جوزف كل مأخذ، فوقف وجعل يتمشى في غرفته كالأسد في عرينه وهو يفكِّر، وبعد هنيهة قال: لكل أمرٍ وقت كما قال سليمان الحكيم، أما الآن فأريد مَن يلاقي ذلك الضابط شندر في طريقه ويأخذ منه علبة الحلي من غير شغب ولا جلبة.

– أجل كذا خطر لي يا مولاي، لأن اتساع الحركة حول هذه الحادثة يفضي إلى ضجةٍ ترتجُّ لها أطراف الأمة، فلا بِدْعَ أن تقضي حكمة جلالتكم بأن تُستخرَج العلبة من ذلك الضابط الخائن شندر من غير ضوضاء ولا قال وقيل؛ لئلا يبلغ المشاغبون وطرهم في حين بذل المجهود في تدارُك هذا الوطر.

– كذا كذا يا فون درفلت، فهل لكَ في ذلك؟

فتردَّد فون درفلت في الجواب وفكَّر هنيهةً ثم قال: أجل، إذا سلَّحني مولاي بالأوامر اللازمة، فأثق أني أظفر بالعلبة من غير شغب.

– لا أريد مقاومة هذه المكيدة بطريقةٍ رسمية؛ لأن الإمبراطور لا يريد أن يعترف بوجود مَن يجسر أن يشتغل بمكيدة تخالف إرادته، ففي وسعك أن تفعل كل شيء لاسترداد العلبة من غير التسلُّح بأوامري.

– يكفيني سلاحًا أمر مولاي الشفهي، وإنما لما كان بعض المكايدين في البلاط نفسه وبعضهم يستمدون قوتهم من نفوذ البلاط، أخاف أن أجد عثرات في سبيلي من هؤلاء، فإذا كان جلالة مولاي يأمر بغل أيدي ذوي النفوذ ممَّنْ لهم صلة بالبلاط؛ فإني أستطيع أن أمسك ذلك الخائن شندر في عنقه وأقوده قياد الكلب.

– وهَبْ أني آذن لك أن تفعل ما تشاء ولا تحسب حسابًا لأحدٍ غيري.

فتلمَّظ فون درفلت رضابَه وقال: لقد عزم مولاي أن يكسر رأس الأفعى تنظيفًا للبلاط من أدران ذوي الفتن فيه، فإذا كنتم جلالتكم تصدرون أمركم المقدس بنفي البارونة برجن والبارونة فيتسيرا الآن …

– صه، أما البارونة برجن فلا ترحل قبل أن تنال عقابها الذي تستحقه، وأما البارونة فتسيرا فحسبها عقابًا أن تُقصَى من البلاد حالًا. فهذا أمر برحيلها في هذه الساعة.

وفي الحال عمد الإمبراطور إلى مكتبه وكتب أمرًا بسفر البارونة فتسيرا على عجلٍ في برهة نصف ساعة منذ اطِّلَاعها على الأمر، وإلَّا تقع تحت طائلة العقاب الصارم.

ثم دفع الأمر إلى فون درفلت قائلًا: أبلغ هذا الأمر إلى تلك البارونة الصغيرة في الحال. ثم ماذا عزمت أن تفعل؟

– سأنفذ رسولًا أو رسولين في الحال، عسى أن يلتقيا بشندر في طريقه فيراقِبَانه ريثما ألتقي به في محطة أودنبرغ أو نيوستاد، ومتى وقعت عيني عليه وقعت العلبة في يدي حتمًا.

– وهَبْ أن الرسولين لا يلتقيان به ولا أنت صادفته؟

– أقيم بوليسًا سريًّا يرقبه في محطة العاصمة وفي جميع مداخل المدينة.

– قد لا يدخل المدينة اليوم.

– لا بد أن يكون الكولونل فرنر قد تأثَّرَه، ولا يمكن الكولونل أن يتردد في التلغفة إلى مدام كاترين شراط وهي تتلغف لي حين أنبئها عن مكاني.

– هَبْ أن هذا الأسلوب لا ينجح، وأود تجنُّبَ الإشارات التلغرافية ما أمكن.

– ستكون الإشارات الضرورية غامضة يا مولاي، إني واثق بالنجاح يا صاحب الجلالة؛ لأن شندر سيبذل جهده في تسليم العلبة إلى البارونة برجن اليوم، ولا يمكن أن يصل إليها؛ لأننا سنقف في طريقه على كل حال.

– ربما راوغ شندر في طريقه وتأخَّر إلى ما بعد اليوم.

– لا يمكن أن تطمئن البارونة برجن ما لم تظفر بالعلبة اليوم؛ ولهذا أؤكد أنها حتمت عليه أن يأتيها بالعلبة في هذا النهار.

فإذا بقيتم جلالتكم تتجاهلون خبر هذه المكيدة العظمى، فلا تتنبه البارونة لتحذير رسولها بوسيلة من الوسائل، وبالتالي يسهل وقوعه في يدنا.

ففكَّر الإمبراطور برهة ثم قال: حسنًا، هل أعتمد عليك يا فون درفلت؟

– يعتمد مولاي على عبده الطائع الأمين مِلْء الاعتماد.

– إني أريد هذه العلبة اليوم يا فون درفلت.

– إذا لم تقع العلبة في يد مولاي اليوم، فيعلم مولاي أني برحت هذه الدنيا إلى الآخرة.

– اذهبْ ولك الجزاء الذي يليق منحه بالإمبراطور.

فانحنى فون درفلت أمام مولاه وخرج وفي صدره آمال جسام.

وما دخل فون درفلت إلى مكتبه حتى تلقته البارونة ليوتي (أو نينا فرست كما عرف القارئ)، فقال لها: ويحك! ماذا جئتِ تفعلين؟

– جئتُ أرفع شكوى إلى جلالته.

– ما الشكوى؟

– دفعت أمر جلالته إلى رئيسة دير الراعي الصالح أمس، فوعدتني أن تجيب طلبي اليوم، فذهبت إليها فإذا هي تراوغ.

– إذن هناك أساس اﻟﻤﮑ …

وتوقَّفَ فون درفلت عند ذلك الحرف، ثم قال: دَعِي شكاويك الآن إلى حين تسمع الشكوى، واسمعي أوامري فإنها خطيرة وتنفيذها عظيم الفائدة لك.

فضحكت قائلة: هل انتقل الصولجان إلى يدك؟

– أجل، الصولجان في يدي اليوم فقط فلا تهزئي، إني في حاجةٍ شديدة إلى دهائك اليوم، وقد جئتِ في حينك.

اذهبي وانتظريني في منزلي، إني موافيك إلى هناك بعد قليل. لا تبطئي لحظةً واذهبي الآن.

فاستغربت البارونة ليوتي أمره وقالت: أراك منهمِكًا جدًّا فهل …؟

– ستعلمين كل شيء قريبًا، اذهبي الآن.

فخرجت.

وهو أملى أوامر خاصة للكاتب الذي تحت يده ثم خرج.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤